التمثيل الدبلوماسي البريطاني في العراق الملكي
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس –جامعة الموصل
في مقالة سابقة تحدثنا عن قصة التمثيل الدبلوماسي البريطاني في العراق العثماني . واليوم نقف مع قصة التمثيل الدبلوماسي البريطاني في العراق الملكي أي منذ سنة 1921 ، حين تشكلت الدولة العراقية الحديثة وحتى سقوط النظام الملكي الهاشمي صبيحة يوم 14 تموز 1958 عندما قام الجيش بثورته المجيدة ، وأقام جمهورية العراق . وكما سبق ان ذكرنا ان الدبلوماسي العراقي الراحل الاستاذ تجدت فتحي صفوت قد كتب عن هذه القصة في مجلة "التضامن " اللندنية وفي العدد الصادر في 7-13-12-1985 .
وعندما نروي قصة التمثيل الدبلوماسي العراقي في العهد الملكي ، لابد ان نُذكر الاحبة من القراء الى ان العراق وقع تحت الاحتلال البريطاني بين 1914-1918 ؛ فالبصرة أُحتلت سنة 1914 وبغداد 1917 والموصل 1918 .. وهكذا بلغ النفوذ البريطاني في العراقي ذروته وهاهم الانكليز قد دخلوا بغداد في 11 اذار 1917 محتلين وإن هم ادعوا انهم جاؤوا ليحرروا العراقيين من العثمانيين ، ويعيدوا الى بغداد ألقها لكنهم اوغلوا في تدمير العراق ، وساموا اهله الظلم وسوء الادارة الى درجة ان العراقيين ثاروا ثورتهم الكبرى سنة 1920 .
كانت القوات العسكرية البريطانية تتضمن ( ضباطا سياسيين ) كانوا يعملون في المخابرات البريطانية ، وهم من كان يختلط بالسكان وكان بصحبة ( الجنرال ستانلي مود ) قائد القوات البريطانية التي دخلت بغداد ( السير بيرسي كوكس ) بصفته ضابط سياسي ولم يعد للمقيميمية ولا للقنصلية البريطانية في بغداد مكان اذ ان البلاد كلها وقعت تحت الاحتلال العسكري والحكم المباشر .
شرعت القوات البريطانية بأقامة (ادارة مدنية عامة ) تروي قصتها المس بل السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني فيما بعد وقد عين السير بيرسي كوكس (حاكما سياسيا عاما ) للعراق وبذلك يعد كوكس اول ممثل لبريطانيا في العراق بعد الحرب العالمية الاولى .
وفي سنة 1918 نقل بيرسي كوكس الى طهران فأصبح نائبه الكولونيل (آرنولد ويلسن ) وكيلا للحاكم المدني العام .وقد عرف ارنولد ويلسن بإنتماءه للمدرسة الهندية البريطانية التي كانت تذهب بإتجاه الاستمرار في حكم العراق حكما عسكريا مباشرا ودون ان تتاح لسكانه فرصة حكم انفسهم بإنفسهم .
وفي 25 نيسان سنة 1920 عهدت عصبة الامم الى بريطانيا بالانتداب على العراق بإعتبار ان اهله غير قادرين على حكم انفسهم بإنفسهم أو انهم بحاجة الى وصاية دولية لكن العراقيين ثاروا ثورتهم الكبرى سنة 1920 فإضطر الانكليز على ان يغيروا سياستهم ويصرفوا النظر عن سياسة الحكم المباشر ويفكروا في اقامة حكومة محلية وقد اعيد بيرسي كوكس الى العراق بصفة (مندوب سامي ) تمهيدا لتأسيس حكومة عراقية تدار - كما قالت المس بل - بأيد عراقية وأدمغة بريطانية .
في تشرين الاول سنة 1920 عاد السير بيرسي كوكس الى بغداد ، وبدأ اللقاءات مع قادة الحركة الوطنية واخذ يمهد لتلبية مطلب العراقيين بأن يكون أحد ابناء الشريف حسين ملكا على العراق ومع ان العراقيين كانوا يحبذون ان يكون الامير عبد الله بن الحسين ملكا الا ان الانكليز فضلوا الامير فيصل واجتمع في القاهرة عدد من الدبلوماسيين البريطانيين ومعهم بعض العراقيين ومنهم جعفر العسكلري وساسون حسقيل وتم اختيار فيصل واستحصلت مبايعة العراقيين له وتوج في 21 اب سنة 1921 ملكا على العراق وعقدت معاهدة 1922 لتنظيم العلاقات بين العراق وبريطانيا .
تقاعد السير بيرسي كوكس وعاد الى بلاده وخلفه السير (هنري دوبس ) الذي شغل منصب (المندوب السامي البريطاني ) ست سنوات عقدت خلالها معاهدات جديدة مع بريطانيا كلها غززت الوجود البريطاني ومنها معاهدة 1924 ومعاهدة 1927 ومعاهدة 1930 . وبموجب معاهدة 1930 اعترفت بريطانيا في 30 حزيران 1930 بالعراق دولة مستقلة وكان نوري السعيد عند ذاك رئيسا للوزراء وفي 1933 قُبل العراق عضوا في عصبة الامم كدولة مستقلة وعندئذ تغيرت صفة المندوب السامي البريطاني الى سفير . وقد نصت المراسلات بين العراقيين والبريطانيين على ان يمنح السفير البريطاني امتياز التقدم على ممثلي باقي الدول كما يكون ممثل العراق في بريطانيا بدرجة (وزير مفوض ) .
ان من القضايا المهمة في قصة التمثيل الدبلوماسي البريطاني في العراق ان الحكومة البريطانية لم ترشح سفيرا جديدا لها في العراق كما تقتضي ذلك قواعد البروتوكول بل غيرت صفة المندوب السامي وكما هو معروف فإن المندوب السامي يتبع وزارة المستعمرات في حين ان السفير يتبع وزارة الخارجية وقد شعرت الحكومة العراقية بما فعله الانكليز الا انها لم تكن قادرة على ان تفعل شيئا فرضخت للامر ورحبت بالسفير البريطاني (السير فرانسيس همفريز ) الذي بقي سفيرا لبلاده في العراق حتى نهاية اذار سنة 1935 .
استقال السير فرانسيس همفريز من منصبه لكبر سنه وعاد الى بلاده سنة 1935 فعينت الحكومة البريطانية محله ( السير ارجيبولد كلارك كير ) ، والذي نقل من ستوكهولم حيث كان هناك وزيرا مفوضا .وفي عهد هذا السفير وقع انقلاب سنة 1936 بقيادة الفريق الركن بكر صدقي وبعد ثلاث سنوات من العمل في بغداد نقل الى الصين سفيرا ثم الى موسكو ونال درجة اللوردات فأصبح اسمه اللورد إنفرجايل .
عين ( السير موريس بيترسون ) سفيرا لبريطانيا في العراق وبقي بين سنتي 1938-1939 وله مذكرات منشورة بعنوان (على جانبي الستار ) فيها فصل عن عمله في بغداد وقد ترجم الفصل الاستاذ نجدت فتحي صفوت .وفي نيسان 1939 نقل السير موريس بيترسون وخلفه (السير بازل نيوتن ) .ثم عين بعده (السير كيناهان كورنواليس ) بعده وخلال فترة سفارته حدثت ثورة 1941والحرب العراقية –البريطانية وقد بقي سفيرا حتى اوائل سنة 1945 وبعده جاء (السير فرانسيس وليم ستونهيور بيرد ) وبقي في بغداد حتى اوائل سنة 1948 وخلفه ( السير هنري ماك في 4 شباط 1948 ثم (السير جون تراوتبك ) الذي بقي سفيرا في بغداد حتى سنة 1955 .
وكان آخر السفراء البريطانيين في العراق في العهد الملكي ( السير مايكل رايت ) والذي انتهت مهمته كسفير لبلاده عند قيام ثورة 14 تموز 1958 وسقوط النظام الملكي وتأسيس جمهورية العراق .
إن قراءة ملفات السفراء الانكليز في العهد الملكي تكشف حقيقة مهمة وهي ان السفير البريطاني في بغداد ، كان من السفراء المتميزين بين اقرانهم الدبلوماسيين الاجانب .. وكانت الحكومة البريطانية تختارهم من بين افضل سفراءها واكثرهم تجربة .لكن مما كان يؤشر على عملهم في بغداد انهم أو اكثريتهم كانوا يحاولون التدخل في شؤون العراق وكثيرا ما كانوا يصطدمون بالسياسيين العراقيين وقد لفت تصرفهم هذا وسلوكهم مسلك المندوب السامي السفير الاميركي ( ولدمار غولمان ) الذي قال في كتابه الموسوم :" العراق في عهد الجنرال نوري " وهو مترجم الى العربية :" ان العراقيين كانوا يتذمرون من طريقة تصرف السفير البريطاني الذي كان تصرفه اشبه بتصرف المندوب السامي في عهد الانتداب منه بتصرف سفير معتمد لدى دولة ذات سيادة ...كان السفير البريطاني يتدخل في الشؤون الداخلية بالضغط على الملك وعلى ولي العهد وعلى نوري السعيد " .
ويبدو ان ذكريات سنوات احتلال بريطانيا الطويلة في العراق ، ونفوذهم القديم وما اتاحته المعاهدات مع العراق من امتيازات هي وراء سلوك السفراء البريطانيين هذا المسلك الغريب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق