تاريخ العراق الثقافي المعاصر:كتاب جديد للأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف
الناشر:دار ابن الأثير للطباعة والنشر،(جامعة الموصل )
عدد صفحات الكتاب: 331 صفحة من القطع الكبير
عرض: السيد واثق محمد براك.
مركز الدراسات الإقليمية –جامعة الموصل
لعل أقدم تعريف للثقافة، هو الذي ذكره ادوارد تايلور في كتابه الموسوم:(الثقافة البدائية) والصادر عام 1871، وجاء فيه:"الثقافة هي الكل المعقد الذي يضم المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والتقاليد وكل الإمكانات الأخرى والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع". أما التعريف الذي وضعته منظمة اليونسكو التابعة لهيئة الأمم المتحدة، في مؤتمرها المنعقد في عام 1982 في مكسيكو ستي، فجاء فيه:"الثقافة بمعناها الواسع يمكن أن ينظر إليها على أنها جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات". وغالباً ما يمثل الفكر مرحلة معينة من مراحل نمو الأمة في إطار حركتها التاريخية، والفكر يشكل أحد الروافد المكونة للثقافة، لكن الثقافة أطول عمراً من الفكر، فأن كثيراً من الأفكار قامت ثم تلاشت خلال عقود قليلة، أما الثقافة فهي الإطار العام المميز لحقبة تاريخية قد تطول إلى عدة قرون.
ومن منطلق أهمية التوثيق التاريخي المنهجي للمنجزات الثقافية، صدر لأستاذ التاريخ العربي الحديث والمعاصر الدكتور إبراهيم خليل العلاف، في آب 2009 كتاب بعنوان:(تاريخ العراق الثقافي المعاصر)، استعرضت صفحات الكتاب الـ(331) المشهد الثقافي العراقي للفترة من نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وحتى يومنا هذا، بما يحويه هذا المشهد من جماعات وجمعيات وشخصيات ثقافية كان لها الأثر الواضح في رسم معالم الثقافة العراقية لتلك الفترة، وبخاصة أنه برغم وضوح التأثير الأوروبي على أشكال المدارس الفكرية والفنية العراقية المعاصرة، إلا أن محتوى الأدب والفكر والفن ظل وطنياً، وقومياًُ، وإنسانياُ.
وتشكل الكتاب من ثلاثة وأربعين موضوعاً، كل موضوع منها في الأصل دراسة أو مقالة كتبها المؤلف نتيجة لسعيه، ومنذ فترة طويلة للاهتمام، بتسجيل وتوثيق كل جوانب التاريخ الثقافي العراقي المعاصر، وقد جمع الكاتب تلك الموضوعات وصاغها بطريقة تمكن القارئ من ربطها ببعضها حتى يستخرج الصورة الحقيقية للحراك الثقافي العراقي أبان تلك الفترة.
من ميزات هذا الكتاب، قابلية تقسيم موضوعاته إلى محاور مختلفة، فمن الممكن النظر إليه على أنه أرتكز على ثلاثة محاور رئيسية وهي: التجمعات الثقافية؛ الشخصيات الثقافية؛ المجلات الثقافية، كما ذهب إلى ذلك السيد يسار محمد الدرزي في عرضه للكتاب المنشور في صحيفة (فتى العراق) الموصلية، العدد278، الصادرة في السادس من كانون الأول 2009. كما يمكن بناء تصور آخر لهيكلية الكتاب، وذلك طبقاً للمجالات الثقافية التي تناول المؤلف تأريخها المعاصر، كالأدب والفكر، والدراسات القرآنية واللغوية، والتحقيق التراثي، والصحافة، والترجمة، والكليات والمعاهد والمكتبات الرائدة، وبواكير الإبداع الفني.
فقد تضمن الكتاب عدة موضوعات في مجال تاريخ الأدب والفكر العراقي المعاصر، مثل (جماعة الصحيفة 1924- 1932 فصل من تأريخ حركة الفكر والثقافة العراقية المعاصرة)، الذي تناول نشأة هذه الجماعة، وميولها الفكرية، ونشاطاتها الأدبية، وتقييم الأدباء المعاصرين لهذا التجمع الثقافي. وموضوع: (جماعة مجلة المجلة ودورها في التكوين الثقافي العراقي المعاصر) الذي سلط الضوء على مجلة (المجلة) الأدبية الثقافية العامة، والتي أصدرها نادي الجزيرة الثقافي الرياضي في الموصل في تشرين الثاني 1938، وتطرق إلى ما قدمته هذه المجلة ومحرريها والمثقفين الذين التفوا حولها وأعطوها سمتها البارزة. وموضوع: (مجلة الثقافة الجديدة: فصل من تاريخ العراق الثقافي المعاصر) الذي تطرق إلى مراحل تأسيس هذه المجلة وتطورها والكتاب الذين تعاقبوا على الكتابة فيها، وطبيعة ماتنشره هذه المجلة من مقالات ودراسات وتقارير ونصوص إبداعية وبحوث فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية. وتناول موضوع (جماعة رواد الأدب والحياة في الموصل: فصل من تأريخ العراق الثقافي) ظاهرة التجمعات الأدبية في العراق، التي تنامت في الستينات والسبعينات في القرن الماضي، والتي تعود جذورها إلى العشرينات، وبين المؤلف فضل رواد هذه التجمعات بالاجتهاد، والتجريب، وانتهاج طريق غير مألوف في التعبير عن كوامن النفس العراقية التواقة للحرية والحق والصدق وهذا ما منح أعمال هذه الجماعة قيمة الوثيقة الأدبية المعتمدة في التأريخ لحياة العراق الثقافية المعاصرة. وركز موضوع (مجلة أقلام العراقية وتراث 45 عاماً من الفعل الثقافي) على أهمية هذه المجلة في دراسة الثقافة العراقية المعاصرة فهي تعد مرآة لما كان يدور على الساحة الأدبية والثقافية والفكرية العراقية منذ أواسط الستينات من القرن الماضي ولحد الآن.
وفي موضوع (فؤاد التكرلي وتاريخ العراق المعاصر)، أوضح الأستاذ الدكتور العلاف دور هذا الأديب الراحل في استخدام رواياته لتوثيق فترة يحاول العالم محوها من تاريخ العراق مع أنها من أقسى المراحل تلك هي مرحلة الحصار الظالم البشع، والذي لم يقتصر على الجوانب الاقتصادية، وحسب بل تعداها لتشمل الحصار العلمي والحصار النفسي. وفي السياق نفسه ، جاء موضوع (يوسف الصائغ والشعر الحر في العراق) ليسلط الضوء على أبرز رواد الحركة الثقافية المعاصرة، ذلك الأديب الذي تنوعت نتاجاته بمختلف الفنون الأدبية، وكيف أن قصائده اتسمت بالروح الوطنية والتوهج الثوري، بالإضافة إلى رصده التيارات السياسية التي توزعت عليها خارطة الشعر الحر في العراق مع ربط ذلك بمتابعة تاريخية لحركة التأليف والترجمة.
وفي سياق البحث التاريخي العلمي عن رواد الأدب والفكر العراقي المعاصر،نفسه ، الذي تضمنه الكتاب موضوع العرض، جاءت المواضيع: (موقع الدكتور جلال الخياط في حركة الثقافة العراقية المعاصرة)؛ (الشمس لاتتلاشى وإنما تحتجب: منذر الجبوري كاتباً وأديباً وصحفياً)؛ (مع القاص والناقد أنور عبد العزيز في مسيرته الإبداعية)؛ (محمد قاسم مصطفى 1938- 2006 كما عرفته)؛ (الدكتور أحمد عبد الستار الجواري 1934- 1988 وجهوده في خدمة اللغة العربية)؛ (نجيب فاضل الصيدلي1935- 1978 : الأديب الموصلي المنسي)؛ (محمد عطا الله 1945- 2007 والطواف حول مملكة الحلم)؛ (عبد الجبار داؤد البصري وريادة المقالة الأدبية في العراق)؛ (رسالة بدر شاكر السياب إلى شاذل طاقة..من وثائق التاريخ الثقافي العراقي المعاصر)؛ (محمود جنداري والقصة العراقية المعاصرة)؛ (جمعية المؤلفين والكتاب العراقيين : فصل من تاريخ العراق الثقافي المعاصر)؛ (قاسم محمد الرجب1917- 1974 ومكتبة المثنى ومجلة المكتبة)؛ (الدكتور عبد الإله أحمد والتأريخ لحركة الأدب القصصي في العراق)؛ (جماعة كركوك "الأدبية": فصل من تاريخ العراق الثقافي المعاصر)؛ (جماعة الوقت الضائع الأدبية1946: فصل من تاريخ العراق الثقافي)؛ (جماعة أصدقاء القصة في الموصل1969: فصل من تاريخ العراق الثقافي)؛ (الأستاذ الدكتور عادل محمد البكري..سيرة رائد ومبدع عراقي).
وضمن مجال التأريخ المعاصر للدراسات القرآنية واللغوية وأعلامها في العراق، استعرض الأستاذ العلاف في موضوع (الدكتور كاصد ياسر الزيدي و الدراسات القرآنية واللغوية في العراق) سيرة هذا الأكاديمي الراحل، ذلك المبدع الذي ترفع عن الصغائر والنزعات، ولم يكن همه سوى العراق، واحتوى الموضوع على ابرز محطات حياة الزيدي العلمية واهم بحوثه ومؤلفاته.
ويطالعنا الكتاب بالمعالجة التاريخية لميدان آخر من ميادين الثقافة العراقية المعاصرة، وهو تحقيق التراث العربي والإسلامي، سواء شخصيات ثقافية مهتمة بهذا المجال، أو جمعيات. فقد تناول موضوع( جمعية التراث العربي في الموصل 1973- 1984 فصل من تاريخ العراق الثقافي المعاصر) البدايات الأولى للجمعيات الثقافية في العراق، والرواد المؤسسون لهذه الجمعية، وتبيان أهداف تلك الجمعية، وأبرز الوسائل التي انتهجتها لتحقيق تلك الأهداف، ونشاطات تلك الجمعية، والفترة التي استمرت بها الجمعية بمزاولة نشاطاتها، وأسباب توقفها عن النشاط، وتاريخ توقفها بشكل نهائي. أما عن أعلام وفرسان هذا الميدان الثقافي، جاء موضوع(الدكتور حسين علي محفوظ وجهوده في تأصيل التراث العربي والإسلامي)، ليسلط الضوء على سيرة هذا العالم المعطاء الذي وصفه بعض الكتاب بسادن الروضة التراثية، والذي ابتنى كل دراساته وبحوثه على قواعد عقلية، ومنطقية موضوعية تقدمية. وبنفس النمط احتوى الكتاب على موضوع(الدكتور محمود عبد الله الجادر وحركة تحقيق التراثي في العراق) الذي استعرض سيرة هذا الأكاديمي ونتاجاته العلمية والأدبية، وإسهاماته في نشاطات مجتمعه العلمية والثقافية.
ولم يفت الأستاذ الدكتور العلاف التعريج على تأريخ الصحافة العراقية المعاصر بوصفها أحدى أعمدة الثقافة، وأداة مهمة من أدوات التأثير السياسي والاجتماعي. ففي موضوع(عبد الوهاب ألنعيمي أديباً وكاتباً وصحفياً) بين الكاتب مسيرة هذا الصحفي الراحل الذي استطاع أن يعطي للحرف قيمته، والكلمة قدسيتها ،وللمهنة(الصحافة) شرفها، والنعيمي ليس صحفياً هاوياً، بل محترفاً، درس الصحافة في المعهد القومي لاتحاد الصحفيين العرب في القاهرة سنة 1973، وقد قال عنه بعض الكتاب:" لقد تمرس النعيمي في ثكنة الثقافة وتحصن بقلاعها وتدبر مفاتيح العمل الصحفي". وبنفس السياق جاءت المواضيع(سليم حسون 1871- 1947 والصحافة العراقية المعاصرة)؛ (أحمد سامي الجلبي وريادته في الإعلام الرياضي)؛ (مع الدكتور إبراهيم الداقوقي في رحلته الأدبية والثقافية والاعلامية)؛ (الصحافة العراقية والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي 1869- 1958).
وافرد الأستاذ الدكتور العلاف أحد مواضيع كتابه لإظهار دور الترجمة في تطور الحركة الثقافية المعاصرة في العراق، حيث استعرض موضوع(الدكتور عبد الواحد لؤلؤة وحركة الترجمة العربية المعاصرة) جهود الدكتور لؤلؤة في رفد حركة الترجمة ورفد الساحة الثقافية بالعديد من النتاجات الأدبية والفكرية، وكيف أن رصيده من الكتب التي ألفها قد تجاوز الـ(45) كتاباً في النقد والأدب والترجمة، وقد كان الدكتور لؤلؤة يؤكد أن الترجمة أمانة ،وينبغي على المترجم أن يتسلح بأدوات عديدة منها معرفة الدقيقة بلغته أولاً وباللغة التي ينقل عنها.
كما تناول الكتاب الكليات والمعاهد الرائدة التي تعد من أكبر محفزات الإبداع الثقافي، ومهمازاً للحس الوطني والقومي في تلك الفترة من تأريخ العراق المعاصر، ففي موضوع (الثقافة والسياسة في العراق: دار المعلمين العالية ببغداد 1933- 1958) سلط الأستاذ الدكتور العلاف الأضواء على أهم المحطات التاريخية لهذه المؤسسة التعليمية العريقة، ابتداء من دواعي التأسيس، وأبرز من انتدبوا للتدريس فيه، وأعلام الفكر الذين تخرجوا منه، والمراحل الإدارية والتنظيمية المختلفة التي مر بها الدار، ومقتطفات من الأحداث البارزة في حياة الدار وطلابه، كما شمل الموضوع ذكر المداخلات بين الدار والسلطات القائمة وقتها وانعكاسات الأوضاع السياسية السائدة على الدار وطلابه. وفي موضوع (مئوية كلية الحقوق العراقية 1908- 2008) نجد أن المؤلف قد أوفى هذا الصرح العلمي مكانته التي يستحقها في البحث التاريخي العلمي، وبخاصة أن كلية الحقوق قد أسهمت خلال تاريخ العراق المعاصر في أعداد الكوادر القانونية والقضائية المتخصصة، كما قام طلبتها وأساتذتها ومنذ نشأتها بدور فاعل في حياة العراق السياسية والثقافية والاجتماعية.
وحتى تكتمل الصورة الحقيقية للمشهد الثقافي العراقي المعاصر، لابد من توثيق بواكير الإبداع الفني العراقي، والنماذج المتميزة في هذا المجال الثقافي، وهذا ماذهب إليه الكتاب موضوع العرض، فعلى مستوى التعريف بالجماعات الرائدة التي اهتمت بهذا الشأن الثقافي في تأريخ العراق المعاصر، تضمن الكتاب موضوعي (جماعة بغداد للفن الحديث...فصل من تأريخ العراق الثقافي المعاصر)؛ (جماعة أصدقاء الفن في كركوك: صفحة من التاريخ الثقافي العراقي المعاصر). أما عن الشخصيات التي تركت بصمات واضحة في هذا الميدان الثقافي، وسجل لها الريادة فيه، احتوى الكتاب على المواضيع (الأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب وجهوده في خدمة حركة الثقافة العراقية المعاصرة)؛ (زها محمد حديد والفن المعماري العالمي)؛ (نجيب يونس 1930- 2007 والفن التشكيلي في العراق)؛ (نشأة التصوير الفوتوغرافي في العراق)؛ (طلال صفاوي وحركة النحت الحديث في العراق).
يأتي هذا الكتاب القيم، ليتجانس مع سابقاته من كتب ودراسات وبحوث ومقالات الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف العلمية، الفائقة الجودة والرصانة، تلك الأعمال التي تتنافس فيما بينها لتلبية احتياجات طلبة البحث العلمي التاريخي من المعلومات الضرورية والتوثيق الأمين، وتعد مؤلفات الأستاذ الدكتور العلاف،بحق ، خزانة ثمينة من خزائن الذاكرة العراقية، ذلك الجزء الحيوي من التاريخ العربي المعاصر.
*المصدر : wwwallafblogspotcom.blogspot.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق