بقلم :الدكتورة صافيناز كاظم
جريدة الشرق الاوسط
الثلاثـاء 18 رجـب 1426 هـ 23 اغسطس 2005 العدد 9765 |
في مكتبتي كتاب عزيز علي: «سيرة ذاتية حذرة» للشاعر الروسي يفجيني يفتشنكو، مؤرخ عليه تاريخ شرائي له: نيويورك سبتمبر 1963، وهو تاريخ نزول طبعته الأولى بالإنجليزية أسواق نيويورك ولندن وكندا، بترجمة عن الروسية لأندرو ماكأندرو.
صاحبت صدور الكتاب ضجة عالمية غربية، انحازت إلى الشاعر الروسي/السوفيتي الشاب، الذي كان قد احتفل سنتها بعيد ميلاده الثلاثين، ترى فيه الشاعر الجريء الذي أفصح بأعلى صوته عن انتقادات للعهد الستاليني وللنظام السوفيتي، تردد غيره في الهمس بها، مما حدا بالبعض الآخر إلى اتهامه بالعمالة لأعداء بلاده، وعلى رأسهم أميركا، حباً في الظهور وسعياً نحو الشهرة العالمية.
في تقليبي لصفحات الكتاب، البالغ من العمر 42 سنة، ولم يتعد 124 صفحة، تذكرت مدى حماسي وقتها للشاعر وصيحته الحرة في التعبير عالياً عما يراه ممارسات خطرة تهدد سلامة بلاده وتؤذي نظامها من داخله، ولم تعجبني محاولة استغلاله من قبل أبواق الدعاية الغربية، كأنه موال لها، كما لم يعجبني تجريمه، كأنه المسؤول عن تلك التربصات المعادية. كان بيدي قلم اخطط به تحت فقرات وأسطر، رأيتها معبرة عني وعن آلامي الوطنية والقومية، وأعلق على هامشها بما يؤيد أو يستكمل، وكتبت وقتها أعزز أسباب غرامي بالكتاب أقول: «... كتاب الشاعر الروسي الحديث يفتشنكو عن حياته، الواقع أنه ليس تماماً ترجمة حياته ولكنه أضواء على ظروف مولده كشاعر وكرجل بصير.... قرأته وأمتعني تماماً، وكعادتي وجدت شبهاً كبيراً بين ثورة يفتشنكو وثورتي الأخلاقية.... أعتقد أن من مصلحتنا كلنا قراءة هذا الكتاب حالياً. إنه يعبر ويترجم أشياء من المتوقع جداً أن تحدث لنا ونصادفها، إن لم تكن قد حدثت وصادفناها بالفعل. إنه يعبر عن مأساة المؤمن الحقيقي عندما يجد دينه ألعوبة في يد تجار يستجدون الرزق به. إنه يعبر عن ثورة المؤمن المخلص على المرتزق، أياً كان دين المؤمن، فإن ثورة كل المؤمنين واحدة».
لم يكن الاتحاد السوفيتي، بالطبع، هو الذي كان في بالي وأنا أقرأ كلمات يفتشنكو وأتوحد معها، كنت أستحضر بلادي مصر تحت حكم عبد الناصر.
مرّت ثلاث سنوات من قراءتي الكتاب ثم عدت إلى مصر، /1966، بعد غياب ست سنوات متواصلة في أميركا. اتخذت يفتشنكو صديقاً عزيزاً وإن لم أقابله إلا على أوراق شعره وكتاباته المترجمة من الروسية إلى الإنجليزية.
في مطلع عام 1967 وجهت مؤسسة الأهرام برئاسة محمد حسنين هيكل الدعوة إلى المفكر الفرنسي جان بول سارتر، ورفيقته سيمون دي بوفوار، لزيارة مصر، وكانا قد تحولا من الوجودية إلى نقيضها الماركسية، وكانت اليسارية الماركسية هي الغالبة على لغة وهوى الصحافة المصرية ودوائر الثقافة، فامتلأت الأجواء بالكلام عن عظمة سارتر الذي هجر الوجودية وعرف طريق الحق حين خفق قلبه بالإيمان المطلق بالماركسية، وانشغل الكثير بكتابه «نقد العقل الديالكتيكي» وتطوح في مولده المنشدون، أثناء، أو بعد زيارة سارتر لمصر انعقد في بيروت «المؤتمر الثالث لكتاب آسيا وإفريقيا، 25 ـ 30 مارس1967»، وأوفدني لحضوره الأستاذ أحمد بهاء الدين، رئيس مجلس إدارة دار الهلال ورئيس تحرير المصور، بصفتي الناقدة والمحررة الثقافية للمجلة. في فندق الانترناسيونال رأيته في الصباح أول أيام المؤتمر وكدت أصطدم به قبل أن أقول في فرحة: «أنت يفتشنكو!»، وتماماً كما بدا لي في كتاباته، كان ودوداً، عفوياً، تلقائياً، بشوشاً، طفولياً، جاداً. جريت إلى أحمد بهاء الدين واقترحت عليه فكرة دعوة يفتشنكو لزيارة مصر، في مقابلة أو مناقضة لدعوة الأهرام لسارتر، وكان تصوري لسارتر أنه الذي أتى «إلى» الماركسية بينما يفتشنكو الذي أتى «من» الماركسية.
وافق أحمد بهاء الدين بابتسامة تأييد وحماس هادئة، وفوضني للتنفيذ. قلت ليفتشنكو: بالنيابة عن مؤسسة دار الهلال الصحفية المصرية أوجه إليك الدعوة لزيارة مصر تلقي أشعارك في دار الأوبرا الخديوية، أول وأقدم أوبرا في الشرق الأوسط. تهلل وجهه بفرح الذي كسب جائزة لم يتوقعها.
سبقت الزيارة بكتابة لقائي الصحفي الموسع مع الشاعر في بيروت وأفسح له أحمد بهاء الدين الصفحات الأولى بمجلة المصور، 7/4/1967، تحت عنوان عريض: «حديث خاص للمصور مع الشاعر الروسي يفتشنكو، الشاعر المشدود بين مدينة لا ومدينة نعم، حديث تكتبه من بيروت...»، كان اللقاء انفراداً وسبقاً صحفياً، مع صور الشاعر وهو يلقي شعره وتحتها مقتطفات من قصائده: «نامي ياحبيبتي»، و«لوحة من الطفولة»، و«ثلاث دقائق من الحقيقة»، و«العرس»، الرائعة المؤلمة: «آه ياحفلات الأعراس في أيام الحرب، للطمأنينة الكاذبة، والكلمات الجوفاء، أننا سنعود، ها أنا أطير في عرس مفاجئ سريع، أدخل أنا الراقص الذائع الصيت، حيث يجلس العريس المرتبك، المجند، بهندام العرس، يجلس قرب عروسه فييرا، قد تكون ليلتهما الأولى ليلتهما الأخيرة، وها أنا مرة ثانية أرقص، فيما تبكي العروس بكاء مراً، وفيما يبلل الدمع وجوه الجميع، الخوف يغمرني، لا أريد أن أرقص، لكن أليس حراماً ألا أرقص؟»، كانت ترجمة القصائد كلها للمستشرقة «إلينا استيفانوفا» ومراجعة «أدونيس».
رأى الأستاذ أحمد بهاء الدين تكوين لجنة لاستقبال يفتشنكو بالقاهرة وأوكل مسؤوليتها إلى الأستاذ «كامل زهيري» الذي فضل أن يستبعدني منها تماماً، حتى عن حفل الأوبرا الذي ألقى فيه الشاعر أشعاره بأسلوبه الفريد في الأداء والإلقاء، لولا أنني تسللت عبر بوابة مدير الأوبرا ذاته، وحين ذهبت لتحية الشاعر بعد العرض سألني بتعجب: «أين أنت؟»، قلت ضاحكة: «هذه أمور لابد أنك تفهمها جيداً!» قال بتأكيد: «لا شك في أنني أفهمها جيداً!».
«يفجيني يفتشنكو»، أتم في 18 يوليو الماضي 72 سنة، لم أعد أتابعه ولا أدري أين هو الآن أو ماذا يقول.
__________________________________________________________
*http://archive.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=319199&issueno=9765#.VpIvsLYrLI
صاحبت صدور الكتاب ضجة عالمية غربية، انحازت إلى الشاعر الروسي/السوفيتي الشاب، الذي كان قد احتفل سنتها بعيد ميلاده الثلاثين، ترى فيه الشاعر الجريء الذي أفصح بأعلى صوته عن انتقادات للعهد الستاليني وللنظام السوفيتي، تردد غيره في الهمس بها، مما حدا بالبعض الآخر إلى اتهامه بالعمالة لأعداء بلاده، وعلى رأسهم أميركا، حباً في الظهور وسعياً نحو الشهرة العالمية.
في تقليبي لصفحات الكتاب، البالغ من العمر 42 سنة، ولم يتعد 124 صفحة، تذكرت مدى حماسي وقتها للشاعر وصيحته الحرة في التعبير عالياً عما يراه ممارسات خطرة تهدد سلامة بلاده وتؤذي نظامها من داخله، ولم تعجبني محاولة استغلاله من قبل أبواق الدعاية الغربية، كأنه موال لها، كما لم يعجبني تجريمه، كأنه المسؤول عن تلك التربصات المعادية. كان بيدي قلم اخطط به تحت فقرات وأسطر، رأيتها معبرة عني وعن آلامي الوطنية والقومية، وأعلق على هامشها بما يؤيد أو يستكمل، وكتبت وقتها أعزز أسباب غرامي بالكتاب أقول: «... كتاب الشاعر الروسي الحديث يفتشنكو عن حياته، الواقع أنه ليس تماماً ترجمة حياته ولكنه أضواء على ظروف مولده كشاعر وكرجل بصير.... قرأته وأمتعني تماماً، وكعادتي وجدت شبهاً كبيراً بين ثورة يفتشنكو وثورتي الأخلاقية.... أعتقد أن من مصلحتنا كلنا قراءة هذا الكتاب حالياً. إنه يعبر ويترجم أشياء من المتوقع جداً أن تحدث لنا ونصادفها، إن لم تكن قد حدثت وصادفناها بالفعل. إنه يعبر عن مأساة المؤمن الحقيقي عندما يجد دينه ألعوبة في يد تجار يستجدون الرزق به. إنه يعبر عن ثورة المؤمن المخلص على المرتزق، أياً كان دين المؤمن، فإن ثورة كل المؤمنين واحدة».
لم يكن الاتحاد السوفيتي، بالطبع، هو الذي كان في بالي وأنا أقرأ كلمات يفتشنكو وأتوحد معها، كنت أستحضر بلادي مصر تحت حكم عبد الناصر.
مرّت ثلاث سنوات من قراءتي الكتاب ثم عدت إلى مصر، /1966، بعد غياب ست سنوات متواصلة في أميركا. اتخذت يفتشنكو صديقاً عزيزاً وإن لم أقابله إلا على أوراق شعره وكتاباته المترجمة من الروسية إلى الإنجليزية.
في مطلع عام 1967 وجهت مؤسسة الأهرام برئاسة محمد حسنين هيكل الدعوة إلى المفكر الفرنسي جان بول سارتر، ورفيقته سيمون دي بوفوار، لزيارة مصر، وكانا قد تحولا من الوجودية إلى نقيضها الماركسية، وكانت اليسارية الماركسية هي الغالبة على لغة وهوى الصحافة المصرية ودوائر الثقافة، فامتلأت الأجواء بالكلام عن عظمة سارتر الذي هجر الوجودية وعرف طريق الحق حين خفق قلبه بالإيمان المطلق بالماركسية، وانشغل الكثير بكتابه «نقد العقل الديالكتيكي» وتطوح في مولده المنشدون، أثناء، أو بعد زيارة سارتر لمصر انعقد في بيروت «المؤتمر الثالث لكتاب آسيا وإفريقيا، 25 ـ 30 مارس1967»، وأوفدني لحضوره الأستاذ أحمد بهاء الدين، رئيس مجلس إدارة دار الهلال ورئيس تحرير المصور، بصفتي الناقدة والمحررة الثقافية للمجلة. في فندق الانترناسيونال رأيته في الصباح أول أيام المؤتمر وكدت أصطدم به قبل أن أقول في فرحة: «أنت يفتشنكو!»، وتماماً كما بدا لي في كتاباته، كان ودوداً، عفوياً، تلقائياً، بشوشاً، طفولياً، جاداً. جريت إلى أحمد بهاء الدين واقترحت عليه فكرة دعوة يفتشنكو لزيارة مصر، في مقابلة أو مناقضة لدعوة الأهرام لسارتر، وكان تصوري لسارتر أنه الذي أتى «إلى» الماركسية بينما يفتشنكو الذي أتى «من» الماركسية.
وافق أحمد بهاء الدين بابتسامة تأييد وحماس هادئة، وفوضني للتنفيذ. قلت ليفتشنكو: بالنيابة عن مؤسسة دار الهلال الصحفية المصرية أوجه إليك الدعوة لزيارة مصر تلقي أشعارك في دار الأوبرا الخديوية، أول وأقدم أوبرا في الشرق الأوسط. تهلل وجهه بفرح الذي كسب جائزة لم يتوقعها.
سبقت الزيارة بكتابة لقائي الصحفي الموسع مع الشاعر في بيروت وأفسح له أحمد بهاء الدين الصفحات الأولى بمجلة المصور، 7/4/1967، تحت عنوان عريض: «حديث خاص للمصور مع الشاعر الروسي يفتشنكو، الشاعر المشدود بين مدينة لا ومدينة نعم، حديث تكتبه من بيروت...»، كان اللقاء انفراداً وسبقاً صحفياً، مع صور الشاعر وهو يلقي شعره وتحتها مقتطفات من قصائده: «نامي ياحبيبتي»، و«لوحة من الطفولة»، و«ثلاث دقائق من الحقيقة»، و«العرس»، الرائعة المؤلمة: «آه ياحفلات الأعراس في أيام الحرب، للطمأنينة الكاذبة، والكلمات الجوفاء، أننا سنعود، ها أنا أطير في عرس مفاجئ سريع، أدخل أنا الراقص الذائع الصيت، حيث يجلس العريس المرتبك، المجند، بهندام العرس، يجلس قرب عروسه فييرا، قد تكون ليلتهما الأولى ليلتهما الأخيرة، وها أنا مرة ثانية أرقص، فيما تبكي العروس بكاء مراً، وفيما يبلل الدمع وجوه الجميع، الخوف يغمرني، لا أريد أن أرقص، لكن أليس حراماً ألا أرقص؟»، كانت ترجمة القصائد كلها للمستشرقة «إلينا استيفانوفا» ومراجعة «أدونيس».
رأى الأستاذ أحمد بهاء الدين تكوين لجنة لاستقبال يفتشنكو بالقاهرة وأوكل مسؤوليتها إلى الأستاذ «كامل زهيري» الذي فضل أن يستبعدني منها تماماً، حتى عن حفل الأوبرا الذي ألقى فيه الشاعر أشعاره بأسلوبه الفريد في الأداء والإلقاء، لولا أنني تسللت عبر بوابة مدير الأوبرا ذاته، وحين ذهبت لتحية الشاعر بعد العرض سألني بتعجب: «أين أنت؟»، قلت ضاحكة: «هذه أمور لابد أنك تفهمها جيداً!» قال بتأكيد: «لا شك في أنني أفهمها جيداً!».
«يفجيني يفتشنكو»، أتم في 18 يوليو الماضي 72 سنة، لم أعد أتابعه ولا أدري أين هو الآن أو ماذا يقول.
__________________________________________________________
*http://archive.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=319199&issueno=9765#.VpIvsLYrLI
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق