الأحد، 5 يوليو 2020

الشعر الحر في العراق ابراهيم العلاف




 الشعر الحر في العراق

ابراهيم العلاف

للشعر الحر في العراق قصة .... وقصة طويلة ، وفي هذه القصة ثمة آراء وتوجهات ومدارس ورؤى وخاصة فيما يتعلق بنشأة الشعر الحر وخصائصه ورواده وردود الفعل عليه .والاستاذ يوسف الصائغ (1933 – 2005)، واحد من الذين أرخوا للشعر الحر وهو ليس بغريب عن هذه الحركة ، وانما هو من روادها بل هو من  رواد الحركة الثقافية العراقية المعاصرة، ملأ الدنيا وشغل الناس.. لم يسقط القلم من بين يديه حتى آخر لحظة من حياته.. عرفه القاصي والداني، وظلت كتاباته ومقالاته اليومية والاسبوعية في الصحف والمجلات حيّة في نفوس الناس، كما انشغل الآخرون بنتاجاته، تحليلا ، وتفسيراً، ودراسة فاستحق الذكر والتكريم مرات ومرات سواء في حياته أو بعد مماته..
كتب عنه صديقنا العزيز الكاتب والأديب الموسوعي الأستاذ حميد المطبعي في الجزء الأول من موسوعته: "موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين"، والذي أصدرته دار الشؤون الثقافية العامة التابعة لوزارة الثقافة والأعلام ببغداد سنة 1995، فقال: بأنه "شاعر – كاتب" ..  هو " يوسف نعوم داؤد الصائغ، تخرج في دار المعلمين العالية (كلية التربية) ببغداد سنة 1954، عمل في التعليم الثانوي مدرساً للغة العربية ثم انتقل الى العمل في حقل الصحافة، وآخر وظائفه، مدير عام المؤسسة العامة للسينما والمسرح (1933 وما بعدها). له مؤلفات عديدة أقدمها: "قصائد غير صالحة للنشر" مشترك مع الأستاذين شاذل طاقة، وعبد الحليم اللاوند . وقد طبع في مطبعة الهدف بالموصل سنة " 1956 "دماء بلا دموع 1961"، "السودان: ثورة وشهداء 1996"، اعترافات مالك بن الريب، ديوان 1970، "اللعبة: رواية 1971 و "المسافة: رواية 1974"، "سيدة التفاحات الأربع: ديوان 1976، "الشعر الحر في العراق: دراسة 1977، "المعلم:ديوان 1986" ، " الاعتراف الأخير لمالك بن الريب : سيرة ذاتية في جزءين 1987- 1989، ديز ديمونة.. مسرحية 1979.. " قصائد 1992".
أما أستاذنا الدكتور عمر محمد الطالب ، رحمه الله، فقد أسهب في الكتابة عنه ضمن : (موسوعة إعلام الموصل في القرن العشرين ) التي أصدرها مركز دراسات الموصل ، بجامعة الموصل سنة 2008، فوقف عند سيرته الذاتية طويلا، وأشار إلى أنه من أسرة دينية موصلية مسيحية ، فوالده شماس في الكنيسة، وعمه سليمان الصائغ ، المورخ المعروف وصاحب كتاب :" تاريخ الموصل " بثلاثة أجزاء، قس ثم مطران، وقد تأثر به يوسف . أنهى دراسته الابتدائية في مدرسة شمعون الصفا ودراسته المتوسطة الشرقية ودراسته الإعدادية في المدرسة المركزية بالموصل، وقد انتمى الى الحزب الشيوعي، لذلك تعرض للاعتقال لأكثر من سنة، وبعد ذلك أعلن براءته من الحزب في أوائل السبعينات من القرن الماضي .
أُحيل على التقاعد سنة 1996.. كانت له صداقات وثيقة مع عدد كبير من المثقفين العراقيين وعمل في مجلة ألف باء، وهو شاعر، وقاص، ورسام، ومسرحي، ويعده الدكتور الطالب من: "أفضل كتّاب الخاطرة في العراق وخواطره في مجلة ألف باء الموسومة: "فوق نار هادئة" تدل على ذلك.
اتسمت كتابات وقصائد يوسف الصائغ بالروح الوطنية، والتوهج الثوري، وقد تفاعل مع أحداث عصره وخاصة هزيمة حزيران 1967، لكن ذلك لم يمنعه من أن يؤجج المشاعر الوطنية، ويدعو الى الاستجابة للتحديات بتحديات أكبر، فيدعو في قصائده ،القوم إلى المجابهة، وعدم الاستكانة، وقد دفع هذا النقّاد ومنهم الدكتور ذنون الأطرقجي الى القول بأن يوسف الصائغ في شعره ،لم يكن في منطلقاته الأساسية يختلف عن شعراء التيار القومي العربي التقدمي.
الذي يهمنا في هذا الحيز، هو ماأنجزه يوسف الصائغ على صعيد تقديم الشعر الحر في العراق نصاً، وتحقيقاً، ودراسة، ورواداً.. فلقد حرص على أن تكون رسالته للماجستير التي تقدم بها الى قسم اللغة العربية بكلية الآداب – جامعة بغداد سنة 1974 بأشراف الأستاذ الدكتور علي جواد الطاهر رحمه الله، محاولة تأصيلية لظاهرة الشعر الحر في العراق.. وقد أشار الى أن ثمة دوافع عديدة كانت وراء محاولته تلك منها:
1. إنه جرب كتابة الشعر على النمط الحر منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضي.
2
. انه كان على علاقة، بعدد غير قليل من رواد الشعر، باعتباره أحد أفراد الجيل الذي أعقب جيل الشعراء الرواد: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وبلند الحيدري، وعبد الوهاب البياتي.
3. إنه عاش بشكل عام، ظروفاً مشابهة للظروف التي عاشها الشعراء من أبناء ذلك الجيل فلقد درس في دار المعلمين العالية 1950 – 1954 والتقى ، خلال دراسته ،عددا من أولئك الشعراء.
4 . أنه كان يجمعه وأولئك ، الاهتمام بالقضايا العامة ، وبشكل خاص القضايا السياسية ، وكان مثل أكثرهم قريبا من الفكر الماركسي، والحزب الشيوعي العراقي .
5. أنه كان يمتلك ، آنذاك، بعض الاهتمام بالأدب وخاصة بالقصة القصيرة، والفن التشكيلي ، مما هيأ له مجال التعرف على الجو الثقافي العراقي المعاصر .
أعتقد يوسف الصائغ، إن الشعر الحر أصبح ظاهرة بارزة في الحياة الثقافية العربية المعاصرة ،وقد برهن عبر مايقرب من ربع قرن على فاعليته وأصالته ، ولم يعد ، كما كان متصورا من قبل ،ظاهرة عابرة أو مؤقتة ، لذلك أدرك ضرورة دراسة حركته، وتحديد مايمكن من ملامحها وإمكاناتها ، ونماذجها المبدعة ، وعلى الرغم من ذلك كله ، فقد لمح إهمالا من المؤسسات الأكاديمية العربية للشعر الحر ، وقد كان لموقف الأستاذ الدكتور علي جواد الطاهر ، وما عُرف عنه من تتبع لظواهر الادب العراقي ، واهتمام رصين لبعض محاولاته الجديدة ، أثر كبير في أقدامه على ولوج هذا الطريق ، وركوب هذا المركب ، الذي تطلب منه متابعة نتاج مايزيد عن (200) مئتي شاعر عراقي وحسب التسلسل الزمني ، منهم من نشر شعره في مجموعة ، أو في عدد من المجموعات الشعرية ، ومنهم من نشر نماذجه في عدد من الصحف والمجلات ، عراقية وعربية ، بينهم المكثر ، وبينهم المقل، بينهم المعروف ، وبينهم المغمور .
حين أراد الأستاذ يوسف الصائغ، معرفة ظروف واليات ظهور الشعر الحر في العراق منذ نشأته أواخر الحرب العالمية الثانية حتى سنة 1958، قام بدراسة الموضوع وفق أساسين متكاملين : أولهما تاريخي يتابع الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي مر بها العراق آنذاك . وثانيهما نقدي ينصرف لمعالجة الظواهر والقيم الشعرية ارتباطا بالأساس التاريخي، وعبر التركيز على نماذج لأعمال الشعراء البارزين، ومما يسجل له رصد التيارات السياسية التي توزعت عليها خارطة الشعر الحر في العراق، والمتمثلة بالتيار القومي، والتيار الديني، والتيار الليبرالي، والتيار الاشتراكي، ولم ينس أن يربط ذلك بمتابعة تاريخية لحركة التأليف والترجمة، وازدهار ظهور المجلات الثقافية الرائدة، ومنها مجلة " المجلة " ،ومجلة " الثقافة الجديدة " ، وما أفرزته الحياة الحزبية من نشاط انعكس على الأدباء وعلى نتاجاتهم ومن ثم أثر ذلك النتاج في المجتمع العراقي .. وقد حفلت الساحة الثقافية العراقية بأسماء شخصيات رائدة كان معظمها في حقبة الخمسينات من القرن الماضي منتمية إلى القوى القومية والقوى التقدمية أمثال : عبد الوهاب ألبياتي، وعبد الملك نوري ، وخالد الرحال، وصلاح خالص، وشاذل طاقة، وعبد الغفار الصائغ، ومحمود صبري، وشفيق الكمالي، ومحمود المحروق ، وبدر شاكر السياب ، وعبد الرزاق الشيخ علي، وعبد الرزاق عبد الواحد، وناظم توفيق، وزهير القيسي، وكاظم جواد وغائب طعمه فرمان ، وعلي الشوك، ورشدي العامل ، ومحمد سعيد الصكار، ورشيد ياسين ، وسعدي يوسف، ومجيد الراضي ، ويوسف الصائغ، وخالد السلام ، والفريد سمعان ، ويوسف نمر ذياب، ويوسف العاني ، وعدنان الراوي، وهلال ناجي، ، وكاظم السماوي . وقد طرح الفكر اليساري بجناحيه القومي التقدمي والشيوعي الاشتراكي  كمجموع قضايا عديدة : منها قضية دور الأديب في المجتمع ،وقضية الالتزام، والأدب الإنساني، والواقعية الاشتراكية .
كما استحوذت قضية التجديد على اهتمام الأدباء الشباب، ونوقشت بجدارة المدارس الفنية، والأدبية، والأجنبية ، ومدى مايمكن أن يستفيد منها الفنان والأديب العراقي والعربي، وكان الاهتمام يزداد بالمضمون باعتباره نقطة الانطلاق في التجديد ، وكافح اليساريون بشدة نظريات الفصل بين الشكل والمضمون.. ومن أبرز الذين قاموا بدور مهم في مجال النقد وقتئذ نهاد التكرلي ، وجبرا إبراهيم جبرا، وصلاح خالص، وعلي جواد الطاهر، وكان للأدب العراقي أن يتطور، وان يتزايد نشاطه تحت تأثير التطور العام ، سواء في العالم، أو في العراق أو في الوطن العربي. ويقينا أن لازدياد التعليم والبعثات ، والترجمة، والصحافة، والمجلات، وانتشار الطباعة. وتقدمها، وتطور الوضع الاقتصادي والاجتماعي أثر كبير في تنامي وتطور المحاولات التجديدية في الشعر والأدب العراقيين، وهذا مااكده الصائغ في دراسته للشعر الحر مع ملاحظته الجادة على أن ماحدث في توجه الجيل الجديد في العراق نحو الشعر، لم يمنع من استمرار الشعر التقليدي بصيغة المعروفة جنبا إلى جنب مع الشعر الحر، وهذا دلالة أكيدة على أن جيل الرواد ظل أمينا لتراثه العربي بصورة عامة، ولتراثه العراقي العريق بصورة خاصة .
نقف الان لنقول ان بلند الحيدري  وهو شاعر عراقي كبير شكل والشاعران الكبيران بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وهو المولود سنة 1926 ثالثوثا مغامرا تجديديا ذهب بالشعر العربي الحديث الى مديات واسعة في طريق التحديث ..
قرأت مرة عنهم قول الاستاذ الشاعر فوزي كريم في مجلة الف باء (البغدادية ) :" انهم لم يكونوا يميلون الى الهواء الراكد في مقهى قديم بل الى هواء الشارع الذي لايتكرر ..... الشارع ذي الامتدادات والمفاجئات والحرية ...بدأ بلند الحيدري في سن العشرين ، وله (خفقة الطين "1946 و"اغاني المدينة الميتة " 1951 و" اغاني المدينة وقصائد اخرى " 1957 و" خطوات في الغربة "1965 و"رحلة الحروف الصفر " 1967 و"اعاني الحارس المتعب "1971 و" حوار عبر الابعاد الثلاثة "1972 ..كان يقول :" ان مهمة القصيدة هو الكشف عن الحقائق الداخلية في الانسان ،والتي بقدر ما تمد نفسها الى الكينونة الانسانية توسع من مدى الرؤيا الخارجية ،وهو ما عنيته في قصيدتي (حوار ) حيث كان الفرد في هذه القصيدة مسرحا لثلاثة شخوص ،هي الانسان في الذات والانسان في الموضوع والانسان في المطلق عبر حوار متداخل ..." 
يذكر مؤرخو (الشعر العربي الحديث): ان نازك الملائكة أول من بدأ الشعر الحديث والقصيدة التي نظمتها بعنوان :(خيط مشدود في السرو) هي البداية الحقيقية للشعر الحديث، ويشير الأستاذ حسن الأمين- وكان يعمل أستاذا في كلية الملكة عالية (كلية التحرير ) ببغداد في الأربعينات من القرن الماضي- إلى انه كان يتردد على إدارة مجلة اسمها (عالم الغد) الأسبوعية وفيها رأى قصائد لنازك الملائكة معدة للنشر وقد أوصى المسؤولين عن المجلة بنشرها وكان ذلك سنة 1946 فكانت هذه القصائد ،ومنها قصيدة (الكوليرا) أول مانشر من الشعر الحديث.
وفي الديوان الذي نشرته دار العودة ببيروت سنة 1981 كتبت الشاعرة الرائدة نازك الملائكة مقدمة له قالت فيها :إن الديوان يضم قصائد نظمت منذ سنة 1945 وكان عمرها آنذاك (22) سنة ولم يكن ديوانها الأول (عاشقة الليل) 1947 قد ظهر.
وأول قصيدة حديثة كتبتها الملائكة هي (مأساة الحياة) وهو عنوان دل على تشأ ومها المطلق وشعورها بان الحياة كلها ألم وتعقيد. كما نظمت مطولة في ستة أشهر انتهت منها سنة 1946 بلغت (1200) بيتاً ،وكان موضوعها فلسفياً يدور حول الحياة والموت وما وراءهما من إسرار. وفي سنة 1949 أصدرت مجموعتها (شظايا ورماد) وهي المجموعة التي دعت فيها إلى شعر جديد أطلق عليه النقاد فيما بعد اسم : (الشعر الحر). ومن دواوينها الأخرى : قرارة الموجة 1957 ، ومأساة الحياة وأغنية الإنسان 1977 ،ويغير ألوانه البحر والأعمال الكاملة بمجلدين ومن كتبها النقدية :قضايا الشعر المعاصر ، والصومعة والشرفة الحمراء ، وسيكولوجية الشعر . كما صدر لها في القاهرة مجموعة قصصية عنوانها "الشمس التي وراء القمة" عام 1997 . 


.
لنازك الملائكة مجموعة شعرية باسم (للصلاة.. للثورة) وقد ظلت منذ أن كتبت " مأساة الحياة وأغنية الإنسان " وحتى آخر لحظة من حياتها تبحث عن (السعادة) وترى (أن السعادة ممكنة ولو إلى مدى محدود ) وقد وجدت أن (الإيمان بالله ،والاطمئنان إلى الحياة)هو الحل وهكذا راح جو مأساة الحياة يتبدد في شعرها .
حازت نازك الملائكة على جائزة "البابطين" عام 1996 ، كما احتفلت دار الأوبرا المصرية بتكريمها"بمناسبة مرور نصف قرن على انطلاقة الشعر الحر في الوطن العربي في 26 أيار 1999.
وقد شارك في الاحتفال، الذي غابت عنه نازك بسبب المرض، شعراء ونقاد مصريون وعرب بارزون فضلا عن زوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة الذي أنجبت منه ابنها الوحيد البراق.
..
حقا إنها شاعرة عظيمة يحق للعرب أن يفخروا بها وبما قدمته. توفيت الشاعرة نازك الملائكة ،  رحمها الله ، في القاهرة يوم 20 حزيران سنة 2007 .
لم يكن الاستاذ يوسف الصائغ هو وحده من أرخ للشعر الحر وانما وجدنا كثيرين من الكتاب والادباء ادلوا بدلوهم وكتبوا عن شعراء رواد بشروا بالشعر العراقي الحديث  فالاستاذ غزاي درع الطائي كتب عن الشاعر الكبير شاذل طاقة وقال ان شاذل طاقة يقف بجدارة في الصف الاول من كوكبة الشعراء الرواد الذين كتبوا الشعر حتى ان الكاتب الموسوعي الاستاذ حميد المطبعي سماه "شاعر الحداثة الرائد " وقال عنه الاستاذ الدكتور احمد مطلوب :"عد شاذل طاقة من اوائل دعاة هذا اللون ...أي شعر التفعيلة –ومن رواده " .وقال عنه الشاعر والباحث الاستاذ سامي مهدي انه "كان من السباقين الى كتابة الشعر الجديد " .وقال عنه الشاعر والناقد الاستاذ خالد علي مصطفى :"إن شاذل طاقة توفرت له ادوات استطاع بها ان يحقق ما يتلاءم وصورة نفسه المتزنة الواعية الثائرة " .
ان شاذل طاقة يوصف بأنه أظهر مهارة في ابتكار النماذج الايقاعية المتنوعة وانماط القافية الخارجة على شكل الشعر الحر ...كانت القصائد عنده ابناء الشعراء ..تحبو على الارض وتحلق في السماء ولم يكن الشعر عنده ضربا من اللغو او هذرا ! لاطائل تحته او تلاعبا بالالفاظ  بل قضية وموقف وابداع ..
كان شاذل طاقة يعتقد ان الشعر ما يزل له خطره وان الشاعر لايزال قادرا على الارشاد والتقويم ليس بمعنى ان يكون بوقا من ابواق الاصلاح الاجتماعي بل بمعنى ان يكشف عن الاتجاه ويدل على الطريق ويحث على العبور نحو آفاق اكثر بهاءومشارق اكثر سحرا .
وكان شاذل طاقة يرى ان تعلم الشعر رقص وان تعلم النثر مشي وان ما بينهما مابين السماء والارض .
لقد كتب عن شعر شاذل طاقة الكثير ولعل من ابرز الذين كتبوا الدكتور فاتن عبد الجبار جواد وعنوان دراستها التي نشرت في مجلة "الموقف الادبي "التي تصدر في دمشق عن اتحاد الكتاب العرب :"تجليات الحضور والانتماء في شعر شاذل طاقة شباط 2005 .وكما هو معروف فأن من اعمال الاستاذ شاذل طاقة مجموعاته الشعرية :"المساء الاخير " 1950 و"ثم مات الليل " 1963 و" الاعور الدجال والغرباء " 1969 .وكما سبق ان قلنا فأن الاستاذ شاذل طاقة شارك سنة 1956 ثلاثة شعراء موصليين اخرين هم يوسف الصائغ وهاشم الطعان وعبد الحليم اللاوند في اصدار مجموعة شعرية عنوانها :" قصائد غير صالحة للنشر " وجاءت مشاركة شاذل طاقة بخمس قصائد منها قصيدته : " حصاد القمر"  وقصيدته " مدينة العناكب"  وقصيدته " كان ياماكان ".
اسمحوا لي ان اتوقف قليلا عند شاعر لم يأخذ نصيبه من الاعلام والاضاءة انه الشاعر محمود المحروق والذي يعد كذلك من رواد الشعر في العراق .
محمود فتحي المحروق من رواد الشعر الحديث في العراق ،بل هو رائد تقدم على الكثير من مجايليه. ويبدو أن الضوء لم يكن مسلطا عليه بالقوة والسطوع الذي سلط على غيره وتلك فرصة لاينالها إلا من كان ذو حظ عظيم ،لكن لابد من أن يضع الكتاب والنقاد ذلك جانبا ،ويبدأوا في توثيق سير وحياة من ترك بصمة في جدار الثقافة العراقية المعاصرة إن كان ذلك على مستوى الشعر أو الأدب أو اللغة أو الفن أو القصة أو الرواية أو غير ذلك .ومحمود فتحي المحروق هو واحد من أولئك . ولد في مدينة الموصل سنة 1931 وتوفي سنة 1993 . تخرج في دار المعلمين بعد حصوله على الشهادة الثانوية ومارس التعليم ،افرد له الأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب حيزا في موسوعته : "موسوعة أعلام الموصل في القرن العشرين" ، وقال عته إن والدته أثرت على تكوينه الثقافي والنفسي حيث انصرف إلى الشعر. وكانت بحكم انحدارها الطبقي العشائري تحفظ كثيراً من الأشعار البدوية،وتضرب العديد من الأمثال وتروي القصص، وتداخلت مع تكويناته النفسية والبيئية والحياتية، حساسية مفرطة، وصورة بيئية قاسية،وحياة قلقة شاقة. فقبيل منتصف الأربعينات من القرن الماضي تفاعل كل ذلك وامتزج فكون منه بعد ذلك إنساناً يسكنه الحزن والأسى وتعيش في نفسه أحلام كبار متشحة برؤى صوفية حالمة وتمزقت حنايا نفسه غربة روحيه ومشاعر نقية صافية.توجه نحو الفكر اليساري ، وبدأت قصة الشعر معه في ربيع سنة 1946 حين أهداه زميل في المدرسة المتوسطة كتاب (ميزان الذهب) في صناعة الشعر، وديوان الشاعر المصري المعروف علي محمود طه (زهر وقمر)، وبدأ المحروق تعلم النظم والأوزان الشعرية، ثم دخل كوة الشعر عن طريق جبران خليل جبران وتأثر بنهجه كثيرا ولا سيما نزعته الرومانسية الطاغية في شعره. وواظب المحروق على المطالعة المكثفة -كأبناء جيله - في المكتبة المركزية العامة في الموصل. ولم يقتصر على قراءة الشعر وإنما إنصرف إلى قراءات مختلفة تشمل كل أنواع المعرفة، وولدت قصيدته الأولى من مجزوء بحر الرمل. وبدأت مرحلة ثانية من حياته ، وحطت هذه المرحلة في (مقهى الصياغ) ويقع في مدخل شارع النجفي، فيها كان يسهر مع الصحب لسماع سهرات أُم كلثوم الشهرية بدءاً من سنة 1947 ومع سهرة أُم كلثوم الأولى التي غنت فيها أُغنيتها الشهيرة (كل الأحبة اثنين اثنين). وفي هذه المرحلة المبكرة من حياته كان لابد له وهو لما يزل فتى غض الاهاب أن يفكر بالحب لكنه سما بهواجس الحب نحو آفاق روحية بعيدة عن الأسفاف بحكم توجهاته السليمة واهتماماته الشعرية والأدبية، فقد رسم للمرأة في خياله صورة مقدسة على أساس أنها أجمل ما في الكون من مخلوقات، وهي رمز للحب الإنساني ، فولدت قصائد سنة 1947 مثل (إليك تسبيحة، حورية الفجر، حياتي ضلال، نار ونور) وخلال دراسته الإعدادية، اتضحت سماته الشعرية شيئاً فشيئاً وأخذت طابعاً متميزاً من الجدة والثورة على التقليد في الشكل والمضمون واتسعت قراءاته وتنوعت وتأثر بشعر المهجر وشعر مدرسة ابولو، فنظم قصائد متباينة نشر بعضها في الصحف والمجلات. 
اتجه للكتابة في الصحف والمجلات الموصلية والعراقية والعربية ومضت سنوات مهمة من حياته كانت حافلة بالعطاء واستمر الأمر هكذا حتى سنة 1954 ، كتب فيها محمود المحروق العديد من المقالات النقدية والثقافية فضلاً عن نظمه للشعر. وظهرت مقالاته في صحف موصلية عديدة منها (فتى العراق، الجداول، الفجر، فتى العرب، الروافد، العاصفة، الراية، المثال، صدى الروافد، الواقع) وفي صحف بغدادية مثل(الأخبار، العراق اليوم، الوميض، الحصون، صوت الكرخ، الهاتف الأسبوع) ومجلة العقيدة النجفية، ومجلة الحديث الحلبية ومجلة الدنيا الدمشقية، ونشر في مجلتي الرسالة والثقافة (القاهريتين)، في سنتي 1951-1952ونشر في مجلة الأديب( اللبنانية) سنة 1954وفي مجلة الآداب في السنوات 1953-1954وفي عام 1958، وفي مجلة الرسالة( البيروتية ) سنة 1956. 
لقد أُعجب محمود المحروق بقصائد الشاعر الفرنسي (لامرتين)، وحاول ترجمة شعره عن الإنكليزية في ديوانه (تأملات) الذي قدم له الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي وما يزال مخطوطاً. شغلت الحياة محمود المحروق في مجال التعليم والصحافة والسياسة عن نظم الشعر فكتب قصيدة هنا ونظم أخرى هناك، وعمل مشرفاً لغوياً بعد الدوام الرسمي في جريدة الجمهورية ببغداد فضلاً عن إشرافه اللغوي على الموسوعة الصغيرة التي كانت تصدرها دار الشؤون الثقافية العراقية ، وأحيل إلى التقاعد سنة 1979، وانتهى به الأمر منذ منتصف الثمانينات وحتى وفاته –رحمه الله -مشرفاً لغوياً في جريدة الحدباء الموصلية، وتوفي المحروق أثر مرض عضال عانى منه فترة طويلة . عندما كتبت مقالتي عن جماعة رواد الأدب والحياة والتي ضمت إلى كتابي : "تاريخ العراق الثقافي المعاصر " قلت أن الأستاذ محمود المحروق، كان عضوا مؤسسا فيها وهي تجمع ثقافي ظهر في الموصل سنة 1954، وكانت من بواكير التجمعات الأدبية العراقية المعاصرة وقد ضم التجمع عند ظهوره أربعة أدباء مؤسسين قدر لهم فيما بعد أن يقوموا بدور فاعل في الحياة الثقافية العراقية المعاصرة وهم : محمود المحروق ، وشاذل طاقة ، وهاشم الطعان ، وغانم الدباغ . وقد عدوا من رواد الأدب العراقي الحديث ، وكانوا ذوي توجه تقدمي يساري ، بحثوا عن التغيير ولجأوا إلى الشعر والقصة ليكونا الميدان الذي يعبرون من خلاله عن طموحاتهم في إيجاد أدب يرتبط بالحياة وهمومها . ومما ينبغي تسجيله في هذا الصدد أن الصحفي البارع الأستاذ عبد الباسط يونس ( 1928 – 2000 )- وكان يصدر جريدة في الموصل باسم الراية ( برز عددها الأول في 11 نيسان 1951 )- قد أفسح لهم في جريدته بابا مستقلا يحمل عنوان : ( باب رواد أدب الحياة ). ويشير الأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب في مقالته الموسومة : (( محمود المحروق 1931 – 1993 )) التي نشرها في جريدة الحدباء ( الموصلية ) بعددها 595 الصادر في 123 تشرين الأول 1993، إلى أن مجلة الرسالة الجديدة ( البغدادية )، قد وثقت نشاطات هذه الجماعة وذلك في عددها الصادر في 17 أيار سنة 1954 ويمكن الرجوع إليه للاطلاع على مزيد من التفاصيل حول هذه الجماعة الأدبية التي بعد ذلك برز أركانها في ميدان الشعر والقصة والمقالة .
ولنتساءل عن القاسم المشترك الذي ربط بين أولئك الرواد، ونقول أن جميعهم من مدينة الموصل، وان الرغبة في التجديد ومحاربة الأنماط السكونية في التعبير والخروج عن المألوف المتداول في الشعر والقصة هي ما كان يجمعهم والأبعد من ذلك محاولتهم التصدي للتعقيدات الشكلية التي كانت تميز الحياة الثقافية العراقية آنذاك. فضلا عن أنهم كانوا في عمر متقارب تقريبا فمعظمهم من مواليد الثلاثينات من القرن الماضي ، أي أن أعمارهم عند ظهورهم كانت تتراوح بين 15 – 25 عاما . وكانوا تقدميين يساريين في آرائهم ومنطلقاتهم الفكرية، لكن ثمة أمر لابد من التأكيد عليه، وهو أن الصراعات الفكرية والسياسية بين الأحزاب والتي تفاقمت بعد ثورة 14 تموز 1958 ، أدت إلى إحداث التباعد بينهم ، وكما يقول الأستاذ الدكتور عبد الإله احمد في كتاب "الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية" ، فان معظم أولئك الرواد ذهبوا ضحية الأحداث السياسية العاصفة المتقلبة والتي أجهزت عليهم ، أو حالت بينهم وبين تطور أنفسهم على نحو يتيح لهم تحقيق ما بدا أنهم مؤهلون لتحقيقه .
فمحمود المحروق- على سبيل المثال - لم ينل ما يستحقه من اهتمام ، عصفت به السياسة ، فضاع في أتونها ، هذا الرجل نظم في السادس من آذار 1948 وعمره ( 17 ) سنة قصيدة ( ظلام ) ،والتي تعد أول تجربة أدبية عراقية في الشعر الحر ، وقد ظهرت منشورة في جريدة صوت الكرخ ( البغدادية ) ،( العدد 48 في 8 تشرين الثاني 1949) وجاء فيها : 
مضينا .. وفي قلبنا تهاويل جياشة بالعناء
وكنا .. وكان الزمان لنا .. ملاحم ننشرها بالهناء 
ونرشف من نخبها .. رحيق الهوى والحياة
وفي قلبها سكبنا الدموع .. شآبيب تدنو بنا للفناء
وتدفعنا للسبات .. فتندب أحلامنا ونمضي وما من رجوع
وعندما كتب هذه القصيدة ، كانت نازك الملائكة تكتب في اللحظة ذاتها قصيدتها 
(
الكوليرا ) ،وكان بدر شاكر السياب يكتب كذلك قصيدته ( هل كان حبا ؟!)..لقد نظم المحروق قصيدة: "ظلام" ،ونوع فيها القوافي ووزع فيها في التفعيلات توزيعا جديدا ، وان ظلت الصور واللغة والتراكيب ضمن موقفه الرومانتيكي الطاغي )) هكذا يقول ذو النون الاطرقجي في دراسته عن الشعر في الموصل ، موسوعة الموصل الحضارية ، (ج5 ، ص 378) . 
ومحمود المحروق كان مدركا- منذ البدء -انه يفتح طريقا جديدا في الشعر، وقد تحدث في 30 آذار 1993، وعبر جريدة الحدباء عن تجربته تلك، قائلا بان أحد الأسباب التي يراها تقف وراء قيام حركة التجديد في الشعر وظهور الشعر الحر هي: (( الثورة على الأساليب القديمة في القصيدة العمودية ، والابتعاد عن السطحية والتقريرية والمباشرة وإدخال الألفاظ الرقيقة العذبة التي تعطي للشعر الحديث طراوة خاصة ، وجوا موسيقيا كأنه السلسبيل )). 
ولا ينبغي الذهاب بعيدا في معرفة ردود الفعل على قصيدة ظلام ولكن لابد من القول انه اصدر ديوانه الأول بعنوان (( قيثارة الريح)) قبل أن يخرجوا للسياب بعد سنوات وسنوات ديوانا بالعنوان نفسه . فبين الإصدارين سبع عشرة سنة ( الموصل – 1954 .. بغداد – 1971 ) . 
وقد ندب الأستاذ الدكتور عبد الوهاب العدواني نفسه للحديث عن قيمة الديوان وصاحبه فقال في مقالة كتبها في جريدة الحدباء ( 12 تشرين الأول 1993 ) أي بعد أيام من رحيل المحروق ان المحروق لم يكن شاعرا حسب ، بل كان ناقدا له باع طويل في معرفة الشعر وفهمه واستيعابه وتمثله ، ومع أن الأدباء العراقيين قد استقبلوا ديوان المحروق ، كما قال الناقد سامي أمين في عدد آب 1954 من مجلة الآداب (البيروتية )، بشيء غير قليل من العنف ، وكتبوا عنه كتابات اتسع فيها المجال للإشارة الى عيوبه واغراقه في الرومانسية ،لكن ذلك لم يلغ أن المحروق قد أظهر في شعره موقفا وطنيا وانسانيا . لقد كان بحق مثقفا ملتزما بقضايا مجتمعه .
ولم يكن المحروق لوحده متميزا في موقفه هذا بل كان زملاؤه كذلك .. فشاذل طاقة، وغانم الدباغ ،وهاشم الطعان، كانوا يبغون تثوير اللغة العربية ، وهم وان تعمدوا الإغراق في الغموض والإمعان في التأثر بخطى بعض أساليب الغرب الأدبية، إلا أنهم كانوا ذوي موهبة خلاقة ، وثقافة أصيلة ، وصدق بين) . 
إن بدايات جماعة رواد الأدب والحياة ، وان تبدو قلقة ، توحي بافكار ونزعات تجديدية تبتغي التغيير وعدم الركون لما هو متوارث وكلاسيكي ، فان المسألة التي لا يمكن تجاهلها هي ان لروادها فضل الاجتهاد والتجريب وانتهاج طريق غير مألوف في التعبير عن كوامن النفس العراقية التواقة إلى الحرية والحق والصدق وهذا هو ما منح أعمال هذه الجماعة قيمة الوثيقة الأدبية المعتمدة في التأريخ لحياة العراق الثقافية المعاصرة . ونختم مقالنا بذكر قصيدة جميلة للمحروق بعنوان : " في لجة الصمت " يقول فيها :
أيهذا الغريق يا شاعر الصمـ _________________________ ـت كفاك التحديق خلف الضفافِ _________________________ 
قد مضى الزورق الحزين وما زلـ _________________________ ـت تغني للموج سر الطواف _________________________ 
هي ذي يا شقيّ هُوج الأعاصيـ _________________________ ـر تدوّي... وأنت نهب السوافي _________________________ 
سوف تطويك عاصفات من الصمـ _________________________ ـت ... فتغدو ممزق الأعطاف _________________________ 
وستمحو الأمواج بيض أمانيـ _________________________ ـك وتنعى... جنازة الأطياف _________________________ 




أيهذا الغريق... رفقا بدنيا _________________________ ك فخلف الضفاف صمت عميقُ _________________________ 
قد تضللتَ... ما تصبَّاك يا شا _________________________ عر, ... عد فالحياة بحر سحيق _________________________ 
كلما رُمْتَ للحياة وصولا _________________________ سخرت منك موجة وبروق _________________________ 
فيم تقضي الشباب في غيهب الصمـ _________________________ ـت ... وتطوي المنى... وأنت غريق؟ _________________________ 
وغدا... لن تعي سوى صرخات _________________________ يتغنّى بها الظلام المحيق _________________________ 




أيها الشاعر الذي يتغنى _________________________ تهت في الكائنات عرضاً وطولا _________________________ 
ارجع الآن لن ترى ثمَّ شيئا _________________________ أنت في الأرض ترتجي المستحيلا _________________________ 
أنت يا شاعر السكينة قلب _________________________ أوصد الكون دونه المجهولا 
تلك هي شذرات من قصة الشعر الحر في العراق واعتذر عن عدم ذكر اسماء رواد آخرين من رواد الشعر الحر في العراق كما اعتذر عن عدم التوقف عند شعراء الستينات فتلك قصة اخرى نحتاج  فيها الى حلقات اخرى للوقوف عندها ان شاء الله أكتفي بهذا القدر والى لقاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...