الأحد، 5 يوليو 2020

الدكتور علي الوردي ومجلة (العيادة الشعبية ) ا.د.ابراهيم خليل العلاف


الدكتور علي الوردي ومجلة (العيادة الشعبية )

ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس –جامعة الموصل

-1-

قبل أن نتحدث عن اسهام الاستاذ الدكتور علي الوردي عالم الاجتماع العراقي الكبير في الكتابة لمجلة "العيادة الشعبية " البغدادية ، دعونا نقول كلمة عن هذه المجلة الرائدة التي أصدرها طبيبان شقيقان هما : الدكتور اسماعيل ناجي ، والدكتور خالد ناجي واللذان كرسا حياتهما لخدمة الفقراء ومعالجتهم صحيا من خلال عيادة اسمياها (العيادة الشعبية) في بغداد سنة 1948 واستمرت بالعمل حتى سنة 1958. وكانت مخصصة لمعالجة الفقراء من الناس، وباشتراك شهري للعائلة الواحدة لايتجاوز آنذاك أل (150) فلساً.. وكان مقرها في رأس القرية شارع الرشيد
كما أصدرا مجلة بإسم : (العيادة الشعبية) سنة 1947، وقد ذكرت السيدة زاهدة إبراهيم في كتابها : (كشاف الجرائد والمجلات العراقية) الذي صدر عن وزارة الإعلام العراقية سنة 1976، أن هذه المجلة كانت كما جاء في ترويستها : “مجلة طبية صحية صاحبها إسماعيل ناجي (طبيب) ومديرها المسؤول هاشم العاني (محام)، وقد صدرت ببغداد سنة 1948 واستمرت في الصدور حتى 17 كانون الأول / ديسمبر سنة 1954
جاء في ترويسة مجلة "العيادة الشعبية " انها :" مجلة طبية ثقافية ادبية تصدر شهريا مؤقتا بغداد -رأس القرية شارع الرشيد 296ج-1 تلفون 6474 وهي مسجلة بدائرة البريد برقم 379 .. والاشتراكات في العراق 250 فلسا وخارج العراق 350 فلسا .صفحاتها في كل عدد لم تكن تتجاوز ال35 وهي بالحجم الصغير ومطبوعة على ورق جرائد وفيها رسوم ورسوم كاريكاتيرية ل" حميد المحل " وفيها إعلانات مدفوعة الثمن صاحبها ورئيس تحريرها الدكتور اسماعيل ناجي
ويعاونه شقيقه الدكتور خالد ناجي ومديرها المسؤول المحامي هاشم العاني وتبغي" نشر الثقافة الشعبية الصحية بين الناس وتعمل من اجل التخلص من الفقر والمرض والجهل ..." .
ذكر الأستاذ جعفر الخليلي في كتابه : (هكذا عرفتهم) إن الناس أقبلوا على " العيادة الشعبية" حتى ضاقت بهم ، وكانت بنايتها مؤلفة من خمس غرف وصالون( وبالكونة )، حيث خصص الأخيران للانتظار، فيما شغل الدكتور إسماعيل ناجي جانبا من تلك العيادة لفحص ومعالجة الأمراض الباطنية، وشغل أخوه الدكتور خالد ناجي الاختصاصي المعروف جانبا منها للجراحة. وكان يداوم في إحدى غرف العيادة السيد عبدالاحد، وهو من الاكتفاء في عمليات التحليل الكيماوي الطبي.. وكان في العيادة من يقوم على مساعدة الدكتور إسماعيل، وشقيقه الدكتور خالد من مضمدين ومعينين. وقد تحدث الدكتور إسماعيل ناجي يوما في إذاعة بغداد عن عيادته فقال إن فكرة العيادة :"راودتني بوحي من هذه العلل الاجتماعية، وإنها لكثيرة في مجتمعنا تطاردنا مصبحين ممسين في كل جانب من جوانبنا، ولقد فكرت مليا في هذا الجانب، جانب الحاجة إلى تعميم المعالجة وتيسيرها للفقراء وكان من السهل أن أجد من يعاونني لإخراجها، ولقد كان يحز في نفسي ويؤلمني أن أرى الأمراض تفتك بالطبقة الوسيطة والفقيرة عندنا، في حين قطعت الشعوب أشواطا بعيدة في تحقيق مشاريع الضمان الاجتماعي ،والعدالة الاجتماعية، وتوفير الوقاية والعلاج الطبي للطبقة الفقيرة" ، وكان رب الأسرة يدفع 150 فلسا في الشهر لتتم معالجة سائر أفراد أسرته مجاناً.
كان الدكتور خالد ناجي ،من أوائل الذين وقفوا إلى جانب شقيقه، سواء بالعيادة الشعبية أو المجلة. ويعد مشروع المجلة من أوائل مشاريع الصحافة الصحية في الوطن العربي إن لم يكن أول مشروع صحي عربي مجاني،والمشروع لم يقف عند ناحية واحدة من نواحي العلاج وان رسالته أوسع من ذلك، فهو كما يعنى بالعلاج الباطني ،فانه يولي جل اهتمامه بضروب أخرى من العلاج، ومنها على سبيل المثال لاالحصر ، العمليات الجراحية ، والأمراض النسائية، وأمراض العيون والأنف والإذن والحنجرة، كما أن للمشروع فرعا للتحاليل المرضية كافة . أما عملية الختان والتلقيح ضد الأوبئة كالجدري والحصبة والتيفوئيد واليضة وماشاكل فكل ذلك يقوم به المشروع مجانا..
وقد اتسعت شهرة المجلة ، فقررت وزارة التربية اقتناءها والسماح بدخولها إلى المدارس، كما أقدم عدد من الكتاب والباحثين والمفكرين على الكتابة فيها ولعل من ابرز هؤلاء الدكتور هاشم جواد الدبلوماسي العراقي المعروف، والدكتور صائب شوكت عميد الكلية الطبية، والدكتور كمال السامرائي الطبيب النسائي العراقي المعروف، فضلا عن الأديب المشهور عبد المجيد لطفي ،والشيخ محمد رضا الشبيبي رئيس المجمع العلمي ووزير المعارف (التربية ) الأسبق ، والدكتور صبري القباني الطبيب السوري وصاحب مجلة طبيبك فيما بعد ، والأستاذ جعفر الخليلي الكاتب والباحث والصحفي المعروف والذي يقول أن حركة المجلة توسعت حتى أنها سبقت جميع صحف العراق ومجلاته آنذاك في كمية المطبوع الشهري والانتشار.
وممن كتب فيها ايضا الدكتور هاشم الوتري والاستاذ علي حيدر الركابي والدكتور شوكت الدهان والاستاذ فؤاد مراد الشيخ والاستاذ خالد الدرة المحامي والدكتور صادق علاوي والاستاذ يوسف يعقوب مسكوني والدكتور داؤد سلمان علي والدكتور صفاء خلوصي والدكتور غازي حلمي والاستاذ هاشم جواد والاستاذ ديزموند ستيوارت (كان استاذا في كلية الاداب والعلوم -بغداد ) وعنوان احدى مقالاته :" حاجتنا الماسة الى الطب الاجتماعي " ..وممن كتب فيها ايضا الدكتور جابر جاد عبد الرحمن استاذ الاقتصاد السياسي المصري وعميد كلية التجارة والاقتصاد -بغداد والاستاذ هوك كونيل والاستاذة افتخار الوسواسي والدكتور علي الوردي والدكتور مصطفى شريف والدكتور علي الحمامي والاستاذة أميرة نور الدين والشيخ محمد رضا الشبيبي والدكتور عبد الجبار العماري والدكتور يوسف حسني والاستاذ عبد المجيد لطفي والاستاذ حميد جواد والاستاذ فؤاد جميل والدكتور يوسف حسني ياشار والاستاذ توفيق السويدي والاستاذ مهدي الملاك والدكتور مكي الواعظ والاستاذ صادق البصام والاستاذ تحسين عبد الجبار المحامي والصيلي عزيز الخياط والدكتور وجيه زين العابدين والاستاذ خليل كنة والاستاذ جلال شاكر والدكتور عبد الاله حافظ والدكتور عبد الحميد عبد المجيد والاستاذ عبد الاحد سليم والاستاذ عبد الرزاق الظاهر والدكتور محمود الامين والاستاذ محمد منير ال ياسين والاستاذ محمد صديق شنشل والدكتور شفيق البابا والاستاذ نجيب محيي الدين والدكتور عبد السلام فهمي والاستاذ شريف يوسف والاستاذ مهدي الملاك والاستاذ يوسف يعقوب مسكوني والاب يوسف سعيد والاستاذ عبد المجيد لطفي والدكتور سليمان حزين والدكتور أ. ج. كرونين والاستاذ رفعت سعيد يولجو والدكتور فخري صالح الدباغ والاستاذ راشد لامي والاستاذ صالح مهدي الشريدة والاستاذ عبد الجبار فهمي والاستاذ ثابت فرحان العاني والاستاذ سليم طه التكريتي وغيرهم .
-2-

رحم الله الاستاذ الدكتور علي الوردي عالم الاجتماع العراقي الكبير الذي كتب بعض المقالات في مجلة "العيادة الشعبية " ؛ ففي العدد الرابع من المجلة والذي صدر في مايس 1952 كتب الدكتور علي الوردي مقالا بعنوان :" هل الزواج نعمة أم نقمة ؟ " قال فيه :" ان الزواج نعمة ونقمة في آن واحد فهو كمصيدة الفئران الداخل فيها يود ان يخرج منها والخارج يود ان يدخل فيها .والواقع ان الزواج كبقية شؤون الحياة له على الاقل وجهان :لامع ومظلم .فالانسان قد ينجذب الى وجهه اللامع ولكنه لايكاد يدخل فيه حتى يذوق من وجهه الاخر ما يذوق ثم يأخذ بالندم ولات ساعة مندم ... لان باب المصيدة قد اغلقت عليه وانتهى الامر ." ومما قاله ايضا ساخرا :" ان الناس في ايام المجاعات يتغزلون برغيف الخبز كما يتغزل شبابنا في هذه الايام بخد الحسناء .وختم الوردي مقاله بالقول :" ان الزواج نعمة ونقمة ولكن جانب النعمة فيه أعم لانه يخلصنا من اناشيد المغرمين وهيام المجانين على الاقل .سهلوا ايها الناس الزواج فقد مللنا هاتيك الانات والحسرات التي لامعنى لها .انقذونا .ويحكم من آهات محمد عبد الوهاب وعويل فريد الاطرش ،فقد نفذ صبرنا وتجرعنا مافيه الكفاية انقذونا ! يرحكم الله " . "ان من سوء حظ البشرية –او حسن حظها ،لاادري ان قيسا او روميو او غيرهما من شعراء الغرام لم ينالوا ما ارادوا وتزوجو بحبيباتهم لما وجدنا اليوم هذه الترهات التي يسمونها أناشيد الغرام والعياذ بالله .ولو ان قيسا تزوج بليلى لربما رأينا هذا الذكاء الخارقينتج لنا عبقريا كإبن سينا او ابن خلدون بدلا من ان ينتج لنا مجنونا يطوف البراري والقفار ويحرق نفسه من حيث لايشعر ثم يموت غير مأسوف عليه " .
وفي عدد حزيران 1952 كتب الدكتور علي الوردي مقالا بعنوان :" المتفرنجون " في مجلة "العيادة الشعبية وكانت تطبع آنذاك (14) الف نسخة تنفذ خلال ايام ..ومما قاله :" ان في هذا البلد طائفة من البشر قد ابتلوا بمرض اجتماعي خطير اولئك هم المتفرنجون .فلا يكاد احدهم يتصل بالحضارة الغربية من قريب او بعيد حتى تراه قد نفخ أوداجه ، وصعر خده ، وأخذ يتفلسف ويتحذلق بالمصطلحات الجديدة .فهو لايكاد يحفظ شيئا من مبادئ العلوم الحديثة حتى اصبح افلاطونا يتعالى على الناس ويزدري من الفقير ويشمخ بأنفه من السوقة فإذا رأرى شحاذا يستجدي الناس انتهره قائلا : لماذا لاتعمل ؟ واذا وجد عاملا كادحا يكسب قوته بعرق جبينه تقززت نفسه وتأفف واخذ يسب الناس على بلادتهم وقذارتهم . ان هؤلاء المتفرنجين بلاء على الامة .وربما كان ضررهم أعم حين يتولون شيئا من امور الدولة ويصبحون موظفين " .
واضاف :" ان البلاء آت من نظرة هؤلاء الى الحياة فهم يعتقدون مثلا بإن الفقير اصبح فقيرا من جراء كسله وتواكله ولو كان جادا حازما عاقلا لوصل في زعمهم الى اعلى درجات الغنى وهم اذا رأوا شخصا قذرا بصقوا عليه واحتقروه وظنوا انه يستطيع ان يكون نظيفا لوشاء .....ثم يصل الدكتور الوردي الى نتيجة فيقول ان علماء الاجتماع وجدوا ان سلوك الفرد ماهو في الحقيقة إلا نتيجة من نتائج البيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها . ويقول ان هؤلاء المتفرنجين يشكلون خطرا على المجتمع العراقي لانهم لايتنازلون لدرسة مشاكله الواقعية ولايسمحون لانفسهم بالنظر فيها .
ان مشاكل المجتمع من فقر أو قذارة أو خرافة لاتعالج بالاحتقار والاستنكاف ...انها تحتاج الى دراسة موضوعية ، ونظر مشفق متواضع .فالقذر لايصبح نظيفا الا بإصلاح ظروفه اصلاحا جذريا وتبديل عقليته تبديلا عميقا .اما الاشمئزاز منه فهو ظلم وتفرنج وغرور يؤدي الى توسيع الشقة بين المثقف والانسان البسيط وهذا داء عضال " .
وفي العدد السادس من المجلة الصادر في تموز 1952 كتب الاستاذ الدكتور علي الوردي مقالا بعنوان :" عباقرة العراق " قال فيه :"ان النبوغ في العراق قليل –وهذه ظاهرة اجتماعية تلفت النظر . فإذا سألت احا لماذا قل النابغون في العراق ؟ اجابك على الفور : لقلة التقدير والتشجيع ! ..وقد اصبح كل مثقف في العراق يشكو من قلة التقدير ، ذلك ان كل مثقف هنا يرى نفسه نابغة ويعتقد انه لايقدر على نبوغه التقدير اللائق ولهذا تراه يأخذ بالتذمر وصب اللعنات على هذا المجتمع العاق الذي لايشجع امثاله من اولي العبقرية والذكاء النادر ولقد صارت هذه العادة راسخة في انفسنا بحيث لايكاد احدنا يمسك بيده القلم فيكتب مقالا او ينظم قصيدة حتى ينثال على من حوله من الناس يلومهم على غباوتهم وعلى قلة فهمهم لما يكتب او ينظم من جلائل الحكم ...وحملة الشهادات العليا عندنا مصابون بما يماثل هذا الداء "ويختم مقاله بالقول : "ان مشكلة مثقفينا في العراق هي ان المنافسة بينهم ضعيفة والتقدير لهم زائد والسبب في ذلك كما المحنا آنفا آت من حداثة عهدنا بالثقافة الحديثة .فالثقافة الحديثة عندنا لاينالها الا القلائل ممن اتعم الله عليهم بقسط من الثروة من الثروة او شيء من الظروف ولهذا نجد المثقف بيننا مدللاعزيزا مرموقا " .وهاجم الدكتور الوردي سياسة انتقاء الطلبة ودعا الى الاهتمام بالكم لان (الكم )اقوى من (الكيف) في انتاج العبقريات .ان انتقاء القليل من الطلبة واحتكار العناية لهم وحدهم يؤدي احيانا الى ما يسمى (ارستقراطية التفكير ) حيث يخلق بيننا طبقة مغرورة من المثقفين لاهم لهم الا التبجح والتفرنج والتأفف من قلة التقدير " .
رحم الله الدكتور الوردي فقد خدم مجتمعه خدمة كبيرة من خلال تشريحه وبيان معايبه ووضع الحلول لمعالجة مشاكله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...