العراق والحركة البرلمانية في اواخر العهد العثماني *
ا.د. محمد مظفر الادهمي
بدأت الحركة البرلمانية في الدولة العثمانية بعد اعلان القانون الاساسي العثماني عام (1876-1293هـ) . وقد عرفت هذه المرحلة باسم المشروطية لانها حاولت ان تقضي على نظام الحكم المطلق، الذي كان قائما حتى ذلك الحين، وان تجعل حكم السلطان العثماني "مشروطاً" بمراعاة القيود المقررة في القانون الاساسي، ولما كان العراق جزءا من الدولة العثمانية فقد سرى العهد الدستوري اليه مثل باقي ارجاء هذه الدولة، وبموجب هذا القانون كان مجلس الامة يتألف من هيئتين تسمى احداهما هيئة الاعيان والاخرى (هيئة المبعوثان)، الاولى يعين اعضاؤها مدى الحياة، والثانية ينتخب اعضاؤها من بين الناس بالطريقة السرية، وتقرر طريقة الانتخاب بقانون خاص.
إفتتح (مجلس المبعوثان) الاول، وعقد اول اجتماع له في 19 اذار 1877م/ 4 ربيع الاول 1294 هـ في عاصمة الدولة العثمانية (الاستانة) لذلك كان العراق بعيداً عن حياة البرلمان وما يجري فيه اثناء انعقاده ، خاصة ان الصحافة لم تكن موجودة في العراق عدا صحيفة (زوراء) الرسمية، المقتضبة الاخبار، واكثر من هذا لم يكن اكثر الناس في الدولة العثمانية يعرفون معنى الدستور وما يحويه "ولاهم طلبوه او سمعوا فيه وانما قام به جماعة من المستنيرين من الاتراك في الاستانة، ولعل خير ايضاح لمفهوم الناس في الدولة العثمانية للبرلمان في اول عهده ما كتبه سليمان البستاني احد النواب العرب في (مجلس المبعوثان)، اذ قال "فلقد ايد لنا الاختيار باجتماع المجلس الاول عام 1876 "عقد الاجتماع الاول عام 1877" ان ابناء كل ولاية كانوا يظنون مبعوثهم منتدبا عن منتخبيه لاغير ومأمورا بتنفيذ جميع رغباتهم وابلاغ تشكيات افرادهم مهما كانت. حتى لقد كانت الرسائل في بعض الولايات تنهمر كالمطر على رؤوس مبعوثيها حاملة من المطالب ما لو طرحه المبعوث للبحث لما ناله الا هزء رفاقه اجمعين، فمن طالب بعزل خصم له واحالة مأموريته اليه، ومن ملتمس رتبة او نيشاناً..حتى كان من جملة تلك المطالب، ان مكاريا سرقت دابته فكتب الى منتدب ولايته ان يأمر باعادتها اليه.
وجرت الانتخابات الثانية بأوامر مؤقتة ، لعدم صدور قانون انتخابي خاص، وبدأت اجتماعات مجلس المبعوثان في دورته الثانية، الا ان السلطان العثماني قرر تعطيل المجلس الى اجل غير محدود في 14 شباط عام 1878 قبل ان يكمل دورته هذه ونفى وابعد البارزين فيه، وبقي قانون الانتخابات الذي اصدره المجلس في دورته الثانية حبرا على ورق، دون تطبيق.
ان عمل السلطان هذا لم يولد ردود فعل في البلاد والسبب في ذلك كما يقول ساطع الحصري، "لان الحياة الدستورية لم تكن عندئذ مدعومة براي عام واع، ولابطبقة قوية من المستنيرين بل كان من عمل مدحت باشا مع جماعة محدودة من المفكرين، ولم يبلغ السلطان عبد الحميد الثاني القانون الاساسي رسميا بل بقي يدرج في صدر الحوليات الرسمية التي كانت تصدر كل سنة، الا ان الدولة العثمانية مرة ثانية لمدة اكثر من ثلاثين سنة تكونت خلالها جمعيات سرية في داخل البلاد، وعلنية في خارجها، لاظهار مساوئ الاستبداد الحميدي، ومنها جمعية الاتحاد والترقي التي الفها ضباط الجيش، وطالبوا مع من آزرهم من المدنيين باعادة القانون الاساسي وجعل البلاد العثمانية دستورية نيابية،
وفي صباح يوم 10 تموز عام 1908 اضطر السلطان عبد الحميد الثاني الى الرضوخ امام ثورة بعض وحدات الجيش وتأييد القطعات العسكرية لها في كل انحاء الامبراطورية وارسالهم البرقيات الى السلطان مؤيدين الثورة، وفي يوم 22 تموز زحفت بعض قطعات الجيش الى العاصمة فاحتلتها وشكلت وزارة جديدة برئاسة كامل باشا، وفي يوم 24 تموز اعلن اعادة القانون الاساسي، وصدر الامر عند ذلك بانتخاب النواب لمجلس المبعوثان وازيلت الرقابة عن الجرائد والمطبوعات وصدر عفو عام عن المسجونين السياسيين والمنفيين فدخلت البلاد عهدا اخر جديدا سمي بعد المشروطية الثانية.
ويبدو ان الحكم الاستبدادي ونشاط الجمعيات السرية والعلنية ضده من اجل اعادة الحياة الدستورية ولد في اجزاء الدولة العثمانية شعورا عاما ان القانون الاساسي هو المخرج الوحيد لهم من هذا المأزق، لهذا نجد مجلة المقتطف المصرية تقول "شمل السرور جميع العثمانيين على اختلاف اجناسهم ومذاهبهم".
اما في العراق ، فقد استقبلت بغداد اعادة الحياة الدستورية بحماسة ، وتآخى الشعب على اختلاف عقائده في البداية، وفي الموصل لم يلق الدستور ترحيباً، الا انه كان وسيلة للتخلص من الوالي مصطفى بك الذي لم يكن محبوبا، اما البصرة فلم تحدث فيها مثل هذه الحماسة التي شهدتها بغداد، بل على العكس شعر الاهالي ان ليس للامر تأثير محسوس في حالتهم.
ان هذه الانطباعات التي اوردها السفير البريطاني لدى الباب العالي عام 1908 تدل على ان استقبال الدستور بفرح او حماسة لم يكن نتيجة وعي دستوري بقدر ما كان وسيلة للتخلص من الحكام المستبدين وان كان هناك بعض من هذا الوعي فانه تركز في بغداد اكثر من مكان اخر في العراق، مع العلم ان الوعي الدستوري الذي اعنيه لم يكن يعني الديمقراطية بمفهومها الذي جاء الى العراق بعد الحرب العالمية الاولى، اذ ان هذه اللفظة لم ترد اساسا في هذه المدة سواء في الصحف او البيانات الرسمية ، وكل ما كان يعنيه الدستور بالنسبة للعرب العثمانيين القضاء على الفساد الذي كان سائدا واستكمال وسائل النهوض والرخاء في جميع انحاء البلاد.
وفي خطبة لاحد اساتذة الكلية الاميركية في بيروت بعنوان (نحن والدستور) عرف الدستور بقوله "هو القوانين المسنونة للاختبار والحكمة ليعامل بموجبها افراد الامة اسعادا لهم من حيث هم افراد، واسعادا وتعزيزا لهم من حيث هم امة أي مجموع افراد.. الدستور ايها السادة هو نتيجة محاربات الخير والشر اجيالا الله يعلم كم عدتها ، وبعبارة اخرى هو مجموع ما استفادته الانسانية من غلبات الخير والشر في اثناء العراك الهائل الذي قام بينهما من اول عهد الانسان الى الان".
وفي بغداد جاءت الموافقة الرسمية من الاستانة بفتح شعبة لهذا الحزب الجديد المعارض ، فنشر الخبر بشكل بشرى زفت الى اهل الوطن، اما البصرة فقد دعا مبعوثها طالب النقيب حوالي المئة من رجالها البارزين الى الانضمام الى حزب الحرية والائتلاف بعد ان شرح لهم سليمان فيضي نيابة عنه اهداف الحزب، فوافقه الجميع وسط ضجيجهم بالتصفيق والهتاف ووقعوا على مضابط تأسيس الحزب الجديد وعلى برقيات الاستقالة من جمعية الاتحاد والترقي .
افتتح فرع الحزب في البصرة بمهرجان حضره الاف الناس داخل بناية الحزب وخارجها، وفي بغداد نشرت صدى بابل ، مقالا بعنوان انحطاط نادي الاتحاديين في بغداد، لم يبق من الاتحاديين الا ما ندر حتى وصل الامر الى درجة ان استعفى ركنها الاكبر في حاضرتنا حضرة الاديب الفاضل شكري الفضلي، وقد تنبأت الجريدة بان افتتاح مقر حزب الحرية والائتلاف سيسقط الجمعية الاتحادية تماما في بغداد.
ولم يرد في الصحف المتوفرة لنا اخبار عن موقف الموصل من هذه الحركة العربية الجديدةفي العراق، الا ان لونكرك يقول بأن الموصل "اظهرت في البداية حماسة اقل من بقية الولايات بالنسبة للحركة العربية، حيث كان يسيطر على مجتمعها عوائل من الطور القديم وعلماء دين رجعيون". وكانت الصحافة عاملا مهما في هذه المدة للتعبير عن شعور العراقيين ففي سنتي 1910 و1911 صدرت ست وثلاثين جريدة عربية، وفي سنة 1911 وحدها صدرت (22) جريدة صدر منها في بغداد، 19 جريدة، كما صدرت في تلك السنتين ست مجلات.
ومن هذا كله يمكننا القول بأن العراق شهد اواخر عام 1911 واوائل عام 1912 بداية حركة سياسية ذات طابع عربي معارض للاتحاديين ، كان لها دور واضح في الانتخابات النيابية المقبلة.
اتخذت الانتخابات التي ابتدأت في اواخر كانون الثاني 1912 طابعا جديدا بالنسبة للدولة العثمانية، فهي اول انتخابات تشهد صراعا حزبيا منظما بين جمعية الاتحاد والترقي التي تمتلك السلطة وحزب الحرب والائتلاف الذي يجاهد من اجل ابعادها عنها. وكانت الاوامر قد صدرت الى الولاة والمتصرفين بوجوب الاسراع في اجراء الانتخابات وصدرت ايضا الاوامر السرية بالضغط على الناس لانتخاب من يريده الاتحاديون بالقوة والاكراه، وشهد العراق منذ بداية هذه الانتخابات دعوات صريحة لانتخاب المرشحين العرب فقط والابتعاد عن الغريب مذكرة الناس بضياع طرابلس وما كان ينعت العرب به من قبل غير العرب في مجلس المبعوثان، من صفات سيئة كالجهالة والوحشية، ثم ما كان يجري من الفوضى على يد المبعوثين السابقين.
ومن الامور المهمة التي تبلورت في هذه المدة المفهوم العام لفكرة البرلمان. ان ، مجلس المبعوثان بأنه "مجلس نواب الامة ومشخصيها الذين تختارهم ليقوموا عنها لدى الحكومة مقامها وبعبارة اخرى هو الامة نفسها". اما عن تختارهم ليقوموا عنها لدى الحكومة مقامها وبعبارة اخرى هو الامة نفسها". اما عن استيعاب الناس لهذا المفهوم وتقبله فالظاهر انه كان محصورا عند المتعلمين في مراكز المدن فقط، وخاصة بغداد والبصرة والموصل، لان العشائر لم تكن تشارك في الانتخاب، ولان الصحف كانت مقصورة على المدن الرئيسة، ولعل ما ورد في نشرة احد العثمانيين العرب التي صدرت على اثر حل مجلس المبعوثان واجراء هذه الانتخابات من ان "كثيرين من العثمانيين لايفقهون معنى الدستور الصحيح"، يؤيد ذلك كانت دعاية المرشحين للانتخابات تتم اما بواسطة الصحف او بواسطة بيانات شخصية يصدرها المرشح، ففي البصرة مثلا اعلن حزب الحرية والائتلاف في صحيفة الدستور ترشيح السيد طالب النقيب وعبد الله الزهير كمبعوثين عنها.
وفي بغداد وزع صالح كورجي بيانا الى منتخبيه طبعه باللغتين العربية والتركية، بين فيه اسباب ترشيح نفسه كمنافس لمبعوث بغداد السابق ساسون افندي حسقيل، وبين في بيانه المنهاج والمبادئ التي يؤمن بها اضافة الى ايمانه بخطة الاتحاد والترقي وما تسير عليه، وانه يلتمس الاصوات بصفته مرشحا عثمانيا لا اسرائيليا. وهناك اسلوب اخر في الدعاية للمرشحين تتم في الاسواق، فقد ذكر ان المرشحين في المدن المتمدنة يرسلون ابلغ الخطباء الى الاسواق ليبينوا صفات المرشح، وقد يجتمع اثنان او ثلاثة من هؤلاء الخطباء والمأمورين فيجتمع الناس لسماع ما يقولون .
وكان هذا الاسلوب يتبع في العراق ايضا، لكن هناك فرقا هو ان المرشحين انفسهم في العراق كانوا يحضرون الى الاسواق بدلا من ارسال ممثلين عنهم، ويتناول احدهم الاخر بالطعن – كما يظهر من انتقاد الحرية لهذا الاسلوب فتقول "اما في بلادنا فلم تزل على باب الرقي تتقدم للدخول به تدريجيا وهي تظن انها وصلت اليه دفعة واحدة فيقوم المرشح مناديا على نفسه بالاهلية منكرا على غيره الصفات المبعوثية وينهض الثاني قائلا لا تصلح النيابة الا لي ولايليق ذلك المنصب الا بي". كان لأوامر الاسراع في الانتخابات اثر في غياب كثير من مبعوثي المجلس المنحل.. لانهم لم يصلوا العراق من الاستانة الا بعد حوالي شهرين من بداية الانتخابات..
ويبدو ان جمعية الاتحاد والترقي ارادت بهذه الطريقة ابعاد اكبر عدد ممكن من نواب المجلس المنحل عن ساحة المعركة الانتخابية. لم يمتد عمر المجلس الجديد سوى بضعة اشهر فقد عقد اجتماعه الاول في 4 ايار عام 1912 ثم صدرت الارادة بحله في السابع من اب عام 1912 على اثر مطالبة واصرار ضباط الجيش العثماني باسقاط الوزارة بحل مجلس المبعوثان وتشكيل وزارة من غير الاتحاديين وتم لهم ما ارادوا وكان امر السلطان العثماني بحل مجلس المبعوثان عنيف اللهجة شديد الوطأة على النواب، وفيه انتقاد مر لهم.
وقد حاول الاتحاديون في المجلس عرقلة عملية حله باعتبارها خطوة غير دستورية وأصروا على اعتبار المجلس غير منحل، وابوا قبول نفقات السفر المقرر اعطاؤها الى المبعوثين للعودة الى مراكزهم بحجة ان نيابتهم لم تنته بعد، ورفع انصارهم من الضباط عريضة الى الصدر الاعظم،احتجوا فيها حل على حل المجلس، لكن الوزارة الجديدة لم تعبأ بهذا الاحتجاج وأصرت على تنفيذ خطتها..
وفي 12 آب عام 1912 اصدرت الحكومة الجديدة، بيانا رسميا حول الانتخابات ذكرت احدى الصحف ، بالنص التاليك "ان التبليغات الصادرة من بعض النظار في السنة الماضية لم تترك انتخاب المبعوثان ان يجري بحسب القانون المخصوص وان ماموري العدلية والمالية والعلماء وغيرهم الذين أدخلوا نفوسهم في امور الانتخاب فأجبروا نفوذهم الرسمي في سوء الاستعمال حتى جمعوا خلالها للقانون شعبات واقضية وقرى وما اشبه الى الوية ليست ملحقة بها. ولم يكتفوا بذلك بل شكلوا شعب جديدة مؤلفة من قرى والحقوها بألوية واخترعوا صناديق لتذكرات الانتخاب على هيئة تمكنوا بها من سوء الاستعمال وهذا مما يستفاد من تدقيق الشكايات الواردة اولا واخرا.. ولما كان من الواجب ان تكون هذه الانتخابات جارية بموجب قانون الانتخابات الخاص بحيث تضحى امينة من التلاعب وسوء الاستعمال وعدم التداخل والتشديد بأي نوع كان، يجب منح الحرية الكاملة وعدم المعارضة في اجراء الانتخاب لكل شخص له حق الانتخاب.. وهذا من المنافع السامية التي تعود على المملكة.. وبحوله تعالى ان الانتخابات ستكون في هذه المرة اخذة بعنان الحرية من جميع جهاتها خالية من كل تحزب، وعليه فقد حظرت المداخلة في الانتخاب وتقررت المجازاة العاجلة لكل مأمور او موظف اذا تداخل بها حتى ولو اشار من طرف خلفي، وبموجب قانون انتخابات المبعوثان انه ما عدا البلدية والمأمورين الذين لهم حق التداخل يمنع كل مأمور ليس له وظيفة في امر الانتخاب..
واضاف البيان: ان اوامر صارمة صدرت لكل نظارة بتحقيق ذلك، وان تشكل شعب الانتخاب في كل قرية وناحية وينظم صندوق الانتخاب بشكل يمنع التزوير، وسمح البيان للاشخاص المرشحين بالترويج لمناهجهم والقاء الخطب، وحذر من ان العقوبة ستطبق بحق المخلين بالراحة والنظام العام.
ثم ورد الى العراق امر برقي من نظارة الداخلية اضافة الى البيان السابق يؤيده فيه ويحث على اجراء الانتخابات في اوائل شهر اب.. ويلزم انتخاب المبعوثين من قبل الناخبين الثانويين في ابتداء شهر تشرين الاول على ان يجتمع المبعوثون المنتخبون في اوائل شهر تشرين الثاني لاجل افتتاح المجلس، وطلب امر الداخلية ان تنشر هذه البرقية بصورة واضحة الى عامة الناس، واذا احتيج الى استيضاح او تفسير مادة تراجع الوزارة بذلك.
وبدأت حركة الانتخابات لانتخاب اعضاء مجلس المبعوثان في العراق مرة اخرى بعيدا عن ارهاب الاتحاديين ونفوذهم ، فدعت دائرة البلدية في بغداد والمختارين والائمة من جميع المحال لتدوين اسماء الذين يحق لهم الانتخاب.. وباشر المجلس البلدي بعد ذلك بتنظيم دفاتر الانتخابات.. ويجب ان لايغرب عن البال ان الحكومة الجديدة بحكم مناوءتها للاتحاديين كان لابد وان تكون اكثر عطفا على حزب الحرية والائتلاف المعارض التقليدي لجمعية الاتحاد والترقي، الا انه لاتوجد اشارة الى تدخلها في الانتخاب لصالحهم.
وما قامت به الصحف المحلية ايام الانتخابات وتحذير الناس من انتخاب غير الكفوئين ، الا ان النفوذ الذي سيطر على حرية القوم اعجزهم عن زمام قيادة حريته بيده ، رغما عن كل معارضة او تداخل او تلاعب فان قوة الحكومة الحرة الساهرة على هذا الانتخاب وقد قامت سدا حصينا فاليكم يا ابناء الوطن نسوق الكلام فأنه لم لكم عذر ولاحجة تحتجون بها اذا لم تستعجلوا حريتكم في انتخابكم من ترونه اهلا للقيام بهذه الوظيفة المهمة.. كما عادت مرة ثانية توجه قراءها حول صفات المبعوث ومءهلاته.. والشيء الذي بلغت الانتباه هنا ان الدعوة الى انتخاب العرب فقط ونبذ الغرباء لم تتطرق اليها كما حدث في السنوات السابقة، ويبدو ان ذلك يعود الى طبيعة الفترة السياسية في ابتعاد الاتحاديين –اصحاب النعرة العنصرية التركية –عن الحكم.
وجرت الانتخابات في جو اكثر هدوءاً من الاجواء التي عاشتها في زمن سيطرة الاتحاديين على الحكم.. وبدأت الحكومة تستجيب لاعتراضات الناس وشكاواهم واخذت ترسل الاوامر لتنظيم الانتخابات ومنع التزوير والاحتيال. وفي الاستانة كذبت الحكومة بمنشور رسمي ما اشيع من ان الباب العالي عدل عن جمع مجلس المبعوثان، بعد تأجيل الانتخابات، ولم تمهل الاحداث هذه الوزارة الحيادية فقد اخذت الحرب البلقانية تسير الى غير صالح الدولة العثمانية.. واراد الصدر الاعظم كامل باشا، الذي الف الوزارة على اثر نشوب الحرب البلقانية، انهاء هذه الحرب بالصلح، الا ان الاتحاديين كانوا دائما يدفعون بالناس الى القيام بمظاهرات يهتفون للحرب ضد الصلح مع العدو، وحين اجتمع الديوان الكبير- الذي جمعه كامل باشا من عظماء الامة- للتشاور في عقد الصلح او الاستمرار في الحرب، اشار الديوان بالصلح، وقبل ان تتخذ الوزارة قرارا بذلك كان الاتحاديون قد سمعوا بما اشار به الديوان، وكانوا في هذه المدة على اقوى ما يكون بعد ان مال اليهم كثير من الناس والضباط بسبب دعايتهم مستغلين وضع البلاد المتدهور من الناحية الحربية.
وفي 23 كانون الثاني عام 1913 دفعوا بمئات من الناس للخروج بمظاهرة هاجمت الباب العالي حيث تجتمع الوزارة وطالبوا باسقاطها بواسطة مندوبين عنهم، وقد تم لهم ذلك، ووقع الصدر الاعظم كامل باشا كتاب استقالته اثناء تلك المظاهرة ، ثم صدرت ارادة بتعيين محمود شوكت صدرا اعظم مع ترقيته الى رتبة مشير، وهكذا عاد الاتحاديون الى الحكم..
وفي الاول من حزيران عام 1913 كتب صدى بابل، تقول ان الحكومة غير مهتمة في الوقت الحاضر بمسألة مجلس المبعوثان وانعقاده وهي لاتفكر به اصلا وابدت رايها بأنه لايجوز الخوض فيها، وقد جاء كلامها هذا في ردها على اقوال صحف الاستانة المتضاربة حول انعقاد مجلس المبعوثان او عدم انعقاده وعلاقته بحرب البلقان وقضية الصلح.. وفي الثامن من حزيران عام 1913 عبررت الجريدة عن اليأس الذي اصيبت به الامة نتيجة الحرب فقالت قضي ما قضي وقدر ما قدر وكان ما كائن من ضياع البلاد وتزعزع المملكة وليس لنا ان نساءل انفسنا لم كان هذا الضياع.. لنترك الان كل هذا ولانمقت الاحزاب ولا نتأفف من سوء الادارة ولا نذكر (كاملا) و (شوكت) وبصورة اعم لا نذكر الاتحاد ولا الائتلاف ومصنعا.. ها نحن الان لم نفلت من مخالب الحرب وبلادنا تتخاصم الدول على تقسيمها واسرانا مئات الالوف في بلاد الصرب والبلغار واليونان على فراش الجوع والالام والاهانة والذل ونحن لم نتفق على الاصلاح فريق منا يطلبونه بكل معنى الكلمة وفريق يكتفون بضرورياته وكتابنا وافاضلنا يتشاتمون على صفحات الجرائد كأنهم اعداء الدار يتخاصمون.
وجرت الانتخابات لمجلس المبعوثان بعد عدة اشهر في اواخر عام 1913 واوائل عام 1914 وكانت هناك اشاعات عن محاولة للتقارب والتفاهم بين الجمعيات العربية والجمعية الاتحادية، ولهذا فانه لا يتوقع قيام ضجة حول الانتخابات كما كان يجري في السابق.. الا انه لم ترد بعد ذلك في الصحف اخبار اخرى عن مثل هذا الاتفاق ، لان جمعية الاتحاد والترقي اشتركت كحزب وحيد في الانتخابات ولم يسمح لأية جمعية او حزب اخر بالاشتراك فيها واختفت تقريبا الضجة الواسعة التي كانت تثار في بغداد اثناء الانتخابات وكانت اسماء المبعوثين تنشر في الصحف مع مقالات وتعليقات قليلة حول الحركة الانتخابية،
ومن المؤكد ان الفرد العثماني كان قد اصيب بحالة يأس وعدم مبالاة بعد ان تضعضعت اركان الدولة العثمانية، وقد انعكس ذلك على هذه الانتخابات، وفاز بنتيجة هذه الانتخابات مرشحو جمعية الاتحاد والترقي في معظم انحاء العراق، عدا لواء البصرة، المنطقة المغلقة امام الاتحاديين بسبب سطوة طالب النقيب ونفوذه وكان السيد طالب النقيب من بين الذين انتخبوا عن البصرة.. الا ان مجلة لغة العرب ، ذكرت بأن السيد طالب النقيب استقال من النيابة ، ويبدو ان قولها صحيح لانه لم يحضر اجتماعات مجلس المبعوثان عند افتتاحه.. وقد حاول الاتحاديون اثناء اجتماع المجلس عدم تصديق مضبطة انتخاب نواب البصرة فاتصل نواب البصرة بالسيد طالب الذي كان في مصر فطلب منهم الانسحاب والتوجه اليه..
ولما كانت الحكومة الاتحادية على علم بهذه المخابرات فقد اعادت النظر في موقفها وصدقت المضابط. ومن الامور التي اثارت الناس في نتائج هذه الانتخابات وبقيت خبرا مهما يرددونه دليلا على تدخل الاتحاديين فيها، هو فوز علي حيدر مدحت احد محرري جريدة طنين الاتحادية للنيابة في الوقت الذي لم يره لواء الديوانية ابدا، وقد ذهب بعد انتخابه بمدة الى دائرته الانتخابية وكتب سلسلة مقالات بعنوان (رسائل بغداد) وصف بها كل ما لاحظه خلال رحلته في البلاد التي مر عليها في طريقه الى الديوانية، واشار في احدى رسائله الى جهل الناس هناك باللغة التركية، وعندما اطلعت احدى الجرائد العربية على ما كتبه هذا النائب ردت عليه قائلة، "الغريب ليس ان لايعرف اهل الديوانية اللغة التركية ولكن الغريب ان يكون نائبا عنهم من لايعرف العربية" وكذلك انتخاب الدكتور سامي الطبيب التركي المقيم في بغداد.
إفتتح (مجلس المبعوثان) الاول، وعقد اول اجتماع له في 19 اذار 1877م/ 4 ربيع الاول 1294 هـ في عاصمة الدولة العثمانية (الاستانة) لذلك كان العراق بعيداً عن حياة البرلمان وما يجري فيه اثناء انعقاده ، خاصة ان الصحافة لم تكن موجودة في العراق عدا صحيفة (زوراء) الرسمية، المقتضبة الاخبار، واكثر من هذا لم يكن اكثر الناس في الدولة العثمانية يعرفون معنى الدستور وما يحويه "ولاهم طلبوه او سمعوا فيه وانما قام به جماعة من المستنيرين من الاتراك في الاستانة، ولعل خير ايضاح لمفهوم الناس في الدولة العثمانية للبرلمان في اول عهده ما كتبه سليمان البستاني احد النواب العرب في (مجلس المبعوثان)، اذ قال "فلقد ايد لنا الاختيار باجتماع المجلس الاول عام 1876 "عقد الاجتماع الاول عام 1877" ان ابناء كل ولاية كانوا يظنون مبعوثهم منتدبا عن منتخبيه لاغير ومأمورا بتنفيذ جميع رغباتهم وابلاغ تشكيات افرادهم مهما كانت. حتى لقد كانت الرسائل في بعض الولايات تنهمر كالمطر على رؤوس مبعوثيها حاملة من المطالب ما لو طرحه المبعوث للبحث لما ناله الا هزء رفاقه اجمعين، فمن طالب بعزل خصم له واحالة مأموريته اليه، ومن ملتمس رتبة او نيشاناً..حتى كان من جملة تلك المطالب، ان مكاريا سرقت دابته فكتب الى منتدب ولايته ان يأمر باعادتها اليه.
وجرت الانتخابات الثانية بأوامر مؤقتة ، لعدم صدور قانون انتخابي خاص، وبدأت اجتماعات مجلس المبعوثان في دورته الثانية، الا ان السلطان العثماني قرر تعطيل المجلس الى اجل غير محدود في 14 شباط عام 1878 قبل ان يكمل دورته هذه ونفى وابعد البارزين فيه، وبقي قانون الانتخابات الذي اصدره المجلس في دورته الثانية حبرا على ورق، دون تطبيق.
ان عمل السلطان هذا لم يولد ردود فعل في البلاد والسبب في ذلك كما يقول ساطع الحصري، "لان الحياة الدستورية لم تكن عندئذ مدعومة براي عام واع، ولابطبقة قوية من المستنيرين بل كان من عمل مدحت باشا مع جماعة محدودة من المفكرين، ولم يبلغ السلطان عبد الحميد الثاني القانون الاساسي رسميا بل بقي يدرج في صدر الحوليات الرسمية التي كانت تصدر كل سنة، الا ان الدولة العثمانية مرة ثانية لمدة اكثر من ثلاثين سنة تكونت خلالها جمعيات سرية في داخل البلاد، وعلنية في خارجها، لاظهار مساوئ الاستبداد الحميدي، ومنها جمعية الاتحاد والترقي التي الفها ضباط الجيش، وطالبوا مع من آزرهم من المدنيين باعادة القانون الاساسي وجعل البلاد العثمانية دستورية نيابية،
وفي صباح يوم 10 تموز عام 1908 اضطر السلطان عبد الحميد الثاني الى الرضوخ امام ثورة بعض وحدات الجيش وتأييد القطعات العسكرية لها في كل انحاء الامبراطورية وارسالهم البرقيات الى السلطان مؤيدين الثورة، وفي يوم 22 تموز زحفت بعض قطعات الجيش الى العاصمة فاحتلتها وشكلت وزارة جديدة برئاسة كامل باشا، وفي يوم 24 تموز اعلن اعادة القانون الاساسي، وصدر الامر عند ذلك بانتخاب النواب لمجلس المبعوثان وازيلت الرقابة عن الجرائد والمطبوعات وصدر عفو عام عن المسجونين السياسيين والمنفيين فدخلت البلاد عهدا اخر جديدا سمي بعد المشروطية الثانية.
ويبدو ان الحكم الاستبدادي ونشاط الجمعيات السرية والعلنية ضده من اجل اعادة الحياة الدستورية ولد في اجزاء الدولة العثمانية شعورا عاما ان القانون الاساسي هو المخرج الوحيد لهم من هذا المأزق، لهذا نجد مجلة المقتطف المصرية تقول "شمل السرور جميع العثمانيين على اختلاف اجناسهم ومذاهبهم".
اما في العراق ، فقد استقبلت بغداد اعادة الحياة الدستورية بحماسة ، وتآخى الشعب على اختلاف عقائده في البداية، وفي الموصل لم يلق الدستور ترحيباً، الا انه كان وسيلة للتخلص من الوالي مصطفى بك الذي لم يكن محبوبا، اما البصرة فلم تحدث فيها مثل هذه الحماسة التي شهدتها بغداد، بل على العكس شعر الاهالي ان ليس للامر تأثير محسوس في حالتهم.
ان هذه الانطباعات التي اوردها السفير البريطاني لدى الباب العالي عام 1908 تدل على ان استقبال الدستور بفرح او حماسة لم يكن نتيجة وعي دستوري بقدر ما كان وسيلة للتخلص من الحكام المستبدين وان كان هناك بعض من هذا الوعي فانه تركز في بغداد اكثر من مكان اخر في العراق، مع العلم ان الوعي الدستوري الذي اعنيه لم يكن يعني الديمقراطية بمفهومها الذي جاء الى العراق بعد الحرب العالمية الاولى، اذ ان هذه اللفظة لم ترد اساسا في هذه المدة سواء في الصحف او البيانات الرسمية ، وكل ما كان يعنيه الدستور بالنسبة للعرب العثمانيين القضاء على الفساد الذي كان سائدا واستكمال وسائل النهوض والرخاء في جميع انحاء البلاد.
وفي خطبة لاحد اساتذة الكلية الاميركية في بيروت بعنوان (نحن والدستور) عرف الدستور بقوله "هو القوانين المسنونة للاختبار والحكمة ليعامل بموجبها افراد الامة اسعادا لهم من حيث هم افراد، واسعادا وتعزيزا لهم من حيث هم امة أي مجموع افراد.. الدستور ايها السادة هو نتيجة محاربات الخير والشر اجيالا الله يعلم كم عدتها ، وبعبارة اخرى هو مجموع ما استفادته الانسانية من غلبات الخير والشر في اثناء العراك الهائل الذي قام بينهما من اول عهد الانسان الى الان".
وفي بغداد جاءت الموافقة الرسمية من الاستانة بفتح شعبة لهذا الحزب الجديد المعارض ، فنشر الخبر بشكل بشرى زفت الى اهل الوطن، اما البصرة فقد دعا مبعوثها طالب النقيب حوالي المئة من رجالها البارزين الى الانضمام الى حزب الحرية والائتلاف بعد ان شرح لهم سليمان فيضي نيابة عنه اهداف الحزب، فوافقه الجميع وسط ضجيجهم بالتصفيق والهتاف ووقعوا على مضابط تأسيس الحزب الجديد وعلى برقيات الاستقالة من جمعية الاتحاد والترقي .
افتتح فرع الحزب في البصرة بمهرجان حضره الاف الناس داخل بناية الحزب وخارجها، وفي بغداد نشرت صدى بابل ، مقالا بعنوان انحطاط نادي الاتحاديين في بغداد، لم يبق من الاتحاديين الا ما ندر حتى وصل الامر الى درجة ان استعفى ركنها الاكبر في حاضرتنا حضرة الاديب الفاضل شكري الفضلي، وقد تنبأت الجريدة بان افتتاح مقر حزب الحرية والائتلاف سيسقط الجمعية الاتحادية تماما في بغداد.
ولم يرد في الصحف المتوفرة لنا اخبار عن موقف الموصل من هذه الحركة العربية الجديدةفي العراق، الا ان لونكرك يقول بأن الموصل "اظهرت في البداية حماسة اقل من بقية الولايات بالنسبة للحركة العربية، حيث كان يسيطر على مجتمعها عوائل من الطور القديم وعلماء دين رجعيون". وكانت الصحافة عاملا مهما في هذه المدة للتعبير عن شعور العراقيين ففي سنتي 1910 و1911 صدرت ست وثلاثين جريدة عربية، وفي سنة 1911 وحدها صدرت (22) جريدة صدر منها في بغداد، 19 جريدة، كما صدرت في تلك السنتين ست مجلات.
ومن هذا كله يمكننا القول بأن العراق شهد اواخر عام 1911 واوائل عام 1912 بداية حركة سياسية ذات طابع عربي معارض للاتحاديين ، كان لها دور واضح في الانتخابات النيابية المقبلة.
اتخذت الانتخابات التي ابتدأت في اواخر كانون الثاني 1912 طابعا جديدا بالنسبة للدولة العثمانية، فهي اول انتخابات تشهد صراعا حزبيا منظما بين جمعية الاتحاد والترقي التي تمتلك السلطة وحزب الحرب والائتلاف الذي يجاهد من اجل ابعادها عنها. وكانت الاوامر قد صدرت الى الولاة والمتصرفين بوجوب الاسراع في اجراء الانتخابات وصدرت ايضا الاوامر السرية بالضغط على الناس لانتخاب من يريده الاتحاديون بالقوة والاكراه، وشهد العراق منذ بداية هذه الانتخابات دعوات صريحة لانتخاب المرشحين العرب فقط والابتعاد عن الغريب مذكرة الناس بضياع طرابلس وما كان ينعت العرب به من قبل غير العرب في مجلس المبعوثان، من صفات سيئة كالجهالة والوحشية، ثم ما كان يجري من الفوضى على يد المبعوثين السابقين.
ومن الامور المهمة التي تبلورت في هذه المدة المفهوم العام لفكرة البرلمان. ان ، مجلس المبعوثان بأنه "مجلس نواب الامة ومشخصيها الذين تختارهم ليقوموا عنها لدى الحكومة مقامها وبعبارة اخرى هو الامة نفسها". اما عن تختارهم ليقوموا عنها لدى الحكومة مقامها وبعبارة اخرى هو الامة نفسها". اما عن استيعاب الناس لهذا المفهوم وتقبله فالظاهر انه كان محصورا عند المتعلمين في مراكز المدن فقط، وخاصة بغداد والبصرة والموصل، لان العشائر لم تكن تشارك في الانتخاب، ولان الصحف كانت مقصورة على المدن الرئيسة، ولعل ما ورد في نشرة احد العثمانيين العرب التي صدرت على اثر حل مجلس المبعوثان واجراء هذه الانتخابات من ان "كثيرين من العثمانيين لايفقهون معنى الدستور الصحيح"، يؤيد ذلك كانت دعاية المرشحين للانتخابات تتم اما بواسطة الصحف او بواسطة بيانات شخصية يصدرها المرشح، ففي البصرة مثلا اعلن حزب الحرية والائتلاف في صحيفة الدستور ترشيح السيد طالب النقيب وعبد الله الزهير كمبعوثين عنها.
وفي بغداد وزع صالح كورجي بيانا الى منتخبيه طبعه باللغتين العربية والتركية، بين فيه اسباب ترشيح نفسه كمنافس لمبعوث بغداد السابق ساسون افندي حسقيل، وبين في بيانه المنهاج والمبادئ التي يؤمن بها اضافة الى ايمانه بخطة الاتحاد والترقي وما تسير عليه، وانه يلتمس الاصوات بصفته مرشحا عثمانيا لا اسرائيليا. وهناك اسلوب اخر في الدعاية للمرشحين تتم في الاسواق، فقد ذكر ان المرشحين في المدن المتمدنة يرسلون ابلغ الخطباء الى الاسواق ليبينوا صفات المرشح، وقد يجتمع اثنان او ثلاثة من هؤلاء الخطباء والمأمورين فيجتمع الناس لسماع ما يقولون .
وكان هذا الاسلوب يتبع في العراق ايضا، لكن هناك فرقا هو ان المرشحين انفسهم في العراق كانوا يحضرون الى الاسواق بدلا من ارسال ممثلين عنهم، ويتناول احدهم الاخر بالطعن – كما يظهر من انتقاد الحرية لهذا الاسلوب فتقول "اما في بلادنا فلم تزل على باب الرقي تتقدم للدخول به تدريجيا وهي تظن انها وصلت اليه دفعة واحدة فيقوم المرشح مناديا على نفسه بالاهلية منكرا على غيره الصفات المبعوثية وينهض الثاني قائلا لا تصلح النيابة الا لي ولايليق ذلك المنصب الا بي". كان لأوامر الاسراع في الانتخابات اثر في غياب كثير من مبعوثي المجلس المنحل.. لانهم لم يصلوا العراق من الاستانة الا بعد حوالي شهرين من بداية الانتخابات..
ويبدو ان جمعية الاتحاد والترقي ارادت بهذه الطريقة ابعاد اكبر عدد ممكن من نواب المجلس المنحل عن ساحة المعركة الانتخابية. لم يمتد عمر المجلس الجديد سوى بضعة اشهر فقد عقد اجتماعه الاول في 4 ايار عام 1912 ثم صدرت الارادة بحله في السابع من اب عام 1912 على اثر مطالبة واصرار ضباط الجيش العثماني باسقاط الوزارة بحل مجلس المبعوثان وتشكيل وزارة من غير الاتحاديين وتم لهم ما ارادوا وكان امر السلطان العثماني بحل مجلس المبعوثان عنيف اللهجة شديد الوطأة على النواب، وفيه انتقاد مر لهم.
وقد حاول الاتحاديون في المجلس عرقلة عملية حله باعتبارها خطوة غير دستورية وأصروا على اعتبار المجلس غير منحل، وابوا قبول نفقات السفر المقرر اعطاؤها الى المبعوثين للعودة الى مراكزهم بحجة ان نيابتهم لم تنته بعد، ورفع انصارهم من الضباط عريضة الى الصدر الاعظم،احتجوا فيها حل على حل المجلس، لكن الوزارة الجديدة لم تعبأ بهذا الاحتجاج وأصرت على تنفيذ خطتها..
وفي 12 آب عام 1912 اصدرت الحكومة الجديدة، بيانا رسميا حول الانتخابات ذكرت احدى الصحف ، بالنص التاليك "ان التبليغات الصادرة من بعض النظار في السنة الماضية لم تترك انتخاب المبعوثان ان يجري بحسب القانون المخصوص وان ماموري العدلية والمالية والعلماء وغيرهم الذين أدخلوا نفوسهم في امور الانتخاب فأجبروا نفوذهم الرسمي في سوء الاستعمال حتى جمعوا خلالها للقانون شعبات واقضية وقرى وما اشبه الى الوية ليست ملحقة بها. ولم يكتفوا بذلك بل شكلوا شعب جديدة مؤلفة من قرى والحقوها بألوية واخترعوا صناديق لتذكرات الانتخاب على هيئة تمكنوا بها من سوء الاستعمال وهذا مما يستفاد من تدقيق الشكايات الواردة اولا واخرا.. ولما كان من الواجب ان تكون هذه الانتخابات جارية بموجب قانون الانتخابات الخاص بحيث تضحى امينة من التلاعب وسوء الاستعمال وعدم التداخل والتشديد بأي نوع كان، يجب منح الحرية الكاملة وعدم المعارضة في اجراء الانتخاب لكل شخص له حق الانتخاب.. وهذا من المنافع السامية التي تعود على المملكة.. وبحوله تعالى ان الانتخابات ستكون في هذه المرة اخذة بعنان الحرية من جميع جهاتها خالية من كل تحزب، وعليه فقد حظرت المداخلة في الانتخاب وتقررت المجازاة العاجلة لكل مأمور او موظف اذا تداخل بها حتى ولو اشار من طرف خلفي، وبموجب قانون انتخابات المبعوثان انه ما عدا البلدية والمأمورين الذين لهم حق التداخل يمنع كل مأمور ليس له وظيفة في امر الانتخاب..
واضاف البيان: ان اوامر صارمة صدرت لكل نظارة بتحقيق ذلك، وان تشكل شعب الانتخاب في كل قرية وناحية وينظم صندوق الانتخاب بشكل يمنع التزوير، وسمح البيان للاشخاص المرشحين بالترويج لمناهجهم والقاء الخطب، وحذر من ان العقوبة ستطبق بحق المخلين بالراحة والنظام العام.
ثم ورد الى العراق امر برقي من نظارة الداخلية اضافة الى البيان السابق يؤيده فيه ويحث على اجراء الانتخابات في اوائل شهر اب.. ويلزم انتخاب المبعوثين من قبل الناخبين الثانويين في ابتداء شهر تشرين الاول على ان يجتمع المبعوثون المنتخبون في اوائل شهر تشرين الثاني لاجل افتتاح المجلس، وطلب امر الداخلية ان تنشر هذه البرقية بصورة واضحة الى عامة الناس، واذا احتيج الى استيضاح او تفسير مادة تراجع الوزارة بذلك.
وبدأت حركة الانتخابات لانتخاب اعضاء مجلس المبعوثان في العراق مرة اخرى بعيدا عن ارهاب الاتحاديين ونفوذهم ، فدعت دائرة البلدية في بغداد والمختارين والائمة من جميع المحال لتدوين اسماء الذين يحق لهم الانتخاب.. وباشر المجلس البلدي بعد ذلك بتنظيم دفاتر الانتخابات.. ويجب ان لايغرب عن البال ان الحكومة الجديدة بحكم مناوءتها للاتحاديين كان لابد وان تكون اكثر عطفا على حزب الحرية والائتلاف المعارض التقليدي لجمعية الاتحاد والترقي، الا انه لاتوجد اشارة الى تدخلها في الانتخاب لصالحهم.
وما قامت به الصحف المحلية ايام الانتخابات وتحذير الناس من انتخاب غير الكفوئين ، الا ان النفوذ الذي سيطر على حرية القوم اعجزهم عن زمام قيادة حريته بيده ، رغما عن كل معارضة او تداخل او تلاعب فان قوة الحكومة الحرة الساهرة على هذا الانتخاب وقد قامت سدا حصينا فاليكم يا ابناء الوطن نسوق الكلام فأنه لم لكم عذر ولاحجة تحتجون بها اذا لم تستعجلوا حريتكم في انتخابكم من ترونه اهلا للقيام بهذه الوظيفة المهمة.. كما عادت مرة ثانية توجه قراءها حول صفات المبعوث ومءهلاته.. والشيء الذي بلغت الانتباه هنا ان الدعوة الى انتخاب العرب فقط ونبذ الغرباء لم تتطرق اليها كما حدث في السنوات السابقة، ويبدو ان ذلك يعود الى طبيعة الفترة السياسية في ابتعاد الاتحاديين –اصحاب النعرة العنصرية التركية –عن الحكم.
وجرت الانتخابات في جو اكثر هدوءاً من الاجواء التي عاشتها في زمن سيطرة الاتحاديين على الحكم.. وبدأت الحكومة تستجيب لاعتراضات الناس وشكاواهم واخذت ترسل الاوامر لتنظيم الانتخابات ومنع التزوير والاحتيال. وفي الاستانة كذبت الحكومة بمنشور رسمي ما اشيع من ان الباب العالي عدل عن جمع مجلس المبعوثان، بعد تأجيل الانتخابات، ولم تمهل الاحداث هذه الوزارة الحيادية فقد اخذت الحرب البلقانية تسير الى غير صالح الدولة العثمانية.. واراد الصدر الاعظم كامل باشا، الذي الف الوزارة على اثر نشوب الحرب البلقانية، انهاء هذه الحرب بالصلح، الا ان الاتحاديين كانوا دائما يدفعون بالناس الى القيام بمظاهرات يهتفون للحرب ضد الصلح مع العدو، وحين اجتمع الديوان الكبير- الذي جمعه كامل باشا من عظماء الامة- للتشاور في عقد الصلح او الاستمرار في الحرب، اشار الديوان بالصلح، وقبل ان تتخذ الوزارة قرارا بذلك كان الاتحاديون قد سمعوا بما اشار به الديوان، وكانوا في هذه المدة على اقوى ما يكون بعد ان مال اليهم كثير من الناس والضباط بسبب دعايتهم مستغلين وضع البلاد المتدهور من الناحية الحربية.
وفي 23 كانون الثاني عام 1913 دفعوا بمئات من الناس للخروج بمظاهرة هاجمت الباب العالي حيث تجتمع الوزارة وطالبوا باسقاطها بواسطة مندوبين عنهم، وقد تم لهم ذلك، ووقع الصدر الاعظم كامل باشا كتاب استقالته اثناء تلك المظاهرة ، ثم صدرت ارادة بتعيين محمود شوكت صدرا اعظم مع ترقيته الى رتبة مشير، وهكذا عاد الاتحاديون الى الحكم..
وفي الاول من حزيران عام 1913 كتب صدى بابل، تقول ان الحكومة غير مهتمة في الوقت الحاضر بمسألة مجلس المبعوثان وانعقاده وهي لاتفكر به اصلا وابدت رايها بأنه لايجوز الخوض فيها، وقد جاء كلامها هذا في ردها على اقوال صحف الاستانة المتضاربة حول انعقاد مجلس المبعوثان او عدم انعقاده وعلاقته بحرب البلقان وقضية الصلح.. وفي الثامن من حزيران عام 1913 عبررت الجريدة عن اليأس الذي اصيبت به الامة نتيجة الحرب فقالت قضي ما قضي وقدر ما قدر وكان ما كائن من ضياع البلاد وتزعزع المملكة وليس لنا ان نساءل انفسنا لم كان هذا الضياع.. لنترك الان كل هذا ولانمقت الاحزاب ولا نتأفف من سوء الادارة ولا نذكر (كاملا) و (شوكت) وبصورة اعم لا نذكر الاتحاد ولا الائتلاف ومصنعا.. ها نحن الان لم نفلت من مخالب الحرب وبلادنا تتخاصم الدول على تقسيمها واسرانا مئات الالوف في بلاد الصرب والبلغار واليونان على فراش الجوع والالام والاهانة والذل ونحن لم نتفق على الاصلاح فريق منا يطلبونه بكل معنى الكلمة وفريق يكتفون بضرورياته وكتابنا وافاضلنا يتشاتمون على صفحات الجرائد كأنهم اعداء الدار يتخاصمون.
وجرت الانتخابات لمجلس المبعوثان بعد عدة اشهر في اواخر عام 1913 واوائل عام 1914 وكانت هناك اشاعات عن محاولة للتقارب والتفاهم بين الجمعيات العربية والجمعية الاتحادية، ولهذا فانه لا يتوقع قيام ضجة حول الانتخابات كما كان يجري في السابق.. الا انه لم ترد بعد ذلك في الصحف اخبار اخرى عن مثل هذا الاتفاق ، لان جمعية الاتحاد والترقي اشتركت كحزب وحيد في الانتخابات ولم يسمح لأية جمعية او حزب اخر بالاشتراك فيها واختفت تقريبا الضجة الواسعة التي كانت تثار في بغداد اثناء الانتخابات وكانت اسماء المبعوثين تنشر في الصحف مع مقالات وتعليقات قليلة حول الحركة الانتخابية،
ومن المؤكد ان الفرد العثماني كان قد اصيب بحالة يأس وعدم مبالاة بعد ان تضعضعت اركان الدولة العثمانية، وقد انعكس ذلك على هذه الانتخابات، وفاز بنتيجة هذه الانتخابات مرشحو جمعية الاتحاد والترقي في معظم انحاء العراق، عدا لواء البصرة، المنطقة المغلقة امام الاتحاديين بسبب سطوة طالب النقيب ونفوذه وكان السيد طالب النقيب من بين الذين انتخبوا عن البصرة.. الا ان مجلة لغة العرب ، ذكرت بأن السيد طالب النقيب استقال من النيابة ، ويبدو ان قولها صحيح لانه لم يحضر اجتماعات مجلس المبعوثان عند افتتاحه.. وقد حاول الاتحاديون اثناء اجتماع المجلس عدم تصديق مضبطة انتخاب نواب البصرة فاتصل نواب البصرة بالسيد طالب الذي كان في مصر فطلب منهم الانسحاب والتوجه اليه..
ولما كانت الحكومة الاتحادية على علم بهذه المخابرات فقد اعادت النظر في موقفها وصدقت المضابط. ومن الامور التي اثارت الناس في نتائج هذه الانتخابات وبقيت خبرا مهما يرددونه دليلا على تدخل الاتحاديين فيها، هو فوز علي حيدر مدحت احد محرري جريدة طنين الاتحادية للنيابة في الوقت الذي لم يره لواء الديوانية ابدا، وقد ذهب بعد انتخابه بمدة الى دائرته الانتخابية وكتب سلسلة مقالات بعنوان (رسائل بغداد) وصف بها كل ما لاحظه خلال رحلته في البلاد التي مر عليها في طريقه الى الديوانية، واشار في احدى رسائله الى جهل الناس هناك باللغة التركية، وعندما اطلعت احدى الجرائد العربية على ما كتبه هذا النائب ردت عليه قائلة، "الغريب ليس ان لايعرف اهل الديوانية اللغة التركية ولكن الغريب ان يكون نائبا عنهم من لايعرف العربية" وكذلك انتخاب الدكتور سامي الطبيب التركي المقيم في بغداد.
____________________________________________
* المصدر : الاستاذ الدكتور محمد مظفر الادهمي ‘المجلس التأسيسي العراقي ، رسالة ماجستير قدمت الى مجلس كلية الاداب -جامعة بغداد ،1972وقد نشرت في كتاب سنة 1976وقد نشر الموضوع في جريدة "الدستور " البغدادية ايضا http://www.daraddustour.com/index.php/2013-09-23-17-29-28/alrajaa/146-2013-10-08-14-30-3والاصل المطول لهذه المقالة منشور في مجلة " آفاق عربية " بغداد العدد 2 السنة 2-1977 الصفحات 22-31
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق