غالي شكري :
قوانين النهضة والسقوط
ابراهيم العلاف
من منا لا يتذكر غالي شكري ، هذا الكاتب والباحث والناقد والمـؤرخ
المصري ـ العربي الذي كان معروفا بدأبه ونشاطه الحثيث لتأصيل الفكر العربي المعاصر
.. جيل الستينات من القرن الماضي وحتى أواخر التسعينات .. ملأ غالي شكري الدنيا
وشغل الناس .. في الصحف والمجلات .. في الكتب .. في الأهرام .. كنا نقرأ له وقد
تابعنا حصوله على الدكتوراه من جامعة السور بون في فرنسا وكانت أطروحته قد طبعت
فيما بعد في كتاب حمل عنوان ((النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث)) وقد اشرف
عليها
المستعرب الفرنسي الشـهير جاك بيرك .. في العاشر من أيار
/مايو 1998 .. توفي غالي شكري عن عمر ناهز أل(63) عاما ، ألف خلالها العديد من
الكتب كما كتب المئات من المقالات . وفوق ذلك كان لفترة من الزمن رئيسا لتحرير
واحدة من المجلات المصرية المعروفة برصانتها تلك هي (مجلة القاهرة) ..
كان غالي شكري كاتبا يساريا ناصريا .. ولد في محافظة المنوفية المصرية يوم
12 آذار سنة 1935 وبالرغم من كونه مسيحيا ، إلا انه درس القرآن الكريم بل وحفظه عن
ظهر قلب مع التجويد وهو في السن السابعة من عمره ويؤكد غالي شكري انه ولد وترعرع
في بيئة عربية إسلامية من حيث الثقافة والأعراف الاجتماعية .. تذكره قبل أيام الأستاذ
عزمي عبد الوهاب ، وهو كاتب مصري ، وكتب عنه مقالة في مجلة الأهرام العربي يوم 17
حزيران 2006 بعنوان ((غالي شكري .. لماذا نسيناه ؟!)) .
عمل خلال السنوات الواقعة بين 1956 وحتى 1960 في سلك التعليم ، ثم اختير
سنة 1964 ليكون مديرا لتحرير مجلة الشعر ، بعدها عمل في مجلة الطليعة واصبح مسؤولا
عن تحرير ملحقها الأدبي .. جاء الى القاهرة وتعرف على نخبة من المفكرين وتوجه نحو
قراءة الفكر الماركسي لسنوات ونشر قصصا مترجمة عن الإنكليزية في مجلات منها
الرسالة الجديدة وقصة . وأول كتاب له كان
عن خاله الكاتب المصري المعروف (سلامة موسى) وهو بعنوان : ((سلامة موسى وأزمة
الضمير العربي)) . وبعدها اصدر كتاب ((أزمة الجنس في القصة العربية )) وقد فصل مع
(120) كاتبا وباحثا وأستاذا جامعيا بعد توقيع لمعاهدة كامب ديفيد وجاء إلى العراق وأصدر
(مذكرات
الجيل الضائع)
وبعدها ذهب إلى لبنان وسافر إلى فرنسا وأكمل دراسته وحصل على الدكتوراه ثم درس في
الجامعة التونسية ، وعاد إلى مصر وظل يواصل كتابة مقاله الأسبوعي في جريدة الأهرام
حتى إصابته بجلطة في المخ ونقله إلى فرنسا للعلاج ثم وفاته رحمه الله ..
لغالي شكري كتب كثيرة ، منها (شعرنا الحديث إلى أين ؟ دار المعارف ،
القاهرة /1968) ، و(المنتمي : دراسة في أدب نجيب محفوظ ، دار المعارف ، القاهرة ،
1969) و (مذكرات ثقافة تحتضر ، دار الطليـعة ، بيـروت ، 1970) و (
ذكريات الجيل الضائع ، وزارة الإعلام العراقية ، بغداد ن1971) و ( ثقافتنا بين نعم
ولا ، دار الطليعة ، بيروت ،1972) و ( أدب المقاومة ، دار المعـارف ، القاهرة ،
1970) ، و (التراث والثورة ، دار الطليعة ، بيروت ،1973) ، و (عروبة مصر وامتحان
التاريخ ، دار العودة ، بيروت ،1954 ) و (من الأرشيف السري للثقافة المصرية ، دار الطليعة
، بيروت ،1975) و (ماذا يبقى من طه حسين ،
دار المتوسط ، بيروت ،1974 ) ، و (عرس الدم في لبنان ، دار الطليعة ، بيروت،1976)
و ( العنقاء الجديدة : صراع الأجيال في الأدب المعاصر ، دار الطليعة ، بيروت
،1977) .دكتاتورية التخلف العربي :مقدمة في تأصيل سوسيولوجيا المعرفة ،دار الطليعة
،1986 ،عروبة مصر وامتحان التاريخ ،دار الأفاق الجديدة ،1985 ،نجيب محفوظ من
الجمالية إلى نوبل د ،دار الفارابي ، 1992 ،مواويل الليلة الكبيرة ،دار الطليعة ،
1985 ،مرآة المنفى :أسئلة في ثقافة النفط والحرب ،دار رياض الريس ،1999 ،برج بابل
: النقد والحداثة الشريدة ، رياض الريس ،1993 ، توفيق الحكيم : الحيل والطبقة
والرؤيا ،دار الطليعة ،1986 ،بوم طويل في حياة قصيرة ،دار الأفاق الجديدة ، 1999 ،غادة
السمان بلا أجنحة ،دار الطليعة ،1985 .
في سنة 1978 اصدر كتابه (النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث) عن دار
الطليعة ببيروت . والكتاب كما قال الأستاذ غالي شكري في حينه ، هو المجلد الأول من
مشروع عمل مستمر واكب عليه منذ عشر سنوات وعده مدخلا لسوسيولوجيا الثقافة العربية
المعاصرة . والكتاب كذلك هو النص الكامل للأطروحة باللغـة الفرنسية التي نال بها
درجة الدكتوراه والعـنوان بالاصـل الفرنسـي هو :
( النهضة والسقوط في الفكر العربي الحديث :
دراسة نقدية مقارنة بين عصري محمد علي وجمال عبد الناصر)) وقد أراد غالي شكري أن
لا يتوقف عند ظاهرة النهضة في الفكر العربي بقدر ما أراد اكتشاف قوانين النهضة
والسقوط معا ، وهما الظاهرتان المتلازمتان في مختلف مراحل تاريخنا المعاصر .
كان اختيار عصر محمد علي باشا (1805 ـ1843) وعصر جمال عبد الناصر (1952
ـ1970) إطارا للبحث ، اختيارا لنهضتين سقطتا بعد ((إنجاز)) تحقق على ارض الواقع ،
وقد وضع غالي شكري يده على ان من ابرز المؤثرات في نهضة وسقوط النظامين هو
(العلاقات الدولية وتوازن القوى العالمي) . وفي نطاق سؤال النهضة وجواب السقوط فان
ثمة ثوابت كان لابد من أخذها بنظر الاعتبار منها ان الحملة الفرنسية على مصر ليست
هي محور النهضة التاريخي بل هي من العوامل المساعدة ، أما العامل الرئيسي فهو
العنصر الداخلي الحاسم في التطور ، وقد استخلص غالي شكري من التاريخ
الاجتماعي العربي بضعة ثوابت منها ان البناء الطبقي للمجتمع كلما تأكدت مركزية
الدولة ، لا يسمح بالحروب الأهلية ، بل يسمح بالانقضاض على السلطات او على الغزو الأجنبي
.. كما ان عروبة مصر كانت تعني تقدما في الأسس المادية لنهضة المجتمع ، بينما
اقليميتها تعني الهزيمة العسكرية والتخلف الاقتصادي والتبعية للأجنبي والانحطاط
الفكري وان الديموقراطية تعني في التاريخ الاجتماعي للثقافة العربية ، دعم التيار الأكثر
تقدما . وان ادوار الجيش والمثقفين والدين من ابرز الأدوار ، سلبا وإيجابا ، في
قيادة النهضة وسقوطها ، وان النهضة العربية لا تزال منذ كانت في صدر الإسلام حوارا
مع الآخر ، لا مجرد إحياء للقديم ، وأخيرا فان العرب ، وان كانوا اليوم متخلفين
بالمعايير الاقتصادية والتكنلوجيا للتقدم ، إلا أن العناصر الكامنة فيهم عناصر حية
في نسيج مجتمعهم الذاتي ، بينما عناصر القهر الحضاري دائما خارجية أولا وعابرة
ثانيا . وللأسف فان العامل الخارجي يظل يلعب دورا استثنائيا في سقوط نهضتهم ، وكل
ما يتطلب لكي يدخلوا التاريخ ثانية ، ان يبحثوا داخل أنفسهم ومجتمعهم عن (العامل
الداخلي) الذي يحدد سر نهضتهم من جديد ، هذا قدر الأمة مع النهضة والسقوط ، كأي
بطل تراجيدي تحمل الثورة في أحشائها جنين الثورة المضادة ، ويحمل نظام الثورة
المضادة في داخله مقومات الثورة وفي كل دورة من دورات التاريخ ، تستضيف الأمة
عنصرا جديدا وفي العمق دائما يتفاعل التاريخ ، بهزائمه وانتصاراته ، مع مكونات
الحاضر ومقومات المستقبل .. تلك هي رؤية
غالي شكري إلى عوامل النهضة ومعاول الهدم والسقوط ،وهي يقينا تحتاج إلى دراسات
معمقة وفكر وقاد وعين ثاقبة وقلم حر وعسى أن نجد يوما من شبابنا من يقوم بذلك
..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق