الاعدادية المركزية للبنين في بغداد
بقلم : الاستاذ زهير عبد الرزاق
عندما نلج الفرع الجانبي لشارع الرشيد ساحة الميدان/سوق الهرج (ساحة طوب ابو خزامه سابقا) تقع بناية وزارة الدفاع القديمة (القلعة سابقا) على اليمين ومقهى البلدية (ملهى الهلال سابقا) على الشمال/اليسار (وهو المكان الذي صدح فيه صوت كوكب الشرق السيدة ام كلثوم في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي) ونواصل السير للامام باتجاه ضفة نهر دجلة وننعطف يسارا الى اول فرع ثانوي ونجول بنظرنا الى جهة اليمين تجلب انتباهنا بناية تقع قبالتها اقدم دائرة بريد في بغداد و(كانت تدعى التيلخانة وفتحت عام 1913) وبمجرد دخولنا الباب الرئيس لها تتجسد امامنا بناية قديمه تتميز بطراز معماري تراثي رائع حيث تجد على واجهتها النقوش الجميلة بالسيراميك الملون (المدرسة الثانوية عام 1927) وهي سنة اعادة بناء واجهة هذه المدرسة. لابد لك وانت تلج تلك البناية ان تستحضر التاريخ وعبقه وذكراه العطرة لتعود بنا عجلة الزمن الى الوراء لأكثر من (خمسة وثمانين عاما) مرت على تشيدها واكثر من (مائة عام) مرت على تأسيسها.
ان هذا الصرح الثقافي الشامخ لم تؤثر فيه تلك السنوات الطويلة ولم تعبث به عاديات الزمن بل ظل صامدا ليكون شاهدا على اعرق مدارس العراق ولاسيما وهي واحدة من التجارب الرائدة في التعليم الثانوي فيه.
اما الجهة الخلفية للبناية وبابها الخلفي فإنها تواجه بناية البرلمان العراقي في العهد الملكي (حيث اصبح مقرا للمحكمة العسكرية العليا الخاصة/محكمة الشعب/المهداوي فترة حكم الزعيم الركن عبدالكريم قاسم . وبعد حركة 8 شباط / 14 رمضان 1963 شغلت من قبل اللجنه التحقيقية الخاصة وحاليا مقرا لمؤسسة بيت الحكمة الثقافية، ثم منطقة العبرة (الشريعة) على ضفة نهر دجلة و بامتدادها يقع نادي ضباط الجيش القديم الذي هد قبل عام ( 2003 م ) لتبنى محله الآن المكتبة الخاصة ببيت الحكمة.
اطلق على المدرسة الثانوية اسم الاعدادية المركزية عام (1938)، وضمت حينها فرعين: العلمي، والادبي، ومدة الدراسة فيها سنتان، والان تقتصر الدراسة فيها على الفرع العلمي فقط، ومدة الدراسة ثلاث سنوات.
عندما نجول بالذاكرة ونحاول ان نتخيل او نتصور عدد الطلاب اللذين دخلوها وتخرجوا منها وما عمل الدهر بهم والادوار التي ادوها في مختلف مناحي الحياة وانشطتها والادوار المهمة والخطيرة التي تحكمت بمصير البلاد والعباد لو تخيلنا كل ذلك لألفنا عنها عشرات المجلدات والكتب، حيث لا يوجد حكيم نطاسي او مهندس بارع او استاذ مبدع تصدر منصته العلم والتعليم او سياسي محنك او قائد فذ تقلد اعلى المناصب في العراق الا وقد مر من خلال باب هذه المدرسة الثانوية /الاعدادية المركزية ونهل من محرابها العلم والمعرفة، ولم تكن المدرسة الثانوية/الاعدادية المركزية مصنعاً للرجال القادة المتميزين فقط بل كانت خلية ثقافية وعلمية تفجر الابداع وتطلقه من عنانه، كان لي الشرف ان اكون احد طلابها. وباشرت الدراسة فيها بتاريخ (1/ 9 /1962) شعبة (ن)، وهي اخر شعبة لصفوف الرابع العلمي (حسب تسلسل الحروف الابجدية) حينها، وكانت عبارة عن قاعة فسيحة تستوعب ضعف تعداد طلبة هذه الشعبة والبالغ عددهم اربعون طالباً تقريباً (فيما بعد اصبحت هذه القاعة مصلى للاعدادية).
وقبل نهاية عام (1962) حصل اضراب الطلبة اثر مشكلة حصلت في الاعدادية الشرقية للبنين الواقعة في منطقة الكرادة الشرقية بعد حدوث نزاع بين طلبتها ادى الى تدخل مفرزة الانضباط العسكري ودخولها باحة الاعدادية وترتب على ذلك حصول الاضراب فيها وعم معظم اعداديات محافظة بغداد وبأثرها شمل الاضراب كليات جامعة بغداد واعتصم طلبتها داخل بعض الكليات وتوقفت الدراسة فيها.
انفردت الأعدادية المركزية بحالة خاصة مختلفة عن بقية اعداديات بغداد وهي حضور معظم الطلبة ولكن دون حصول الدراسة فيها بسبب انقسام الطلبة بين مؤيد ومعارض للاحزاب وحصلت مشاجرات جماعية وفردية باستخدام السلاسل الحديدية (الزنجيل) والعصى الخشبية (التواثي) والاشتباك بالأيدي (بوكسات وكلات) بين المجموعة المعارضة للإضراب التي تضم الطلبة ذوي الميول والاتجاهات الشيوعية والقاسمية وبين المجموعة المؤيدة للاضراب التي تضم الطلبة (ذوي الميول والاتجاهات القومية والبعثية والاسلامية والبارتي.
كان مدير الاعدادية المركزية حينها المرحوم الأستاذ احمد معروف (وهو رجل وقور وهادئ درس مادة الرياضيات فيها قبل تولي الادارة عام 1962 - 1965) والمعاونان المرحومان ( فؤاد الدباغ وصبيح الدروبي / مدرس الرياضة).
في ضوء الاضراب الذي حصل تم استبدال مدير الاعدادية بمدير اخر من خارجها وبشكل مؤقت وهو الاستاذ (عبدالمجيد سعيد) بعدها اصبح مديرا للاعدادية (1965 -1967 ). حيث اعتبر المرحوم الأستاذ (احمد معروف) متهاونا او متعاطفا مع اضراب الطلبة حينها.
عندما كنا نخرج من الباب الرئيس للاعدادية بعد نهاية الدوام الرسمي يلقى القبض على احد الطلبة من قبل مفرزة الانضباط العسكري التي كانت ترابط بالقرب من دائرة بريد الميدان المقابل لبناية الاعدادية ويسحب الطالب المقبوض عليه الى امرية الانظباط العسكري داخل وزارة الدفاع القريبة من بناية الاعدادية ويحقق مع الطالب من قبل امر الانضباط المرحوم العميد عبدالكريم الجدة (الذي قتل في معركة اقتحام وزارة الدفاع بدايه حركه 8 شباط 1963) وبعدها يرسل الطالب الى معتقل سرية الخيالة/ منطقة الكسرة مقابل البلاط الملكي (سابقا) والذي اصبح بعد ثورة 14 تموز 1958 مقرا لمجلس السياده (برئاسة الفريق الركن محمد نجيب الربيعي وعضوية السيدين مهدي كبة وخالد النقشبندي رحمهم الله جميعا واسكنهم فسيح جناته) ثم هدمت بناية البلاط الملكي/مجلس السيادة وشيد في موقعها نادي ضباط الجيش القادة.
بعد حصول الاضراب قدم موعد اختبار نصف السنة وانتهينا من ادائه تقريباً منتصف شهر كانون الثاني 1963 وخلال عطلة نصف السنة (العطلة الربيعية) حصلت حركة (8/شباط/14رمضان 1963) والتي ادت الى سقوط نظام رئيس الوزراء الاسبق والقائد العام للقوات المسلحة العراقية ووزير الدفاع المرحوم الفريق الركن عبدالكريم قاسم واصبح المرحوم المشير الركن عبدالسلام محمد عارف اول رئيس لجمهورية العراق والمرحوم العقيد احمد حسن البكر رئيساً للوزراء ، باشرنا الدراسة في الصف الخامس العلمي بتاريخ (1/ 9/ 1963) ، بعد مرور اكثر من شهرين على بدء الدراسة حصلت احداث (13 تشرين الثاني 1963) اثر الصراع والانشقاق داخل السلطة الحاكمة انذاك وانتقل هذا الصراع الى صفوف القواعد المؤيدة للحكم وعمت الفوضى الشارع العراقي وعلى اثر ذلك حصلت حركة (18 تشرين الثاني 1963) والتي اطلق عليها (الحركة التصحيحية) بقيادة المرحوم المشير الركن عبدالسلام محمد عارف وبعد نجاحها ابعد شركاء الامس عن الحكم وطاردهم طوال فترة حكمه الى ان وافته المنية (قتل في حادث سقوط طائرة سمتية غروب يوم 13 نيسان 1966 قرب قرية الشنوة/البصرة).
في العام الدراسي (1962 - 1963) كان مدرس اللغة الانكليزية في اعداديتنا الاستاذ متي بيثون (يتصف بضخامة الجسم، اصلع الرأس، حليق الشارب، انيق ومرتب يرتدي الملابس الاجنبية الفاخرة ويتكلم بهدوء وتأن) واشتهر بسمعة جيدة في تدريس اللغة الانكليزية وفي احد الايام طلب رئيس الوزراء الاسبق اللواء الركن عبدالكريم قاسم احضار الاستاذ (متي بيثون) الى ديوان وزارة الدفاع، فحضرت مفرزة انضباط عسكري الى الاعدادية واخبرت الادارة بذلك واصطحبته معها وعاملته بخشونة وجفاء لأنهم يجهلون سبب استدعائه (وربما كانوا يعتقدون بأنه احد المتآمرين على النظام أو معارض خطر)، وعند وصوله الى ديوان الوزارة لم تسعفه رجلاه بصعود السلالم واسند من قبل رجلين وادخل الى غرفة المرافقين واخبر المرحوم عبدالكريم قاسم بإحضار المطلوب فوافق على دخوله، وكان مسنودا يجر نفسه بصعوبة بالغة، فشاهده المرحوم عبدالكريم بهذه الحالة فنهض من مكانه واجلسه وهدأ من روعه واعتذر منه، واخبره انه يريد الاستعانة به لتدريس احد الطلبة، فاعتذر الاستاذ (متي بيثون) ورشح مدرسا اخر بدلا منه، وعاد الينا بعد تمتعه بإجازة لمدة ثلاثة ايام استعاد فيها عافيته.
________________________________
*http://www.ahraraliraq.com/index.php?page=article&id=18225
العراقيون مهووسون بتغيير المعالم لعدم وجود قانون ينظم الامر ...لاحظوا الاعداديه كم كانت جميله اما الان فلها واجهه قبيحه بعد ان تمت عملية تغيير المعالم
ردحذف