التنزيلات الموصلية
أ .د . ابراهيم خليل العلاف
مركز الدراسات الاقليمية ـ جامعة الموصل
حينما
جمع وحقق صديقنا الدكتور محمد نايف الدليمي كتابه الموسوم " ديوان الموشحات
الموصلية " , وطبعه في دار ابن الاثير للطباعة والنشر التابعة لجامعة الموصل
سنة 1975 , قال ان الموصليين اطلقوا على شعر وقصيدة المديح المرفوع الى الرسول
الاعظم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) اسم (التنزيلة) حسبما يقتضيه المقام الغنائي ,
والنغمة الموسيقية هند الزهاد واصحاب الطريقة , وقد رغب في ان يجمع ( التنزيلات
الموصلية ) في كتاب الا انه علم بوجود من يقوم بهذه المهمة ( اظنه المرحوم ميسر
صالح الامين ) وقد بدأ بالعمل منذ فترة , ولما يكمله بعد .
ومنذ
قرابة (30) عاما ونحن ننتظر وللاسف لم يخرج الكتاب الى النور . المهم ان موضوع
التنزيلات الموصلية موضوع مهم , ومفيد , وضروري لابراز دور الموصل في تعميق التراث
الشعري والموسيقى العربي , وقد كان الدكتور محمد صديق الجليلي رحمه الله واحدا من
ابرز المهتمين بتوثيق التنزيلات الموصلية , فلقد اشار في كتابه الشهير ( التراث
الموسيقي في الموصل ) والمنشور سنة 1945 الى ان التنزيلات هي ( موشحات دينية )
والتنزيلة من اصطلاحات الصوفيين وللشيخ محي الدين بن عربي كتاب بعنوان " التنزيلات الموصلية " وقد ألفه عندما كان
يعيش في الموصل والتنزيلات , كما يقول الجليلي , " منظومات على اسلوب
الموشحات في المديح النبوي الشريف او التوسلات والابتهالات الصوفية المتنوعة ,
منها ماهو من تلحين ناظم ابيات الموشح نفسه ,ومنها مانظم على الحان الاغاني التي
كانت شائعة في عصر الناظم ".
من الطبيعي
ان بضع مؤرخو الشعر في الموصل , ومنهم الدكتور ذوالنون يونس مصطفى الاطراقجي
التنزيلات الموصلية ضمن التوجه الديني , فقصائد المديح النبوي قد تكون تقليدية وقد
تكون اصلاحية أي نهج نهجا حديثا متطورا , ولكن في كل الاحوال فان تلك القصائد
تستوحي قيم الاسلام وشعائره .
وفي الموصل
الشئ الكثير من هذه التنزيلات , ومعظمها قديم , فمنها ماهو من الحان القرن التاسع
عشر ومنها مايعود الى قرون ابعد من ذلك , فمثلا موشح (عرج ياحادي نحو الحمى ) من
مقام الصبا المنسوب بالابن الطبيب الدمشقي المتوفي عام 1230 ميلادية (627هـ) يرجع
الى اوائل القرن الثالث عشر الميلادي ويقول ناظمه في اخره (رب واغفر للجراح من
الطبيب واختم بالحسنى لنا جميع ) وبهذا يكون عمر هذا الموشح او التنزيلة مايقرب من
سبعمائة وستة وسبعين عاما.
يقول الدكتور
الجليلي ان العادة الجارية في الموصل عند الادباء والشعراء وشيوخ الصوفية ابان
العصور الاخيرة انه كلما ظهرت اغنية جديدة ذات لحن شجي , بادر اكثر من واحد منهم
الى نظم موشح على لحن تلك الاغنية , فالشيخ عثمان الخطيب بن يوسف بن عزالدين
الخلوتي القادري الموصلي المتوفي سنة 1732م (1145هـ) له مايزيد على الخمسين موشحا
من مختلف المقامات , واشهرها الموشح المسمى بـ ( سلسلة الرست ) ويتألف من اربع قطع
ومطلعه
( صلوا على طه
الحبيب الرحمن ) . وقد كتب عصام الدين العمري في كتابه (الروض النظر في ترجمة
ادباء العصر ) والذي حقق جزءه الاول الدكتور سليم النعيمي سنة 974 , عن عثمان
الخطيب يقول : انه" فارس ميدان رهان الاذهان , العابث بانواع المعاني
والبيان".اما محمد الغلامي في كتابه (شمامة العنبر والزهر المعنبر ) فقال عنه
انه " زهرة حديقة الزمان ... رقيق حواشي الطبع , رحيق في ملح النظم والسجع
..). ونقل سليمان صائغ في الجزء الثاني من كتابه (تاريخ الموصل) عنه قصيدة يمدح
فيها الرسول الكريم مطلعها :
سر بنا صاح
راشدا مهديا وتهيأ وناد
بالركب هيا
وقال الصائغ
" وتجد في شعره المراثي والمديح لآل البيت وفيه المربعات والمخمسات ويتسم
شعره بالبساطة وسلاسة التعبير مع الضبط والانسجام , وتتجلى غالبا ميوله في شعره
انه كان متوغلا في التصوف , شديد الحب , كثير التهجد ".
اما الشيخ
قاسم الرامي الموصلي المتوفي سنة 1772م (1186هـ) فكان " من اهل الطريقة
الصوفية , ومن مقدميها وكان يصحب شيوخها ويحدو لهم لانه كان موسيقيا خبيرا
بالنغمات والنقرات , وكان شاعرا مجيدا برع خاصة في نظم الالغاز الدقيقة الطريفة ,
واكثر شعره في المدائح النبوية على شكل الصوفيات " , هكذا يقول الصائغ , وذكر
له متسعات بليغة في الديح على حروف الهجاء . ومن الذين كانت لديهم تنزيلات من
الموصلين الشيخ علي الوهبي الموصلي الشهير بالجفعتري المتوفي سنة 1787م (1202هـ) .
"كان عالما جليلا , وخطيبا فصيحا , وناظما مجيدا , وناثرا بارعا " له
قصيدة طويلة في المدائح جرى فيها مجرى صوفيات ابن الفارض وتقع في نحو 30 بيتا منها
:
فلي قلب
لغيرك غير صاب
وماهو عنك لما
غبت صابر
واصبح في
الهوى والوجد ساه
وطرفي في ظلام
الليل ساهر
تزيد صبابتي
ويزيد دائي
ولم ابرح على المحبوب
دائر
ثم يقول :
له فضل
يحير كل ذاك
و اوصاف تحير كل ذاكر
وكان الشيخ
الوهبي يستهل قصائده في المديح بالغزل ومنها كثيرة في الموصليات امتدح احداها والي
الموصل سليمان باشا ومطلعها :
تبدى فنال
القلب من سعده البشرى
وحي فاحيا كل قلب به
مغرى
واطلع بدرا
تحت هندس غيهب
وابرز في افق الجبين لي الفجرا
وممن اشتهر
في نظم الموشحات الدينية في الموصل العلامة سليمان بك آل مراد بك الجليلي المتوفي
سنة 1908م (1326هـ) , وله مايقرب من خمسة عشر موشحا جميعها من الالحان النفيسة .
ولد سنة 1863
في الموصل , ودرس على اشهر علماء زمانه , وكان ذا المام كبير بالرياضيات والفلك
والموسيقى ..كما اتقن بعض اللغات الاجنبية كالتركية والفارسية وقد ضاع معظم شعره
بعد وفاته , ومع هذا فقد جمع الدكتور محمد صديق الجليلي بعض شعره وموشحاته وقدم
بعضها للدكتور محمد نايف الدليمي عندما الف كتابه انف الذكر .. وقد قال من نظم
السيكاه على لحن الاغنية البغدادية (يمه اش لزمني لزمه) ,
بطرفه
الفتان قد هام قلبي لما تبدى
لكن على
العشاق قد طال عتبي لو كان اجدى
ماهمت فيه
وجدا الا وزاد صدا ابدا طلا وخدا
لو
تدري بالاقمار يزري فاسأل عن صبري
وقال من نغم
بياتي ابراهيمي على لحن الاغنية القديمة ( مالي عليك مالي)
ما للهوى
مالي قد زاد بلبابي
والوجد
اضناني يا ندعي في طب ذي الخال
على حالي قد رق عذالي
وله موشح من
نغم السيكاه على لحن الاغنية المصرية (مرمر زماني يا زماني اتمرمر قلبي تولع في
هواك يا الاسمر )
عبد اتاكم
يا بنو المختار يرجوكم
العفو عن الاوزار
انتم نجومي
وكذا اقماري عقود نظمي في هواكم تنشر
صلوا على
صاحب الحوض الكوثر طه شنيع الخلق
يوم المحشر
ومن اصحاب
التنزيلات الاديب الشاعر علي بن علي ابو الفضائل العمري المتوفي سنة 1778م
(1192هـ) وكان صاحب شمامة العنبر معجبا بشعره , وباسلوبه الشائق في الترسل , وقد
نوه بذكر علومه ومصارفه , وذكر بعضا من نظمه و وجد له نحو احدى عشر قصيدة عصماء من
مختارات نظمه وفيها انواع الشعر من مديح وحماس ورثاء. وقد اشار الصائغ الى انه في
شعره اميل الى سرد الحقائق , وكان يبرز عواطفه بعبارات صريحة ويتضح قدمه في الشعر
بقصيدته الشهيرة التي سماها " الجوهر الثمين في بعض وقائع الامين ".
وهناك خليل
بن علي البصير (1700-1762م , 1112هـ - 1176هـ ) وهو اديب وشاعر ينتمي الى السادة
الاشراف , كان كفوفا , وقد نبغ نبوغا عجيبا في الدروس العقلية واللغوية , اتقن
لغات عديدة منها التركية والفارسية وشعره متين " واذا تلي عليك تخال انك تسمع
نثرا لبساطته وسلاسته" . ومن شعره قوله :
لست اهوى
سواكم اليوم حتى
اطلب الموت في
هواكم حثيثا
يالقومي من
معشر عنفوني
لا يـكادون
يفقـهون حـديثا
واجاد ايضا
بقوله :
يا مبتلي
بذوي المظالم لاتهن
واصبر فان الله
كان بصيرا
واستنصرن
الله يهدك عاجلا
وكفى بربك هاديا
ونصيرا
ويذكر مؤرخو
التنزيلات اسماء ادباء وشعراء اشتهروا وبرزوا في الموصل منهم الاديب نعمان بن
عثمان الدفتري الموصلي , ومنهم الاديب والمقرئ والموسيقار الشيخ سعدي الموصلي بن
الشيخ محمد امين بن الشيخ سعد الدين شيخ القراء الموصلي وغيرهم مما لايتسع هذا
المجال لذكر التفاصيل عنهم.
ولا يمكننا
ان نتغافل عن ماقدمه الاديب والموسيقار الشهير الملا عثمان الموصلي المتوفي سنة
1923م (1341هـ) ويمكن الرجوع الى الدكتور عادل البكري الذي ألف كتابا قيما عنه
,وللملا عثمان ما يزيد على الخمسين موشحا جميعها من الالحان النفيسة واشهرها موشح
(يا آل طه فيكم قد هام المضني) من مقام الرست والحان هذا الموشح , كما يقول
الدكتور محمد صديق الجليلي رحمه الله على جانب عظيم من الفخامة. والمــلا عثمان
كان من احد اساتذة الشيخ درويش .
ويشير الدكتور
الاطراقجي الى ان محمود الملاح من الذين طوروا في قصيدة المولد النبوي " اما
فاضل الصيدلي الشاعر والاديب الموصلي المعاصر فقد استفاد من قصائد المديح في
معالجة اوضاع المجتمع ومهاجمة مظاهر التخلف والفساد .. وكثيرا ما دعا الى استنهاض
الهمم .. كذلك فعل الشيخ محمد علي الياس العدواني عندما وسع من دائرة موضوع قصيدة
المديح وحولها الى دعوة الناس الى التمسك بشعائر الدين , واستلهام قيم القوة
والتصدي لاعداء الامة .
واخيرا
فالموصل , مدينة ومركزا حضاريا , قد قدمت الكثير من الانجازات على صعيد التراث
الشعري والموسيقى وكانت بحق مدرسة متميزة , فمنها انتشرت ابداعات رائعة في مجال
النظم والتلحين الى مدن عربية كالقاهرة وحلب ودمشق وتونس , ولايزال الناس يذكرون
هذه الريادة وينوهون بها الامر الذي يتطلب من المهتمين بهذه الالوان الابداعية
العمل من اجل جمعها وتوثيقها وتسهيل مهمة الاطلاع عليها والاستفادة منها..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق