الثلاثاء، 5 يناير 2010

سعيد الديوه جي 1912 ـ 2000 وجهوده في توثيق تاريخ الموصل ا.د.إبراهيم خليل العلاف


سعيد الديوه جي 1912 ـ 2000 وجهوده في توثيق تاريخ الموصل
ا.د.إبراهيم خليل العلاف
مركز الدراسات الإقليمية –جامعة الموصل
في يوم الجمعة 21 من كانون الثاني سنة 2000 م مات شيخ مؤرخي الموصل .. وحزنت الموصل كلها وتوافد الآلاف للتعزية .. وهم يستذكرون سعيد الديوه جي ، يوم كان مفتشاً في ( المعارف ) ويوم عمل في الآثار ، ويوم تسلم مديرية ( المتحف الحضاري ) ، ويوم أسهم في بناء جامع حي الثورة ، ويوم أرخ للموصل ولعلمائها ولصنائعها ولألعابها ولنسائها وجسورها ومدرائها.. لهذا أسف الناس كثيراً ، وعدّوا وفاة سعيد الديوه جي خسارة كبيرة لمدرسة الموصل التاريخية .. فكتاباته وبحوثه ومقالاته وتحقيقاته تقف شاهداً على عظمة هذه المدينة المعطاء .. لقد بقي حتى آخر لحظة من حياته يكتب ويقرأ .. يتصل بالمؤرخين ويراسل المستشرقين .. يدّون ويحقق ويدقق ويضع كل ما لديه من خبرات أمام من يريد الاستزادة من التراث ومن التاريخ ، لذلك فهو مصدر مهم لا غنى عنه لمن يبحث عن تاريخ الموصل وما فيها من علم وفن وآداب وصناعة وأثر تاريخي ومنشآت حضارية معمارية ومؤسسات ثقافية .
الديوه جي من المؤرخين الذين عدّوا التاريخ كمجرى الحياة حيث لا توجد فواصل بين عصر وآخر .. لاتوجد فواصل بين التاريخ السياسي والتاريخ الفكري والتاريخ الاقتصادي .. أنه شيخنا جميعاً .. شيخ المؤرخين الموصليين . . فقد سبق وأن اخترناه رئيساً فخرياً لجمعية المؤرخين والآثاريين فرع نينوى والتي كان لي فضر ترأسها لسنوات طويلة .. كما أنه أسس وأسهم في جمعيات عديدة خدمت التاريخ والتراث ومنها على سبيل المثال جمعية التراث العربي .. أسس المتحف الحضاري وعمل أول مدير له .. وكانت له إسهاماته في دفع الآثاريين والمنقبين لكشف أسرار حضارة العراق التليدة. كتب عنه حميد المطبعي في موسوعة أعـلام العراق في القرن العشرين وكتبتُ عنه في موسوعة الموصل الحضارية في مبحث ( التاريخ والمؤرخون الموصليون المعاصرون ) .. كما قمت بتكليف أحد طلبة السنة النهائية في قسم التاريخ بكلية التربية وهو ( رضوان عطية وردي ) سنة 1991 ليكتب عنه رسالة التخرج وكانت بعنوان
( سعيد الديوه جي وأثره في تطوير الكتابة التاريخية الحديثة في الموصل ) وزودني رحمه الله بسيرته مطبوعة على الآلة الكاتبة بعنوان ( سعيد الديوه جي يتحدث عن حياته ومؤلفاته ونشاطاته وجهوده العلمية ) مؤلفة من ( 15 ) صفحة وكتبت عنه مؤخراً رسالة ماجستير قدّمت إلى قسم التاريخ بكلية الآداب ، جامعة الموصل .. استفاد منه كل الذين كتبوا عن تاريخ الموصل .. زاره مستشرقون ومؤرخون عراقيون وعرب وأجانب . وأجمع كل من أطلع على كتاباته وتحقيقاته بأنه خير من ألّف عن الموصل .
ولد سعيد الديوه جي في الموصل سنة 1912 وتلقى دراسته فيها ، ثم سافر إلى بغداد والتحق بدار المعلمين العالية سنة 1930 ، وبعد تخرجه اشتغل مدرساً ثم عيّن مفتشاً ( مشرفاً تربوياً ) . وفي سنة 1951 نقل إلى مديرية الآثار العامة ، وقد كلف بالتحضير لفتح المتحف الحضاري في الموصل ، وتم فتح المتحف سنة 1952 ، وتولى إدارة المتحف حتى 1968 عندما أحال نفسه على التقاعد ليتفرغ للبحث والتأليف .
اهتم الديوه جي بالتاريخ منذ صغره .. وقد عاش في جو علمي ، فوالده الشيخ أحمد الديوه جي ( 1872 ـ 1944 ) وعمه الشيخ عثمان الديوه جي ( 1871 ـ 1941 ) كانا معروفين باهتماماتهما الفقهية واللغوية والرياضية ، وكذلك استفاد الديوه جي من دراسته ببغداد ، فمن الأساتذة الذين أثّروا فيه أحمد حسن الزيات وساطع الحصري ودرويش المقدادي وسليم النعيمي وطه الهاشمي ، هؤلاء الرواد كانوا يدرسون في دار المعلمين العالية .
توجه الديوه جي نحو البحث والتأليف بعد فترة قصيرة من تخرجه ، وتعد مقالاته التي كتبها في ( مجلة المجلة ) الموصلية بعد صدورها سنة 1938 عن الموصل من أقدم ما كَتَبَ . أما كتابه ( الفتوة في الإسلام ) ، فيعد من بواكير إنتاجه ، وقد نشره سنة 1940 وأصدر في سنة 1952 كتاباً عن الأمير خالد بن يزيد الأموي المعروف باهتمامه بعلوم الحكمة والترجمة ، وفي سنة 1955 نشر كتابه ( بيت الحكمة ) وخلال السنة ذاتها أصدر كتابين أولهما : ( الخدمات الاجتماعية لطلاب العلم في الإسلام ) ، وثانيهما : ( عقائل قريـش ) .. وبين سنة 1958 و 1982 أصدر كتباً عدة أبرزها : ( الموصل في العهد الأتابكي ) و ( جوامع الموصل ) و ( مدارس الموصل ) ، و
( تاريخ الموصل ) الذي نشر الجزء الأول منه سنة 1982 ، وفيه يتناول تاريخ وحضارة الموصل منذ نشأتها حتى سنة 600 هـ ، وبعد وفاته قام ولده الأستاذ الدكتور أبي ( رئيس جامعة الموصل الحالي ) بطبع الجزء الثاني الذي يتعرض للفترة من 601 هـ وحتى 1139 هـ ، وقد طبعه المجمع العلمي العراقي .
وفضلاً عن الكتب التي ألفها الديوه جي عن جوامع الموصل ومدارسها وصنائعها ومساجدها وتراثها وتقاليد الزواج فيها فإنه كتب سلسلة طويلة من البحوث والمقالات عن خطط الموصل،وسور الموصل ، وجسور الموصل في مختلف العصور، وقلعة الموصل ، والزخارف الرخامية في الموصل ، وأهتم بتأليف دراسة موثقة عن
( اليزيدية ) ،قال عنها المؤرخ الاجتماعي الفرنسي الراحل جاك بيرك أنها خير ما ألّف في هذا الميدان .
كما انصرف الديوه جي إلى تحقيق كتب تتناول تاريخ الموصل ، ولعل من أبرزها تحقيقه ونشره كتاب " منية الأدباء في تاريخ الموصل الحدباء " لياسين العمري ، وكتاب " منهل الأولياء ومشرب الأصفياء من سادات الموصل الحدباء " لمحمد أمين العمري ، وكتاب " ترجمة الأولياء في الموصل الحدباء " لأحمد بن الخياط الموصلي ، وكتاب " مجموع الكتابات المحررة في أبنية الموصل " لنيقولا سيوفي .
كان الديوه جي باهتماماته بتاريخ الموصل يحرص باستمرار على التأكيد بأنه يسير على منهج المؤرخين الموصليين الذين عنوا بتاريخ مدينتهم وألّفوا فيها كتباً متعددة ومنهم أبو زكريا الأزدي صاحب ( تاريخ الموصل ) ، وعز الدين بن الأثير صاحب كتابي ( الكامل في التاريخ ) و ( الباهر في تاريخ الدولة الأتابكية ) ، وقد حاول أن يجعل التاريخ علماً شعبياً يتوجه إلى جمهور الناس وبأسلوب سلس وواضح ، ومن هنا اكتسبت كتاباته سمعة طيبة بين القرّاء .
وصف حميد المطبعي في كتابه " سعيد الديوه جي " الذي أصدره ضمن سلسلة موسوعة المفكرين والأدباء العراقيين ، الجزء التاسع ، سنة 1988 كتابات الديوه جي التاريخية ، وقال انها ، ذات أسلوب غير معقد فعباراته سهلة لا تزويق فيها المعلومة أكثر من مضمونها الفني واللغوي ، وجمله تنقاد إلى مضامين الأخبار بتلقائية ، وشيئاً فشيئاً تتحـول إلى أسلوب الرواية أو كـأن كلامه صار هو ذاتـه رواية مـن روايات التاريخ ، أما سر اهتمامه بتاريخ مدينة الموصل فيرجع إلى حبّه لها واعتزازه بدورها ، فهي كما يقول " قلعة العروبة والإسلام " وكان للموصل فضل جمع وتوحيد العرب والمسلمين تحت راية واحدة إبان الغزو الصليبي لفلسطين ، وقد صمدت أمام غزو الفرس مرات عديدة آخرها سنة 1743 م حينما حاصرها نادر شاه .. كما استعصت على العثمانيين وحكمت نفسها بنفسها طيلة قرن من الزمان ، حينما تولى الجليليون حكمها بين 1726 ـ 1834 ، ومن هنا فإن كتابات الديوه جي تعد مصدراً مهماً لمن يبحث في تاريخ الموصل وتراثها .
كان الديوه جي شخصية اجتماعية كذلك ، إضافة إلى كونه شخصية علمية .. ومن الأعمال التي كان يعتز بها اسهامه في فتح ( كلية المحاسبة وإدارة الأعمال ) في الموصل سنة 1968 والتي أشرفت عليها جمعية الاقتصاديين العراقيين ، وفي الأول من أيلول 1970 صدر قـرار نشر بجريـدة الوقائع العراقية يقضي بتغيير اسمها إلى
( كلية الإدارة والاقتصاد) وإلحاقها بالجامعة المستنصرية ثم بجامعة الموصل بعد زمن.
كما سعى مع جماعة من أهل حي الثورة بإنشاء جامع كبير ، وقد تولى شخصياً رئاسة لجنة جمع التبرعات ، وفي سنة 1968 أسهم في تأسيس جمعية التراث العربي وانتخب نائباً للرئيس فيها . وفي سنة 1978 اختارته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي مع ثمانية علماء لدراسة إنشاء بيت الحكمة ببغداد ، وقد اقترح أن ينشأ البيت في بناية القصر العباسي على نهر دجلة ، ولا يمكن أن ننسى فضله في فتح المتحف الحضاري وإدارته قبل ذلك لمديرية الأبحاث الإسلامية الفنية في مديرية الآثار العامة ، وإسهامه في إصدار مجلة ( سومر ) العتيدة وإكماله قاعات المتحف التي ضمّت آثار النمرود والحضر ، وذلك في 27 من نيسان سنة 1952 ، ويتحدث المرحوم الديوه جي عن ذلك في بعض أوراقه التي احتفظ بها قائلاً : " في سنة 1951 نُقِلْتُ إلى مديرية الآثار العامة بعنوان مدير الأبحاث الإسلامية الفنية على أن أقوم بتهيئة متحف في الموصل ، تسلمت بناية المتحف وهي خاوية من كل أثر ، وسعيت بمؤازرة متصرف اللـواء سعيد قزاز ورئاسة بلدية الموصل وأكملت القاعة الأولى وعرضت بها آثاراً من النمرود والحضر، وافتتح المتحف في27 من نيسان سنة 1952، وحضر الافتتاح طائفة من العلماء الذين حضروا المهرجان الألفي الذي أقيم في بغداد لابن سينا ، وكان من الأيام المشهودة في الموصل يزينه بهجة الربيع ، وطيب النسيم ، وجمال الحقول ، وبقيت في إدارة المتحف بعنوان أخصائي أثري إلى سنة 1968 عندما طلبت إحالتي على التقاعد " .
ثم يقول بعد ذلك أنه طوّر مكتبة المتحف وضمَّ إليها جزءاً من مكتبة انستاس الكرملي ، وفي سنة 1965 انتخب عضواً في المجمع العلمي العراقي وزار عدداً من البلدان العربية ، وحضر مؤتمرات علمية كثيرة في تونس وإيطاليا وتركيا وبريطانيا وسوريا وليبيا ومصر ، وفي سنة 1969 قصد زيارة بيت الله الحرام وأدى فريضة الحج ومكث هناك 32 يوماً زار المكتبات وأطّلع على ما فيها من مخطوطات .. وله معارف من المستشرقين منهم ( كرسول ) العالم ألآثاري ، وجاك بيرك (العالم الاجتماعي) .. كما أنّ له صلات مع معظم الباحثين والمؤرخين العرب والعراقيين كناجي معروف ومصطفى جواد وفهمي المدرس وداؤد الجلبي، رحمهم الله جميعاً .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 ...............أ.د إبراهيم خليل العلاف

                                                            الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 أ....