الجمعة، 25 يونيو 2021

تاريخ الجامع النوري الكبير ومئذنته الحدباء





 


تاريخ الجامع النوري الكبير ومئذنته الحدباء

 

ا.د. ابراهيم خليل العلاف

استاذ التاريخ الحديث المتمرس –جامعة الموصل

 

وكما كان متوقعا ، فإن عناصر داعش  ، فجروا منارة الجامع النوري الكبير الشهيرة ب(الحدباء ) بعد ان ظلت شامخة لمدة 850 سنة ، وبذلك استكملوا مسلسل الهدم والتخريب الذي ابتدأوه عند احتلالهم الموصل في 10 حزيران 2014 بتفجير جامع النبي يونس عليه السلام .

الجامع النوري الكبير ، يعد ثاني جامع انشأه العرب المسلمون بعد فتحهم الموصل سنة 16 هجرية 637 ميلادية .كان الجامع الاول هو المسجد الجامع والذي عرف بعدئذ ب( الجامع الاموي ) ، واليوم يعرف بجامع مصفي الذهب في محلة رأس الكور وهي من المحلات الموصلية العريقة .

بنى الجامع النوري الكبير نور الدين بن محمود بن عماد الدين زنكي سنة 568 هجرية -1173 ميلادية . وعماد الدين زنكي أسس الدولة الاتابكية التي شملت الموصل وحلب وحمص وحماة وبلاد الشام ومصر وبلاد الجزيرة وخطب له في الحرمين الشريفين مكة المكرمة والمدينة المنورة .ونور الدين ووالده عماد الدين ومن قبلهما كربوغا صاحب الموصل هم اول من انتبه الى خطورة الغزو الصليبي للأرض العربية ، ووضعا خططا لمقاومة الصليبيين وهما من ربيا صلاح الدين الايوبي ووجهاه الى الجهاد ومن ثم نجح في تحرير بيت المقدس بعد انتصاره في معركة حطين .

كان نور الدين يحب العلماء ، واسس العديد من المدارس والجوامع وكان على صلة بشيخه معين الدولة عمر بن محمد الملا الموصلي والذي اقترح على نور الدين شراء ارض الجامع وكانت خربة واسعة وسط مدينة الموصل . وقد استطلع نور الدين الارض وأمر بأن تضاف الى الارض ما يجاورها ويشير المؤرخ الموصلي الكبير عز الدين بن الاثير ان نور الدين حضر الى الموصل واستملك ما يجاور تلك الارض ومن جيبه الخاص من دور ودكاكين وعوض اصحابها وولى الشيخ عمر عمارة الجامع .

ابتدأ العمل في بناء الجامع في سنة 568 هجرية -1173 ميلادية وتم الانتهاء من البناء في سنة 573 هجرية -1177 ميلادية .وقد عين الفقيه عماد الدين ابو بكر النوقاتي مدرسا في المدرسة الملحقة بالجامع .

كتب عن بناء الجامع كثيرون منهم الاستاذ احمد علي الصوفي في اكثر من مكان والاستاذ سعيد الديوه جي في كتابه (جوامع الموصل ) . والاستاذ يوسف ذنون في عدد من مقالاته والاستاذ عماد غانم الربيعي في كتابه (الجامع النوري الكبير ) .كما فصل الاستاذ الدكتور احمد قاسم الجمعة الآثاري الموصلي في مخطط الجامع وريازته ومنارته وذلك في بحثه (المنشآت المعمارية في الموصل ) والمنشور في الجزء الثالث من (موسوعة الموصل الحضارية ) والتي أصدرتها جامعة الموصل سنة 1992 وقال ان تخطيط الجامع بإمتداده على طول جدار القبلة اذ يبلغ طوله 65 مترا وعرضه 17 مترا تقريبا .وقد احتوى الجامع على اعمدة رخامية وكان شكل هذه الاعمدة العام منشورا رباعيا مقطعه العرضي بشكل مربع وزواياه منحنيات ويتوسط كلا من اضلاعه اخدود يبرز من وسطه بروز شكل زاوية قائمة .ومن ابرز العناصر الزخرفية التي بقيت من الجامع الواجهة الجبسية للمحراب وهي موجودة اليوم في المتحف العراقي .

ومن العناصر المعمارية البارزة في الجامع النوري القبة المغطية لمربعة محرابه وتمثل القبة اسلوبا معماريا فريدا تميزت به عمارة الموصل .

اوقف نور الدين زنكي على الجامع قرية من قرى الموصل ويذكر الخطيب العمري في منهل الاولياء عند كلامه عن عقرة انها كانت وقفا على الجامع النوري . كما اوقف قيصرية كبيرة في الموصل عليه عدد دكاكينها 699 دكانا ويذكر ايضا ان ارض ( خبرة الجمس ) كانت وقفا على الجامع وهي ارض واسعة دخلت في محطة القطار في الموصل . ويشير المؤرخون ان بناء الجامع كلف ثلاثمائة الف دينار .ومرة قال نور الدين لشيخه انه بنى الجامع لوجه الله وعندما قدمت له قائمة الحساب قال لشيخه "ياشيخ عملنا هذا لله ،فدع الحساب ليوم الحساب " واخذ الدفاتر ورماها في نهر دجلة .

نأتي الى مئذنة الحدباء التي شيدت مع الجامع فنقول انها تتكون من قسمين :قاعدة منشورية مربعة شيد الجزء السفلي منها بالحجارة والجص ، وشيد العلوي بالآجر .اما القسم الثاني وهو البدن الاسطواني الذي يبلغ قطره 5.24 م تعلوه رقبة تنتهي برأس نصف كروي متوج بالهلال .وللمئذنة سلمان لايلتقيان هما بمثابة عمودان فقريان لايلتقيان الا في شرفتها العليا يبدأن من اول القاعدة المنشورية .

ومن ابرز ما يميز المئذنة اسلوب الزخارف الآجرية المغطية للبدن ، والجزء العلوي من القاعدة المنشورية وقد اعتمد المعمار الفنان على الاختلاف في رصف الآجر بوضعه ومستوياته ليحصل على النمط الزخرفي لكل الانطقة السبعة للبدن والوجوه الاربعة للقاعدة المنشورية فإختلف رصف الاجر بين الافقي والقائم والمائل . كما اختلفت مستويات الرصف بين السطحي والعميق والاعق فأصبحت هناك عدة مستويات لتضفي من خلال الظلال اشكالها الزخرفية المختلفة .

المئذنة بنيت مائلة حتى تنساب عليها الرياح الغربية وقد تعمد المعمار ان يبنيها هكذا لكن ميلانها ازداد بمسافة 40 سم عبر القرون الثمانية والنصف الماضية . وخلال الحرب العراقية –الايرانية تعرضت المنطقة الى اهتزازات وكسر في انابيب المياه التي اثرت سلبا على المنارة .لذلك استقدمت الدولة الشركة الايطالية نفسها المسؤولة عن برج بيزا ، فقامت بصيانتها .

خلال الغزو المغولي للموصل سنة 660 هجرية 1261 ميلادية لم يصب الجامع اي ضرر . وبعد ذلك رمم في عهد الجلائريين واستمرت صلاة الجمعة تقام فيه وفي عهد الجليليين 1726-1834 تم الاهتمام بالجامع ورمم واعيد التدريس فيه وقد عين الحاج حسين باشا الجليلي والي الموصل الشيخ عبد الله الربتكي مدرسا فيه .ومن الذين درسوا فيه الشيخ محمد بن جرجيس القادري الموصلي .

الجامع يقع على ارض مساحتها 5850 متر مربع ويقينا ان المساحة كانت اكبر من ذلك . وقد حدد سنة 1946 وكانت ثمة مقابر الى جواره وتقع في جنوب الجامع وقد حولتها البلدية بعدئذ الى حديقة امام الجامع وكان في الجامع في ايامنا مصلى ومحراب ومنارة الحدباء وتكية الشيخ محمد النوري ومحل للوضوء (ميضأة ) والمسجد .وثمة اقاويل شائعة بين الناس ومنها ان فيه مقام الخضر عليه السلام وهو بين المنبر والمحراب وفوق المحراب وهناك من يقول ان الجامع بني على انقاض بيعة لكن كل من كتب عن الجامع اكد ان ارضه كانت خربة .وقبة المصلى كانت تمتاز بإرتفاعها ولاتضاهيها قبة اخرى في العالم والقاعدة التي تستند اليها القبة مربعة الشكل تعلوها مقرصنات فوقها بشكل مثمن تستند القبة عليه وشكلها اقرب ما تكون الى هرم ذي ستة عشر وجها بشكل هندسي غريب والقبة مبنية من الآجر وهي تتألف من قبتين بينهما فراغ وهذه الطريقة في بناء القبب كانت معرفة في الموصل في القرنين الثاني عشر والثالث عشر .

وقبة الجامع النوري كانت غنية بالزخارف الجبسية وفوق المحراب الذي كان تحت القبة نقوش جبسية في غاية الدقة والابداع وهي تتألف من اشكال هندسية دقيقة متناظرة تتخللها كتابات بالخط الكوفي .اما الاساطين التي كانت في الجامع فهي اساطين مثمنة تعلوها تيجان مزخرفة بنقوش نباتية وهندسية .وكانت ثمة شباك تحت القبة في الجدار الذي على يسار المحراب الرئيسي المقابل للباب ويقال ان محراب الجامع نقل من المسجد الجامع وهو اول مسجد بناه العرب المسلمون في الموصل سنة 16 هجرية -637 ميلادية وكان المحراب هذا يجاور مصلى النساء .وكان هناك المنبر الاصلي الا انه تلف فقام شخص اسمه داؤود ببناء منبر على حسابه وفيه زخارف مكتوب على بابه لا اله الا الله محمد رسول الله ومكتوب على ركنه البيتين التاليين :

تطوع داؤود ببنيان منبر ... فكان له ذخرا ونال به اجرا

فجامع نور الدين فيه منور ... جزا الله بانيه بدار البقا قصرا

خلال السنوات ال100 الماضية شهد الجامع النوري الكبير سلسلة من التعميرات وهدم جزء من الجامع سنة 1934 واوفدت مديرية الاثار العامة عندئذ احد موظفيها لقلع ما يعثر عليه من الكتابات والزخارف المختلفة. وفي سنة 1944 تبرع الوجيه الموصلي مصطفى الصابونجي بترميمه والاشراف على بنائه وبذل جهودا كبيرة من اجل اظهار الجامع على احسن وجه واعاد في بناء المصلى بعض الاعمدة الرخامية التي كانت فيه قبل الهدم واكمل ما نقص منها بأعمدة جديدة كما اعيد الى المصلى المحراب القديم الذي كان قد نقل من الجامع الاموي وبنى اربع منائر في زوايا سطح المصلى الاربعة من ماله الخاص كما انه هدم الدور التي كانت تقع في الجهة القبلية من المصلى وبنى لأصحابها دورا مثلها في الجهة الشمالية من الجامع على ارض من فناء الجامع وفصل هذه الدور عن الجامع بطريق يمتد من الشرق متجهة الى محل الوضوء في الجامع .

وكتب فوق المحراب : أمر بتشييد هذا الجامع الملك نور الدين محمود بن الشهيد عماد الدين زنكي من ماله الخاص بناء على اقتراح معين الدولة عمر الملا وولى أمر عمارته (محمد الملا الموصلي ) رحمهم الله تعالى وتم بناؤه سنة 568 هجرية -1173 ميلادية وجددت عمارته ثانية في عهد جلالة الملك فيصل الثاني على نفقة الاوقاف وولي أمر عمارته مصطفى الصابونجي وقد شيدت المآذن الاربعة على نفقته وتمت عمارته سنة 1365 هجرية - 1946 ميلادية ) .

في سنة 1919 كان الجامع النوري الكبير مكانا للمدرسة الاسلامية التي فتحت ابوابها وقام بالتدريس فيها نخبة من علماء وشيوخ الموصل البارزين وكان اهالي الموصل هم من يتكفل بنفقاتها وقد رفضت ادارتها المساعدات المالية من سلطات الاحتلال البريطاني وفي سنة 1924 نقلت الى بناية خاصة وربطت بوازة الاوقاف وسميت بالمدرسة الفيصلية الدينية .

وأمس 21 حزيران 2017 اغتالت عناصر داعش المنارة والمحراب وكل شيء وتحول الجامع النوري الكبير الى قاعا صفصفا وبقي أثرا بعد عين وكان حزن وكانت غصة في نفوس الموصليين والعراقيين والمسلمين جميعا لما هذا الجامع من رمزية وقداسة .

انا على يقين ان ابناء الموصل سيعملون على اعادة بناء الجامع النوري الكبير ومنارته الحدباء رمز مدينتهم التي ستعود شامخة بإذن الله تعالى .

*مخطط الجامع النوري بعد تجديده رسمها المهندس عبد الهادي القزاز ونشرها الاستاذ سعيد الديو ه جي في كتابه (جوامع الموصل )

** الحدباء سنة 1914 من متحف فكتوريا

***الحدباء سنة 1922

الحدباء قبل اغتيالها بقليل

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...