ارنولد توينبي المؤرخ البريطاني الكبير في العراق 1957
أ.د. إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل
للاهتمام بالمؤرخ البريطاني ارنولد توينبي له مايبرره، فهو معروف بتأييده للحق العربي في فلسطين ،وبتسليطه الضوء على كيفية اغتصابها .. كما أنه يعد من أعظم المؤرخين العالميين في عصرنا الحاضر . وكتابه الموسوم: ( دراسة للتاريخ ) ، من أعظم المصادر التاريخية التي ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين .لذلك يجدر بنا أن نقف عند توينبي ونتابع سيرته الحافلة باقتضاب. فقد ولد سنة 1889 ودرس في جامعة أكسفورد ثم عمل فيها بين سنتي 1912- 1915 .
وفي سنة 1918 عين موظفا في وزارة الخارجية البريطانية. و أسهم كعضو في جلسات مؤتمر الصلح في باريس وفي قسم الشرق الأوسط في الوفد البريطاني. وخلال الحرب العالمية الثانية تسلم منصب مدير قسم الأبحاث والدراسات في" المعهد الملكي للشؤون الدولية" وأستاذا باحثا للتاريخ الدولي في جامعة لندن إلى أن تقاعد سنة 1955 .وفي 22 تشرين الأول سنة 1975 توفي في يورك ببريطانيا عن عمر يناهز الـ 86 عاما.
لتوينبي مؤلفات عديدة أبرزها كتابه( دراسة التاريخ) ويقع في 12 جزءا درس فيه توينبي الحضارات البشرية وأنماطها منذ عصور التاريخ الاولى وحتى السنوات القليلة التي سبقت وفاته . ولقد اختصر " سمرفيل " هذا الكتاب في جزئين ترجما إلى اللغة العربية من قبل الاستاذ فؤاد محمد شبل بتكليف من الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية .
ولقد تعددت مصادر الفكر( التوينبي) وزادت بشكل لايمكن حصره في مقال مقتضبة. ومع هذا أننا لانملك غير الإشارة إلى بعضها. فتوينبي يعد نفسه مؤرخا سعيد الحظ ذلك أن الأوضاع العالمية التي عاش في ظلالها اتاحت له أن يقف على مادة خصبة للدراسة. كما كان ملما باليونانية واللاتينية وهذا ماجعل الثقافة الكلاسيكية أي تراث الفكر اليوناني- الروماني عماد تفكيره والقاعدة الراسخة التي كانت تدعمه دائما.
ولقد أثار كتاب الفكر الألماني ازوالد شبنكلر( سقوط الغرب) في نفس توينبي كثيرا من القلق على مصير الحضارة الأوربية فعكف على دراسة الحضارات السابقة في محاولة لمعرفة عوامل تدهورها وسقوطها.
ومن خلال تفقد توينبي لنظرية شبنكلر تبلورت أفكار توينبي ويقارن الدكتور محمد هادي الحاج مير في مقال له نشر سنة 1962 في المغرب بين المؤرخين فيقول أن شبنكلر يمثل من الناحية الفكرية الشخص الذي جاء يتلو مراسيم تأبين الحضارة الأوربية وهي تدخل قبرها. أما توينبي فهو بمثابة الطبيب الذي يبذل كل جهده لكي ينقذ المريض الذي يرقد على فراش الموت وهو الحضارة الأوربية. وإذا كانت المدرسة الشبنكلرية توصف بأنها( رياضة حتمية ) فان مدرسة توينبي يسندها الأيمان مع عدم التشاؤم إزاء المستقبل. والمجتمعات في نظره ليست- كما يقول شبنكلر - كائنات عضوية .وتوينبي على هذا الأساس ليس فيلسوفا بل مؤرخا قيم الحضارات السابقة على الحضارة الأوربية تقييما علميا موضوعيا، ووحدة الدراسة عنده ليست "القومية" بل هي"الحضارة "التي تنتظم عدة أمم. ويحصى توينبي أحدى وعشرين حضارة ظهرت إلى الوجود لم يبق منها غير خمس حضارات. أما البقية فقد انهارت وتحللت .ومن الوحدات التاريخية لمجتمعات العالم هي: الحضارة المسيحية الغربية( أوربا وأمريكا) الحضارة المسيحية الشرقية الارثودكسية (روسيا ودول البلقان) الحضارة الإسلامية، حضارة الشرق الأقصى، الحضارة الهندية. ويدين تويني للمؤرخ الروسي( دانيلفسكي) في تبنيه هذا الاتجاه.
وتوينبي كذلك يرد الحضارات إلى الأديان ذلك أن الإمبراطوريات ليست هي مقياس الحضارة بل على العكس فهي تمثل بداية مرحلة انهيار الحضارة . ومن هنا فأن الفكرة المسيطرة على توينبي والموجهة له هي العقيدة الدينية والتاريخ الديني بنظره هو المضمون الأساسي للتاريخ البشري ويتلوه العامل المادي في الأهمية .
لقد كان توينبي من أبرز المؤرخين الذين أباحوا لأنفسهم أن يسألوا لماذا ؟ والى أين؟ ولم يكتف بأن يرسم صورة جذابة لماضي الإنسان بل انه رنا ببصره نحو المستقبل. أما لماذا تنهار الحضارات؟ فأن توينبي يقول أن طبيعة الانهيار تكمن في ثلاث مسائل هي :
1-قصور الطاقة الإبداعية في أقلية المجتمع
2- ابتعاد الأكثرية عن محاكاة الأقلية
3- انصراف الأكثرية عن بدل الولاء للأقلية القائدة.
ويرى توينبي بان المحيط السهل لا يخلق حضارة ،بل العكس هو الصحيح فلقد ازدهرت الحضارات في الظروف القاسية وهذه الظروف تشكل ما يسميه توينبي ( التحدي) وتحصل
( الاستجابة) في حالة نجاح المجتمع في مواجهة التحدي. وثمة أيقاع أخر يضاف إلى الإيقاع الأول وهو أن الفرد أو المجتمع أو الأمة قد ينسحب في ظروف معينة ويختفي ليعود أكثر قوة وانسجاما بعد أن يمر بعملية تنقية يسميها توينبي عملية ( الانسحاب والعودة ).
وينتقد توينبي من يقول أن تفسير انهيار الحضارة يقوم على الغزو الأجنبي، ويصر على القول بأن انقسام المجتمع على نفسه دليل انهياره. ويضيف بأن البنية الاجتماعية- بعد تفشي الخلافات الداخلية- تنقسم إلى ثلاثة ولكل منها وظيفة:
الأول: أقلية مسيطرة وهي الطبقة المبدعة
الثاني: البروليتاريا الداخلية وهي الجماهير
الثالث : البروليتاريا الخارجية وهم الغزاة الأجانب.
لقد اشتهر توينبي بموافقة الايجابية من قضية العرب الكبرى وهي قضية فلسطين ولقد تعرض نتيجة لذلك إلى ضغوط الحركة الصهيونية وحلفائها الغربيين وغيرهم .
يقول توينبي عن ( إسرائيل ) والصهيونية (... لقد اتجهوا في تحد واندفاع إلى تحويل أنفسهم إلى عمال بدويين وأصحاب حرف بدلا من وسطاء إلى زراع بعد أن كانوا صيارفة والى محاربين بدلا من تجار والى إرهابيين بعد أن كانوا مضطهدين...)
وكم وقف توينبي يحاجج الصهاينة في المؤتمرات الدولية وغيرها. فهو يناظر في 31 كانون الثاني سنة 1961- مثلا- سفير ( إسرائيل) في كندا ياكوف هيرزوج على أحد مدرجات جامعة ما كجيل في كندا.
قال توينبي: " أن ارض فلسطين ملك لأولئك العرب الذين طردوا من ديارهم ". وخاطب الطلبة اليهود في الجامعة قائلا:" أنكم تطالبون بحق اليهود في العودة إلى فلسطين على الرغم من انه ل يكن هناك في فلسطين سنة 125 ميلادية سكان من اليهود لهم كيان... " . وأضاف: " أن معاملة اليهود للعرب في فلسطين سنة 1947 كانت متشابهة من الناحية الأخلاقية لقتل النازيين لليهود خلال الحرب العالمية الثانية". ولدى زيارته إلى غزة في السنة 1964 قال : " قرارات الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة المتكررة، والتي تعيد تأكيد حق اللاجئين في العودة إلى وطنهم واستعادة ممتلكاتهم- لما تزل ورقة ميتة بينما في نفس الوقت كان تصميم اللاجئين على الظفر بوطنهم المسلوب لا يزال ثابتا لم يتزعزع كل هذا كان ألان كما رايته من قبل وهذا في حده وضع مأساوي، إذ من المرعب المخيف أن يكون المرء لاجئا واسوا قدرا من ذلك أن يولد لاجئا وأشد سوءا من كل ذلك أن يولد ويقضي حياته ثم يموت صارفا أيامه من الطفولة حتى الشيخوخة في احد مخيمات اللاجئين: مخيم اللاجئين ليس إلا زنزانة .. انه ليس قطعة من عالم الناس العاديين الذين يكون لهم فيه بيوت وأشغال يقومون بها".
وقد حمل توينبي بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية ماحدث ويحدث في فلسطين. وكتب بهذا الشأن إلى مجلة يهودية تدعى ( جويش فرو تنير) الحملة الصحفية التي شنتها عليه هذه المجلة ليقول : " باعتباري بريطانيا فاني اشعر شخصيا بهذه المسؤولية"
ويبدي توينبي رأيه في الوحدة العربية فيقول أن الحدود القائمة اليوم أقامتها بريطانيا وفرنسا بصورة مصطنعة لتكون منسجمة ومصالحها الاقتصادية والإستراتيجية والاستعمارية، لا لتلبي حاجات السكان العرب. ويعرب توينبي عن دهشته في سر تمسك العرب بهذة الحدود إلى الآن . وله رأي في حل قضية فلسطين تتلخص بإعادة الفلسطينيين إلى ديارهم وبهذا يعود الحق إلى نصابه.
اريد الآن ان اتحدث لكم عن زيارة المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي للعراق ولمدينتي الكوفة والنجف المقدستين في مثل هذا اليوم 31 اذار سنة 1957 وقد كتب الآثاري والمؤرخ والكاتب المرحوم الصديق الاستاذ سالم الالوسي عن هذه الزيارة وقال في مقالة له نشرتها جريدة (المدى) البغدادية يوم 7-9-2014 :"في سنة 1949 طلبت وزارة المعارف (التربية) من الاستاذ طه باقر امين المتحف العراقي أن يتولى تعريب موجز كتاب (دراسة للتاريخ ) للمؤرخ البريطاني ارنولد توينبي
وكان الكتاب الاصل يتالف من عشرة اجزاء ضخمة اختصرها بجزئين الاستاذ دي. سي سمرفيل .وقد عكف الاستاذ طه باقر على تعريب الجزئين الموجزين لسمرفيل على مدى أربع سنوات معززا الترجمة بالمواشي والتعليقات المفيدة ودفعه للطبع استجابة لطلب وزارة المعارف وفي صيف سنة 1954 طلب الاستاذ طه باقر مني معاونته في الاشراف على طبع الكتاب واعداد الفهارس له فاضطلعت بالمهمة وتم الفراغ من طبعه في بداية سنة 1955 حيث تم طبع الجزء الاول في مطبعة التفيض الاهلية والجزء الثاني في مطبعة المعارف .
ولمواقفه النزيهة الجريئة هذه ولتعاطفه مع القضية العربية ومناصرته للقضية الفلسطينية وهي قضية العرب المركزية اقيمت لذكراه مهرجانات وندوات في عدد من الاقطار العربية منها الاحتفال التكريمي ببغداد في خريف سنة 1977.
ويضيف الاستاذ سالم الالوسي : " في اواخر شهر آذار - مارس سنة 1957 كنتُ اتولى خلالها مهمة رئيس هيئة التنقيب الاثاري في الكوفة التي كانت تقوم به دائرة الاثار العامة العراقية في موقع دار الامارة الواقع خلف مسجد الكوفة التاريخي، حينما حضر الى مقر الهيئة الاستاذ مهدي هاشم قائممقام النجف الاشرف ، وبصحبته الاستاذ نعمان امين رئيس بلدية الكوفة وأخبرا الهيئة ، بان الدكتور ناجي الاصيل مدير الاثار العام اتصل بالقائممقام هاتفيا واعلمه بان المؤرخ البريطاني الكبير ارنولد توينبي سيزور الكوفة والنجف غداً. ورجانا أن نتهيأ لاستقبال الضيف فتشكلت هيئة استقبال من الاساتذة السادة مهدي هاشم ، الحاج محمد سعيد شمسه رئيس بلدية النجف، وسالم الالوسي ونعمان أمين، عادل ناجي الدكتور في ما بعد عضو هيئة التنقيب في الكوفة وفي صباح اليوم التالي تم استقبال ارنولد توينبي عند جسر الكوفة ، وكان يرافقه كل من الدكتور عبد الجبار الجلبي العضو الاجرائي في مجلس الاعمار العراقي ، والاستاذ طه باقر معاون مدير الاثار العام وبعد استراحة قصيرة في مقر هيئة التنقيب قام بزيارة المعالم الاثارية والمشاهد التاريخية في دار الامارة ، وبيت الامام علي بن ابي طالب عليه السلام ومرقد ميثم التمار ، وموقع كري سعدة. ثم تم التوجه الى النجف الاشرف حيث امضى قرابة ثلاث ساعات زار خلالها المدارس الدينية وعددا من المكتبات ، واعجب بنفائس المخطوطات فيها، كما التقى عددا من علماء الدين .
وثمة من يشير الى ان ارنولد توينبي لم يكتف بزيارة الكوفة والنجف الاشرف بل زار وتجول في بعض مناطق الفرات الأوسط.
وهكذا انتهت الزيارة وكانت زيارة ناجحة فرح بها توينبي كثيرا وتركت لديه اثرا كبيرا وافاد منها كثيرا في بعض كتبه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق