سياسة نيقولا ساركوزي
العربية : متابعة اولية
أ . د . ايراهيم خليل العلاف (1)
وأخيرا فاز نيقولا ساركوزي بمنصب رئيس
الجمهورية الفرنسية وبنسبة 53% من اجمالي اصوات الناخبين الفرنسيين في السادس من
مايس /ايار 2007 ممثلا لما يعرف في فرنسا بيمين الوسط .. وساركوزي ، هنغاري الاب
يهودي الام ، استوطنت عائلته فرنسا منذ اكثر من (50) سنة واصبحت فرنسية الجنسية ،
والذي يهمنا في هذا الحيز هو الوقوف عند سياسته العربية ، خاصة وان آراءه تجاه
سوريا ولبنان وفلسطين كانت معروفة قبل تسلمه الرئاسة الفرنسية .. لكن ما اكده (
الدكتور اولفييه روي) مدير قسم الابحاث بالمركز الوطني الفرنسي للابحاث العلمية
قبل ايام يدعو للتأمل ، اذ قال روي : (( ان سياسة فرنسا العربية سوف لن تتغير
كثيرا بعد وصول الرئيس الجديد الى قصر الاليزيه)) . وقد اوضح في محاضرة القاها في
مكتب شؤون الاعلام لنائب رئيس مجلس الوزراء في دولة الامارات العربية المتحدة ، ان
الرئيس الجديد ساركوزي يضع القضايا العربية في صلب اهتماماته الرئيسية منطلقا من
حقيقة مهمة وهي ان السياسة الخارجية الفرنسية ليست مبنية على أمزجة الرؤساء ، بل
هي راسخة على قواعد مؤسسية . وأضاف ان العلاقات الفرنسية ـ العربية لها جذور
تاريخية عميقة ، وهي متعددة الأوجه فثمة علاقات اقتصادية ، وعلاقات سياسية ،
وعلاقات ثقافية ، لكنه شدد على ان على الدول العربية ان تأخذ باساليب الاصلاح ،
والانفتاح على الغرب وثقافته .
ان تأكيدات روي ، تجيء وسط تخوف كبير تشهده
الساحة السياسية العربية من فوز ساركوزي المعروف بدعمه لاسرائيل وبصداقته القومية
مع الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش واعجابه الشديد به ، سيضع نهاية لحقبة مهمة
من تاريخ فرنسا كانت تقف فيها ، ولو نسبيا
، مع القضايا العربية وتتفهم بعض جوانبها .. والى شيء من هذا القبيل اشار الصحفي
الفرنسي ( باسكال بونيفاس) في مقال له نشر مطلع مايس 2007 ، اذ قال ان عددا من
العرب بدأ يأسف على فترة ( جاك شيراك) والعلاقات الوثيقة التي نجح في نسجها مع بعض
القادة العرب ، حيث يخشى اليوم من ان
تتلاشى العلاقة الخاصة التي كانت تربط فرنسا بالعالم العربي . ويبدو ان المخاوف العربية تستند الى اسس منها
المواقف التي اعلن عنها ساركوزي اثناء حملته الانتخابية ، والمتمثلة بميوله تجاه
اسرائيل . وبالرغم من تأكيدات الاوساط الفرنسية الجديدة على الطابع الثابت
والمؤسسي للسياسة الخارجية الفرنسية ، وانه ليس من السهل تغيير مسارها على نحو
مفاجيء ، فان الخوف لا يزال قائما من ان تنحاز فرنسا الى المواقف الامريكية وتهجر
مواقفها المتوازنة .
وبالرغم من هذه المخاوف ، الا ان عددا من
المسؤولين العرب رحبوا بفوز ساركوزي وبعثوا إليه ببرقيات حملت مضمونا متشابها يركز
على العلاقات التاريخية بين العرب وفرنسا ، والتاكيد على الامل في ان تواصل هذه
العلاقات تقدمها على الاصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية .
يذهب الباحث الفرنسي الكبير الخبير بالقضايا
العربية شارل سان برو Charles Saint-Port مدير مرصد الدراسات الجيوسياسية Observ atoire d'll des gllolitiqnes في دراسة له نشرت في 30 آذار 2007 في مجلة
دراسات جيوسياسية الفرنسية بعنوان : ((السياسة العربية لفرنسا والافاق الاقتصادية
للعلاقات الفرنسية ـ العربية)) الى ان سياسة فرنسا نحو العالم العربي منذ نشأتها
قديما حتى تجديدها وتأكيدها من قبل الجنرال شار ديغول ، ومن خلفه في الرئاسة
الفرنسية ، تستند على قاعدة متينة ، ومباديء قوية حتى انها ، تشكل ما يسميه عامل
توازن واستقلال بالنسبة للعالم العربي )) واضاف
((ان سياسة فرنسا تهدف الى الحفاظ على التوازنات الجيوسياسية الكبرى وتسعى
لحل دائم وعادل للصراعات وخاصة للمسالة الوطنية الفلسطينية )) من اجل حعل المنطقة
اكثر استقرارا وتشجيع التعاون بين جميع الشعوب المعنية )) .
ويتناول سان برو التاريخ الطويل للعلاقات
الفرنسية ـ العربية متعرضا لـ ((المباديء التي توجه هذه السياسة)) مركزا على
" ضرورة مواصلة وتعزيز" سياسة فرنسا العربية ويرى في ((تغيرات العالم ،
وخطر صراع الحضارات )) ما يعزز من ضرورة هذه السياسة باعتبارها ((الاساس الاشد
متانة)) وتفاهم بين الشعوب في شمال وجنوب المتوسط )) . ويخلص سان برو الى التأكيد
على ان السياسة العربية لفرنسا ((ليست فقط ماضيا ، بل مستقبل تزداد ضرورتها يوما
بعد يوم )) .
اما الدكتور وثاب السعدي رئيس مركز الدراسات حول
العراق بفرنسا ، فيرد على اولئك المحللين والسياسيين العراقيين المقيمين في فرنسا
، والذين اجمعوا على ان ساركوزي سيتخلى عن مطلب سلفه جاك شيراك بضرورة جدولة الانسحاب
الامريكي من العراق فيقول ان هناك قواعد وثوابت في السياسة الفرنسية من الصعب
تغييرها نظرا لوجود اجماع حولها ، لكن ، تبقى هناك بصمة خاصة بكل رئيس فيما يتعلق
بتطبيقها . ويضيف السعدي (( اتصور حدوث تقارب جزئي بين واشنطن وباريس على صعيد
الملف العراقي لكنه لايصل الى حد المشاركة او التدخل الفرنسي المباشر في الساحة
العراقية من قبيل ارسال قوات او خبراء او حتى التعاون في حل الازمة )) .
واوضح هذا المحلل السياسي انه يصعب على ساركوزي
التنصل من ثوابت السياسة الخارجية الفرنسية رغم تصريحات لافتة لمعاونين كبار له
بينهم ( بير ليلوش) الذي تحدث عن انتقال اهتمام باريس الى مواقع اخرى في العالم
غير الشرق الاوسط كالصين وروسيا ، ونوه هشام داؤود الباحث في المركز الفرنسي
للبحوث العلمية ، الى ان ساركوزي غير مرشح للاقدام على ادخال سياسات جذرية على
سياسة بلاده الخاصة بالعراق ، والسبب واضح وهو ((ان الرأي العام الفرنسي يرفض هذا
التحول )) فضلا عن ان الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش نفسه بات ((يعاني من ازمة
داخلية جراء الوضع في العراق)) .. كما ((ان هناك عددا من انصار جاك شيراك ضمن
الفريق المحيط بساركوزي واي تغيير جذري في هذا الشان يمكن ان يغضبهم )) لكن هذا
لايمنع ساركوزي من ان يجري بعض التغييرات الحقيقية لكنها سوف تكون طفيفة وليست
بالحدة التي طبقها خلال الحملة الانتخابية تجاه العراق . وتتعلق هذه التغييرات
باسلوب ((تحريك فرنسا باتجاه تدعيم العلاقات مع الولايات المتحدة الشريك الاكبر في
حلف شمال الاطلسي)) . وقد رجح البعض من المراقبين ان ساركوزي يمكن ان يتراجع عن
محاولة الزام الامريكيين بتقديم جدول زمني لانسحاب قواتهم من العراق وهو الامر
الذي كان يلح عليه سلفه الرئيس الاسبق جاك شيراك .
وفيما يتعلق بالموقف الفرنسي من القضية
الفلسطينية ، والصراع العربي ـ الاسرائيلي، فان ساركوزي لم ، يخف ، كما قال حسين
العودات في مقالته الموسومة ، ((سياسة فرنسا العربية)) في جريدة البيان
(الاماراتية) وموقع البلاغ الالكتروني بعد ايام قليلة من تسلم الرئيس ساركوزي
لمهام منصبه ، صداقته لاسرائيل واعتبار (امنها) من مهماته الرئيسية ، وهذا ما صرح
به اكثر من مرة خلال حملته الانتخابية ، وما يؤكد ذلك موقف الناخبين اليهود في
فرنسا الذين اعطوه اكثرية اصواتهم ، وكذلك اصوات من يحملون الجنسية الفرنسية
والاسرائيلية المقيمين في اسرائيل حيث اكتسح ساركوزي 95% من اصواتهم ، فضلا عن تصريحات
المسؤولين الاسرائليين في الحكومة والمعارضة الذين رحبوا بترشيحه باعتباره الصديق
الصدوق ، واول رئيس في فرنسا منذ خمسين عاما يجهر بصداقته لاسرائيل ويخرج عن خط
الديغولية التقليدي في موقفه من اسرائيل .
لكن ساركوزي عاد وبعد ايام من تسلمه رئاسة فرنسا
، واكد ان فرنسا مع قيام (دولة فلسطينية) ومعنى هذا انه لايزال محافظا على الثوابت
الفرنسية ازاء موضوع فلسطين ، وهذا يشبه الى حد ما جرى ايام فوز كل من ديستان
وميتران بمنصب رئاسة فرنسا ، واعتقاد بعض المحللين والسياسيين العرب بانهما
سياخذان فرنسا نحو اليمين اكثر مما كانت عليه ، وانهما سيكونان صديقين لاسرائيل ،
لكن الوقائع اثبتت خطأ هذا الاعتقاد ، ففرنسا ظلت على موقفها ازاء القضية
الفلسطينية ومن الطبيعي ان هذا الموقف يعكس سياسة (دولة) اكثر مما يعكس سياسة (شخص)
، ففرنسا ترى ان مصلحتها تكمن في حفاظها على التوازن في الموقف مما يجري في الشرق
الاوسط عموما وفي المنطقة العربية خصوصا .. ومصلحة فرنسا تقتضي الاستمرار في
السياسة الديغولية التقليدية ازاء فلسطين والعرب .
لقد عارضت فرنسا في عهد شيراك غزو العراق
وتحالفت مع المانيا للوقوف بوجه الولايات المتحدة ، وذهبت اكثر من ذلك عندما ضغطت على بعض الدول الاوربية لتتبنى
الموقف ذاته ، حتى ان العلاقات الفرنسية ـ الامريكية مرت في حينه بازمة شديدة
لكنها سرعان ما تحسنت بعد ادراك الامريكيين ان الدور الفرنسي في الشرق الاوسط
لايمكن اغفاله ، وخاصة في لبنان وسوريا وفلسطين وحتى العراق ، وثمة من يتحدث اليوم
عن تنسيق فرنسي ـ امريكي في العالم العربي .. وفي ضوء هذه المتابعة الاولية
لانعتقد ان ساركوزي سيعمل على تغيير سياسة بلاده ازاء القضايا العربية لكن هذا
الاعتقاد ينبغي ان لايؤخذ على علاته ويتطلب هذا من المسؤولين العرب العمل معا من
اجل توضيح قضاياهم ، وتوحيد مواقفه تجاه ما يجري عربيا واقليميا ودوليا ، واذا ما
شعرت فرنسا ، وغير فرنسا ان الموقف العربي موحد ، وجاد فانها سوف تحسب لهذا الموقف
حسابه ، وأول تلك الحسابات هو حرصها على مراعاة مصالح العرب ومصالحها كذلك ، وعدم
التفريط بما تم بناؤه من علاقات قوية ومتينة وهذا الامر سوف يعود ، بلا شك بالنفع
على الطرفين .
*كتب 29-5-2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق