نبيه أمين فارس والكتابة التاريخية الصحيحة
ا.د.إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ العربي الحديث –جامعة الموصل
نبيه أمين فارس لمن لايعرفه , واحد من المفكرين والمؤرخين العرب المعاصرين الذين كان لهم دور كبير في تكوين الفكر العربي الحديث والمعاصر . توفي قبل سنوات قليلة , وبالمناسبة فهو فلسطيني ولد في مدينة الناصرة سنة 1906، وحصل على الدكتوراه من جامعة برنستون بالولايات المتحدة سنة 1935 عمل أستاذاً في الجامعة الأميركية ببيروت طيلة الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي .وفي سنة 1947 أصبح رئيساً لهيئة الدراسات العربية فيها. ألف وترجم كتباً عديدة من مؤلفاته: ( من الزاوية العربية ) و ( التراث العربي ) و ( العرب الأحياء ) و ( غيوم عربية ) . ومن مترجماته المشهورة كتاب المستشرق الألماني المعروف كارل بروكلمان الموسوم : (( تأريخ الشعوب الإسلامية )) وقد طبع مرات عديدة .. ترجمه مع الأستاذ المرحوم مثير البعلبكي وظهرت طبعته الأولى في بيروت سنة 1948. وهو كتاب كبير يقع في (891) صفحة من القطع الكبير . الذي بيدنا اليوم كتاب ألفه الأستاذ الدكتور نبيه أمين فارس سنة 1956 أي قبل (51) سنة بعنوان : (( دراسات عربية )). وهي دراسات ست كتبها في أوقات مختلفة منذ سنة 1953 تلبيةً لطلبات جمعيات علمية ومؤسسات أكاديمية ونشرها باللغة الانكليزية في مجلات مختلفة وقد ارتأت دار العلم للملايين البيروتية، وهي دار نشر عملاقة ورصينة وعريقة نشرها في كتاب .
عناوين الدراسات هي على النحو التالي : العرب ودراسة تاريخهم , المفكر المسلم , منهاج لدراسة الحركات الدينية الحديثة , الإمام الغزالي , الشيوعية والمجتمع الإسلامي , رأي في الوحدة العربية . وتنم الدراسات كلها عن ثقافة موسوعية أصيلة , وذهن وقاد , وفكر متفتح .. ففي مجال الدراسة التاريخية العربية , أهتم المؤلف بالإجابة على سؤال مهم وهو عن كيفية تنمية اهتمام الشباب بتأريخهم .. ومما قاله أن المسلمين عموماً مهتمون بتاريخهم عظيم الاهتمام , معنيون به كل العناية , وهم يحيون تأريخهم هذا ويعيشون حوادثه , كأنها حوادث الأمس القريب. وسبب هذه الحالة أن التأريخ الإسلامي مرتبط بالدين ارتباطا وثيقاً .. والإسلام حيٌ بآثاره المختلفة عن عهود ماضية مشرقة , وشعائره التي يمارسها المسلمون , ولابد للشاب العربي والمسلم في أن يلم بشئ من التاريخ الإسلامي عن طريق الدراسة الأولية التي قد تتاح له , وعن طريق الوعاظ والدعاة والمرشدين من علماء الدين , وعن طريق الاحتفالات التقليدية بذكرى المولد النبوي الشريف وعن طريق القصص الشعبي الذي يقوم به العامة والذي يتصل بالتاريخ العربي من قريب أو بعيد , وعن طريق الأدب العربي القديم الذي يقبل عليه الناس بشغف عظيم .
ثم يستعرض الدكتور نبيه أمين فارس مجهودات المؤرخين والمفكرين العرب في مجال الكتابة التاريخية , فيتناول جهود الدكتور طـه حسين , ويورد كتبه المشهورة ومنها (( على هامش السيرة )) بثلاثة أجزاء , 1933 و (( الفتنة الكبرى )) بثلاثة أجزاء 1947 وظهر منها ( عثمان ) 1947 و ( علي وبنوه ) 1953 . كما أشار إلى مؤلفات عباس محمود العقاد وأبرزها ( عبقرية محمد ) 1942 , وعبقرية الصديق 1943 , وعبقرية عمر 1942 , وعبقرية الأمام علي 1943 , و (الصديقة بنت الصديق ) 1942 , وسيد الشهداء , وعبقرية خالد , وعمر بن العاص .
أما الدكتور محمد حسين هيكل , فقد تحول , من أبحاثه في الأدب والفكر الأوربي إلى الكتابة في التاريخ الإسلامي فكتب ( محمد ) صلى الله عليه وسلم , وقد أعيد طبع هذا الكتاب عدة مرات , وكتابه ( الصديق أبو بكر ) 1942 , و ( الفاروق عمر بن الخطاب ) , و ( في منزل الوحي ) .
وشارك الكاتب المسرحي الأستاذ توفيق الحكيم في الكتابة التاريخية , فكتب مسرحية محمد صلى الله عليه وسلم ( 1936) و ( تاريخ حياة معدة ) 1938 المستمد من حكايات التاريخ العربي ونوادره .
أما الأستاذ مصطفى صادق الرافعي فألف الكثير من الكتب , كما نشر المقالات والقصص في شرح أبعاد التأريخ الإسلامي وبيان رموزه , والكشف عن روحه الخالدة . وقد أقبلت العديد من دور النشر التي تنشر سلاسل دورية من الكتب الشهرية الرخيصة الثمن , على تلك المؤلفات , تعيد نشرها وتروج لها بين عامة القراء , بحيث تجد كثيراً من المؤلفات التي صدرت في ( سلسلة الهلال الشهرية ) و ( سلسلة إقرأ ) و ( سلسلة أعلام العرب ) و ( سلسلة الموسوعة الصغيرة ) وقسم منها تدور حول حوادث التاريخ العربي والاسلامي ورموزه وقضاياه ..
ويشير الدكتور نبـيه أمين فارس إلى أن الحركات الإسلامية الحديثة , لاسيما السياسية منها , أدت إلى زيادة الاهتمام بالتاريخ الإسلامي , فالمؤلفات في التاريخ الإسلامي من أمهات المصادر , إلى الكتب الحديثة البسيطة , تملأ المكتبات والمجلات الأدبية والدينية التي تعنى بالتاريخ الإسلامي والدين الإسلامي أكثر من أن تُحصى ..
يقف الدكتور نبـيه فارس ليقرر حقيقة مهمة وهي ان بعض المؤلفات الحديثة في التاريخ العربي والإسلامي بصورة عامة تبحث في هذا التاريخ بحثاً أقرب إلى السطحية منه إلى الدراسة العلمية المتعمقة التي تُميز الحقائق والأساطير وتبحث عن الأسباب وتعلل النتائج .. هذه المؤلفات أو بعضاً منها على الأقل تـثير حماسة القرّاء , وتبعث في نفوسهم الغرور بدلاً من أن تثير عقولهم , وتثقفهم بالثقافة التاريخية الصحيحة .. وهنا يقول إن الثقافة التي يريدها ينبغي أن تعتمد الدراسة العلمية المنهجية الرصينة .. وللأسف , ما يزال اهتمام المؤرخين منحصراً في التاريخ السياسي , وما زالت مادة التاريخ عبارة عن سرد مجرد لمجموعة من الحوادث والتواريخ وأسماء الأعلام .. وما يزال المؤرخون يتناولون التاريخ العربي والإسلامي باعتباره فترة من الزمن قائمة بذاتها , منفصلة عن التاريخ الإنساني .. والمؤرخ الحديث , أما أن يسرد التاريخ العربي سرداً يظهر أمجاده بألوان ساطعة , قافزاً الفترات المظلمة والمضطربة فيه , وإما أن يعرضه عرضاً متسرعاً ,سطحياً, يظهره سقيما حائل اللون , منفراً للشبان المتلهفين لدراسة تاريخ أبائهم وأجدادهم .
ويتساءل نبـيه أمين فارس عن الكيفية التي ينبغي أن يدرس التاريخ العربي والإسلامي .. ويجيب قائلاً :
أولا : يجب ان ينتقل اهتمام الباحثين من سرد الحوادث والتواريخ الى التفسير والتحليل والتعليل.
ثانياً : يجب أن يهتم المؤرخ الحديث أهتماماً جدياً , إلى جانب اهتمامه بدراسة الجانب السياسي من التاريخ الإسلامي ببحث الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية .
ثالثاً : يجب أن يدرس التاريخ الإسلامي على انه جزء غير منفصل من تاريخ البشرية . وأية دراسة في هذا المجال ستظهر الأثر الكبير الذي كان للحضارة العربية والإسلامية على الحضارة الغربية , ومثل هذه النتيجة ستقوي الثقة في نفوس الناشئة , عندما يعرفون ان حضارتهم ليست الا حلقة نيرة من حلقات الحضارة الإنسانية .
ويذهب الأستاذ الدكتور نبـيه أمين فارس إلى أن أفضل وسيلة نُنمي بها اهتمام الشباب بتاريخهم العربي والإسلامي وأقواها تأثيراً , إنما هي أن نجعلهم يهتمون بمشاكل بلادهم الحاضرة , ويتفهمونها التفهم الصحيح , هذا الفهم للمشاكل الحاضرة يقتضي , بطبيعة الحال , تقصي جذور هذه المشاكل في التاريخ , ودراسة جميع علاقاتها السابقة .. على أن كل الملاحظات التي أبداها مؤلفنا لدراسة التاريخ العربي والإسلامي دراسة علمية , عادلة لايمكن أن تتحقق إلا إذا تحقق الشرط الأول لوجودها , ألا وهو حرية التفكير , والتعبير , والنشر , التي تتيح للباحث ان يبحث , ويفكر وينشر تفكيره على الناس دون ان يلقى عائقاً يحول دون إعلان رأيه , ودون أن يضطهد في رزقه أو منصبه ، أو ذات نفسه , ودون أن يتعرض للملاحقة وللسجن .. والى جانب التفكير والتعبير والنشر يحتاج هذا التاريخ , الذي نريد أن يهتم به الناشئة إلى ( معلمين ومدرسين وأساتذة ) مُعدين أعداداً حسناً لتدريسه , والى جانب ( باحثين مخلصين ) في بحثهم متمكنين من ( المنهج العلمي التاريخي الأكاديمي ) , والى ( ناشرين ) يهمهم العلم الخالص أكثر مما يهمهم تملق القراء والسعي وراء الشهرة والثروة .
الشيء المهم الذي نريد أن نذكر به هو أن الأستاذ الدكتور نبـيه أمين فارس قال هذا الكلام في أيلول سنة 1953 ،وبعد مضي كل هذه السنوات ( 55 سنة ) لايزال صالحاً فكم نحن بحاجة إلى الكلمة الطيبة , والتحليل الصائب , والرأي السديد والنظرة العميقة ليس فقط إلى تاريخنا وإنما إلى كل ما يحيط بنا من مظاهر وسلوكيات وقواعد تساعدنا في بناء حياتنا بناءاً علمياً سليماً .وحسنا فعل مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت عندما قام بجمع مؤلفات وأبحاث ودراسات ونتاج الدكتور نبيه أمين فارس ليصدرها في (المجموعة الكاملة للدكتور نبيه أمين فارس ) 2008 وبواقع 1120 صفحة من القطع الكبير لتكون بين أيدي أبناءنا وأحفادنا ليتزودوا بما يفيدهم في قابل أيامهم الصعبة . وتضم الأعمال الكاملة للدكتور نبيه أمين فارس؛ كتبه الخمسة وهي :: "العرب الأحياء"، و"غيوم عربية"، و"من الزاوية العربية"، و"هذا العالم العربي"، و"دراسات عربية.فضلا عن خمس وأربعون بحثاً في مسائل وقضايا العرب، والإسلام، ولبنان، وأربع وعشرون مراجعة لكتب تراثية وحديثة، ومقدمات الكتب العشر التي حرّرها، أو أسهم بترجمتها، أو قام بتحقيقها، إضافة إلى ما كتبه من مقالات صحفية عكست رؤاه الوطنية والقومية والإنسانية .
جززززززززززززززززاك الله خيرا
ردحذف