تاريخ ليبيا المعاصر
الفصل الخامس
من كتاب الاستاذ الدكتور محمد علي
داهش الموسوم :"تاريخ المغرب العربي المعاصر ،مركز الدراسات الاقليمية ،سلسلة
شؤون اقليمية رقم 34 ،دار ابن الاثير للطباعة والنشر ،جامعة الموصل ، (الموصل ، 2009
)
-
مدخل تاريخي
-
التطورات العسكرية والسياسية في ليبيا إبان الحرب العالمية الثانية وبعدها
-
القضية الليبية وتطوراتها حتى الاستقلال
-
ليبيا في العهد الملكي
-
ليبيا في العهد الجمهوري
مدخل تاريخي :
كانت نهاية حركة المجاهد الكبير عمر المختار عام 1931،
نهاية لحركة الكفاح المسلح في ليبيا، وبداية السيطرة والاحتلال الكامل لإيطاليا
الفاشية على البلاد، ومنذ ذلك التاريخ تصاعدت سياستها العنصرية في العمل على ابادة
الشعب الليبي باستخدام اسلوب ((الحديد والنار)) في معاملة السكان وراحت تعتقلهم او
تلاحقهم وتشردهم في الصحارى وازهقت نتيجة لذلك مئات الالوف من الارواح. وقامت
السلطات الإيطالية بالاستيلاء على أراضي الأهالي وأملاكهم، ثم راحت تعامل البلاد
على انها ولاية إيطالية وأطلقت عليها ((الساحل الرابع)) وهذا يذكرنا بما فعلته
السلطات الفرنسية المحتلة لأقطار المغرب العربي، والجزائر بخاصة، عندما اعتبرتها
((ملكية فرنسية)).
بدأت السلطات الإيطالية تنظيم عملية الاحتلال، فقد اصدرت
في 11 نيسان/ ابريل 1935، قانوناً تم بموجبه توحيد إقليمي برقة وطرابلس تحت اسم
(ليبيا)، وتشرف عليها حكومة واحدة مقرها طرابلس ويجمع حاكمها الإيطالي السلطتين
العسكرية والمدنية، اضافة إلى مجلس عام يتولى شؤون الإدارة، ومجلس حكومي للشؤون
المالية، وقسمت البلاد إلى خمس مناطق ادارية.
وسعت الحكومة الإيطالية إلى تشجيع الهجرة والاستيطان في
ليبيا للعمل واستثمار الأراضي والأملاك التي سيطرت عليها القوات الإيطالية من أهالي
البلاد، وقد هيأت لتنفيذ مشروع استيطاني واسع بالعمل على تهجير (200) الف مستوطن إيطالي
منذ عام 1938 والسنوات اللاحقة حتى وصل عددهم الى (110) الاف مستوطن عام 1940. وقد
استولى المستوطنون على افضل الأراضي الزراعية، وتولت جمعيات استعمارية إدارة
الاستيطان، وانشأت المؤسسات الحكومية والشركات والمصارف.
استمر الاحتلال الإيطالي لليبيا من عام 1911 وحتى عام
1943، فقد تحولت البلاد خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945) إلى مسرح
للعمليات الحربية بين دولتي المحور(المانيا – إيطاليا) والقوات البريطانية التي
كانت تحتل مصر. وفي اقطار المغرب العربي عموماً ظل ميزان القوى يميل لصالح دولتي
المحور، وبخاصة لألمانيا، بعد سقوط فرنسا بيد الالمان في حزيران عام 1940.
واستمر التفوق الالماني - الإيطالي في ليبيا حتى نهاية عام
1942، حيث جرت معركة (العلمين) في تشرين اول/ اكتوبر عام 1942، وانتصرت القوات
البريطانية الزاحفة من مصر بقيادة الجنرال مونتجمري، وتراجعت القوات الإيطالية
والالمانية التي كان يقودها الجنرال الالماني رومل، وبعدها بدأ التراجع الالماني –
الإيطالي في ليبيا امام القوات البريطانية من الشرق وقوات فرنسا الحرة القادمة من
الغرب، ودخلت قوات الحلفاء (بريطانيا- فرنسا) طرابلس في 23 كانون الثاني/ يناير
1943. وفي 7 شباط/ فبراير عام 1943، تراجعت قوات المحور وانسحبت نهائيا عن ليبيا
باتجاه صقلية ثم إلى الداخل الإيطالي.
كانت نهاية الاحتلال الإيطالي، بداية عهد السيطرة
البريطانية والفرنسية على ليبيا، فقد خضعت ولايتا برقة وطرابلس للإدارة البريطانية
وسيطر الفرنسيون على إقليم ولاية فزان في الجنوب الليبي. وعليه خضعت البلاد
لاحتلال ثنائي، لكن الكفة كانت ارجح للمحتلين البريطانيين باعتبارهم ((المحررين))
الرئيسيين لليبيا من الاحتلال الإيطالي وبالتعاون مع الليبيين المنفيين في مصر والذين
شكلوا جيشا لتحرير ليبيا وقاتلوا مع القوات البريطانية لانقاذ بلادهم.
التطورات العسكرية والسياسية في ليبيا إبان الحرب
العالمية الثانية وبعدها:
اصبح محمد ادريس السنوسي بعد رحيله إلى مصر عام 1923،
نقطة جذب للقوى الليبية المهاجرة من ليبيا تحت ضغط الملاحقة والاعتقال والنفي
والاعدام. وقد استمرت صلات المهاجرين مع تطورات الكفاح المسلح وقضية الشعب الليبي
حتى بعد اعدام المجاهد الكبير عمر المختار عام 1931. وعندما نشبت الحرب العالمية
الثانية (1939-1945)، راح الليبيون يبحثون عن مساندة الحلفاء وبخاصة بريطانيا لدعم
قضية التحرر والاستقلال لبلادهم ضد إيطاليا. وعليه عقد الليبيون اجتماعاً في
الاسكندرية في دار محمد ادريس السنوسي في 19 تشرين اول/ اكتوبر عام 1939، واتخذوا
قراراً وقع عليه (51) شخصا. ثم عقدوا اجتماعا آخر في القاهرة مطلع العام 1940،
وتضمن القرار الصادر عن الاجتماعين اعتبار السنوسي الممثل الحقيقي لهم. وعندما
دخلت إيطاليا الحرب إلى جانب الالمان في حزيران/ يونيو 1940 اجرى السنوسي اتصالات
مع بريطانيا، ودعته الاخيرة إلى المساهمة في المجهود الحربي ضد القوات الإيطالية،
ووعدته باعطاء ليبيا ((الاستقلال الذاتي)) ودون ضمانات بتحديد مستقبلها. وقد أشارت لجنة
التحقيق الرباعية فيما بعد إلى انه ((تم التوصل سنة 1940 إلى اتفاقية بين ادريس
السنوسي والسلطات البريطانية في مصر حول تشكيل قوات دعم عربية من الليبيين في مصر
)) وفي اب / اغسطس 1940 افتتح مكتب استدعاء الليبيين إلى الجيش، وبدأت الوحدات
الليبية تشترك في الحرب.
اشترك الليبيون إلى جانب القوات البريطانية لانقاذ
بلادهم من خلال جيش ((القوى العربية الليبية)) وبلغ عدد المتطوعين الليبيين اكثر
من (14) الف مقاتل و (120) ضابطاً واقيم للقوات الليبية معسكرٌ في (امبابة) في مصر
واشتركوا فعلاً في القتال ضد القوات الإيطالية والالمانية، وبدأوا يدخلون الأراضي
الليبية مع تراجع قوات المحور، ثم دخلوا مدينة بنغازي في إقليم برقة في 2 تشرين
الثاني/ نوفمبر 1942 ومصراتة والخمس في 18 – 20 كانون الثاني/ يناير 1943.
وخلال فترة العمليات الحربية كانت القوات العربية
الليبية بالاضافة إلى السكان المدنيين يقومون بتقديم المساعدة لقوات بريطانيا
وفرنسا. فقد كان كثير منهم ينشطون في مؤخرة جيش العدو. وكان الكثير منهم في عداد
((الكوماندوس)) البريطاني. وكان المدنيون منهم يساعدون في جمع المعلومات، فيقدمون
المساعدة لرجال الاستخبارات البريطانية العاملين في المؤخرة، وكانوا يخاطرون
بحياتهم من اجل حماية الاسرى البريطانيين الفارين من الاسر. وقد استشهد الاف
الليبيين خلال الحرب العالمية الثانية، فسقط بعضهم في سوح المعارك، وعذَب آخرون
واطلق عليهم الرصاص بسبب ما كانوا يقدمونه من مساعدات لقوات الحلفاء. والحقت الحرب
خسائر فادحة بليبيا. وقد اعترفت الشخصيات السياسية والعسكرية البريطانية بالدور
الكبير الي قام به الليبيون، فقد صرح انتوني آيدن وزير خارجية بريطانيا بقوله:
((قامت هذه القوة بخدمات كبيرة ساندتنا في اثناء الحملة الناجحة في الصحراء
الغربية.. وإنني اغتنم هذه الفرصة لأعرب للسيد ادريس السنوسي واتباعه عن امتنان
حكومة صاحب الجلالة للعون الذي قدموه ولا يزالون يقدمونه في الجهد الحربي
البريطاني)).
وفي الوقت نفسه كانت القوات الفرنسية (قوات فرنسا الحرة)
بقيادة الجنرال ديغول قد تقدمت إلى فزان في الجنوب واحتلتها في كانون الاول/
ديسمبر 1942. اما غدامس، فقد تم احتلالها في 26 كانون الثاني/ يناير 1943 وتم رفع
العلمين البريطاني والفرنسي في مدينة (الكفرة) التابعة لإقليم برقة منذ 23 كانون
الثاني/ يناير 1943.
منذ عام 1943 سيطرت الادارتان البريطانية والفرنسية على
ليبيا، وقسمت البلاد إلى ثلاث مناطق عسكرية تحت ذريعة الضرورات الحربية. وتم فصل
برقة عن طرابلس. وقام في كلا الإقليمين إدارة مستقلة، وقامت في إقليم فزان إدارة
عسكرية فرنسية.
كان المستعمرون البريطانيون والفرنسيون، وبدعم من
الولايات المتحدة الاميركية يهدفون من وراء الإدارة الثنائية والمنفصلة، تجزئة
البلاد واحتلالها. فقد طبق نظام احتلال كامل، وضيق الخناق على العلاقات الاقتصادية
بين الادارات الثلاث، وحددت الحدود بين طرابلس وبرقة وفزان. وفرضت وحدات نقدية
مختلفة، و ((صارت جنسية المواطن تتحدد وفقا لمكان اقامته بناء على التجزئة
المكانية)). وقامت الادارتان البريطانية والفرنسية بانشاء قواعد حربية برية وجوية
في الاقاليم الثلاثة، وبقيت محتفظة بها بعد انتهاء الحرب. وقد استمر الوضع في
ليبيا على حاله حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت تطورات سياسية داخلية
وخارجية على طريق الاستقلال والوحدة الوطنية.
الحركات السياسية الليبية قبل الاستقلال :
تميز المجتمع الليبي في بداية القرن العشرين بأنه مجتمع
رعوي زراعي، وبالتالي فإن العلاقات الاجتماعية والبنية الفكرية السائدة لن تتجاوز
حدود هذا الواقع. وقد كرس الاحتلال الإيطالي هذا الوضع على استمراريته مما أدى إلى
العجز عن إفراز قيادات سياسية معبرة عن وعي الشعب والوقوف لمواجهة الاحتلال
العسكري الإيطالي وسياسته. وكانت القيادات التقليدية هي أساس الحركة السياسية
والعسكرية.أما الفئات الاجتماعية الصاعدة التي بدأ أبنائها في الحصول على قسط من
التعليم فقد كانت إما في موقع التبعية لهذه القيادات أو التناقد معها. وعليه تأخر
قيام التنظيمات السياسية التي ينتمي أعضائها إلى القوة الاجتماعية الصاعدة بسبب
السيطرة القبلية على العلاقات وجود بعض الرموز الدينية المسيطرة وكذلك بسبب سياسة
الاحتلال ومع ذلك فقد قامت واجهات ثقافية ورياضية أستطاعت ان تتعامل بالسياسة
وبشكل خفي. أما التنظيمات السياسية التي يمكن أن تعطى صفة الأحزاب فلم تنشأ إلا
خلال الحرب العالمية الثانية، حيث نشط في تأسيسها عدد من المثقفين والطلبة الذين
عادو من الخارج وقد أرتبط بعضهم بفكرة القومية العربية، كما أنهم سعوا للحصول
لأنفسهم على وموقع اجتماعي وسياسي في واقع تسيطر عليه القوى التقليدية.
ومن الجدير بالذكر، وخلال الحرب العالمية الثانية وبعدها،
ظهرت تنظيمات سياسية (نخبوية) أرادت ان تؤدي دورا في المستقبل السياسي للبلاد إلى جانب
((القوى العربية الليبية)) وتمثلت هذه المجموعة من التنظيمات في طرابلس وبرقة بـ
((اللجنة الطرابلسية)) و ((نادي عمر المختار)) و ((الجمعية الوطنية )) و ((رابطة
الشباب)) وظهرت كلها عام 1943. وظهرت تنظيمات سياسية اخرى بعد الحرب مباشرة، وكان
ذلك على اثر التطورات التي لحقت بالقضية الليبية وهي في الطريق إلى الاستقلال. وقد
نشط ((نادي عمر المختار)) عامي 1945-1946 بعد دخول الشباب في لجنته التنفيذية،
وكان هؤلاء من المؤيدين لوحدة برقة وطرابلس وفزان، وبدأت المعارضة المتزايدة للإدارة
البريطانية والإقليمية الضيقة والالحاح على الصلات الوثيقة مع مصر، وشرع ادريس
السنوسي عام 1946 بتشكيل ((الجبهة الوطنية)) التي طالبت بالاعتراف بادريس
السنونسي واقامة حكومة وطنية في برقة.
وشكلت هذه الجبهة موقفا معارضا لنادي عمر المختار وطروحاته السياسية وعليه تعمق
الخلاف بين الجانبين. ورغم ذلك توسعت القاعدة الاجتماعية للنادي ومارس نشاطه
السياسي بصورة متعاظمة خلال عامي 1946-1947، حيث طمح للوصول إلى الدستور
الديمقراطي مع ضمانات ضد استبداد السنوسي، وقد اوقف نشاطه نهائيا في نهاية عام
1947.
وفي طرابلس تشكل عدد من الاحزاب بصورة سرية حيث ظهر
(الحزب الوطني) عام 1944. وكان برنامجه يعبر عن المصالح الوطنية للشعب الليبي في
الحرية والاستقلال والوحدة الوطنية وبشكل سلمي ومن خلال محاولة كسب التأييد الدولي.
ورغم ذلك رفضت الإدارة البريطانية الاعتراف بهذا الحزب واستطاعت شق صفوفه لكن
الحزب الوطني استمر بقواعده وقياداته التقليدية من المحافظين حتى يتم الاعتراف به
من قبل الإدارة البريطانية في نيسان/ أبريل 1946. وأسس الراديكاليون ((الكتلة
الوطنية الحرة)) التي نالت اعتراف الإدارة البريطانية عام 1946. وكانت الكتلة
الوطنية تدعو إلى استقلال ليبيا الموحدة ودخولها في جامعة الدول العربية، وتعارض
الاعتراف بادريس السنوسي رئيسا على ليبيا الموحدة. وهذا التأييد البريطاني جاء لشق
الصف الوطني وزرع الخلاف السياسي. وفي
العام نفسه تشكلت ((الجبهة الوطنية المتحدة)) بمساعدة مباشرة من قبل الإدارة
البريطانية. وكانت الجبهة تمثل ما يسمى بأحزاب الإدارة المحتلة، واكد قادتها على
ان الاتحاد مع بريطانيا يعد شرطاً ضرورياً من اجل التطور الاقتصادي لليبيا. ولم
تكن الجبهة ذات تأثير في الحياة السياسية والاجتماعية للبلاد. وفي نهاية عام 1946
تشكل ((الاتحاد المصري – الطرابلسي)). وفي عام 1947 تأسس ((حزب العمال)) وكان يدعو
إلى استقلال ليبيا الموحدة، لكن قاعدته الاجتماعية ظلت محدودة. كما تشكل في مطلع
عام 1948 ((الحزب الحر)) وكان شعاره ليبيا الموحدة المستقلة بقيادة ادريس السنوسي،
وكان هو الاخر محدود القاعدة الاجتماعية. كما تمت الدعوى إلى تشكيل سياسي جديد
يدعى (المؤتمر الوطني لطرابلس) دعيت لدخوله كافة الأحزاب من أجل مواجهة الموقف
الناشئ عن قضية الوصاية على طرابلس. وقد أسهم المؤتمر في إرساء قاعدة مشتركة
للتعاون مع إمارة برقة، حيث تمت دعوة أميرها أدريس السنوسي لزيارة طرابلس. كما
أعلن المؤتمر برنامجه في آب / أغسطس 1949 والذي تمثل في استقلال ليبيا تحت القيادة
السنوسية. وعلى الرغم من النشاطات الوطنية لمعظم الأحزاب السياسية (النخبوية) التي
ظهرت في برقة وطرابلس، وبخاصة الجبهة الوطنية المتحدة والحزب الوطني والكتلة
الوطنية الحرة والمؤتمر الوطني، الا أنها لم تستطع ان تؤدي دوراً في رسم مستقبل
البلاد وذلك لعجزها عن تجنيد الشعب الليبي خلفها، وبقيت حركتها معزولة إلى حد بعيد
عن حركة الجماير بسبب طابعها النخبوي. فقد سيطرت الإدارتان البريطانية والفرنسية
على الوضع في ليبيا منذ عام 1943 وحكمتا البلاد بما تقتضيه مصلحة الاحتلال وسياسته
في ليبيا او في ما يحيط بها من مستعمرات بريطانية (مصر – السودان) وفرنسية (تونس –
الجزائر – المغرب – موريتانيا) وغيرها.
القضية الليبية وتطوراتها حتى الاستقلال :
دخلت القضية الليبية – بعد الحرب العالمية الثانية
مباشرة – دهاليز السياسة الدولية باعتبارها واحدة من المستعمرات الإيطالية. وبدأت
الدول الكبرى (الولايات المتحدة الاميركية – الاتحاد السوفيتي – بريطانيا – فرنسا)
ومنذ مؤتمر لندن المنعقد في ايلول / سبتمبر 1945، تقدم المقترحات لحل قضية ليبيا.
وفي الوقت نفسه قامت الاقطار العربية ومن خلال جامعة الدول العربية، بتنظيم جهودها
للدفاع عن الحرية والاستقلال الليبي، وسافر امينها العام عبد الرحمن عزام في 25
ايلول/ سبتمبر 1945 إلى لندن وقدم مذكرة إلى اجتماع وزراء خارجية الدول الكبرى،
طرح فيها وجهة النظر العربية واماني الشعب الليبي في الحرية والاستقلال والوحدة
الوطنية. ان هذا المطلب العربي المشروع لم يحظ باهتمام الدول الكبرى. وفي مؤتمر
القمة العربية في ((انشاص)) في
28 – 29 من ايار/ مايو 1946 اكد ملوك ورؤساء الاقطار العربية (العراق – مصر – سوريا – لبنان – السعودية – الاردن) حق القطر الليبي في الاستقلال وضرورة دعمه ماديا ومعنوياً. واستمرت القضية الليبية موضع اهتمام جامعة الدول العربية.
28 – 29 من ايار/ مايو 1946 اكد ملوك ورؤساء الاقطار العربية (العراق – مصر – سوريا – لبنان – السعودية – الاردن) حق القطر الليبي في الاستقلال وضرورة دعمه ماديا ومعنوياً. واستمرت القضية الليبية موضع اهتمام جامعة الدول العربية.
وفي الوقت نفسه بدأت مساومات الدول الكبرى بشأن ليبيا.
ففي مؤتمر الصلح الذي عقد في آب/ اغسطس 1946 طالب السوفيت باستقلال ليبيا، في حين
طالبت الولايات المتحدة بخضوعها لوصاية جماعية وبوساطة منظمة الامم المتحدة. اما
بريطانيا وفرنسا، فقد اكدتا على تقسيم ليبيا إلى ثلاث مناطق نفوذ، فزان لفرنسا،
طرابلس لإيطاليا، وبرقة لبريطانيا. وكان إعطاء طرابلس لايطاليا بسبب قيام المعارضة
الايطالية، القبض على زعيم النظام الفاشي ((موسوليني)) واعدامه عام 1944، وقيام
الحكومة الجديدة بوقف التحالف مع المانيا النازية ودعم المجهود الحربي للحلفاء،
وتقديراً لهذا الموقف كانت حصة ايطاليا من قرار التقسيم لمستعمرتها السابقة، الا
ان ذلك لم يتم، فقد خضع اقليم طرابلس للادارة البريطانية اسوة باقليم برقة.
وجاء قرار بريطانيا عام 1947 بمنح برقة استقلالها
والاعتراف بادريس السنوسي رئيسا لها ليشق الطريق نحو الاستقلال وتوحيد البلاد تحت
الزعامة السنوسية. وبدأت القضية الليبية تدخل اروقة الامم المتحدة منذ عام 1949.
وبعد سلسلة من المشاريع السياسية المقترحة واختلاف وجهات نظر الدول الكبرى،
والمجموعتين العربية والاسيوية، اتخذت منظمة الامم المتحدة قراراً في 21 تشرين
الثاني/ نوفمبر 1949 نص على (اعلان ليبيا دولة مستقلة ذات سيادة مؤلفة من برقة
وفزان وطرابلس، وتحقيق استقلالها في فترة لا تتجاوز الاول من كانون الثاني/ يناير
1952). واخذت المنظمة الدولية ومن خلال مندوبها متابعة مسيرة وتطورات القضية
الليبية نحو تحديد مستقبلها السياسي.
بدأ الليبيون – بعد اعلان الاستقلال – تشكيل حكوماتهم
المحلية في الولايات الثلاث وقامت ((الجمعية التأسيسية)) وبدأت جهودها باتخاذ
الخطوات لتشكيل حكومة اتحادية في ليبيا طوال عام 1950 وبداية عام 1951. وتم تشكيل
الحكومة الاتحادية المؤقتة في 29 آذار/ مارس 1951. وابتدأ العمل على نقل جميع
السلطات من الادارتين البريطانية والفرنسية إلى الحكومة المؤقتة. وفي 19 ايار/
مايو 1951، وجه الامير محمد ادريس السنوسي خطاباً ناشد فيه الشعب الليبي للعمل في
سبيل الدولة الجديدة القائمة على أساس النظام الاتحادي الذي اقره دستور 7 تشرين
اول/اكتوبر 1951 وفي أواخر عام 1951، تم نقل السلطات التنفيذية والتشريعية إلى الحكومة
الليبية المؤقتة، وقبل اعلان الاستقلال، وقعت كل من بريطانيا وفرنسا مع الحكومة
الليبية اتفاقيتين مؤقتتين، تعهّدتا بموجبها بتقديم مساعدة مالية لليبيا. وجرت
مراسيم تسليم السلطات في 24 كانون اول/ ديسمبر 1951، وبحضور اعضاء الحكومة الليبية
ومندوب عن منظمة الامم المتحدة (أدريان بيليت) رئيس ((مجلس ليبيا الاستشاري)) الذي
انتهت مهمته، وفي اليوم نفسه اعلن الملك محمد ادريس السنوسي استقلال ليبيا واصبحت
دولة ذات سيادة. وذات نظام ملكي دستوري اتحادي.وفي نهاية كانون أول/ ديسمبر 1951
أنضمت ليبيا لعضوية الأمم المتحدة. وفي 2 كانون الثاني/ يناير 1952، اعلن السنوسي
قيام الملكية الدستورية في البلاد.
وبعد اعلان استقلال ليبيا عقدت اتفاقية مع فرنسا تضمنت
ان تستمر السيطرة الفرنسية على فزان لمدة ستة اشهر قابلة للتجديد. واخيرا في آب/
اغسطس 1955، عقدت ليبيا مع فرنسا معاهدة تقرر بموجبها جلاء فرنسا عن ولاية فزان
خلال (12) شهرا. وفيما يتعلق بالممتلكات الإيطالية تسوى المسألة وبشكل يضمن مصالح
الطرفين الليبي والإيطالي، وتم ذلك في عام 1956 وبشكل يضمن مصالح البلدين.
ليبيا في العهد الملكي:
أقرّ دستور 7 تشرين اول/ اكتوبر 1951، النظام الاتحادي (الفيدرالي)
للدولة الليبية الجديدة، وأنشأ حكومة اتحادية مركزية للدولة الاتحادية وحكومات
محلية للولايات الثلاث، برقة و طرابلس وفزان، وحدد اختصاصات الحكومة الاتحادية
والحكومات المحلية. ومنح الدستور اختصاصات واسعة للملك وصلاحيات لمجلس الامة
الاتحادي (الشيوخ والنواب)، كما حدد صلاحيات السلطة التنفيذية والقضائية. اما
النظام المالي الذي اقره الدستور فكان سبباً في اعاقة مشاريع التنمية الاقتصادية.
حيث قسمت موارد المملكة بين اربع حكومات، الحكومة الاتحادية، وحكومات الولايات
الثلاث، ناهيك عن انتهاج كل ولاية سياسة اقتصادية مستقلة عن بقية الولايات.
وصدر اول قانون للجيش الليبي في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر
1953 ونص على تشكيل كتيبة برية لتكون نواة للجيش. كما تم الغاء الحرس الاميري،
وتأسس الحرس الملكي. واشرفت على تدريب الكتيبة البرية بعثتان عسكريتان، احداهما
عراقية ومهمتها تنفيذية، وثانيهما بريطانية ومهمتها استشارية. وعين الملك ادريس
السنوسي العقيد سلمان الجنابي رئيس البعثة العراقية رئيسا لأركان الجيش الليبي، ثم
استعيض عنه بالعقيد عبد القادر نظمي لسوء الحالة الصحية للعقيد الجنابي.
وبناء على قانون الانتخاب الذي اقرته (الجمعية
التأسيسية) واصدرته في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 1951، فقد حدد يوم 9 شباط/ فبراير
1952 موعداً للاقتراع. واستعدت الاحزاب الليبية وعلى رأسها حزب المؤتمر الوطني
الطرابلسي بزعامة بشير السعداوي، وحزب الاستقلال الموالي للحكومة لخوض الانتخابات.
وقد فاز حزب الاستقلال بشكل ساحق. وبعدها قام الملك بحل جميع الاحزاب والمنظمات
السياسية وفرض رقابة شديدة على النشاطات الحزبية، مما ادى إلى ذبول العمل الحزبي. وكانت بداية التسلط الملكي على شؤون البلاد دون
رقابة شعبية وحزبية.
وكان للنظام اللامركزي (الاتحادي) الذي سارت عليه ليبيا
بعد حصولها على الاستقلال، اثره في انتقادات عبد الرحمن عزام الامين العام لجامعة
الدول العربية، وعليه لم تتقدم ليبيا بطلب العضوية للجامعة العربية حتى تولى عبد
الخالق حسونة المانة العامة للجامعة، حيث عبرت ليبيا على لسان رئيس وزرائها آنذاك
محمود المنتصر في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1952 وامام مجلس الامة رغبتها في
الانضمام. وتنفيذاً لذلك وجه المنتصر رسالة إلى الامين العام للجامعة في 12شباط/ فبراير 1953 عبر فيها ((عن رغبة ليبيا في المساهمة في
تحقيق المثل العليا والاغراض النبيلة التي اتفقت عليها كلمة الامة العربية في
ميثاق جامعتها)). وتمت الموافقة على انضمامها في 28 أيار/ مارس 1953، لكنها لم
تنضم إلى كل فعاليات الجامعة، كمعاهدة الضمان الجماعي، وكان ذلك بسبب ارتباطاتها الغربية
المعروفة. وعقب إنضمام ليبيا للجامعة العربية أعلنت انتهاج سياسة حسن الجوار مع
الدول العربية والدعوى للعمل إلى تقريب وجهات النظر تعبيراً عن روح التعاون
والتضامن.
وخلال اعوام 1954-1956، انشغلت الحكومة الليبية بأزمة
وراثة العرش، والتي كادت ان تؤدي إلى مشكلة تعصف بالبلاد لأنها بدأت داخل الاسرة
السنوسية نفسها، حيث شعر فرع السيد احمد الشريف السنوسي بانه مستبعد عن السلطة
بدون وجه حق. ومن افراد هذا الفرع كان محي الدين احمد السنوسي الذي دبّر مقتل
ابراهيم الشامي وهو احد المقربين من الملك، مما ادى إلى القبض على عدد من افراد
الاسرة السنوسية وهروب الاخرين إلى مصر. وقد زاد من الازمة عدم وجود ولي عهد يتولى
الحكم بعد الملك ادريس السنوسي. ولم يكن امام الملك سوى طريقين، اما ان ينتخب
وريثا للعرش من الاسرة السنوسية او يعلن النظام الجمهوري بعد انتهاء ولايته
الدستورية وكان ذلك رأي رئيس الوزراء مصطفى بن حليم. واخيرا استقر الرأي على تعيين
ابن اخيه الحسن الرضا وليا للعهد بتاريخ 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1956.
كان لاستمرار الصراع بين البلاط الملكي والحكومة
الاتحادية من جهة وبين حكومات الولايات الثلاث من جهة أخرى، أثره في سقوط ثلاث
وزارات خلال اعوام 1952- 1957. وفي 26ايار/ مايو 1957 تم تشكيل الوزارة الرابعة
برئاسة عبد الحميد كعبار، الذي اكد امام (مجلس الامة الاتحادية) على سياسته
الداخلية بعزمه على ((توثيق العلاقة بين الحكومة الاتحادية والولايات الثلاث
وممارسة الحقوق التي ينص عليها الدستور)). وفي مجال السياسة الخارجية، اكد كعبار
بأنه ((سيعمل على اظهار ليبيا بالمظهر اللائق، وسيركز اهتمامه على قضايا المغرب
العربي ومنها قضية الجزائر)) و ((توطيد اواصر الصداقة والاخوة لبناء المغرب
الكبير)). وقد استمرت الوزارة الرابعة حتى 15 تشرين اول/ اكتوبر 1960 حيث اثيرت
حولها الكثير من الانتقادات، وفي محاولة من الملك لكسب ثقة الشعب والمعارضة كلف
محمد بن عثمان الصيد (وزير المالية) في 16من الشهر نفسه بتشكيل الوزارة. وصرح (الصيد)
ان سياسته الداخلية تقوم على التقرب من الشعب وخاصة بعد ان تطور الوعي الوطني
وأدرك مخاطر سوء الإدارة متأثراً بما كان يجري في الوطن العربي من نضال ضد
الاستعمار بكافة اشكاله. اما في السياسة الخارجية، فقد اكد الصيد على التعاون مع
الاقطار العربية والدول الصديقة، وفق ميثاق جامعة الدولة العربية وميثاق منظمة
الامم المتحدة.
ومن الجدير بالذكر انه خلال الفترة 1952-1960، بدأ الوعي
الوطني والقومي يتطور لدى الليبيين بسبب وجود القوات والقواعد الأجنبية على أراضيهم،
وبسبب السياسة النفطية للشركات الغربية العاملة ( تم اكتشاف النفط عام 1957)
وارتباط الاقتصاد الليبي بالاقتصاد الغربي وتخبطه، ناهيك عن عدم وجود تضامن وطني ليبي
بسبب النظام الاداري الاتحادي وممارسة كل ولاية سياسة مستقلة في امورها الداخلية،
بالاضافة إلى ذلك كان الوعي الوطني بالاوضاع العربية حيث النضال في فلسطين ضد
الاحتلال الصهيوني وفي الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي ودعوات الاحزاب القومية وخاصة
حزب البعث العربي الاشتراكي إلى الوحدة والنضال ضد الاستعمار، ودور القيادة
المصرية وبعدها القومي العربي المتمثل بالرئيس جمال عبد الناصر وسياسته الوطنية
والقومية، وموقفه من الصراع بين القطبين (الولايات المتحدة الاميركية- الاتحاد
السوفيتي) ومشاركته الفاعلة في تأسيس حركة عدم الانحياز (1955)، انضج الوعي الوطني
والقومي لدى الليبيين وجعلهم ينظرون إلى النظام الملكي وفساد الجهاز الحكومي ونظام
الولايات بأنهم قوى معيقة للوحدة الوطنية والتنمية والتطور والتقدم. وادى ذلك إلى انتشار
الافكار القومية (البعث – الناصرية). وقد وزعت منشورات في آب/ اغسطس 1961 تطالب
بجلاء القوات الأجنبية عن ليبيا والمشاركة الفعلية في دعم ثورة الجزائر.
ان هذا النشاط الوطني مر بظروف قاسية في ظل النظام
الملكي وجاءت مواقفه التقدمية في مطلع الستينات لتثير هجوماً قوياً من اجهزة
النظام السنوسي، حيث تصاعدت حملة النظام البوليسية ضد المثقفين والنقابيين والطلبة
والمهنيين، وتعرض الجميع لشتى المطاردة والضغط والحرب النفسية.ونتيجة لذلك القي
القبض على اكثر من مئة شخص من اعضاء حزب البعث العربي الاشتراكي في 12آب/ اغسطس
بتهمة ((النشاط الهدام ومحاولة قلب نظام الحكم)). واصدرت المحكمة عليهم 3 شباط /
فبراير 1962 حكما بالسجن لمدة تتراوح مابين سنتين وستة اشهر، وعلى قسم آخر
بالبراءة.
أثبتت مشاكل البلاد الداخلية، السياسية والادارية
والاقتصادية والمالية خاصة، والعسكرية والامنية وغيرها، فشل النظام الإداري اللامركزي
(الاتحادي) في ليبيا، وشعر الملك ادريس ان الوقت قد حان لتغيير النظام الاداري
الذي تسير عليه المملكة وضرورة استبداله بنظام مركزي. والجدير بالذكر ان معتقلي
عام 1961 قدموا مذكرة إلى رئيس الوزراء، طالبوا فيها بإلغاء النظام الإتحادي
واطلاق الحريات العامة وحرية الصحافة والحريات النقابية وحريات التنظيم السياسي.
كما طالبوا بضرورة اتباع سياسة الحياد الايجابي وتصفية القواعد الأجنبية، وطالبوا
ايضا بضرورة تبني سياسة التخطيط الاقتصادي وتعديل قوانين البترول للحد من سيطرة
واستغلال الشركات النفطية والعمل على تطهير الجهاز الاداري من الفاسدين والامتناع
عن التدخل في شؤون القضاء.
ومما ساعد في الاسراع على العمل بالنظام المركزي تأثير
الثروة النفطية على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتي ادت إلى توسيع العلاقات
المدنية والحضرية على حساب العلاقات القبلية التي كانت تفعل فعلها في اجهزة الدولة
كافة. وقد كان لشركات النفط وانطلاقاً من مصالحها الخاصة، دورُ في الدعوة إلى وحدة
البلاد لإلغاء المصاعب التي تعانيها من جراء تعاملها مع حكومات الولايات الثلاث،
وتم تعديل الدستور، واصدرت الحكومة قانوناً بالرقم (32) في 10 كانون اول/ ديسمبر
1962 تضمن تعديل بعض الاحكام التي تضمنها الدستور الاتحادي. وكانت التطورات
الدستورية والتشريعية تهدف إلى التمهيد لاحلال نظام الوحدة بدل الاتحاد.
وجاءت الوزارة الخامسة برئاسة محيي الدين فكيني في 19
آذار/ مارس 1963 لتعمل على تنفيذ التعديلات الدستورية التي تمت في وزارة الصيد،
وما أدخل عليها من تعديلات في وزارة فكيني في 25 نيسان/ ابريل 1963. ولعل اهم
الاسس التي بني عليها الدستور بعد تعديله هو الغاء النظام الاتحادي والاستعاضة عنه
بنظام الدولة الموحد وتم حذف كلمات (اتحادي – الاتحاد – الاتحادية – المتحدة) من
الدستور مع الابقاء على دولة ملكية وراثية نظامها نيابي تسمى ((المملكة الليبية))
والتي هي جزء من الوطن العربي والقارة الافريقية.
وكانت فترة محيي الدين فكيني (نيسان / ابريل 1963 وكانون
الثاني/ يناير 1964)، فترة انحسار الهجوم البوليسي على القوى الوطنية والقومية،
كما كانت مرحلة حرية العمل الصحفي وانحسار الرقابة على المطبوعات، وبعد عام 1964
كانت مرحلة الهجوم المعاكس على القوى الوطنية والقومية.
إن الاقتصاد الليبي كان طوال الأعوام 1951 – 1969 تحت
مراقبة الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا وإيطاليا، وجاء ذلك بحكم الحاجة الى
المساعدات المالية والاقتصادية للنظام الملكي. وقد سمح اكتشاف النفط عام 1957
وبداية تصديره عام 1961 إلى ارتفاع المداخيل من العوائد النفطية مع اكتشاف حقول
جديدة وزيادة الانتاج. الا ان ذلك لم يؤثر على مستوى الحياة الليبية عامة، حيث
كانت هذه الفترة ((فترة الرأسمالية المتوحشة)) إذ سيطرت الشركات البريطانية
والهولندية والالمانية الغربية والإيطالية والفرنسية على نسبة 81٪. ثم تأتي
الشركات الاميركية والتركية بعد ذلك. فضلا عن سيطرة القوى الرأسمالية الداخلية الحاكمة
في ليبيا التي كانت غير مستعدة للتنازل اوالتخلي عن مواقعها او تعريض مصالح
الاحتكارات الغربية التي تسندها لأي خطر.
استمرت الاوضاع الداخلية في ليبيا على حالها في ظل
النظام الملكي السنوسي حتى عام 1969، حيث قام الجيش في الاول من ايلول/ سبتمبر
1969 بحركة عسكرية قادها العقيد معمر القذافي واطاح بالنظام الملكي. وقد اسهمت
جملة من العوامل الداخلية السياسية والاقتصادية والإجتماعية والادارية والعسكرية
في تحقيق ذلك، الى جانب العوامل الخارجية ومنها نكسة/ حزيران 1967، وحريق المسجد
الأقصى الذي هز الأمة العربية هزاً عنيفاً، لكن معاناة الشعب الليبي كانت من أهم
أسباب قيامها.
كان لشيخوخة الملك ادريس اثرها في العجز عن الإدارة
الفعلية، مما ادى إلى تسلط المتنفذين في الادارات العليا وخاصة بعض العوائل، فضلا
عن عدم الاستقرار السياسي والشعبي والفساد الاداري المستشري في كل مفاصل الدولة،
وكذلك ظهور الصراعات العديدة في القوات المسلحة والتي اسهمت في اضعافها. وكان
لعلاقات النظام الخارجية مع بريطانيا والولايات المتحدة الاميركية اثرها في الغضب
والادانة الشعبية وبخاصة بعد وقوف الولايات المتحدة إلى جانب (اسرائيل) في عدوانها
على الامة العربية في الخامس من حزيران/ يونيو 1967. ولقد كان لبريطانيا والولايات
المتحدة الاميركية قواعدها العسكرية في ليبيا حتى ذلك الوقت.
ان مجمل هذه العوامل اسهمت في تعرية النظام الملكي
السنوسي وافقدته الاهلية في رئاسة البلاد وتسييرها وكان لابد من قوة منظمة وفاعلة
تستدرك الامور قبل تفاقمها الداخلي. وعليه قام تنظيم ((الضباط الوحدويون الاحرار))
الذي تشكل عام 1959، بتحركه العسكري بقيادة العقيد معمر القذافي في مطلع ايلول/
سبتمبر 1969، في ظل غياب الملك ادريس السنوسي في تركيا. إذ تحركت القطعات العسكرية
بقيادة الضباط الاحرار وسيطرت على مراكز السلطة والمرافق المهمة في الدولة ودون
قتال خلال بضعة ايام. وسرعان ما نال القادة العسكريون تأييد الجماهير وتأييد ولي
العهد الحسن الرضا. وعليه سرعان ما أستتب الوضع الداخلي وبذلك انتهى العهد الملكي وبدأ عهد جديد في ظل
النظام الجمهوري.
ليبيا في العهد الجمهوري :
يعتبر الفاتح من ايلول/ سبتمبر 1969، انعطافا فى حياة
الشعب الليبي حيث اندلعت الثورة التي اطاحت بالنظام الملكي. وكان المدخل للثورة عسكرياً. وجاءت الثورة متأثرة بأفكار ثورة 23
تموز/ يوليو 1952 في مصر، ودعت الى نفس المبادئ واستلهمت الشعارات الأساسية لتلك
الثورة. ومن خلال تتبع السياق التاريخي لثورة الفاتح من ايلول/ سبتمبر 1969 يمكن الحديث
عن ثلاث مراحل مرت بها :
المرحلة الأولى: حيث مثلت الأدارة العسكرية عنصرا أساسيا
في الحكم. وهذه المرحلة تقسم الى فترتين :
أ - فترة
الثورة للشعب والممتدة من قيام الثورة وحتى تأسيس الأتحاد الأشتراكي العربي فى
منتصف عام 1971.
ب - فترة
الثورة بالشعب والممتدة من قيام الاتحاد الاشتراكي وحتى مرحلة الثورة الشعبية.
المرحلة الثانية : وهي مرحلة الثورة الشعبية التى انطلقت
عام 1973.
المرحلة الثالثة : ابتدأت بقيام (سلطة الشعب) وأعلان
الجماهيرية في ضوء ظهور ملامح (النظرية العالمية الثالثة) وصدور الفصل الأول من
(الكتاب الأخضر) في باب (حل مشكلة الديمقراطية) مطلع عام 1976. وعليه بدأت المرحلة
الثالثة في اذار/ مارس 1977.
ابتدأ الحكم الجديد بخطوات وطنية اكدت أن التغيير ثورة
وطنية شعبية حينما وضعت اسس السيادة الوطنية الكاملة، وبدأت باستثمار عوائد النفط
في تنمية البلاد والمجتمع، حيث دخلت الحكومة الليبية منذ البداية في صراع مع
الشركات الأجنبية العاملة في حقول النفط للحصول على زيادة اسعار النفط وحققت مكاسب
في هذا المجال، ثم قامت بتأميم 51٪ من عمليات الشركات الأجنبية منذ عام 1970.
ومنذ بداية ثورة الفاتح، اعتزمت الحكومة الليبية تحقيق
استقلال البلاد كاملة بالعمل على تصفية القواعد العسكرية الأجنبية من البلاد خلال
مدة اقصاها سنتان، وكاجراء موقت فرضت الحكومة الليبية الرقابة على القواعد
العسكرية البريطانية والاميركية. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1969، ابلغ وزير
الخارجية الليبي (صالح بويصير) السفير الاميركي عن عدم امكانية تجديد الاتفاقية
الخاصة بالقواعد العسكرية الاميركية وعدت الحكومة الليبية الاتفاقية المعقودة بين
الجانبين ملغاة في مدة اقصاها 24 كانون اول/ ديسمبر 1970. وكانت الولايات المتحدة
الاميركية تمتلك اكبر قاعدة عسكرية خارج أراضيها في ليبيا وهي قاعدة (هويلس) وتقع
على بضعة اميال شرق العاصمة طرابلس، وهي مركز التدريب الرئيس لسلاح الجو لدول حلف
شمال الاطلسي (الناتو) وكانت مليئة بأسراب الطائرات الأجنبية على مدار السنة، وتم
اغلاقها في مطلع عام 1971.
ومنذ البداية ايضا اعلن (مجلس قيادة الثورة الليبية) ان
الجمهورية الجديدة سوف تقف بقوة ضد الامبريالية في الداخل والخارج، وانها ستمارس
دورا نشيطا في دعم ((القومية العربية)) و ((القضية الفلسطينية ضد اسرائيل)). وفي
16 كانون اول/ ديسمبر 1969، اصدرت وزارة المالية الليبية عدة قرارات بخصوص مقاطعة
(27) شركة و (7) بواخر و (10) ناقلات أجنبية تتعامل مع (اسرائيل).
ومنذ عام 1970 بدأ العقيد القذافي سياسة داخلية جديدة مبنية على المؤتمرات الشعبية المنظمة
الموزعة على انحاء البلاد في المدن والقرى والاحياء او في قطاعات الانشطة
الاقتصادية، وكان ذلك بالعمل على انخراط الليبيين الذين بلغوا (18) عاماً في
منظمات محلية ومؤتمرات شعبية لكل فئات الشعب، وهؤلاء يقومون بانتخاب اعلى منظمة
تشريعية وهي ((مؤتمر الشعب العام)) لمدة ثلاث سنوات. وعليه، دخلت الثورة في عام
1973 مرحلة جديدة من مراحل تطورها تمثلت في الثورة الشعبية التي تم فيها الانتقال
الى (الديمقراطية المباشرة) بعد ان تبين ان (بيروقراطية الاتحاد الاشتراكي) عاجزة
عن الانتقال بالجماهير الى السلطة الشعبية. ففي خطاب زوارة بتاريخ 15/4/1973، حدد
العقيد القذافي الأهداف الأساسية للثورة الشعبية في النقاط التالية :
1- تعطيل كافة
القوانين المعوقة لحركة الثورة وجماهيرها.
2- تسليح الشعب.
3- أعلان
الثورة الإدارية.
4- بداية
الثورة الثقافية
في هذه المرحلة تمكنت القوى الشعبية من السيطرة على
مؤسسات ومرافق البلاد وشكلت لجاناً شعبية لتسييرها لتحل محل المؤسسات التقليدية. أي
بداية أسس جديدة للحكم من خلال المؤتمرات الشعبية.
واستمر العمل
بهذه الاجراءات حتى عام 1976 حيث احدثت القيادة الليبية تغييرا جذريا على النظام
السياسي.ففي مؤتمر الشعب العام المنعقد في 13- 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 1976،
اصدرت اربعة قرارات حددت شكل النظام السياسي، وهي :
1- ان يكون
الاسم الرسمي لليبيا الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية.
2- القرآن
الكريم هو شريعة المجتمع في الجماهيرية.
3- السلطة
الشعبية المباشرة هي اساس النظام السياسي في الجماهيرية.
4- الدفاع عن
الوطن مسؤولية كل مواطن ومواطنة.
وفي مؤتمر (سبها) بتاريخ 2 آذار/ مارس 1977 اعلن عن قيام
(سلطة الشعب) وكان ذلك بعد صدور الفصول الثلاثة للكتاب الأخضر للعقيد القذافي
والذي شكل الأطار النظري (للنظرية العالمية الثالثة) التي اكدت على ان المجتمع
الجماهيري الذي تسعى النظرية لاقامته ليس مقتصرا على مجتمع بعينيه (فالجماهير ليست
شكلاً للحكم او نمطاً إنتاجية أو شكلاً لعلاقات إجتماعية فحسب، بل تسعى لتكون كل
هذه الأشياء مجتمعة) فهي شكل للحكم من حيث دعت الى الديمقراطية المباشرة التي يقوم
فيها الشعب بحكم ورقابة نفسه، وبذا عملت على تجاوز المشكلة الملحة التي كرست لها
نفسها منذ البداية وهي أداة الحكم والمشاركة الشعبية. كما عملت من الناحية
الأقتصادية لنمط انتاجي يختلف عن
الأطروحات الرأسمالية أو الأشتراكية، وعلى شكل للملكية والأنتاج أساسهما
مفهوم (الشركاء). وتم اختيار العقيد معمر
القذافي امينا عاما للامانة العامة لمؤتمر الشعب العام، وتم تسمية الحكومة بـ
((اللجنة الشعبية العامة)) وسمي رئيس الحكومة (رئيس الوزراء) امين اللجنة الشعبية
العامة. وهكذا، فقد حل مجلس قيادة الثورة والجهاز الحكومي المرتبط به (مجلس الوزراء) ووزع صلاحياته بين المؤتمرات
الشعبية الأساسية ومؤتمر الشعب العام واللجنة الشعبية العامة، وانتهى تنظيم الأتحاد
الأشتراكي العربي (وانتهت كافة أدوات الحكم التقليدية المناهضة لسلطة الشعب)
توافقا مع مقولات الكتاب الأخضر، وأصبحت المؤتمرات الشعبية هى الوسيلة الوحيد
للديمقراطية الشعبية.
وشهدت ليبيا منذ 2 اذار/مارس عام 1977، تغيرات اخرى، حيث
تم الغاء المؤسسات الحكومية بأطرها القانونية والبيروقراطية التقليدية، وحلت محلها
هيكلية مختلفة تحت اسم (سلطة الشعب) التي تعد (اساس النظام السياسي في الجماهيرية
العربية الليبية الشعبية الاشتراكية). ويمارس الشعب سلطته عن طريق المؤتمرات
واللجان الشعبية والنقابات والاتحادات والروابط المهنية، ومؤتمر الشعب العام.
ومنذ منتصف السبعينات بدأت اسعار النفط في الارتفاع
وكانت ليبيا احد المستفيدين من ذلك، وبلغت قمة اسعاره في عام 1986، وقد حققت ليبيا
ارباحاً كثيرة اسهمت في تمويل مشاريع التنمية الاقتصادية والبشرية، وبالاتجاه الذي
يحقق الاشتراكية والتنمية، ولتحويل ليبيا الى مجتمع اشتراكي وفقاً للكتاب الاخضر،
وتم اقرار سلسلة من القوانين الاقتصادية لتقييد والغاء القطاع الخاص. وقد صدر
القانون رقم (4) لعام 1978 لتحديد الملكية العقارية، وحظر تأجير العقارات
ومصادرتها، وتم الغاء الملكية الخاصة في قطاع الصناعة، وتحول العمال الى (شركاء لا
أجراء). كما تعرضت التجارة الداخلية والخارجية للتقييد والالغاء التدريجي بموجب
مجموعة من الاجراءات والقوانين واصبحت تحت سيطرة الدولة والقطاع العام من خلال
منشأت اشتراكية يقوم بعضها بالاستيراد والتسويق، وبعضها الاخر بالإنتاج والتسويق
مباشرة، بينما تتخصص بعضها بالتسويق فقط. كما تحققت انجازات كبرى في المجال المائي
حيت تم انجاز مشروع النهر العظيم من واحات الجنوب إلى الشمال، الى جانب مشروعات
صناعية وزراعية عديدة، فضلا عن تطوير الخدمات والمواصلات والصحة والتعليم الأبتدائي
والثانوي والعالي وتوسيعها في عموم البلاد،
بالاضافة إلى النمو الكبير في قطاع البناء والتشييد للابنية والمؤسسات الحكومية
والاهلية وغيرها. الا ان واقع الحال لم يستمر طويلاً، فقد كانت الظروف السياسية
بالاضافة إلى الاوضاع الاقتصادية المتأزمة والناجمة عن انخفاض العوائد النفطية
الليبية من (22) مليار دولار عام 1980 إلى (6ر5) مليار عامي 1988 و 1989، ان غذت
السخط الشعبي الليبي وأدت بالعقيد القذافي إلى اتخاذ اجراءات ((تصحيحية)) كبيرة في
الأوضاع السياسية والأقتصادية
شهد عام 1988 بوادر الانفراج السياسي والتحرك بجدية على
طريق التوسع في الأجراءات الديمقراطية في داخل ليبيا كمحصلة لسياسات وقرارات، حيث
اعلن الرئيس الليبي امام مؤتمر الشعب العام في 2 أذار/مارس 1988، ان الاجهزة
الامنية واللجان الثورية ليست فوق القانون او فوق المساءلة. وتم اطلاق سراح (400)
مسجون سياسي، ورفع القيود على سفر الليبيين الى الخارج. وفي حزيران/ يونيو من
العام نفسه، صاغ مؤتمر الشعب العام ما سمي بـ (الوثيقة الخضراء) لحقوق الانسان في
ليبيا، والتي تضمنت مجموعة من ضمانات ممارسة الحرية الشخصية وتحريم العقوبات التي
تمس كرامة الانسان مثل الاشغال الشاقة، وضمان حق التنقل والاقامة، واستقلال
القضاء، والمحاكمة العادلة. وتم تضمين ذلك في نصوص القانون رقم (20) لعام 1991. إن
هذه الاجراءات ساهمت في تقليص نشاط اللجان الثورية والاجهزة الامنية، إلا ان الاسس
التي قام عليها النظام الليبي لم تتغير، ومن ذلك استمرار تحريم الاحزاب السياسية،
وظلت الامور كلها تخضع لسيطرة الدولة ومؤسساتها واللجان الشعبية.
وعلى الصعيد الاقتصادي شهدت نهاية الثمانينات مجموعة من
الاجراءات الاقتصادية والسياسية التي خفضت القيود الاقتصادية ودخلت في اطار اعادة
هيكلة النظام الاقتصادي الليبي في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات
(القانون رقم 8 لسنة 1989) وأدى ذلك الى عودة النشاط الخاص. والتحولات نحو حرية
السوق، والتي تجد تأييداً من قبل التكنوقراط والخبراء والاستشاريين الاقتصاديين
والماليين، وتحققت انجازات كبيرة في مختلف المجالات وفي عموم البلاد.
استمرت الاوضاع الاقتصادية والسياسية في ليبيا على حالها
منذ قيام ((ثورة الفاتح من ايلول/ سبتمبر 1969)) وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين
حيث كان عام التغيير في الأوضاع الاقتصادية والسياسية بشكل أكبر باجراء
((اصلاحات)) اقتصادية والخصخصة واعتماد اقتصاد السوق في بعض المجالات والذي يفرض
اجراءات اصلاحية في النظم الأقتصادية والتشريعية والقضائية ويحتم تغيرها او
تطويرها بما يتلائم مع العلاقات السياسة الجديدة. وكان ذلك بداية انفراج سياسى على
الصعيد الدولي مع الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا وغيرهما من الدول الغربية،
وحل القضايا العالقة (لوكر بي مثلاُ) والانفتاح وبقوة على الصعيد الأفريقي منذ عام
2007 ومحاولة تفعيل أداء (الاتحاد الافريقي) ليشكل قوة أفريقية موحدة تمارس دورها
على الصعيد العالمي وتنتصر لحق الشعوب وحرياتها.
شكرا لكم وبارك الله فيكم
ردحذف