فؤاد التكرلي وتأريخ العراق المعاصر
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
جامعة الموصل -العراق
قلة من الكتاب العراقيين ، هم من انصرفوا لتوثيق تاريخ العراق المعاصر ، قصصيا ، وروائيا ، ومسرحيا ،ولعل ذو النون ايوب، وفؤاد التكرلي، وعبد الخالق الركابي أبرزهم على الاطلاق .. فؤاد التكرلي ، كتب روايته الاولى (بصقة في وجه الحياة) سنة 1949، وكتب روايته الاخيرة (اللاسؤال واللاجواب) سنة2007 وبين 1949 و2007 وقعت في العراق الكثير من الاحداث في الرواية الاولى أرخ لاوضاع الحرب العالمية الثانية وانعكاساتها على نفسية المواطن العراقي وواقع مجتمعه .
وفي الرواية الاخيرة أرخ لسنوات العراق الصعبة ايام الحصار القاسي الذي شهده العراق طيلة المدة من 1990 وحتى 2003 . ولم يتورع التكرلي من ان ينتقد السلطة في العراق ومشاكلها ايا كانت .. فعلى سبيل المثال كان التكرلي جريئا في روايته (المسرات والاوجاع)، هذه الرواية التي صدرت عام 1999. والتكرلي في تشريحه للمجتمع العراقي ووضعه اليد على معايبه ومشكلاته ، كان أديبا واقعيا صادقا لهذا لم يتعرض لاي مضايقة او ملاحقة ، هذا فضلا عن ان السلطة في كل مراحل تاريخ العراق كانت تعرف بان التكرلي ، وهو قاص نبيل ومعروف ، واحد من رجالات القصة والرواية والابداع لذلك لم يكن من الصواب ان تتعرض له لأي سبب من الاسباب لابالعكس كانت تقدره وتضعه في المكان الذي يستحق . قال الناقد ماجد السامرائي في حوار له مع التكرلي نشرته الحياة (البيروتية) يوم 26 تشرين الاول 2003: ((ان الرؤية الاجتماعية الواقعية هي التي أطرت ادب التكرلي القصصي والروائي والمسرحي)) كما انها ((كانت دافعا لاحداث التنوع فيه)). أما الناقد ناطق خلوصي فكتب مقالة بعنوان : ((مدرسة التكرلي في الابداع)) منشورة على موقع قناة الشرقية ( الفضائية) جاء فيها ان التكرلي أول من تناول موضوعة الجنس في روايته تناولا مباشرا وصريحا احيانا ، مع ان الاقتراب من هذه الموضوعة كان يصطدم بالمحرمات الدينية والاخلاقية والاجتماعية .. ويقينا انه استفاد من عمله ، كقاض ومن هنا فان تعامله مع شخصياته ، كان تعاملا وفق منظور نفسي ـ اجتماعي .. فهو يعطي للعوامل والظروف الاجتماعية والاقتصادية ما تستحقه من اهتمام ، ويسعى للتوغل في أعماق الشخصيات .. ويضيف خلوصي الى ذلك قوله ان التكرلي في مجمل أعماله الروائية كان يحرص على تقديم استقراء لتاريخ العراق المعاصر وخاصة في ال50 عام الاخيرة .. ويبدو ان التكرلي ، وهو ابن الطبقة الوسطى ، مع أنه عد يساريا في افكاره ، كان على علم ببواطن وخفايا واسرار هذه الطبقة لهذا حرص على اختيار شخصياته منها مع رغبة متناهية في ادانة كل انواع الظلم الاجتماعي ، والسياسي ، والاقتصادي .كان التكرلي يعد كتابة الرواية عملية غامضة وممتعة ومحاطة بالمعاناة والحرية الداخلية بنظره تطلق طاقة الابداع. ولد فؤاد التكرلي ببغداد عام 1927 ، وهو فؤاد عبد الرحمن ، وكان جده محمد سعيد التكرلي، كما يقول الاستاذ حميد المطبعي في ( موسوعة اعلام العراق في القرن العشرين) نقيبا لاشراف بغداد . وفي محلة باب الشيخ ( عبد القادر الكيلاني) المعروفة ببغداد بدأ يتلقى علومه فدخل المدرسة الابتدائية ، واكمل الاعدادية ، وتخرج في كلية الحقوق ( القانون حاليا) عام 1949 . وبعد تخرجه عين ( كاتبا اولا) في محكمة بداءة بعقوبة . ظهرت اهتمامات فؤاد التكرلي الادبية منذ وقت مبكر من حياته ، وراح يلتقي عددا من زملائه المعروفين بحبهم للادب والشعر والقصة امثال عبد الملك نوري وعبد الوهاب البياتي، وشقيقه نهاد التكرلي وقد نشر اول قصة له عام 1951 في مجلة الاديب ( البيروتية) بعنوان : ((همس مبهم)) . كما ابتدأ عام 1948 بكتابة روايته (بصقة في وجه الحياة) وقد سبق ان اشرنا آنفا انه اكملها عام 1949 ، لكنه لم ينشرها قائلا فيما بعد ان مجتمع العراق آنذاك لم يكن يستوعب نشر مثل هذه الرواية لما تضمنته من افكار ورؤى وتفسيرات كانت تضر بسمعته هو قبل غيره ، وقد نشرت الرواية في بيروت بعد ربع قرن عام 1980. تولى مناصب قضائية كثيرة خاصة بعد عودته من بعقوبة ( محافظة ديالى) الى بغداد، ومن ذلك تعيينه قاضيا في محكمة بداءة بغداد عام 1964 لكنه لم يلبث في هذا المنصب طويلا ، اذ حصل على اجازة دراسية لمدة سنتين وسافر الى فرنسا ثم عاد ليعين خبيرا قانونيا في وزارة العدل . لم ينقطع فؤاد التكرلي عن نشر قصصه في الصحف والمجلات العراقية والعربية، فلقد استطاع عام 1960 من اصدار مجموعة قصصية بعنوان : ( الوجه الاخر) . وفي عام 1980 صدرت روايته (الرجع البعيد) ، وبعد ذلك بست سنوات أصدر مجموعة حواريات بعنوان : ( الصخرة) . كما صدرت له في تونس عام 1991 مجموعة قصصية بعنوان : ( موعد النار). وفي عام 1995 صدرت له رواية (خاتم الرمل) . وقد كتب عنه الناقد الادبي الكبير الاستاذ الدكتور علي جواد الطاهر فقال : ((ان التكرلي ليس قصاصا حسب ، انه مثقف في فن القصة ،وفي علمها : قواعدها ، قوانينها ، سماتها)) . أما القاص والروائي محمد خضير، فقد قال عند تكريم جريدة المدى (البغدادية) للتكرلي ، معقبا على بعض أحداث وشخوص روايته ( الوجه الاخر) ((نحن الان نشم فيه النسمات الاخيرة لشارع الرشيد)) . ولم ينس الروائي علي بدر ان يؤكد حقيقة مهمة في ما قدمه التكرلي حين قال ((بأن الاجيال القادمة ستتذكر بأن ملامح الشخصية العراقية موجودة في اعمال فؤاد التكرلي )). كما اشار الناقد والشاعر فاروق سلوم في مقال له منشور على موقع كتابات (الالكتروني) يوم 6 ايلول 2007 الى ان فؤاد التكرلي ((أصر على النزعة البغدادية المدينية.. مقابل أي اتجاه آخر، كان رهانه العالمي على هويته)) فشخصياته كلها من الواقع العراقي المعاصر الرافض لكل قيد .. فتوفيق بطل رواية ( المسرات والاوجاع) فاسد لكنه نتيجة حياة مرة ومجتمع صعب ، اما عدنان ومدحت بطلا روايته ( الرجع البعيد) فهما علامة فارقة لمجتمع متنوع ومتوافق يقبل الفساد .. ويقبل العفة . لقد عاصر التكرلي اجيالا من السياسيين ، وشهد تقلبات العراق السياسية ، لحقب ثكلى ومحملة بالاسى .. وكان مسؤولا في قاعة المحكمة عن الظلم والمظلومين ، لكنه ظل ، يقول سلوم ، يريد كشف جوهر الصراع ، وخباياه النفسية والاجتماعية والتربوية ، ويلتقط الباحث كرم نعمة الخيط في موقع جريدة البينة (2005) ليقرأ بعضا مما جاء في ( المسرات والاوجاع) ، هذه الرواية التي وصفها الناقد صبري حافظ بانها (رواية العصر الكبرى) ، قائلا : ((انه عندما نستذكر بطل هذه الرواية في الخاتمة، وقد نزل عليه مبلغ هائل من المال ،وهو يتجول في الكرادة ، ويقتني قطعة حلوى ...نشعر ان المكان في ذاكرة التكرلي قائم ومخلص لعراقيته)) أما اسماعيل زاير الناقد والصحفي المعروف ، فأكد في تقديمه لملف كامل عن التكرلي نشرته جريدة الصباح الجديد في عددها الصادر يوم (10 ايلول 2007) : ((ان التكرلي من أفضل وأجمل تعبيرات الذات العراقية الحرة والمنطلقة على هواها وبما تمليه سجيتها)) ويضع الناقد والشاعر ياسين طه حافظ ، فؤاد التكرلي ضمن سياق زمنه وعصره ، فيقول : ( ان فؤادا ، وقد بلغ الثمانين من العمر ((طوى عصورا ثقافية، وازمنة انسانية وهو يتابع حركة الانسان وعذاباته في طريق الشمس)) . ويضيف : ((فؤاد كاتب كبير فنا ، وفؤاد قبل هذا وبعده انسان اخلاقي كبير)) . أما الناقد جمال كريم فيؤكد في الملف انف الذكر ان التكرلي وثق للمكان والاحداث في حقب جد مهمة وشائكة في تاريخ العراق المعاصر السياسي والاجتماعي ولكن من وجهة نظر روائي محايد ومتمكن من أدوات فنه السردي. ويضرب على ذلك مثلا فيضيف الى ذلك قوله انه في مرحلة ما بعد ثورة 14 تموز 1958، وما خلفت من تداعيات على صعد حياة المجتمع العراقي انذاك ،بل وما رافقها من صراعات سياسية على دفة الحكم وخزائن الثروة ،فالاحداث والشخصيات المحورية ،بمختلف انتمائاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية تتحرك على فضاءات مكانية عراقية وخاصة في بغداد العاصمة وضمن جغرافية الاحياء (المحلات ) الشعبية ومنها محلة باب الشيخ وما يتبعها من ازقة أو شارع الكفاح (غازي )وما يتماس أو يتقاطع معه من شوارع ،يحاول التكرلي ،تبعا لخصوصية هذه الامكنة، من حيث المشكلات الاجتماعية ومستويات الفقر، وعمق معاناتها ،وحدة صراعاتها ،ان يتعامل معها بمنتهى الواقعية. والتكرلي، وهو ينهي السنة الثمانين من عمره لايزال ، عافاه الله ، ومتعه بالصحة والعافية ، صادقا في التعبير عن كل خلجة من خلجات الانسان العراقي ، وهو يواجه التحديات الجديدة، ويصر على ان يوفق لفترة يحاول العالم ، كما قال ، محوها من تاريخ العراق مع انها من أقسى المراحل التي مر بها تلك هي مرحلة الحصار الظالم البشع ، والذي لم يقتصر على الجوانب الاقتصادية وحسب بل تعداها لتشمل الحصار العلمي والحصار النفسي ، لذلك جاءت روايته الجديدة الموسومة : ( اللاسؤال واللاجواب) لتعكس حالة الانسان العراقي وهو يواجه تلك السنوات القاسية، ومع انه يحس بوطأة الاحتلال ولا معقولية ما يشهده العراق من اوضاع راهنة ، الا ان التكرلي يعترف ، وهو في هذه السن ، بانه لايستطيع ((التعبير عن فصول المأساة المستمرة ...فالوضع في العراق يستعصي على أي روائي مهما كانت عبقريته ، انه غير معقول ، ولا ينطبق عليه حتى وصف العبثية ، افكار السرياليين تبدو ساذجة تجاه ما يجري)) تحية للتكرلي وتقديرا لما قدمه لوطنه ، فهو بحق انموذج رائع للانسان الذي يحرص على تأدية رسالة محددة في الحياة ، تلك هي التعبير عن كل القيم والمثل الصادقة والعادلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق