الدكتور عبد العزيز الدوري ودوره في تطوير علم التاريخ عند العرب
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث -جامعة الموصل -العراق
أجاب احد النقاد قبل سنوات على سؤال يتعلق بأهم ما أنجزه العرب في التاريخ المعاصر وطيلة القرن العشرين قائلا : أنهم قدموا إنجازات في تطوير علم التاريخ من قبل مؤرخين عراقيين مشهورين هما الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري ، والأستاذ الدكتور صالح احمد العلي . والدكتور الدوري مؤرخ متميز ومرب فاضل وإداري وقيادي جامعي من الطراز الأول . رأس جامعة بغداد ردحا من الزمن ، فكان له دور فاعل في تطويرها ووضعها في مكان لائق بين جامعات العالم .
الدوري علم من أعلام التاريخ الإسلامي ، وصاحب مدرسة تتميز بالدقة والعمق وسعة الموضوع والاهم من ذلك هو تركيزه في دراساته على (العوامل الاقتصادية) في فهم حركة التاريخ والمجتمع .
ولد الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري في بغداد سنة 1908، وبعد أن أكمل دراسته الثانوية ، حصل على بعثة علمية في المملكة المتحدة ، فسافر إلى لندن ونال شهادة البكالوريوس من جامعتها سنة 1940 . واستمر في دراسته وحصل على شهادة الدكتوراه سنة 1942 ولما عاد إلى بغداد عين مدرسا للتاريخ الإسلامي في دار المعلمين العالية ( كلية التربية حاليا) في بغداد . وقد بقى فيها حتى رقي إلى مرتبة أستاذ .
أصبح رئيسا لدائرة التاريخ في جامعة بغداد ، فعميدا لكلية الآداب والعلوم من 1949 ـ 1958 ورئيسا لجامعة بغداد 1962 ـ 1966 .
ولم تقتصر جهود الأستاذ الدكتور الدوري العلمية على بلاده ، العراق ، إنما عمل أستاذا زائرا في جامعة لندن بين سنتي 1955 ـ 1956 وأستاذا زائرا في الجامعة الأمريكية في بيروت 1959 ـ 1960 واستقر أخيرا أستاذا للتاريخ في الجامعة الأردنية بعمان .
للدكتور الدوري مؤلفات عديدة طبع الكثير منها طبعات كثيرة منها :
1 . العصر العباسي الأول ( بغداد 1943)
2 . دراسات في العصور العباسية المتأخرة ( بغداد ، 1945)
3 . مقدمة في تاريخ صدر الإسلام (بغداد ، 1950)
4 . تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري (بغداد ، 1948)
5 . النظم الإسلامية (بغداد ، 1950)
6 . دراسات في علم التاريخ عند العرب ، (بيروت ، 1960)
7 . الجذور التاريخية للقومية العربية ، (بيروت ، 1960)
8 . تفسير التاريخ مع آخرين ، (بغداد ، لا .ت )
9 . التكوين التاريخي للأمة العربية : دراسة في الهوية والوعي (بيروت ، 1984)
10 . الجذور التاريخية للشعوبية ، ط1 ، ( بيروت ، 1962) وط2 (بيروت ، 1980)
11 . ناصر الدين الأسد بين التراث والمعاصرة ، ( بيروت ، 2002)
12 . نشأة علم التاريخ عند العرب ( طبعة جديدة ، 2005)
كما أن له إسهامات فاعلة في كتابة التاريخ الموسوعي العالمي .. ومن ذلك انه كتب موادا عديدة في موسوعات عالمية منها مثلا ( دائرة المعارف الإسلامية ) منها مواد (بغداد) ، (الانبار) ، ( امير) ، (ديوان) ، (عامل ) ، وغيرها . كما كلف من قبل منظمة التربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) ، لتحرير مشروع كتاب عام يتناول (تاريخ الامة العربية) والمشروع لم يستكمل بعد .
يعتمد منهج الدوري في تدوين التاريخ على الرجوع إلى المصادر الأصلية ومحاكمتها محاكمة منطقية ، واستخلاص الحقائق التاريخية منها . لذلك اتسمت كتاباته بالدقة والعمق . وقد اهتم بالتاريخ الاقتصادي منذ بواكير حياته العملية وهو يرى بان موضوع التاريخ ، موضوع حي ، ولذلك ينتظر أن تختلف الآراء حول مفهومه ، وأسلوب كتابته وتفسيره ، هذا فضلا عن انه موضوع يتصل بصورة وثيقة بالاتجاهات الفكرية والتطورات العامة ، فيتأثر بها وقد يكون له أثره في بعضها . ويؤكد بان ثمة صلة بين المؤرخ وحقائق التاريخ ، فالمؤرخ دون حقائق لا جذور له والحقائق دون مؤرخ مجردة من الحياة والمعنى .
ويقول الدكتور الدوري ان المؤرخين العرب القدامى قدموا تفاسير عديدة للتاريخ العربي وللتاريخ البشري كله ، فهناك من رأى بان التاريخ تعبير عن (المشيئة الإلهية) المتمثلة بتوالي الرسالات . وهناك من قال ان التاريخ تعبير عن دور ( النخبة) . وفسر آخرون التاريخ تفسيرا أخلاقيا , وأخيرا جاء عبد الرحمن بن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي ليفسر التاريخ تفسيرا حضاريا اجتماعيا . ويضيف الدوري الى ذك قوله ان ( التفسير الاقتصادي ) لايعني بالضرورة (التفسير المادي) . ومع انه كان يدرك بان البعض من المؤرخين ذهبوا في كتاباتهم الى التركيز على ( الوعي القومي) و(النزعة القومية) وحتى هو نفسه اتهم بذلك الا انه في نهاية الامر لايحبذ الالتزام بـ ( فلسفة تاريخية معينة وتطبيقها على التاريخ ) . فالفلسفات التاريخية ، برأيه ، رهينة بظروف نشأتها وقد يؤدي تطبيقها الى قسر التاريخ ليماشيها والى إخراجه عن نطاقه ، فنحن ، يقول الدوري ، ((حين ندرس تاريخنا نريد فهمه وبالتالي تكوين فكرة واضحة عن جذور حاضرنا ، وفهم امكانياتنا وتقدير دورنا في سير البشرية)) .
ان مثل تلك الدراسة تتطلب ، لتكون جدية ، توفر عناصر عديدة ، منها ان لا تكون دراسة خارجية أي من قبل أناس من خارج المجتمع العربي ، وان ندرس تاريخنا بروح النقد والتفهم في أن واحد ، ومعنى هذا انه لا يريد إضفاء القدسية على هذا التاريخ فهو تاريخ بشر . وأخيرا يؤكد الأستاذ الدوري ، على ان التاريخ العربي عج بالتيارات والاتجاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والنفسية وقد مر بفترات توثب وفترات ركود .
لقد تمتع الأستاذ الدوري بمكانة متميزة ، حتى انه لقب بـ ( شيخ المؤرخين العرب) . كما نال الكثير من التكريم وقد قال عنه المؤرخ البريطاني والمتخصص بتاريخ الشرق الأوسط ، برنارد لويس ((انه أي الدوري أصبح حجة في موضوعه .. بل هو نفسه قد غدا وثيقة تاريخية )) .
لم يكن الدكتور الدوري ، وما يزال ، بعيدا عن النشاطات الثقافية والسياسية والفكرية العربية ، بل كان يشارك فيها باحثا ومناقشا ومحاورا وقد عرف عنه انه لايتعصب لرأي حتى انه وعد في السنوات الاخيرة ومن خلال مؤتمر عالمي حضره ، انه سيعيد النظر في موقفه من الحركة الشعوبية .. وحتى دراساته ذات الطابع القومي فانها اتسمت بالبعد الانساني فكان يركز على المنجزات العلمية للعرب على المستوى الانساني .
لقد كان الدوري في كل كتاباته يؤكد بان تاريخ الأمة العربية كل متصل مترابط ، يكون سلسلة حلقات يؤدي بعضها إلى بعض .. أما حاضر الأمة فهو نتاج سيرها التاريخي وبداية طريقها إلى المستقبل ، ولذا فلا انقطاع في التاريخ ولا ظاهرة تبدو فيه دون جذور وتمهيد . كما أن الاتصال في تاريخ الأمة لايعني ان التاريخ حركة رتيبة ، أو أن الأمة سارت بالخطوات نفسها خلال تاريخها ، بل أن فيها فترات تزخر بالحيوية والتوثب وأخرى تتصف بالحركة التدريجية والتطور الهاديء . ولكل امة فتراتها الثورية ، هي في الواقع انطلاق صاخب لقوى تجمعت خلال فترات من الكبت أو من التطور السريع الواسع او هي تعبير عن غليان داخلي انفجر في ثورة صاخبة ، وقد تكون لهذه الفترات آثارها البعيدة في الفترات التي تعقبها او في فترات تالية . ومن هنا تتباين فترات تاريخ الامة في مسيرتها عبر العصور ، فقد يكون اثر فترة بعيدة أقوى في حاضر الأمة من فترة قريبة من هذا الحاضر ..
وحول التطور التاريخي للأمة العربية ، يرى الدكتور الدوري ان ثمة عناصر او عوامل أسهمت في هذا التطور منها :
1 . الحركة الإسلامية
2 . خروج العرب بالفتوح وانتشارهم
3 . تكوين الثقافة العربية
4 . التحولات الاجتماعية والاقتصادية وأثرها في التكوين
5 . مشكلة السلطة والصراع السياسي والفكري
6 . ظهور مفهوم الأمة العربية في الإطار الثقافي كنتيجة لتشابك العناصر المذكورة ويؤكد الدكتور الدوري بان ((العروبة والإسلام كانا مصدر الحركة والحيوية في تاريخ المجتمعات العربية الإسلامية )) .
يظل الأستاذ الدكتور الدوري ، بحق ، رائدا من رواد التحليل التاريخي ـ الاجتماعي كما يقول الدكتور غانم الرميحي . ندعو من الله عز وجل ان يمد بعمر أستاذنا الدوري ويوفقه لاستكمال رسالته التاريخية والتربوية خدمة للعراق وللأمة العربية وللإنسانية جمعاء وحسنا فعل مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عندما أقدم على إصدار الأعمال الكاملة للدكتور الدوري ففي ذلك فائدة كبيرة لحركة التاريخ والمؤرخين . كما ان من المناسب الإشارة إلى أن منتدى عبد الحميد شومان في عمان بالأردن قد أقام ندوة موسعة تكريما للأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري سنة 1999 باعتباره ((يعد بحق من ابرز الذين وضعوا الأسس الحديثة لإعادة قراءة التاريخ العربي بمنظور جديد)) . وقد قام الدكتور احسان عباس بجمع وتحرير البحوث التي ألقيت في تلك الندوة ثم اقدمت المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2000) ببيروت على نشرها بعنوان : ((عبد العزيز الدوري : إنسانا ومؤرخا ومفكرا )) .
ومن البحوث التي ضمها الكتاب ، بحث المرحوم الأستاذ الدكتور صالح احمد العلي الموسوم : ((الدكتور عبد العزيز الدوري : سجاياه الأصلية وعمله )) وبحث الأستاذ الدكتور فاروق عمر فوزي الموسوم : (( محاورة منهجية حول مساهمة الدوري في تفسير التاريخ العربي الإسلامي في ضوء التفاسير التاريخية ، وبحث الدكتور مسعود ضاهر الموسوم : (( مساهمة الدوري في تطوير الفكرة العربية )) .
وقد اختتم الدكتور الدوري الاحتفالية التكريمية له بكلمة مهمة وقيمة تعكس رؤاه التاريخية أكد فيها ((ان كتابة التاريخ لا يمكن أن تكون خارج سياق تيارات الحاضر وهمومه ، وهذا يصدق على التاريخ الإسلامي وكتابة التاريخ الحديث ، فتلميذ التاريخ ابن بيئته في الأساس ينطلق من الماضي إلى الحاضر وبالعكس ، ويختار موضوعاته ويفسر مشاكله بمفاهيم عصره )) .
وفي يوم الجمعة 15 كانون الأول 2000 منحت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم جائزتها التقديرية للثقافة العربية للدورة 2000 للمؤرخ الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري نظرا ((لجهوده في دراسة الفكر القومي وجذوره التاريخية ولتأكيده على إبراز علاقات الشعوب العربية بالأمم والشعوب والثقافات الإسلامية ، ولاهتمامه بدراسة النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الحضارة العربية والإسلامية )) . وقد ألقيت في احتفال التكريم الذي تم في بيروت كلمات منها كلمة الدكتور خير الدين حسيب مدير عام مركز دراسات الوحدة العربية قال فيها : (( ان الدوري (81) عاما هو نموذج رائع للعلم الملتزم الذي يخدم المبدأ ولا يستخدمه .. العلم الذي ينفع الناس فيمكث في الأرض لا العلم الذي يفيد صاحبه فيمكن أن يذهب جفاء ، كان الدوري نموذجا للعلم الذي يهب نفسه لخدمة قيم إنسانية ومثل عليا ، فضلا عن أن يجعل العلم باستمرار في خدمة المجتمع )) .
*الرجاء زيارة مدونة الدكتور ابراهيم العلاف ورابطها التالي :
http://wwwallafblogspotcom.blogspot.com/2010/02/1908-1995.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق