تفسير التاريخ على أساس مبدأ هجرة الافكار
ابراهيم العلاف
لااعرف لماذا عدتُ اليوم ، وبعد قرابة نصف قرن أن أعود الى قراءة كتاب :"جلبرت هايت " الموسوم ب"هجرة الافكار " .. وقد طبع في المطبعة العالمية للطبع والنشر في القاهرة 1955 وترجمه الاستاذ شفيق اسعد فريد .
الكتاب يقول ان الافكار تهاجر ، وان الافكار لاتموت ابدا ، وان اية محاولة لقتل فكرة حسنة تبوء بالفشل ، والافكار كثيرا ما تعيش بعد أفظع الحروب والتدميرات.. ومن الجائز ان تظل خاملة عدة قرون ولكنها لاتموت تعود لتنتعش وتحيا .الكتاب ايضا يعالج مسألة في غاية الاهمية ان الحضارة الانسانية في جوهرها ليست سوى حركة موصولة للافكار والاراء وشتى ضروب الخبرة ..فالافكار والاراء تنتقل من فرد الى فرد ومن شعب الى شعب وتهاجر هجرة موصولة محرزة في كل هجرة من هجراتها المتكررة نجاحا جديدا وتقدما باهرا واغرب ما في هجرة الافكار انها تتخذ في بعض الاحيان مسالك متعرجة وسبلا ملتوية ولكن تلك المسالك والسبل كلها تسير في خط لايتعارض مع خط سير التاريخ نفسه . فالتاريخ كما يرى مؤاف هذا الكتاب البروفيسور جلبرت هايت -ليس سوى تسجيل عملي لتطور هجرة الافكار وليس سوى تسجيل لتقدم خبرة الانسان .للمؤلف ايضا كتاب بعنوان :" فن التعليم " وهو واحد من الاكاديميين البارزين .يقول في مقدمة كتابه :"هجرة الافكار " ان الانسان في القرن العشرين بات اكثر ادراكا لاهمية التاريخ الذي هو دراسة نشاط بني الانسان في الماضي واضاف ان الانسان اصبح على يقين انه لايستطيع ان يتقدم الا بعد دراسته للتاريخ وفهم مفاصله الرئيسية يقول :"اننا نعلم جيدا ما للتاريخ من اهمية ولكن اي تاريخ نريد ؟واية احداث جديرة بالدراسة ؟ان اكثر الاحداث المعاصرة لاتسجل حتى في الصحف .ومن المحقق ان قسما من هذه الاحداث لن تكون له اية اهمية تذكر وقت حدوثها ولكن لايلبث ان تبرز هذه الاحداث بعد عشر سنوات او خمسين سنة مبرهنة على اهميتها العظمى في حياة الالوف من بني الانسان باعتبارها حوادث تاريخية حقيقية .ويتسائل :كيف يمكن للمؤخ ان يختار مادته ؟ ويجيب : توجد دائما حقائق لاعد لها ولاحصر ...ارى زملائي المؤرخين وهم يخطون ببطء بين تلال من الحقائق المسجلة المتنقلة المتزايدة ويخيل الي انني اسمعهم يبكون حينما يرون هذه الكميات الضخمة من الرمال -الوقائع .ويعود ليقول مازال امامنا سؤال سنفكر فيه وهو : ماذا يعالج التاريخ ؟ ماهي الاالاحداث المهمة في الماضي وفي الحاضر الذي لايلبث ان يتحول الى ماضٍ بلا انقطاع ؟ماهي الظاهرة التاريخية الحقة التي تستحق التسجيل والتوثيق والنشر ؟ لابد ان نسجل تاريخ العلاقات بين البشر واي نوع من العلاقات يسجل ؟ والاجابة العامة على هذا السؤال ان المؤرخ يدرس العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ...يسجل العلاقات بين الاحزاب السياسية المتنافسة ...يسجل العلاقة بين رأس المال والعمل ...يسجل العلاقة بين الحكومة والشعب ..يسجل العلاقة بين الصناعة والزراعة .. تسجل الصراع بين جماعات البشر من اجل القوة وهنا نسأل هل التاريخ سجل للمعارك والحروب ؟ وهل الاساس فيما وصل اليه الجنس البشري هو المنافسة والحقد المشترك ؟ لقد شهد العالم حربين عظميين اقترنتا بالتدمير وقتل فيها خلق كثير لكن ثمة ايجابيات منها ان مستوى الحياة ارتفع والانتاج العالمي ازداد والامية انخفضت وطرق المواصلات تضاعفت والكتب باتت تتدفق من المطابع والصحة تحسنت وكذلك التعليم هذه الحقائق جميعها لايمكن ان توصف بأنها نتيجة الحرب والصراع فلابد اذن من ان هناك بعض جوانب مهمة من الماضي لايمكن ان تشرح بعبارات من قبيل النضال من اجل القوة السياسية والاجتماعية فلابد اذن من ان هناك نوعا آخرمن العلاقة بين الجماعات التي تتكون منها البشرية
يقول البروفيسور جلبرت هايت :"سيقول لنا بعض المؤرخين ان التفسير ان التفسير الاكثر اهمية اقتصادي اكثر منه سياسي ..سيقولون ان التاريخ سجل يبين كيف انتزعت احدى الطبقات الثروة من طبقة اخرى وكيف ان التعديلات التي ادخلت على طرق الانتاج والتوزيع غيرت الهيكل الاجتماعي هذا القول قد يبدو صحيحا وكثير من الاحداث ومنها مثلا سقوط الامبراطورية الرومانية وانطاط اوربا الغربية لايمكن فهمها فهما كاملا ما لم تحلل جوانبها الاقتصادية .
ومع ذلك فإننا نرى ان التفسير المادي للتاريخ غير كاف ايضا والسبب ان النشاط البشري تحركه احيانا الارادة والعاطفة مثلا الحروب الصليبية او تاريخ حياة نابليون لايمكن ان يفسرا حسب التفسير المادي الديالكتيكي .
وهنا يطرح الكاتب رأيه وهو انه لابد ان تكون هناك وسيلة اخرى تكمل التاريخ السياسي والاقتصادي ولاتكون بديلا عنهما وهذه الوسيلة او بالاحرى هذا الاسلوب هو العلاقة التربوية بأوسع معانيها والمتمثلة بكتابة تاريخ العالم كتاريخ لانتقال الافكار من احدى الجماعات البشرية الى جماعة اخرى وارى انا ان البروفيسور جلبرت هايت اراد ان يصور العالم وفي كل مراحله التاريخية انه يتمثل العلاقة بين الاستاذ والتلميذ فقد كان العرب المسلمين يوما اساتذة للعالم كما كان البابليون ايضا اساتذة للعالم والصينيون والمصريون القدماء وهكذا في كل مرة قد يتحول الاستاذ ليصبح تلميذا ويتحول التلميذ ليصير استاذا .
وهكذا تأتي مباحث الكتاب لتتناول هجرة الافكار على اصعدة السياسة والاجتماع والدين والفن والفنون والمثل العليا . كتاب بحاجة ان يقرأ اكثر من مرة وفي فترات متباعدة لانه يضم فكرا اصيلا واجتهادا ملحوظا .
ابراهيم العلاف
لااعرف لماذا عدتُ اليوم ، وبعد قرابة نصف قرن أن أعود الى قراءة كتاب :"جلبرت هايت " الموسوم ب"هجرة الافكار " .. وقد طبع في المطبعة العالمية للطبع والنشر في القاهرة 1955 وترجمه الاستاذ شفيق اسعد فريد .
الكتاب يقول ان الافكار تهاجر ، وان الافكار لاتموت ابدا ، وان اية محاولة لقتل فكرة حسنة تبوء بالفشل ، والافكار كثيرا ما تعيش بعد أفظع الحروب والتدميرات.. ومن الجائز ان تظل خاملة عدة قرون ولكنها لاتموت تعود لتنتعش وتحيا .الكتاب ايضا يعالج مسألة في غاية الاهمية ان الحضارة الانسانية في جوهرها ليست سوى حركة موصولة للافكار والاراء وشتى ضروب الخبرة ..فالافكار والاراء تنتقل من فرد الى فرد ومن شعب الى شعب وتهاجر هجرة موصولة محرزة في كل هجرة من هجراتها المتكررة نجاحا جديدا وتقدما باهرا واغرب ما في هجرة الافكار انها تتخذ في بعض الاحيان مسالك متعرجة وسبلا ملتوية ولكن تلك المسالك والسبل كلها تسير في خط لايتعارض مع خط سير التاريخ نفسه . فالتاريخ كما يرى مؤاف هذا الكتاب البروفيسور جلبرت هايت -ليس سوى تسجيل عملي لتطور هجرة الافكار وليس سوى تسجيل لتقدم خبرة الانسان .للمؤلف ايضا كتاب بعنوان :" فن التعليم " وهو واحد من الاكاديميين البارزين .يقول في مقدمة كتابه :"هجرة الافكار " ان الانسان في القرن العشرين بات اكثر ادراكا لاهمية التاريخ الذي هو دراسة نشاط بني الانسان في الماضي واضاف ان الانسان اصبح على يقين انه لايستطيع ان يتقدم الا بعد دراسته للتاريخ وفهم مفاصله الرئيسية يقول :"اننا نعلم جيدا ما للتاريخ من اهمية ولكن اي تاريخ نريد ؟واية احداث جديرة بالدراسة ؟ان اكثر الاحداث المعاصرة لاتسجل حتى في الصحف .ومن المحقق ان قسما من هذه الاحداث لن تكون له اية اهمية تذكر وقت حدوثها ولكن لايلبث ان تبرز هذه الاحداث بعد عشر سنوات او خمسين سنة مبرهنة على اهميتها العظمى في حياة الالوف من بني الانسان باعتبارها حوادث تاريخية حقيقية .ويتسائل :كيف يمكن للمؤخ ان يختار مادته ؟ ويجيب : توجد دائما حقائق لاعد لها ولاحصر ...ارى زملائي المؤرخين وهم يخطون ببطء بين تلال من الحقائق المسجلة المتنقلة المتزايدة ويخيل الي انني اسمعهم يبكون حينما يرون هذه الكميات الضخمة من الرمال -الوقائع .ويعود ليقول مازال امامنا سؤال سنفكر فيه وهو : ماذا يعالج التاريخ ؟ ماهي الاالاحداث المهمة في الماضي وفي الحاضر الذي لايلبث ان يتحول الى ماضٍ بلا انقطاع ؟ماهي الظاهرة التاريخية الحقة التي تستحق التسجيل والتوثيق والنشر ؟ لابد ان نسجل تاريخ العلاقات بين البشر واي نوع من العلاقات يسجل ؟ والاجابة العامة على هذا السؤال ان المؤرخ يدرس العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ...يسجل العلاقات بين الاحزاب السياسية المتنافسة ...يسجل العلاقة بين رأس المال والعمل ...يسجل العلاقة بين الحكومة والشعب ..يسجل العلاقة بين الصناعة والزراعة .. تسجل الصراع بين جماعات البشر من اجل القوة وهنا نسأل هل التاريخ سجل للمعارك والحروب ؟ وهل الاساس فيما وصل اليه الجنس البشري هو المنافسة والحقد المشترك ؟ لقد شهد العالم حربين عظميين اقترنتا بالتدمير وقتل فيها خلق كثير لكن ثمة ايجابيات منها ان مستوى الحياة ارتفع والانتاج العالمي ازداد والامية انخفضت وطرق المواصلات تضاعفت والكتب باتت تتدفق من المطابع والصحة تحسنت وكذلك التعليم هذه الحقائق جميعها لايمكن ان توصف بأنها نتيجة الحرب والصراع فلابد اذن من ان هناك بعض جوانب مهمة من الماضي لايمكن ان تشرح بعبارات من قبيل النضال من اجل القوة السياسية والاجتماعية فلابد اذن من ان هناك نوعا آخرمن العلاقة بين الجماعات التي تتكون منها البشرية
يقول البروفيسور جلبرت هايت :"سيقول لنا بعض المؤرخين ان التفسير ان التفسير الاكثر اهمية اقتصادي اكثر منه سياسي ..سيقولون ان التاريخ سجل يبين كيف انتزعت احدى الطبقات الثروة من طبقة اخرى وكيف ان التعديلات التي ادخلت على طرق الانتاج والتوزيع غيرت الهيكل الاجتماعي هذا القول قد يبدو صحيحا وكثير من الاحداث ومنها مثلا سقوط الامبراطورية الرومانية وانطاط اوربا الغربية لايمكن فهمها فهما كاملا ما لم تحلل جوانبها الاقتصادية .
ومع ذلك فإننا نرى ان التفسير المادي للتاريخ غير كاف ايضا والسبب ان النشاط البشري تحركه احيانا الارادة والعاطفة مثلا الحروب الصليبية او تاريخ حياة نابليون لايمكن ان يفسرا حسب التفسير المادي الديالكتيكي .
وهنا يطرح الكاتب رأيه وهو انه لابد ان تكون هناك وسيلة اخرى تكمل التاريخ السياسي والاقتصادي ولاتكون بديلا عنهما وهذه الوسيلة او بالاحرى هذا الاسلوب هو العلاقة التربوية بأوسع معانيها والمتمثلة بكتابة تاريخ العالم كتاريخ لانتقال الافكار من احدى الجماعات البشرية الى جماعة اخرى وارى انا ان البروفيسور جلبرت هايت اراد ان يصور العالم وفي كل مراحله التاريخية انه يتمثل العلاقة بين الاستاذ والتلميذ فقد كان العرب المسلمين يوما اساتذة للعالم كما كان البابليون ايضا اساتذة للعالم والصينيون والمصريون القدماء وهكذا في كل مرة قد يتحول الاستاذ ليصبح تلميذا ويتحول التلميذ ليصير استاذا .
وهكذا تأتي مباحث الكتاب لتتناول هجرة الافكار على اصعدة السياسة والاجتماع والدين والفن والفنون والمثل العليا . كتاب بحاجة ان يقرأ اكثر من مرة وفي فترات متباعدة لانه يضم فكرا اصيلا واجتهادا ملحوظا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق