العراق في عهد الاحتلال البريطاني
بقلم : وليم بولك
من كتابه :"لكي نفهم العراق ؟"
على الرغم من أن الحرب العالمية الأولى بدأت في أوروبا في شهر أغسطس/ آب سنة ١٩١٤، إلاّ أن بريطانيا لم تعلن الحرب على الإمبراطورية العثمانية حتى الخامس من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني. ولكن قبل أن تعلن الحرب رسمياً، اعترفت بريطانيا بالكويت، التي كانت في ذلك الوقت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، بوصفها دولة مستقلة تحت الحماية البريطانية. وبعد ذلك، في السادس من نوفمبر-تشرين الثاني ، أنزلت بريطانيا قوة عسكرية مشتركة بريطانية - هندية في ميناء الفاو الجنوبي. وتقدمت هذه القوة إلى الداخل، وسيطرت على المنطقة حول البصرة. وقد قام البريطانيون بهذه الخطوات متذرعين ظاهرياً بحماية حقل النفط في إيران المجاورة الذي كانوا يحتاجون إلى إنتاجه لبحريتهم. ولكن منذ الأيام الأولى، كان احتلالهم يتوخى هدفاً مختلفاً تماماً. وبدأوا فوراً بفرض القوانين البريطانية - الهندية، والشرطة، والإدارة البيروقراطية، والحكومة، في المنطقة التي يسيطرون عليها. وبعبارة أخرى، فإنهم بدأوا يتعاملون مع الجزء الذي يسيطرون عليه من العراق كجزء من إمبراطوريتهم الهندية. لماذا قرر البريطانيون احتلال العراق؟ الأجوبة المعاصرة عن هذا السؤال كانت غامضة ومعقدة ومتحيزة، وشبيهة تماماً بالأسباب والأعذار التي استخدمتها أمريكا في تبرير غزوها للعراق سنة ٢٠٠٣. وبما انها ا ساهمت في تشكيل شطر كبير من المستقبل، فإنها تستحق الإيضاح. في المراسلات الدبلوماسية التي تبودلت بين لندن ودلهي خلال السنوات التي سبقت الحرب، كان التهديد المنبعث مما سمي حينذاك بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية يشغل حيزاً بارزاً. الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وروسيا) كانوا يسيطرون على عدد كبير من السكان المسلمين في أفريقيا وآسيا. وكل واحد منهم كان يخشى أن يحاول رعاياه المسلمون طرده إلى الخارج. عندما أشعلت بريطانيا نار الحرب مع الإمبراطورية العثمانية بغزوها للعراق، كان من المحتوم أن تترتب على ذلك جملة من التداعيات العملية. وجواب السلطان العثماني بعد أسبوع من الإنزال البريطاني في العراق بطريقة كان هو أكثر ما يخشاه البريطانيون والفرنسيون والروس، وتمثل الدعوة إلى إعلان الجهاد المقدس، وكان لا بد أن يفعل ذلك. وكان البريطانيون والفرنسيون محظوظين، ولكنه كان حظاً أعماه الغباء. لم تحدث انتفاضة كبيرة بين الشعوب الخاضعة لهم، إلاّ أن الحظ لم ينقذ الروس، ولم تستطع روسيا أن تجهز جيوشها الجرارة لا بالغذاء ولا بالسلاح. ومن هنا، عندما أغلق الأتراك طريق التموين من خلال جزر الدردنيل ومضيق البسفور، بدأت روسيا تعاني من المجاعة ، وبدأت جيوشها تتعرض إلى االانهيار . عندئذ أصبحت ثورة ١٩١٧ شبه محتومة. وهذه الواقعة حررت جيشاً ألمانياً كاملاً للقتال على الجبهة الغربية التي كانت تتعرض إلى ضغط شديد. أعقبت ذلك إخفاقات سياسية أخرى. بعد أن قرر البريطانيون أن يدخلوا الحرب، كان بوسعهم أن يحققوا ما كان مهماً لهم بالفعل، أي حماية إنتاج إيران من النفط، عن طريق الاكتفاء باحتلال المنطقة الصغيرة التي تحيط بالكويت والبصرة. وبدلاً من ذلك، قرروا أن يأخذوا ما كانوا يسمونه "تلك الرقعة من الأرض المعروفة باسم ميزوبوتاميا" (بلاد ما بين النهرين - المترجم). وفي يونيو/ حزيران سنة ١٩١٥، قام الجيش الصغير الذي أنزلوه في البصرة بتقدم متهور نحو بغداد. لماذا فعلوا ذلك؟ أحد الأسباب التي لا يمكن استبعادها في الحروب هو أن الجنرالات يتم توظيفهم لكي يقاتلوا. تلك هي الطريقة التي تتيح لهم أن يحصلوا على الترقيات والأوسمة. الجلوس في البصرة كان باعثاً على الملل. ومن الواضح انهم شعروا أن الآخرين يسبقوم إلى هالات المجد وأكاليل الغار، وانهم يبعدون عن مراكز الضوء إلى الظلال، وانهم يتعرضون إلى التهميش بالأحداث الكبرى التي تنتشر على الجبهة الغربية. وكانوا لا يريدون أن يخسروا لحظتهم في التاريخ. وفضلاً عن ذلك، مهما كان ما يريدونه، فإنهم لم يكونوا يتمتعون بسيطرة كلية. فما إن تبدأ العمليات العسكرية، حتى تميل إلى توليد زخمها الخاص ويصبح من الصعب إيقافها. وكما أفاد الضابط 18 السياسي الأقدم في القوة البريطانية، ما إن نزل الجنود إلى البر في البصرة، فإنه لم يستطع أن يرى كيف "يمكننا أن نتجنب احتلال بغداد". وعندما زحف الإنكليز نحو بغداد، أرغمهم الأتراك على الارتداد إلى الوراء، وحاصروا فرقة بريطانية كاملة في مدينة الكوت على مسافة مائة ميل إلى الجنوب من بغداد. وطيلة أربعة أشهر حاول البريطانيون كسر الحصار، وخسروا ٧٠٠٠ جندي في هذه المحاولات. وفي اليأس الذي أطبق عليهم، جربوا رشوة القائد التركي خليل باشا لكي يسمح للجنود المحاصرين بالخروج أحراراً. وشعر القائد التركي بأنه قد أهين، ورفض العرض البريطاني، وأرغم ١٣٣٠٩ جنود بريطانيين على الاستسلام. وسيستغرق احتلال العراق أربع سنوات، وسيكلف ٢٠٠٠٠ إصابة بريطانية أخرى، معظمهم من الهنود. ما إن بدأت تكاليف حملة العراق في الازدياد، وأضيفت إلى النفقات الهائلة للحرب في أوروبا، حتى أصبح واضحاً للحكومة في لندن أنه ينبغي العثور على وسائل إضافية للاقتصاد. ولكن، خلال السنوات الأولى من الحرب، لم تصل هذه الرسالة إلى أذهان الموظفين البريطانيين في العراق. وطالما انهم كانوا يقاتلون الأتراك بالفعل، فإنهم كانوا يستطيعون تبرير ما كانوا يفعلونه، إلاّ أن حركاتهم انتهت بالهدنة في ٣٠ أكتوبر/ تشرين الأول سنة ١٩١٨.
____________________________________
*الصورة للجنرال طاونزند مع القائد العثماني خليل باشا بعد حصار الكوت واستسلام القوات البريطانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق