محمد أنيس (1921 – 1986 ) والتوجه الاقتصادي- الاجتماعي في دراسة التاريخ الحديث
أ.د. إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث-جامعة الموصل
في مطلع السبعينات من القرن الماضي (1974)، انتدب الأستاذ الدكتور محمد أنيس للتدريس في جامعة بغداد ، وقد عرفته منذ ذلك الوقت ، وكنا نستمع إلى محاضراته التي كان يلقيها على طلبة الدراسات العليا في الحلقات النقاشية (داخل قسم التاريخ بكلية الآداب) ،بكل شغف واهتمام ، لما كانت تحمله من مضامين جديدة ، وتحليلات دقيقة لمجريات الحياة السياسية العربية المعاصرة .
وكنا قد اطلعنا على بعض كتبه التي أثارت الانتباه في مصر، فدارت حولها الكثير من النقاشات، واذكر من هذه الكتب ، كتابيه: ( حريق القاهرة ) و ( 4 فبراير 1942) و في هذه الكتب وضع الدكتور محمد أنيس كل ما يملك من خبرة تاريخية للوصول إلى الحقيقة ، وكما هو معروف فانه في الكتاب الأول ألقى اللوم ومسؤولية الحريق على المخابرات البريطانية والقلم السري في وزارة الداخلية المصرية الذي كان يعمل لحساب القصر ، نافياً فيه الشبهة عن احمد حسين وحزبه حزب مصر الاشتراكي . أما في الكتاب الثاني فقد برأ مصطفى النحاس من تهمة العمالة لبريطانيا وقال إن ما قام به السفير البريطاني مايلز لامبسون وإجباره الملك فاروق على استدعاء مصطفى النحاس لتشكيل الحكومة في 4 فبراير سنة 1942 يجب أن يفهم في إطار ظروف الصراع الدولي في الحرب العالمية الثانية حول قضية الديمقراطية وحاجة بريطانيا إلى حكومة قوية تستند إلى دعم شعبي كبير ، ولم يكن غير الوفد وزعيمه مصطفى النحاس قادر على تحقيق ذلك . هذا فضلاً عن أن حزب الوفد نفسه، كان يراهن على انتصار الحلفاء وهزيمة المحور وشيوع المبادئ الديمقراطية التي كان الحلفاء يدعون إليها .
وكانت مقالات الأستاذ الدكتور محمد أنيس في مجلة الهلال (المصرية) العريقة تجذبني ، إليها بعمق وقوة ، فهو لا يتحدث إلا في ضوء ما يعثر عليه من وثائق ، وحديثه دائما كان يدور حول مفاهيم (اليسار) ، و ( التقدم) و ( الاشتراكية) و ( التحولات الديمقراطية ) و ( البنى الاقتصادية – الاجتماعية) ،و ( ضرورة التحول نحو المجتمع الاشتراكي الديمقراطي ) .. ومن هنا اهتم بالمؤرخ المصري الكبير عبد الرحمن الجبرتي ،وكان يرى بان هذا المؤرخ ،الذي عاصر انتقال مصر من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث اثر الغزو الفرنسي لمصر سنة 1798 ،ومجيء محمد علي باشا إلى سدة الحكم ، جدير بالاهتمام لذلك كتب عنه المقالات العديدة وجلب إليه الانتباه ،ولعل مقالته التي نشرتها الجمعية التاريخية المصرية سنة 1974 بعنوان :( الجبرتي ومكانته في مدرسة التاريخ المصري ) من أبرز ما قدم عن ها المؤرخ الحصيف .
ولد الأستاذ الدكتور محمد أنيس يوم 21 آب -أغسطس سنة 1921 وأكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والإعدادية ،ثم دخل قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة عين شمس، وتخرج حاملاً ليسانس تاريخ بدرجة الشرف ثم أرسل إلى جامعة لندن وحصل على الدكتوراه سنة 1950 وتوفي في 28أيلول-سبتمبر سنة 1986 .
لقد كان المجتمع العربي عامة والمجتمع المصري خاصة من المحاور المهمة التي توقف عندها الأستاذ الدكتور محمد أنيس، وكان يقدم لمؤلفاته ، بكتابة سلسلة من المقالات في الصحف والمجلات ، وابتدأ -منذ مطلع الستينات من القرن الماضي -بولوج هذا الميدان عندما كتب سلسلة مقالات في مجلة الكاتب ، ثم جمعها في كتاب مستقل صدر سنة 1968 بعنوان :(( التطور السياسي للمجتمع المصري الحديث )).
ألقى صديقنا العزيز الأستاذ الدكتور عاصم الدسوقي ، وكان عميد كلية الآداب _ جامعة أسيوط يوم 12 تشرين الأول / أكتوبر سنة 1986 ،كلمة في حفل التأبين الذي أقامته (الجمعية المصرية للدراسات التاريخية) ، ثم نشرت الكلمة في مجلة المؤرخ العربي التي يصدرها اتحاد المؤرخين العرب ( السنة 14 ، العدد 40 ، 1989 ) بعنوان : (( محمد أنيس ودوره في تعقيل دراسة التاريخ بالجامعة المصرية 1950 1986 )) قال فيها أن الأستاذ الدكتور محمد أنيس (( كان يعلم أن الوصول إلى الحقيقة التاريخية لا يتم إلا بالاستناد إلى الوثائق بالمعنى المصطلح عليه بين المؤرخين ، والمتمثلة في الأوراق الخاصة والمذكرات الشخصية والمراسلات الرسمية ، وان استخراج المعلومات الجزئية من هذه الوثائق ، وربطها معاً في إطار إحدى الفرضيات يصل به في النهاية إلى الحقيقة التاريخية، بشأن المسألة التي يعالجها ، لان الوثيقة ، في حد ذاتها ، لا تصنع الحقيقة التاريخية ، وإنما يصنعها عقل المؤرخ الواعي )) .
إن اختيار الأستاذ الدكتور محمد أنيس للوثائق وتصنيفها ونشرها لا ينطلق من عملية ميكانيكية بل يخضع إلى اعتبارات إنسانية ووطنية ، فهو يهدف إلى تعميق وعي القارئ بالقضايا الوطنية والقومية وبما يساعد على استخدام التاريخ وسيلة للبناء والتقدم .. ولم يقف، رحمه الله ، عند هذا الحد بل راح من خلال مقالاته اليومية في الصحف يدعو إلى الاهتمام بالوثائق ،وحفظها ،وتسهيل امتداد يد الباحثين وطلبة الدراسات العليا لدراستها والاستفادة منها . كما بدأ حملة لنشر المذكرات، والأوراق الشخصية للسياسيين وغيرهم وقد ساعده على ذلك تأسيس مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر سنة 1967 التابع للهيئة العامة للكتاب في مصر ، ومن خلال هذا المركز ، وعبر محاضراته وحلقاته النقاشية التي كان يقيمها مع طلابه استطاع قيادة حملة وطنية واسعة النطاق للاهتمام بالتاريخ ، دراسة وتدريساً ليس في الجامعات وحسب ، بل وحتى على صعيد قاعات الدرس في المدارس وصفحات الجرائد والمجلات وفي الندوات والمؤتمرات التي كان يحضرها داخل مصر وخارجها ولقد كان من نتائج هذه الحملة ، صدور كتب ومؤلفات تاريخية كثيرة ، كما توسعت الدراسات العليا التاريخية واتجه الطلبة في أقسام التاريخ إلى سبر غور التاريخ المصري والعربي والعالمي لتناول موضوعات لم تكن مألوفة من قبل ، ولو أردنا إحصاء الرسائل والأطروحات التي اشرف عليها الأستاذ الدكتور محمد أنيس، والكتب التي ألفها والدراسات والمقالات التي نشرها لصعب الأمر علينا ، لكن مما ينبغي قوله في هذا الصدد أن محاولات الأستاذ الدكتور محمد أنيس تركزت على ضرورة كتابة التاريخ وفق المنهج العلمي التقدمي الذي لايكتفي بملاحقة الظاهرة السياسية وحسب بل والظواهر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
وقد يكون من المناسب الإشارة إلى الكثير مما أكد ذلك ففي محاضراته التي ألقاها في المعهد العالي للدراسات الاشتراكية في سنة 1965 قدم دراسته المهمة عن تطور المجتمع المصري من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الاشتراكية .أما في الندوة التي نظمتها الجبهة المصرية للدراسات التاريخية أواخر تشرين الثاني_ نوفمبر وأوائل كانون الأول / ديسمبر سنة 1965 فقال إن ما كتب عن تاريخ مصر في الماضي كان يهتم بالحكام والدولة ، أما اليوم فلا بد أن يكون للشعب نصيب من التدوين التاريخي ، وبدون أن يتم ذلك ، فان حركة كتابة التاريخ تظل مقتصرة على جانب واحد منها ، فالتاريخ أولا وأخرا هو حركة الإنسان في الزمان والمكان .. وهذه الحركة غير محددة بعامل أو عنصر واحد .
بين سنة 1921 ، وهو تاريخ ولادة محمد أنيس و 1986 وهو تاريخ وفاته ، رحمه الله ، امتد نشاطه، واتسعت خطواته، وانتشر تأثيره ،واكتمل بنيانه فصار علماً من أعلام مصر ورائداً من رواد الرؤية الاقتصادية _ الاجتماعية في المدرسة التاريخية العربية .. ومما يخفف عنا فقدانه انه خلف تراثاً وترك تلاميذاً ومحبين يعتزون بما قدمه .ونحن في العراق يسعدنا- كمؤرخين وطلبة تاريخ- أن الأستاذ الدكتور محمد أنيس الذي عاش في بغداد، فترة من الزمن، اهتم بتاريخ العراق، وارتبط بصداقات مع مؤرخيه، وسياسييه، ومثقفيه، وكتب في موضوعات مهمة. فلقد كتب عن حادثة الأميرة عزة ودورها في انقلاب الفريق بكر صدقي، وكتب عن اليسار في العراق وجماعة الأهالي الليبرالية –الاشتراكية وأتذكر أن أستاذي الكبير الأستاذ الدكتور فاضل حسين كان يحبه ويلتقي به يوميا في مكتبه بقسم التاريخ بكلية الآداب –جامعة بغداد . كما أن الدكتور محمد أنيس ، شجع السياسي العراقي ناجي شوكت والذي سبق أن شغل منصب رئيس وزراء في العهد الملكي،على كتابة مذكراته، ونشرها وهي مذكرات مهمة تلقي أضواء على تاريخ العراق المعاصر .رحم الله محمد أنيس وجزاه خيرا على ماقدم لبلده وأمته .
*الرجاء زيارة (مدونة الدكتور إبراهيم العلاف )ورابطها التالي :
http://wwwallafblogspotcom.blogspot.com/2010/02/1908-1995.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق