عذاب الركابي : ” أية حياةٍ هيَ ” للكاتب الكبير عبد الرحمن الربيعي، سيرة البدايات : الكتابةُ برمادِ الجسد ..وعطرِ الحنين
2011/12/26
“وكتابي هوَ الإنسانُ الّذي هوَ أنا ، المُضصربُ ، المتهاوانُ ،المتهورُ، الشهواني .. داعرٌ ، عاصفٌ ، مُفكّرٌ ، شكّاك ، كذّابٌ .. رجلٌ متمسكُ بالحقيقة بشكلٍ شيطانيّ ، كما أنا “- هنري ميللر – ربيع أسود ص 20.
.” صرتُ أفكّرُ : إذا كانَ مّنْ تمنيتُ لهُ أنْ يموتَ قبلَ الأوان فهوَ أبي ، أكرهُ أيضاً الناسَ الذينَ يشبهونَ أبي ، في الخيال لا أذكرُ كمْ مرةً قتلتهُ ،لمْ يبقَ إلاّ أن أقتلهُ في الواقع”- محمّد شكري – الخبز الحافي ص94.
.” أمّا والدي فحبُّ النساء لا يغادره ، وقدْ اكتشفتُ أنّ لهُ صديقة ، كانَ يأخذني معهُ ليزورها ، ويتركني ألعبُ معَ ابنتها ذات الشعر الأجعد ،
التي تكبرني بحوالي عامين ، تقولُ لها أُمّها إخرجي إلعبي أنتِ ورحمن ، فتسحبني من يدي وتدخلني إلى عالمها ، وقدْ عرفتُ منها أشياءَ كثيرة ، رغمَ أنّ فكري كلّه عندَ والدي ، وهوَ يجالسُ تلكَ المرأة في غرفتها “- عبد الرحمن الربعي – أية حياة هيَ – ص 114.
السيرة أكثرُ قراءاتي متعةً .. وفائدةً .. وعمقاً !! ومكتبتي تمتليءُ بكتب السيرة uto biograbhyابتداءً من ” أيام” طه حسين ، وحتّى ” كالنّهر الذي يجري “لباولو كويلهو آخر سيرة قرأتها ، وإذا ما أتيحت لي فرصة زيارة معارض الكتاب، فأنني أفتّش بجنون عن هذا النوع من الأدب ، ففيه ِ من قرنفل التجربة وعسل الحياة ما يفوق فردوس الكتب الإبداعية ( الشعر والقصّة والرواية ) الكثير ..ولذلك لا أعرفُ كمْ مرةً قرأت ” تجربتي الشعرية” لصديقي شاعر الحداثة الكبير الراحل عبد الوهاب البياتي ، وهذا لايتنتقص من جمال أعماله الشعرية ، وروعتها ، وتأثيرها في شعرنا العربي المعاصر.
ومن كتب السيرة الذاتية التي جذبتني والتي أخذت الشكل الفنّي ” الرواية – السيرة” : ” الخبز الحافي” للروائي المغربي محمّد شكري ، لكنّني حينَ قرأت أعمال الأمريكي المتمرد هنري ميللر:” مدار السرطان” و” ربيع أسود” و” عملاق أماروسي” اتّضحَ لي أن
” شكري” تقليدي ، ولمْ أعد إلى قراءته مرةً أخرى ، بلْ لمْ يعجبني الجزء الثاني من سيرتهِ
” الشطار” نهائياً ..لمْ يشغلني وينال كلّ اهتمامي كاتب سيرة مثل ” ميللر” ، ربّما لأنّه يؤسّس للسيرة الشفافة الصادقة ، ولأدب التعرية الضرورية ، والفضائحية المُلحة بكلّ ما يتقن من شاعرية .. وإثارة .. وجذب ..ولذة .. وكيمياء شهوة عجيبة ، بالإضافة إلى السخط والمرارة والوضوح الجارح : “وأنا أول ابن عاهرة عاطل عن العمل ، ذو لسان زلقٍ وقلبٍ مريض ، أمخرُ عباب الحشد إصبعاً بينَ الأصابع “- ربيع أسود ص67. .. وأذكرُ أيضاً ” الطريق إلى غريكو” و” تقرير إلى غريكو” رائعة الروائي الكاهن نيكوس كازنتزاكي ، زادتها جمالاً ترجمتها الراقية الشاعرية .. الممتعة للشاعر الراحل ممدوح عدوان ..ولا أنسى أهمّ كتابين من كتب السيرة العربية ” أوراق العمر” للويس عوض ، و” العيش على الحافة” لمحمّد شكري عياد، وهذا الأخير كانَ أكثر جرأةً ، وصدقاً ، وفضائحية ، وهوَ يتحدث عن أبيه الذي كان يطاردُ زوجته ( أُم الكاتب) من غرفةٍ إلى غرفةٍ ، لينالَ منها ، ويطفيء نيران غريزته الجنسية .
.”لقدْ أردتُ في هذهِ الصفحات أن أكونَ صادقاً وصريحاً قدر الإمكان ليشكّل كتابي احتفاءً بالحياةِ التي نعيشها مرةً واحدةً “- أية حياة هي ص33.
وهأنني استقبلُ في صندوق بريدي الذي ينفضُ عنهُ الغبار ، وتعيد لهُ الحياة والبريق إصدارات الأصدقاء والأحبّة من شعر وقصص وروايات ودراسات مهمة ، بعدَ ما أصبح اللقاء والعناق أكثر حرارة عبر الشبكة العنكبوتية .. وصلني ” أية حياة هيَ “*- سيرة البدايات .. السيرة الذاتية الجريئة التي يتفردُ بسحرها الصديق الروائي الكبير عبد الرحمن الربيعي ، لتكون إضافة لأدب السيرة العراقي والعربي معاً ..كتبَ على الصفحة الأولى :
“العزيز عذاب.. ما أكثر المشترك في طفولتنا الجنوبية البيضاء ..وليغفر الله لي ما تقدّم من ذنوبي وما تأخّر” ..وبقدر ما في العبارة من حنينٍ .. وصدقٍ ..وحميميةٍ ، وجدتُ في فسفور حروفها ..وصدى كلماتها..ما يحتاج إلى تأمّل شعري..وإصغاءة جادة..وقراءةٍ منشئة :
“عندما عنّ لي أنْ اكتبَ سيرتي الذاتية التي صدرت عن در الآداب ببيروت أواخر2004 وجدتني مستغرقاً في كتابة هذهِ السيرة ،بلْ في سيرة مدينةٍ كاملة ، بلْ وسيرة بلد ، لذا أخذتني هذهِ التفاصيل لدرجة اضطرتني أنْ أتوقف عند سنّ السابعة عشرة، حيث غادرت مدينتي “الناصرية” جنوب العراق إلى بغداد ، لالتحق بمعهد الفنون الجميلة فيها”- الخروج من بيت الطاعة ص297.
.” أية حياة هيَ ” ..سيرة فريدة من نوعِها ، فقدْ اعتبرها “الربيعي” نفسه ” وثيقة اجتماعية تحملُ فائدة مهمة ، بشاهدتها على فترةٍ من حياةِ الشعب العراقيّ” – الخروج من بيت الطاعة ص297 .. وهيَ تتفرّد بالفعل بتفاصيل حياتهِ الشخصية ، بلْ حياة مدينة شاعرة ، زاخرة بكلّ متناقضات الحياة ، يهيلُ الآنَ جندُ الاحتلال عليها غبارَ أحذيتهم القذرة ، ورذاذ سعالهم الليلي ، وصخب مجنزراتهم الضالة الصدئة .. وخرائط عدوانيتهم الأكثر حقدا ً .. الناصرية وردة الطفولة التي جفّت ، وتبدّدَ عطرها في تراب الأزمنة الخانقة :” مدينة تغرقُ في الحزن ، حتّى أنّ أناسها لا يضحكون من قلوبهم ، خوفاً أن يكونَ ذلك وهماً يقودُ إلى حزنٍ قادمٍ ، لذا يستغفرونَ ربّهم حينَ يضحكون ، ويرددون ( اللّهم اجعله ضحك خيرٍ ) ” – الخروج من بيت الطاعة ص 425.. تفاصيل مُثيرة ، وأحداث غريبة ، وأزمنة مضيئة ومظلمة ، وأخبار قديمة – جديدة أكثرها الجارح والمميت .. وشخوص رتّبتها ذاكرة لاقطة .. جسورة ..لا تخون .. ولا تهادن .. ولا تراوغ ..ولاتزيف ، كانوا أبطالاً في الواقع والخيال ، في صفحة الحياة وعلى بياض الورق، وهمُ مادة الروايات والقصص ( الربيعية) المثيرة ، همُ كاتبوهاالفعليون ، تاريخهم يقولُ ذلك ، ولأصابع ” الربيعي” الفضل في رصد حركاتهم ، وتوثيق حالات جنونهم الضرورية ، وفوضاهم الجميلة التي هي وثيقة حياة :”أذكرُ أنّ والدي الحاج مجيد بدر الربيعي الذي توفاه الله عام 1992 قدْ رافقني إلى المدرسة الغربية في يومي الأول ..وبعد سنواتٍ فاجأني بمغلفٍ كبير ، احتفظ فيه بكلّ شهاداتي الابتدائية والمتوسطة قبلَ تحولي للدراسة في بغداد ..وقالَ لي لابدّ أن أطلع أبناءك – إن عشت ورأيتهم- على تفوقك في الدراسة”- ص35.
في ” أية حياة هيَ” .. كلّ شيءٍ جاءَ طبيعياً .. صادقاً ..حميمياً .. بلا زخرفة .. ولا بلاغة خاوية..، الأشياء ، والفضاءات ، والأمكنة ، والأزمنة ، من البيت البسيط إلى المدرسة .. إلى المقهى ..إلى الشارع ، العقلُ ( مصدر القلق) والخيال ( لحظة التعلق) عملا معاً .. سيرة أبجديتها التعرية ، والفضيحة ، والسخرية أيضاً ، فيها من رماد الروح المحترقة بنيران واقع أليم مرير ، وفيها صدى القراءات التي يستعين بها الكاتب للتخلص من مشاعرٍ ما ، أوْ التعبير عما تنطقُ بهِ جراحه القديمة :”لقدْ علمنا ميللر أنْ نكونَ جريئين ، أنْ يكونَ نصّنا ساخناً “- الخروج من بيت الطاعة ص 572.
والربيعي ككاتبٍ ورسّامٍ يُجسّد لنا لوحةً تشكيلية بارعة للقسوةِ في الحياة ، أضفت على الفرد العراقي هذهِ الصفة التي ظلت لصيقة بهِ ، على مرّ الأزمنة ، ومن أسبابها ( العقاب) الذي يبدأ من الطفولة .. من الأسرة متمثلة في الأب القاسي الشديد ، إلى المدرسة
( أسلوب التربية والتعليم) ..إلى الواقع – كثرة الانتفاضات والثورات والانقلابات وحتّى الاغتيالات والحكام القساة والطغاة ، ولهذا فأنّ رواة التاريخ مازالوا يَرون في الإنسان العراقي القسوة والخشونة ، رغم طيبته وصراحته ووعيه :”كانَ أسوأ ما في المدرسة العقاب البدني ، متمثلاً بالجلد على الأيدي ، وما على التلميذ الذي ينزل عليه العقاب إلاّ أن يمدّ يده لتلقي الجلدات .. عشر جلدات ..عشرين جلدة ، وكانت الخيزرانة الملساء تفعل فعلها حتّى تدمي يدي مَن نالهُ العقاب”-ص35 و” أحدهم كانَ يأتي بعددٍ من أقلام الرصاص ويوزعها بينَ الأصابع ثمّ يضغط عليها ..أما كمية الألم فلا حدّ لها” و” كما أنّ هناك من المعلمين مَنْ يلجأ إلى الركل واللكم ينضاف إلى ذلكَ الكلام البذيء”-ص36.
ومن النشأة ( البيئة) القاسية ..إلى العقاب المدرسي بكلّ أشكاله ، مخلفات الثقافة العثمانية ..إلى الطفولة بلا طفولة ، حينَ تصادر البراءة ،حيث يفتقد الطفل العراقي أبسط الحقوق في الحياة:”عندما دخلنا المدرسة الابتدائية لمْ تكنْ للطفل أي حقوق”- ص 36.
إلى الذكريات التي جاءت مزيجاً من الساخر والمرّ إلى الجارح والقاهر إلى البهيج حتّى الدمع .. إلى الحنين الظاميء لتلك الأيام والأزمان “أيّ حنينٍ جارفٍ يأخذني لتلك الأيام”- ص 58.. نستولوجياnostalagie لا تدعو إلاّ إلى البكاء ، ولكن هذهِ المرة بدمعٍ حجري .. وفتافيت جسدٍ ناحلٍ ، ليثبت “الربيعي” في سطور سيرته ،أنّ ذاكرة الطفل باقية كما هي بقاءَ الحياة ، لا تصلها رطوبة الشيخوخة ، ولا تلدغها أفاعي الهرم ، مهما تغيرَ المكان وامتد بنا الزمان .. إلى قسوة المكان ( السكن) إلى جانب قسوة الواقع
( الفقر والعوز والحاجة) ، عملا على تنمية الوعي الأسري ، والرهان على مستقبل فلذات الأكباد .. وأحياناً ليسَ رهاناً حقيقيا ً بقدر ما هو عناد الحياة.. والسخرية من الواقع ، والتفوق ومدّ اللسان لكائنات الظروف التي لا تحتمل عشرتها : “إنّ أصعبَ أيامنا وأقساها هيَ أيام الشتاء عندما ينزل المطر ويتحول الشارع إلى بركٍ من الماء والوحل ..
” وكانَ بعض الآباء ، ومنهم أبي وإصراراً منهُ على أنْ لا انقطع عن المدرسة ، يحملني من بيتنا إلى شارع الهواء المبلط( المعبد) ، آنذاك يطمئن عليّ ويعود إلى بيته ِ ..
” وكانَ منظراً مألوفاً أنْ نرى الأمهات والآباء يحملون أبناءهم على ظهورهم أو على صدورهم ليوصلوهم إلى الشارع المبلط ، كما أنهم لا يكتفون بهذا بلْ كانوا ينتظرونهم عندما يغادرون المدرسة ليحملوهم ثانية إلى بيوتهم ..”- ص 40.
كانَ “الربيعي” يحملهُ والده على ظهرهِ ، وأنا في مدينتي التي يميزها التراب والطين والفقر، حيث الأب الذي غادر الحياة مبكرا ًقبل أن أراه ، كانت أُمي تحملني على ظهرها إلى الشارع المعبد ، لأكون برفقةِ تلميذ من أقاربي، أكبر سنّاً مني ، يستولي على مصروفي وهو قرش، مقابل حمايتي واهتمامه بي حتّى عودتي من المدرسة..!!
ومن تفاصيل حياة الطفولة .. وفقدان البراءة ..إلى البساطة ..والسذاجة حتّى في ألعاب الطفولة ، وهي من ابتكار تقنية المكان الهزيلة(لم تكنْ هناك لعب للأطفال) :” نلعب بالكعاب ( وهي عظام تستخرج من بين ساعد وعضد الخروف) أو
( الدعبل ) الكرات الزجاجية الملونة” –ص42.. إلى المكان وأهله ، وتقاليده وأعرافه الشعبية التي ترسمُ فسيفساء مدينة بكلّ تناقضاتها ..وأحزانها ..وبهجتها.. وولادتها .. وموتها :” وللنساء طقوس عندما يأخذ الماءُ أبناءهن إذْ يأتين بطوافات صغيرة من الفلين ، يغرسنَ فيها الشموع وعندما يصلنَ إلى الشاطيء مساءً، ومن المكان الذي اختفى فيه أبناؤهن ، يشعلنَ الشموع ، ويركنها تمضي مع مجرى الماء وكان أنينهنّ المكتوم يمزّق القلب “- ص 43.
و” أية حياة هيَ ” – سيرة البدايات: أحلام .. وطموحات .. وهواجس .. وآمال كبيرة ..واستعجال ملامح الرجولة وأفعالها ..والحرص على اقتناء كُرات المستقبل التي لابدّ أن تكونَ في مرمى الحياة والواقع ، والأجمل أنها تخرق شباكهما بعنادٍ .. فكانت اليقظة المبكرة .. والرجولة المبكرة.. والحُلم رغيف الروح .. وعود ثقاب الرأس المثقل بالرؤى ، فكان للمعلمينِ ” علي الشبيبي” و” علي عبد المطلب” الدور الكبير في إذكاء نيران الطموحات والأحلام ” أحلام .. أحلام .. فيها أتجاوز كلّ ما حولي إلى مسافة هناك لأضعَ قدميّ في الطريق الموصل نحو هدفٍ ما ..وكنت بعد كلّ السرحان والتهويمات أعود لأثرثر على الورق ، مرةً بالحروف ، وأخرى برسومات هي عبارة عن تخطيطات مبهمة..لا تجسّد شيئاً لهُ كيانه “- ص51.
يرى الربيعي أنّ للطفولةِ دورها في صنع الموهبة ، رغمَ أنّ هناك كتّاباً كباراً ، غربيين وعرب ، لمْ يذكروا الطفولة في أعمالهم لأنهم لمْ يعيشوها بحقيقتها وشروطها الحياتية ، باعتراف عبقري الرواية العربية – نجيب محفوظ .. ولكن أية طفولة هذهِ التي يتحدث عنها ” الربيعي” ولها تأثيرها :” رغمَ أنّ كثيراً من هوايات الطفولة والصبا قدْ غابت مع سنواتها البيضاء تلك ، لنجدَ أنفسنا أمام همّ الحياة والمسؤولية والمشاغل ، ومن ثمّ أمام الكتابة الهمّ الأعظم والأكبر” – ص56.. وإذا كان غارسيا ماركيز يرى في مرحلة الطفولة ( المنهل الأهمّ للكاتب) ، فأنّ الربيعي هو الآخر، رغمَ قساوة الطفولة يرى هو الآخر فيها الحافز ، والغذاء الصحي لإبداعٍ جادٍ خالدٍ ، بكلّ ما فيها من سذاجة وبساطة .. وطيش .. ونزق .. ومغامرة ، فيها من الجرأة والتحدي وتجاوز المجهول أيضاً :
” وكلما تذكرت أنني صعدتُ ذلك السلّم الدقيق أرتجف ، وأتساءل كيف فعلت ما فعلت؟أيّ جنونٍ دفعني؟ ولوْ أنّ أبي عرف بهذا لجلدني ومنعَ عنّي الطعامَ والماء” –ص 71.
.”أية حياة هيَ ” مقتطفات من فم ِ الزمن الذاهب –الآتي ، .. فقرات من النثر المركز للجسدِ الحالم ، تترجمها قوافي الغريزة والشهوة الطاغية appetite” أنا شريكُ شهوتي” و” الكائنُ الذي يشتهي هوَ شعورٌ يجعلُ نفسَهُ جسداً”- سارتر بقلمهِ ص207.. حيثً يُسقطُ الربيعي ورقة التوت عن جسدهِ ، ومن جسد أبيه ، وأصدقائه ، وحتّى أقربائه .. ها هو يصفُ أباهُ الشهوانيّ :”كانً مُحبّاً للنساء بشكلٍ غريب ، حيث تلتمعُ عيناهُ عندما تمرّ واحدة، وهي تلسعُ الأرضُ لسعاً ، ويرنّ ( الحِجل) الفضيّ الذي كانَ معظم النسوة ، وخاصةً القرويات يضعنهُ ليطوقَ أرجلهنّ ، وينزلُ على القدمين .. وأكادَ أجزمُ لوْ أنهُ كانَ مقتدراً مادياً لتزوجَ عدداً من النساءءدفعة واحدة ، ولكن ما باليدِ حيلة ، فكانَ يتزوجُ ويطلق “- ص 77. وأحياناً يحولُ الربيعي نزيف الذكرى الممتد من الطفولة إلى سني النضج إلى فلمٍ سينمائي ، يذكّرُ كثيراً بالأفلام المصرية التي تعالج الجنس ، ولكنْ بملح الخجل ..الفلم ( الخجول) الذي يكتبهُ الربيعي ، ويظهر عبر شاشة ( سكوب) ” أية حياة هيَ” جذّاب .. مثير ..بكلّ رائحة وألوان الجسد ، وكاميرا الغريزة ، وعطر الشهوة .. سيناريو ممتع بجملٍ رشيقة .. وأسلوب فضائحي راق ،
ربّما سبقهُ آخرون في خوض هذهِ التجربة ، ولكن لأبجدية الربيعي .. وجرأته طعمٌ خاص : “وغالباً ما تصحبني جدّتي معها ، فتكون في ذلك سعادتي الكبرى ، كنت وقتذاك في السابعة من عمري ، كانت النساء يتحدثن غير آبهات بي ، معتبرات إيّايَ طفلاً لا يفقهُ شيئاً ، فأسمع هذهِ تقول بأنّ زوجها ضربها واحد عدّل مزاجها”- ص 87.
و” ترد أُم خزنة على سؤال عن وضع أبو خزنة في الفراش ..أبو خزنة مثل العصفور ، صاعد نازل ، لا شغل لهُ في إجازتهِ إلا الأكل والركب- ص88
و” تنطلق الضحكات وسط ذهولي وانكتام أنفاسي مما أسمع ، هؤلاء المحتشمات الوجلات يهتكنَ كلّ المحظور عندما ينفردنَ ببعضهنَ “- ص 88.
بهذا التفصيل المثير .. الدقيق ، وهذا الكمّ من الأشخاص ، وتعدّد الأماكن ، واختلاف السلوكيات والأخلاقيات ، والوجوه ، تزدادُ ذاكرةُ الربيعي فتوةً .. ونشاطاً .. وشباباً ،
وأتساءلُ ، ومعي مَنْ قرأ السيرة ، كيف لذاكرة واحدةٍ من لحمٍ ودمٍ أن تختزنَ كلّ هذهِ التفاصيل الحياتية والاجتماعية ، وتنزف بكلّ هذهِ الحرقة .. والمرارة .. والدهشة .. والعُريّnakedness .. والتخلي عن آخر ما يستر الجسد ، وبدون خطوط حمراء ..أهي جسارة الذاكرة – حسب تعبير باشلار – التي يتمتع بها صديقنا الربيعي !؟ ربّما :
” قادتني إلى هذا الحديث مجالس (القِراية) وكيف تخبّيء أولئك النسوة المتلفعات بالسواد ، الغارقات في الحشمة كلّ هذهِ الأحاديث العرية ..كنّ يحتسينَ الشاي المهيل ومعه الكعك المسمسم ، والقهقهات تعلو من حناجرهن ، فأودّ لوْ أفتح باب غرفتي ، وأدعو مَنْ ترغب فيهن الدخول إلى غرفتي ، لأفرّج عن كربها ، وتفرّج عن كربي بالتراضي ..”- ص90.
أيُّ بوح ٍ reveal هذا الذي نقرأ !؟؟
أهوَ بوح الفتى المفتون بترتيل آيات الحنين ، أمْ بوح المدينة ( الناصرية) أسيرة وصايا إنسانها الذي أشبعَ فقراً ..وعوزاً ..وغربةً .. وألماً .. وحزناً ، أهي مدينة المدن هذهِ التي جمعت بين التقوى والبذاءة ، وبينَ الخجل والعفة والعري ، والإيمان وتجاوز المقدس ، وبين الواقعي والمتخيل ، وبين الفكر والنبوغ والبساطة والسذاجة .. أليست هيَ المدينة – الشاعرة ( فككلّ الأدباء الذينَ أنجبتهم المدينة كانوا شعراء) .. أليست هي أيضاً نواة الفكر ، ألم ينتسب إليها أكبر مؤسسي لحزبين ، دارا رحى السياسة العراقية ، هما ” يوسف سلمان ” و” فؤاد الركابي” .. وانتهاءً بأكبر شخصيات حزب البعث ” نعيم حدّاد” ابن سوق الشيوخ إحدى قراها الجنوبية الجميلة .
” الناصرية” .. مدينة فسيفسائية التكوين .. تحبّ الحياة ، بلْ تصنعها بإصرار .. تقاوم كلّ شيء بطيبةِ أناسها ، وغبارها ، وحرارتها، وعزلتها ، وشعرها الشعبي ، ومقاهيها ، وباراتها
.. هي بقعة أرضٍ ساخنة ، من جسدٍ – عراق يختفي ، يتلاشى ، يصادرُ ، يُغيبُ !! ترى لوْ أنّ كلّ كاتبٍ عراقي مثقل بهذا الكمّ من الهموم .. والأحزان .. والأحلام ..والحنين كتبَ عن مدينته بهذا النزيف ( الربيعي) الصادق ماذا سيحصل ؟؟ أيّ زلزالٍ سيصيب هذا العالم ؟ أيّ اضطراب وخراب ضروري سيتعرض لهُ ؟ أليس بعد هذهِ التراجيديا العراقية التي يعيش تفاصيلها العالم هناك تراجيديا أخرى أكثر ألماً .. وإثارةً .. وإحباطاً ؟
” ترى التمثال السومري الذي نٌحتَ بدّقةٍ ، هوَ الزخرفة الجليلة للعالم “.. ترى ماذا سيقول أندريه مورو لو كان شاهداً الآن .. ولم يبقَ للسومريين غير الحزن .. والفقد .. والغياب .. واليتم .. والنزوح .. والموت !؟
.” من أكثر الأيام ثباتاً في ذاكرتي يوم وفاة والدتي ” – السيرة ص94.
الموتُ الذي رآهُ أندريه مورو” اللغز الغريب” وهو ” إله النوم” و” المنتصر الوحيد في النهاية” ..رآهُ بعض الفلاسفة الكبار “أمراً طبعيا يجبُ تقبله” ، وآخرون رأوا فيه تخلصاً من شقاء الحياة وبؤسها ، أما الفييلسوف إفلاطون فقد رأى أنّ :” الموت حقيقة توصلُ الإنسان إلى عالم المثل ، حيث الفضيلة والحق ” ..أما الربيعي فقد وجدَ فيه ذلك اللغز المحير
“لمْ أكنْ أفقه شيئاً من هذهِ المصطلحات” – ص94 .. وهو من أقسى التجارب التي ظلّت راسخة في ذهنهِ ..ومن خلال السيرة نلمس أنّ أسرة الربيعي موعودة أبداً مع الفقد ، ورفيقة للموت ، وهي تنشد الحياة التي كانَ ينشدها جدّهم العظيم جلجامش ، في تقديسهِ للحياة ، وهو يبحث عن عشبة الخلود ، وفي صراعه الأبدي مع الموت :
” إلى أينَ تسعى يا جلجامش
إنّ الحياةَ التي تبغي لنْ تجدَ
إذْ لمّا خلقت الآلهةُ البشرَ
قدّرت الموت على البشريةِ ،
واستأثرت هيَ بالحياة ” – الملحمة
:” كنتُ أنا وأخويّ ننام مع والدنا في الغرفة الثانية ، لكنّ والدي لمْ يغمض لهُ جفن ، وهوَ يسمع صوت نزاع أُمي الأخير ، كانَ يكابر حتّى لا ينفجر بكاءً ، وكنتُ أترك فراشي وأجري نحوها لأحتضنها.. كنتُ أفهم آنذاك أن الموت غياب تام ، وأنّ مَن يموت لنْ نراه بعد ، وسيدفن تحت الارض”-ص94.
ترى هلْ استحضر ” الربيعي” هواجس وقصائد جلجامش ، وهو يلغي إبداعياً فكرة الموت ، لأنّ المبدع هو بأصبعهِ الرماديّ يصنع الحياة ، أمْ أنه يرى للموت حكمة كما للحياة ؟
“وبالنسبة لي شخصياً أحاولُ دائماً أنْ ألغي مسألة الموت هذهِ ، وأدخل في تفاصيل الحياة، ولكن الموت فينا كما الحياة”- ص 110.
وهل الربيعي يُحبّ الحياة من أجل الكتابة ، أمْ يُحبّ الكتابة من أجل الحياة ؟ .. أرى أنّ الحياة لديه كتابة :” هؤلاء الناس أحسدهم على لا مبالاتهم أمام الموت وقوة أعصابهم في معايشته ، رغم أنه وراءنا ومصيرنا المحتوم.. ولكن الحياة عزيزة ولذا نكتب .. ونكتب ، معركتنا مع الموت الذي سينتصر ذات يوم على أجسادنا ، لكنهُ لنْ يستطيع ذلك مع كلماتنا ، فصراعهُ معها أبديّ”- ص111.
والكلماتُ باقيةٌ أبداً : ” لايقهرُ الموتَ إلاّ الحجرُ والكلمةُ ، والكلمةُ أطولُ عمراً من الحجر ” – صلاح عبد الصبور ..وبما أنّ الكاتبَ هوَ نصّه .. وكلماته ، إذنْ فهوَ باقٍ ، وهو المنتصر الوحيد !! قولوا لي مَنْ الذي بقيَ ( مدام بوفاري) أمْ فلوبير؟ ( أنشودة المطر) أمْ بدر شاكر السياب؟ ألمْ يتساويا بالخلود !؟؟
.”كنتُ وبحكم تربيتي أُحبُّ مجالس النساء ، وحنان أُمي ثمّ جدتي وخالتي لمْ يغادرني أبداً”- السيرة ص114.
لعبتِ المرأة دوراً كبيراً في حياة صديقنا الكاتب الكبير عبد الرحمن الربيعي على المستوى الإنسانيّ والإبداعيّ ، وهي نبض الجسد ، وهاجسهُ المشتعل حياةً وإبداعاً معاً !!ترى هلْ حبُّ النساء ، والتعلّق بظل خطواتهنّ يمكنُ أنْ يصبحَ وراثة !؟ :” أمّا والدي فحُبُّ النساء لا يغادره”- ص114.. أمْ أنّ للمرأة والجمال فعلهما في حياة كلّ إنسان ..
فكيف عندما يكون مبدعاً وفنّاناً .. فلماذا هي ” فخ في بعض الأحيان” – سارتر ، ولماذا هي ” ذلك الجحيم العذب” – آرتور رامبو ..!؟ أهيَ سرٌّ جميلٌ بمفهوم طفولة الربيعي :
“وعندما كبرتُ ، وبدأت أعي أخذت الأشياء تتضح لي ، وبدأت أجوبتها تلقائياً “- ص115 أمْ هي بمفهوم الأب القروي ( شحم ولحم) :”عندما كان أبوك معها ، كانَ يسبحُ في خيرات الله من الشحم واللحم”- ص115.. وهلْ يرثُ الأبناء طغيان الذكورة .. وحياة المجون ..والعبث ..والمغامرة أمْ إنه إيعاز الجسد الفتيّ ، ونيران الغريزة إذا ما اشتعلت ، فلا أحد يطفئها إلاّ التلوث بجسد امرأة لا اسمَ لها ، ولها كلّ الأسماء .. وبكل لغات الجسد فاضحة البلاغة والتعبير :”أما ابنة الجيران الملتهبة ، ولقاءاتنا فوق السطح ،وكذلك حسنية فهما مختلفان ، فقدْ كانتا أشبه بندائين موجهين لجسدي وذكورتي..”- ص121.. ومع عطر المرأة يصبحُ الواقعُ حلماً ، والحلمُ واقعاً ، ولكنهما استراحة الجسد الظاميء في الحالتين : “وذات ليلةٍ صيفيةٍ ، وأنا مستغرق في النوم على سطح الدار ، بدشداشتي الناعمة البيضاء..رأيتني وكأنني أعانق ابنة الملاّ داغر، ورائحة جديلتها المعطرة تنفرش عليّ .. كانَ جسدانا ملتصقين “- ص122. حتى بدا أنّ المزيد من المجون .. والعبث .. والعري الفاضح .. يصبحُ زاداً دسماً لنبض ( الربيعي) الإبداعي والروائي على وجه التحديد :” وفوجئت بالوشم الكثير على فخذيها .. ستلاحقني هذهِ الصورة عندَ كتابتي لرواية ( الوشم)”- ص125.
وإذا كان للحياة حكمة .. وللكتابة حكمة ..فهل للجنس حكمتهُ ؟ ألمْ يتحول الجنس لدى كاتب السيرة من غريزة وشهوة طاغية إلى شاغل حياتي خطر ، قدْ يطغي على كلّ شواغل المرء : “لكنّ صفية هيَ معلمتي الحقيقية في التعامل مع جسدِ المرأة أعترف بهذا ..!!
” كنتُ أجدها في الباب أحياناً ، فتلحّ عليّ بالدخول، تفتح لي أحاديث عن أحلامها ومدرستها ، ولكنني أفكّر في جسدها ..”- ص128.
.”لكنّ الناصرية على صغرها كانت لها أسرارها وحكاياتها التي ستتكشف لي، رغم أني لستُ فضولياً إلا بقدر ما يتطلبهُ الجنس الأدبي الذي سأكرس لهُ حياتي .
” وكان لا بد لي أن أتعرف على كلّ ما فيها ، فهي مدينتي التي سأرسمها ومن بعد سأكتبها سواء في رواياتي أو العشرات من قصصي القصيرة ، والتي سأظل أحملها معي أينما ذهبت وفي أي مكانٍ استقرّ بي المقام ..”- ص 130.
ألهذا حفلت سيرة الربيعي ” أية حياة هيَ ” بكلّ فاضحٍ وعارٍ ومسكوت عنه!؟ وهل أخرج الكاتب كلمتي ( العيب) و( الحرام) من قاموسه الإبداعي والحياتي ؟ وهلْ يرى أنّ لكلّ حالةٍ إنسانية عاطفية وغريزية محضة لها صخبها ، وعريها الفاضح ، وأنّ ( الحياء) و
( الخجل) أكذوبتان اجتماعيتان :” في الناصرية كما في كثيرٍ من المدن المكبوتة يشيع الغرام المثلي”-ص131. وفي المدينة ( الشاعرة) .. مدينة الغناء والإلهام هناكَ ما هو أغرب .. الغرام المثلي والجنس المثلي بنوعيه ، كان ذلك منذ زمنٍ والذي يستغرب البعض ويستنكر وجود مثل هذا المصطلح في أيامنا ( المعولمة) ، وربما يبصق على المجتمعات التي ترى للمثليين حقوقاً ، وتجيز لهم تشكيل منظمات .. وفتح نوادٍ ، وربما لهم حقّ التمثيل في البرلمانات والأحزاب :” أمّا الطالبان القريبان لبعضهما ، فكان الهمس حولهما سابقاً للحادث، لكنّ ما رأيته كما يقال الجرم المشهود..
” هذهِ الحادثة ظلت سرّي الذي كتمتهُ ، ولمْ أحكهِ لأحدٍ ، فلوْ أخبرت والدي لربما منعني من الذهاب إلى المدرسة نهائياً .. سكتُّ حتّى هذا اليوم الذي أدونُ فيه هذهِ المذكرات ..”- ص 131. ويرجع ” الربيعي” هذا النوع من الانحراف والشذوذ إلى عواملهِ الأزلية التي لا تتعدى : الكبت أو الإشباع والإدمان .. طال هذا الانحراف شخصيات لها دورها في بناء المجتمع كالمدرسين على سبيل المثال:” لقد رأيت مدرسين أفاضل يتسللون ليلاً إلى المبغى العام في المدينة ، وهم يتنكرون بالعقال واليشماغ حتّى لا يراهم طلبتهم وأولياؤهم ..”- ص139.
.” لكنّ الغريب أنّ حكايات جدّتي لمْ تلهب إلاّ خيالي وحدي ، فحلّقت معها بعيداً ..” – السيرة ص 97.
كلّ نبضٍ حياتيّ وإنسانيّ في ( الناصرية) وفي ( بغداد) ، وكلّ مدينة زارها وأقام بها الربيعي ، وعانق بسطاءها ، وشعراءها ، وفنانيها ، ووجدَ في شوارعها الأمان .. والدفء ..والبهجة حتّى في البكاء .. كلّ ذلكَ كان الزاد الصحي لإبداعهِ ،بكلّ أنواعه القصصي والروائي والشعري وحتّى النقدي .. ولكنه الزاد الذي للرواية فيه حصة الأسد .. ابتداءً من حكايات الجدّة الطيبة : ” كنّا نلتم في حضنها أنا وأخي وأختي ، هي جالسة ونحنُ نتوسد ساقيها.. كانت تروي لنا الحكايات ، وتوقد خيالاتنا “- ص96.
بالإضافة إلى الناس البسطاء ، الشخصيات التي عاشَ معها، والتقاها ، وحفظ همومها وتفاصيل حياتها :”وقد استوحيت شخصية أحد الجسّارين واسمه (جبار) في روايتي
( القمر والأسوار) ، وما عاناه عندما بنت ِ الحكومة جسراً حديدياً بدلاً من الجسر العائم ..”-ص44.و( حسن جوزة) الذي كان ( يتلهى بأكل الجوز والأشرسي) :” وقد استوحيت شخصيته بالاسم في روايتي ( خطوط الطول .. خطوط العرض) – ص45. و( معيوف) فراش المدرسة الذي ” أمسك بولده ليجلده المدير ، ورغم أنّ قلبه كانَ يخفق وكأنّ العصا تنزل عليه هو ، إلا أنه لم يستطع أن يقول للمدير : توقف فهذا ولدي “- ص147.و( معيوف) هوَ باسمه الصريح في رواية
( القمر والأسوار) .ومن زادهِ الإبداعي أيضاً الأصدقاء الذين همُ ليسوا من الأدباء والكتاب والشعراء.. أصدقاء من ( الباعة ،وأصحاب المقاهي ، والدكاكين والتجار والأطباء والمحامين ومصلحي السيارات في الميكانيك والكهرباء) و ” أرى أنّ هؤلاء الأصدقاء يكملون ما ليسَ عندي ، ما لا أملكه ، وكلما جالستهم حتّى فُتِحت أمامي دنيا أخرى، ورأيت الجانب الآخر الذي كانَ من الممكن أن يظل في منطقة العتمة لولاهم ..”-ص 158.ولهذا كانَ ” الربيعي” اجتماعياً كبيراً ، وما زالَ ، حميميته ، وتواضعه ، ومشروعه الإنساني والإبداعي في التواصل مع الآخرين ، وفرّ لهُ هذهِ المادة التي جاءت إلينا عبر كلمات ضوئية ( تقولُ كلّ شيء عن كلّ شيء ) حسب تعبير سارتر ..وظلّ يرى أنّ الفنّ هوَ من صناعة الناس ، وأنّ الفنّان هوَ الضمير الحي للآخرين :
” وجدت نفسي كائناً اجتماعياً لا غنى لي عن الناس ..والكاتب والفنّان لا يستطيع إلا أن يندس بين زحام البشر ليعرف نبض الحياة ، فتأتي نصوصه ثريةً مليئةً “- ص233 .. كذلك القراءة العظيمة ، لأنّ ( فعل الكتابة يستدعي فعل القراءة)- سارتر بقلمه ص 257. وذلك حينَ ” قرأت الترجمة لكتاب ( طفولة) للكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت زاد معرفةَ بأنّ ” لذكريات الطفولة من القدرة على التواصل معنا بعدَ أن تأخذنا السنوات بعيداً”- ص63.
.”هكذا يصبحُ للكلّ في هذهِ السيرة الذاتية قيمة وحياة ، حيث تتعايش الوجوه إلى جانب النصوص والذكريات البسيطة والاستثنائية من حياة شخصٍ وشعب بكامله هوَ الشعب العراقي تحديداً ، بشموخهِ وأناسهِ البسطاء ، وبأبطالهِ التاريخيين والسلبيين ، وبأدبائهِ وفنّانيه أيضاً ” – الناقد عبد الرحيم العلام
المقدمة – ص 17.
فهلْ يُكملُ صديقنا الكاتب والروائي الكبير عبد الرحمن الربيعي فصول هذهِ التراجيديا العراقية؟ ماذا سنرى من كيمياء ألمٍ آخر .. وحزن ٍ .. واحتراقٍ ..ورماد ..وجراحٍ .. وتعريةٍ ..وفضيحةٍ .. وشتائم بعضها ملائكيّ وبعضها الآخر شيطانيّ ؟ وهلْ ينزف قلمهُ الأصيل ، ويندلقُ من قريحته الصافية ما هوَ أكثر جرحاً ..وموتاً ..وتعريةً عن الناصرية .. وبغداد .. والمدن العراقية الداخلة في الغياب ، بأمر الدول العظمى ، وصمت الشقيق والقريب ، حيث يحكم ” المارينز” بخطاهم الملوثة أرض “جلجامش” العظيم ، وتصادر شركة بلاك ووتر الأمنية وغيرها من التنظيمات المدجّجة بأسلحة المخبرين من كلّ نوعٍ وحدبٍ وصوبٍ أحلام الكثيرين من البسطاء ، تحت نظر وضعف الحاكمين ( الفئران اللزجة) كما يسمّي سارتر المحبطين من السياسيين والمثقفين ..!!
جمال سيرة عبد الرحمن الربيعي ” أية حياة هيّ ” في صدقها ..وإتقانها ..ووضوحها الجارح ، وهي تعيدُ القدسية لهمومنا .. وجراحنا القديمة – الجديدة ..وطيبة أهلنا ..
إنها تجرحُ بكلّ حميميةٍ وشفافيةٍ .. ولا تحكُّ على الجرحِ أبداً !!
عِذاب الركابي
كاتب وشاعر
Athabalrekabi22@yahoo.com
2011/12/26
“وكتابي هوَ الإنسانُ الّذي هوَ أنا ، المُضصربُ ، المتهاوانُ ،المتهورُ، الشهواني .. داعرٌ ، عاصفٌ ، مُفكّرٌ ، شكّاك ، كذّابٌ .. رجلٌ متمسكُ بالحقيقة بشكلٍ شيطانيّ ، كما أنا “- هنري ميللر – ربيع أسود ص 20.
.” صرتُ أفكّرُ : إذا كانَ مّنْ تمنيتُ لهُ أنْ يموتَ قبلَ الأوان فهوَ أبي ، أكرهُ أيضاً الناسَ الذينَ يشبهونَ أبي ، في الخيال لا أذكرُ كمْ مرةً قتلتهُ ،لمْ يبقَ إلاّ أن أقتلهُ في الواقع”- محمّد شكري – الخبز الحافي ص94.
.” أمّا والدي فحبُّ النساء لا يغادره ، وقدْ اكتشفتُ أنّ لهُ صديقة ، كانَ يأخذني معهُ ليزورها ، ويتركني ألعبُ معَ ابنتها ذات الشعر الأجعد ،
التي تكبرني بحوالي عامين ، تقولُ لها أُمّها إخرجي إلعبي أنتِ ورحمن ، فتسحبني من يدي وتدخلني إلى عالمها ، وقدْ عرفتُ منها أشياءَ كثيرة ، رغمَ أنّ فكري كلّه عندَ والدي ، وهوَ يجالسُ تلكَ المرأة في غرفتها “- عبد الرحمن الربعي – أية حياة هيَ – ص 114.
السيرة أكثرُ قراءاتي متعةً .. وفائدةً .. وعمقاً !! ومكتبتي تمتليءُ بكتب السيرة uto biograbhyابتداءً من ” أيام” طه حسين ، وحتّى ” كالنّهر الذي يجري “لباولو كويلهو آخر سيرة قرأتها ، وإذا ما أتيحت لي فرصة زيارة معارض الكتاب، فأنني أفتّش بجنون عن هذا النوع من الأدب ، ففيه ِ من قرنفل التجربة وعسل الحياة ما يفوق فردوس الكتب الإبداعية ( الشعر والقصّة والرواية ) الكثير ..ولذلك لا أعرفُ كمْ مرةً قرأت ” تجربتي الشعرية” لصديقي شاعر الحداثة الكبير الراحل عبد الوهاب البياتي ، وهذا لايتنتقص من جمال أعماله الشعرية ، وروعتها ، وتأثيرها في شعرنا العربي المعاصر.
ومن كتب السيرة الذاتية التي جذبتني والتي أخذت الشكل الفنّي ” الرواية – السيرة” : ” الخبز الحافي” للروائي المغربي محمّد شكري ، لكنّني حينَ قرأت أعمال الأمريكي المتمرد هنري ميللر:” مدار السرطان” و” ربيع أسود” و” عملاق أماروسي” اتّضحَ لي أن
” شكري” تقليدي ، ولمْ أعد إلى قراءته مرةً أخرى ، بلْ لمْ يعجبني الجزء الثاني من سيرتهِ
” الشطار” نهائياً ..لمْ يشغلني وينال كلّ اهتمامي كاتب سيرة مثل ” ميللر” ، ربّما لأنّه يؤسّس للسيرة الشفافة الصادقة ، ولأدب التعرية الضرورية ، والفضائحية المُلحة بكلّ ما يتقن من شاعرية .. وإثارة .. وجذب ..ولذة .. وكيمياء شهوة عجيبة ، بالإضافة إلى السخط والمرارة والوضوح الجارح : “وأنا أول ابن عاهرة عاطل عن العمل ، ذو لسان زلقٍ وقلبٍ مريض ، أمخرُ عباب الحشد إصبعاً بينَ الأصابع “- ربيع أسود ص67. .. وأذكرُ أيضاً ” الطريق إلى غريكو” و” تقرير إلى غريكو” رائعة الروائي الكاهن نيكوس كازنتزاكي ، زادتها جمالاً ترجمتها الراقية الشاعرية .. الممتعة للشاعر الراحل ممدوح عدوان ..ولا أنسى أهمّ كتابين من كتب السيرة العربية ” أوراق العمر” للويس عوض ، و” العيش على الحافة” لمحمّد شكري عياد، وهذا الأخير كانَ أكثر جرأةً ، وصدقاً ، وفضائحية ، وهوَ يتحدث عن أبيه الذي كان يطاردُ زوجته ( أُم الكاتب) من غرفةٍ إلى غرفةٍ ، لينالَ منها ، ويطفيء نيران غريزته الجنسية .
.”لقدْ أردتُ في هذهِ الصفحات أن أكونَ صادقاً وصريحاً قدر الإمكان ليشكّل كتابي احتفاءً بالحياةِ التي نعيشها مرةً واحدةً “- أية حياة هي ص33.
وهأنني استقبلُ في صندوق بريدي الذي ينفضُ عنهُ الغبار ، وتعيد لهُ الحياة والبريق إصدارات الأصدقاء والأحبّة من شعر وقصص وروايات ودراسات مهمة ، بعدَ ما أصبح اللقاء والعناق أكثر حرارة عبر الشبكة العنكبوتية .. وصلني ” أية حياة هيَ “*- سيرة البدايات .. السيرة الذاتية الجريئة التي يتفردُ بسحرها الصديق الروائي الكبير عبد الرحمن الربيعي ، لتكون إضافة لأدب السيرة العراقي والعربي معاً ..كتبَ على الصفحة الأولى :
“العزيز عذاب.. ما أكثر المشترك في طفولتنا الجنوبية البيضاء ..وليغفر الله لي ما تقدّم من ذنوبي وما تأخّر” ..وبقدر ما في العبارة من حنينٍ .. وصدقٍ ..وحميميةٍ ، وجدتُ في فسفور حروفها ..وصدى كلماتها..ما يحتاج إلى تأمّل شعري..وإصغاءة جادة..وقراءةٍ منشئة :
“عندما عنّ لي أنْ اكتبَ سيرتي الذاتية التي صدرت عن در الآداب ببيروت أواخر2004 وجدتني مستغرقاً في كتابة هذهِ السيرة ،بلْ في سيرة مدينةٍ كاملة ، بلْ وسيرة بلد ، لذا أخذتني هذهِ التفاصيل لدرجة اضطرتني أنْ أتوقف عند سنّ السابعة عشرة، حيث غادرت مدينتي “الناصرية” جنوب العراق إلى بغداد ، لالتحق بمعهد الفنون الجميلة فيها”- الخروج من بيت الطاعة ص297.
.” أية حياة هيَ ” ..سيرة فريدة من نوعِها ، فقدْ اعتبرها “الربيعي” نفسه ” وثيقة اجتماعية تحملُ فائدة مهمة ، بشاهدتها على فترةٍ من حياةِ الشعب العراقيّ” – الخروج من بيت الطاعة ص297 .. وهيَ تتفرّد بالفعل بتفاصيل حياتهِ الشخصية ، بلْ حياة مدينة شاعرة ، زاخرة بكلّ متناقضات الحياة ، يهيلُ الآنَ جندُ الاحتلال عليها غبارَ أحذيتهم القذرة ، ورذاذ سعالهم الليلي ، وصخب مجنزراتهم الضالة الصدئة .. وخرائط عدوانيتهم الأكثر حقدا ً .. الناصرية وردة الطفولة التي جفّت ، وتبدّدَ عطرها في تراب الأزمنة الخانقة :” مدينة تغرقُ في الحزن ، حتّى أنّ أناسها لا يضحكون من قلوبهم ، خوفاً أن يكونَ ذلك وهماً يقودُ إلى حزنٍ قادمٍ ، لذا يستغفرونَ ربّهم حينَ يضحكون ، ويرددون ( اللّهم اجعله ضحك خيرٍ ) ” – الخروج من بيت الطاعة ص 425.. تفاصيل مُثيرة ، وأحداث غريبة ، وأزمنة مضيئة ومظلمة ، وأخبار قديمة – جديدة أكثرها الجارح والمميت .. وشخوص رتّبتها ذاكرة لاقطة .. جسورة ..لا تخون .. ولا تهادن .. ولا تراوغ ..ولاتزيف ، كانوا أبطالاً في الواقع والخيال ، في صفحة الحياة وعلى بياض الورق، وهمُ مادة الروايات والقصص ( الربيعية) المثيرة ، همُ كاتبوهاالفعليون ، تاريخهم يقولُ ذلك ، ولأصابع ” الربيعي” الفضل في رصد حركاتهم ، وتوثيق حالات جنونهم الضرورية ، وفوضاهم الجميلة التي هي وثيقة حياة :”أذكرُ أنّ والدي الحاج مجيد بدر الربيعي الذي توفاه الله عام 1992 قدْ رافقني إلى المدرسة الغربية في يومي الأول ..وبعد سنواتٍ فاجأني بمغلفٍ كبير ، احتفظ فيه بكلّ شهاداتي الابتدائية والمتوسطة قبلَ تحولي للدراسة في بغداد ..وقالَ لي لابدّ أن أطلع أبناءك – إن عشت ورأيتهم- على تفوقك في الدراسة”- ص35.
في ” أية حياة هيَ” .. كلّ شيءٍ جاءَ طبيعياً .. صادقاً ..حميمياً .. بلا زخرفة .. ولا بلاغة خاوية..، الأشياء ، والفضاءات ، والأمكنة ، والأزمنة ، من البيت البسيط إلى المدرسة .. إلى المقهى ..إلى الشارع ، العقلُ ( مصدر القلق) والخيال ( لحظة التعلق) عملا معاً .. سيرة أبجديتها التعرية ، والفضيحة ، والسخرية أيضاً ، فيها من رماد الروح المحترقة بنيران واقع أليم مرير ، وفيها صدى القراءات التي يستعين بها الكاتب للتخلص من مشاعرٍ ما ، أوْ التعبير عما تنطقُ بهِ جراحه القديمة :”لقدْ علمنا ميللر أنْ نكونَ جريئين ، أنْ يكونَ نصّنا ساخناً “- الخروج من بيت الطاعة ص 572.
والربيعي ككاتبٍ ورسّامٍ يُجسّد لنا لوحةً تشكيلية بارعة للقسوةِ في الحياة ، أضفت على الفرد العراقي هذهِ الصفة التي ظلت لصيقة بهِ ، على مرّ الأزمنة ، ومن أسبابها ( العقاب) الذي يبدأ من الطفولة .. من الأسرة متمثلة في الأب القاسي الشديد ، إلى المدرسة
( أسلوب التربية والتعليم) ..إلى الواقع – كثرة الانتفاضات والثورات والانقلابات وحتّى الاغتيالات والحكام القساة والطغاة ، ولهذا فأنّ رواة التاريخ مازالوا يَرون في الإنسان العراقي القسوة والخشونة ، رغم طيبته وصراحته ووعيه :”كانَ أسوأ ما في المدرسة العقاب البدني ، متمثلاً بالجلد على الأيدي ، وما على التلميذ الذي ينزل عليه العقاب إلاّ أن يمدّ يده لتلقي الجلدات .. عشر جلدات ..عشرين جلدة ، وكانت الخيزرانة الملساء تفعل فعلها حتّى تدمي يدي مَن نالهُ العقاب”-ص35 و” أحدهم كانَ يأتي بعددٍ من أقلام الرصاص ويوزعها بينَ الأصابع ثمّ يضغط عليها ..أما كمية الألم فلا حدّ لها” و” كما أنّ هناك من المعلمين مَنْ يلجأ إلى الركل واللكم ينضاف إلى ذلكَ الكلام البذيء”-ص36.
ومن النشأة ( البيئة) القاسية ..إلى العقاب المدرسي بكلّ أشكاله ، مخلفات الثقافة العثمانية ..إلى الطفولة بلا طفولة ، حينَ تصادر البراءة ،حيث يفتقد الطفل العراقي أبسط الحقوق في الحياة:”عندما دخلنا المدرسة الابتدائية لمْ تكنْ للطفل أي حقوق”- ص 36.
إلى الذكريات التي جاءت مزيجاً من الساخر والمرّ إلى الجارح والقاهر إلى البهيج حتّى الدمع .. إلى الحنين الظاميء لتلك الأيام والأزمان “أيّ حنينٍ جارفٍ يأخذني لتلك الأيام”- ص 58.. نستولوجياnostalagie لا تدعو إلاّ إلى البكاء ، ولكن هذهِ المرة بدمعٍ حجري .. وفتافيت جسدٍ ناحلٍ ، ليثبت “الربيعي” في سطور سيرته ،أنّ ذاكرة الطفل باقية كما هي بقاءَ الحياة ، لا تصلها رطوبة الشيخوخة ، ولا تلدغها أفاعي الهرم ، مهما تغيرَ المكان وامتد بنا الزمان .. إلى قسوة المكان ( السكن) إلى جانب قسوة الواقع
( الفقر والعوز والحاجة) ، عملا على تنمية الوعي الأسري ، والرهان على مستقبل فلذات الأكباد .. وأحياناً ليسَ رهاناً حقيقيا ً بقدر ما هو عناد الحياة.. والسخرية من الواقع ، والتفوق ومدّ اللسان لكائنات الظروف التي لا تحتمل عشرتها : “إنّ أصعبَ أيامنا وأقساها هيَ أيام الشتاء عندما ينزل المطر ويتحول الشارع إلى بركٍ من الماء والوحل ..
” وكانَ بعض الآباء ، ومنهم أبي وإصراراً منهُ على أنْ لا انقطع عن المدرسة ، يحملني من بيتنا إلى شارع الهواء المبلط( المعبد) ، آنذاك يطمئن عليّ ويعود إلى بيته ِ ..
” وكانَ منظراً مألوفاً أنْ نرى الأمهات والآباء يحملون أبناءهم على ظهورهم أو على صدورهم ليوصلوهم إلى الشارع المبلط ، كما أنهم لا يكتفون بهذا بلْ كانوا ينتظرونهم عندما يغادرون المدرسة ليحملوهم ثانية إلى بيوتهم ..”- ص 40.
كانَ “الربيعي” يحملهُ والده على ظهرهِ ، وأنا في مدينتي التي يميزها التراب والطين والفقر، حيث الأب الذي غادر الحياة مبكرا ًقبل أن أراه ، كانت أُمي تحملني على ظهرها إلى الشارع المعبد ، لأكون برفقةِ تلميذ من أقاربي، أكبر سنّاً مني ، يستولي على مصروفي وهو قرش، مقابل حمايتي واهتمامه بي حتّى عودتي من المدرسة..!!
ومن تفاصيل حياة الطفولة .. وفقدان البراءة ..إلى البساطة ..والسذاجة حتّى في ألعاب الطفولة ، وهي من ابتكار تقنية المكان الهزيلة(لم تكنْ هناك لعب للأطفال) :” نلعب بالكعاب ( وهي عظام تستخرج من بين ساعد وعضد الخروف) أو
( الدعبل ) الكرات الزجاجية الملونة” –ص42.. إلى المكان وأهله ، وتقاليده وأعرافه الشعبية التي ترسمُ فسيفساء مدينة بكلّ تناقضاتها ..وأحزانها ..وبهجتها.. وولادتها .. وموتها :” وللنساء طقوس عندما يأخذ الماءُ أبناءهن إذْ يأتين بطوافات صغيرة من الفلين ، يغرسنَ فيها الشموع وعندما يصلنَ إلى الشاطيء مساءً، ومن المكان الذي اختفى فيه أبناؤهن ، يشعلنَ الشموع ، ويركنها تمضي مع مجرى الماء وكان أنينهنّ المكتوم يمزّق القلب “- ص 43.
و” أية حياة هيَ ” – سيرة البدايات: أحلام .. وطموحات .. وهواجس .. وآمال كبيرة ..واستعجال ملامح الرجولة وأفعالها ..والحرص على اقتناء كُرات المستقبل التي لابدّ أن تكونَ في مرمى الحياة والواقع ، والأجمل أنها تخرق شباكهما بعنادٍ .. فكانت اليقظة المبكرة .. والرجولة المبكرة.. والحُلم رغيف الروح .. وعود ثقاب الرأس المثقل بالرؤى ، فكان للمعلمينِ ” علي الشبيبي” و” علي عبد المطلب” الدور الكبير في إذكاء نيران الطموحات والأحلام ” أحلام .. أحلام .. فيها أتجاوز كلّ ما حولي إلى مسافة هناك لأضعَ قدميّ في الطريق الموصل نحو هدفٍ ما ..وكنت بعد كلّ السرحان والتهويمات أعود لأثرثر على الورق ، مرةً بالحروف ، وأخرى برسومات هي عبارة عن تخطيطات مبهمة..لا تجسّد شيئاً لهُ كيانه “- ص51.
يرى الربيعي أنّ للطفولةِ دورها في صنع الموهبة ، رغمَ أنّ هناك كتّاباً كباراً ، غربيين وعرب ، لمْ يذكروا الطفولة في أعمالهم لأنهم لمْ يعيشوها بحقيقتها وشروطها الحياتية ، باعتراف عبقري الرواية العربية – نجيب محفوظ .. ولكن أية طفولة هذهِ التي يتحدث عنها ” الربيعي” ولها تأثيرها :” رغمَ أنّ كثيراً من هوايات الطفولة والصبا قدْ غابت مع سنواتها البيضاء تلك ، لنجدَ أنفسنا أمام همّ الحياة والمسؤولية والمشاغل ، ومن ثمّ أمام الكتابة الهمّ الأعظم والأكبر” – ص56.. وإذا كان غارسيا ماركيز يرى في مرحلة الطفولة ( المنهل الأهمّ للكاتب) ، فأنّ الربيعي هو الآخر، رغمَ قساوة الطفولة يرى هو الآخر فيها الحافز ، والغذاء الصحي لإبداعٍ جادٍ خالدٍ ، بكلّ ما فيها من سذاجة وبساطة .. وطيش .. ونزق .. ومغامرة ، فيها من الجرأة والتحدي وتجاوز المجهول أيضاً :
” وكلما تذكرت أنني صعدتُ ذلك السلّم الدقيق أرتجف ، وأتساءل كيف فعلت ما فعلت؟أيّ جنونٍ دفعني؟ ولوْ أنّ أبي عرف بهذا لجلدني ومنعَ عنّي الطعامَ والماء” –ص 71.
.”أية حياة هيَ ” مقتطفات من فم ِ الزمن الذاهب –الآتي ، .. فقرات من النثر المركز للجسدِ الحالم ، تترجمها قوافي الغريزة والشهوة الطاغية appetite” أنا شريكُ شهوتي” و” الكائنُ الذي يشتهي هوَ شعورٌ يجعلُ نفسَهُ جسداً”- سارتر بقلمهِ ص207.. حيثً يُسقطُ الربيعي ورقة التوت عن جسدهِ ، ومن جسد أبيه ، وأصدقائه ، وحتّى أقربائه .. ها هو يصفُ أباهُ الشهوانيّ :”كانً مُحبّاً للنساء بشكلٍ غريب ، حيث تلتمعُ عيناهُ عندما تمرّ واحدة، وهي تلسعُ الأرضُ لسعاً ، ويرنّ ( الحِجل) الفضيّ الذي كانَ معظم النسوة ، وخاصةً القرويات يضعنهُ ليطوقَ أرجلهنّ ، وينزلُ على القدمين .. وأكادَ أجزمُ لوْ أنهُ كانَ مقتدراً مادياً لتزوجَ عدداً من النساءءدفعة واحدة ، ولكن ما باليدِ حيلة ، فكانَ يتزوجُ ويطلق “- ص 77. وأحياناً يحولُ الربيعي نزيف الذكرى الممتد من الطفولة إلى سني النضج إلى فلمٍ سينمائي ، يذكّرُ كثيراً بالأفلام المصرية التي تعالج الجنس ، ولكنْ بملح الخجل ..الفلم ( الخجول) الذي يكتبهُ الربيعي ، ويظهر عبر شاشة ( سكوب) ” أية حياة هيَ” جذّاب .. مثير ..بكلّ رائحة وألوان الجسد ، وكاميرا الغريزة ، وعطر الشهوة .. سيناريو ممتع بجملٍ رشيقة .. وأسلوب فضائحي راق ،
ربّما سبقهُ آخرون في خوض هذهِ التجربة ، ولكن لأبجدية الربيعي .. وجرأته طعمٌ خاص : “وغالباً ما تصحبني جدّتي معها ، فتكون في ذلك سعادتي الكبرى ، كنت وقتذاك في السابعة من عمري ، كانت النساء يتحدثن غير آبهات بي ، معتبرات إيّايَ طفلاً لا يفقهُ شيئاً ، فأسمع هذهِ تقول بأنّ زوجها ضربها واحد عدّل مزاجها”- ص 87.
و” ترد أُم خزنة على سؤال عن وضع أبو خزنة في الفراش ..أبو خزنة مثل العصفور ، صاعد نازل ، لا شغل لهُ في إجازتهِ إلا الأكل والركب- ص88
و” تنطلق الضحكات وسط ذهولي وانكتام أنفاسي مما أسمع ، هؤلاء المحتشمات الوجلات يهتكنَ كلّ المحظور عندما ينفردنَ ببعضهنَ “- ص 88.
بهذا التفصيل المثير .. الدقيق ، وهذا الكمّ من الأشخاص ، وتعدّد الأماكن ، واختلاف السلوكيات والأخلاقيات ، والوجوه ، تزدادُ ذاكرةُ الربيعي فتوةً .. ونشاطاً .. وشباباً ،
وأتساءلُ ، ومعي مَنْ قرأ السيرة ، كيف لذاكرة واحدةٍ من لحمٍ ودمٍ أن تختزنَ كلّ هذهِ التفاصيل الحياتية والاجتماعية ، وتنزف بكلّ هذهِ الحرقة .. والمرارة .. والدهشة .. والعُريّnakedness .. والتخلي عن آخر ما يستر الجسد ، وبدون خطوط حمراء ..أهي جسارة الذاكرة – حسب تعبير باشلار – التي يتمتع بها صديقنا الربيعي !؟ ربّما :
” قادتني إلى هذا الحديث مجالس (القِراية) وكيف تخبّيء أولئك النسوة المتلفعات بالسواد ، الغارقات في الحشمة كلّ هذهِ الأحاديث العرية ..كنّ يحتسينَ الشاي المهيل ومعه الكعك المسمسم ، والقهقهات تعلو من حناجرهن ، فأودّ لوْ أفتح باب غرفتي ، وأدعو مَنْ ترغب فيهن الدخول إلى غرفتي ، لأفرّج عن كربها ، وتفرّج عن كربي بالتراضي ..”- ص90.
أيُّ بوح ٍ reveal هذا الذي نقرأ !؟؟
أهوَ بوح الفتى المفتون بترتيل آيات الحنين ، أمْ بوح المدينة ( الناصرية) أسيرة وصايا إنسانها الذي أشبعَ فقراً ..وعوزاً ..وغربةً .. وألماً .. وحزناً ، أهي مدينة المدن هذهِ التي جمعت بين التقوى والبذاءة ، وبينَ الخجل والعفة والعري ، والإيمان وتجاوز المقدس ، وبين الواقعي والمتخيل ، وبين الفكر والنبوغ والبساطة والسذاجة .. أليست هيَ المدينة – الشاعرة ( فككلّ الأدباء الذينَ أنجبتهم المدينة كانوا شعراء) .. أليست هي أيضاً نواة الفكر ، ألم ينتسب إليها أكبر مؤسسي لحزبين ، دارا رحى السياسة العراقية ، هما ” يوسف سلمان ” و” فؤاد الركابي” .. وانتهاءً بأكبر شخصيات حزب البعث ” نعيم حدّاد” ابن سوق الشيوخ إحدى قراها الجنوبية الجميلة .
” الناصرية” .. مدينة فسيفسائية التكوين .. تحبّ الحياة ، بلْ تصنعها بإصرار .. تقاوم كلّ شيء بطيبةِ أناسها ، وغبارها ، وحرارتها، وعزلتها ، وشعرها الشعبي ، ومقاهيها ، وباراتها
.. هي بقعة أرضٍ ساخنة ، من جسدٍ – عراق يختفي ، يتلاشى ، يصادرُ ، يُغيبُ !! ترى لوْ أنّ كلّ كاتبٍ عراقي مثقل بهذا الكمّ من الهموم .. والأحزان .. والأحلام ..والحنين كتبَ عن مدينته بهذا النزيف ( الربيعي) الصادق ماذا سيحصل ؟؟ أيّ زلزالٍ سيصيب هذا العالم ؟ أيّ اضطراب وخراب ضروري سيتعرض لهُ ؟ أليس بعد هذهِ التراجيديا العراقية التي يعيش تفاصيلها العالم هناك تراجيديا أخرى أكثر ألماً .. وإثارةً .. وإحباطاً ؟
” ترى التمثال السومري الذي نٌحتَ بدّقةٍ ، هوَ الزخرفة الجليلة للعالم “.. ترى ماذا سيقول أندريه مورو لو كان شاهداً الآن .. ولم يبقَ للسومريين غير الحزن .. والفقد .. والغياب .. واليتم .. والنزوح .. والموت !؟
.” من أكثر الأيام ثباتاً في ذاكرتي يوم وفاة والدتي ” – السيرة ص94.
الموتُ الذي رآهُ أندريه مورو” اللغز الغريب” وهو ” إله النوم” و” المنتصر الوحيد في النهاية” ..رآهُ بعض الفلاسفة الكبار “أمراً طبعيا يجبُ تقبله” ، وآخرون رأوا فيه تخلصاً من شقاء الحياة وبؤسها ، أما الفييلسوف إفلاطون فقد رأى أنّ :” الموت حقيقة توصلُ الإنسان إلى عالم المثل ، حيث الفضيلة والحق ” ..أما الربيعي فقد وجدَ فيه ذلك اللغز المحير
“لمْ أكنْ أفقه شيئاً من هذهِ المصطلحات” – ص94 .. وهو من أقسى التجارب التي ظلّت راسخة في ذهنهِ ..ومن خلال السيرة نلمس أنّ أسرة الربيعي موعودة أبداً مع الفقد ، ورفيقة للموت ، وهي تنشد الحياة التي كانَ ينشدها جدّهم العظيم جلجامش ، في تقديسهِ للحياة ، وهو يبحث عن عشبة الخلود ، وفي صراعه الأبدي مع الموت :
” إلى أينَ تسعى يا جلجامش
إنّ الحياةَ التي تبغي لنْ تجدَ
إذْ لمّا خلقت الآلهةُ البشرَ
قدّرت الموت على البشريةِ ،
واستأثرت هيَ بالحياة ” – الملحمة
:” كنتُ أنا وأخويّ ننام مع والدنا في الغرفة الثانية ، لكنّ والدي لمْ يغمض لهُ جفن ، وهوَ يسمع صوت نزاع أُمي الأخير ، كانَ يكابر حتّى لا ينفجر بكاءً ، وكنتُ أترك فراشي وأجري نحوها لأحتضنها.. كنتُ أفهم آنذاك أن الموت غياب تام ، وأنّ مَن يموت لنْ نراه بعد ، وسيدفن تحت الارض”-ص94.
ترى هلْ استحضر ” الربيعي” هواجس وقصائد جلجامش ، وهو يلغي إبداعياً فكرة الموت ، لأنّ المبدع هو بأصبعهِ الرماديّ يصنع الحياة ، أمْ أنه يرى للموت حكمة كما للحياة ؟
“وبالنسبة لي شخصياً أحاولُ دائماً أنْ ألغي مسألة الموت هذهِ ، وأدخل في تفاصيل الحياة، ولكن الموت فينا كما الحياة”- ص 110.
وهل الربيعي يُحبّ الحياة من أجل الكتابة ، أمْ يُحبّ الكتابة من أجل الحياة ؟ .. أرى أنّ الحياة لديه كتابة :” هؤلاء الناس أحسدهم على لا مبالاتهم أمام الموت وقوة أعصابهم في معايشته ، رغم أنه وراءنا ومصيرنا المحتوم.. ولكن الحياة عزيزة ولذا نكتب .. ونكتب ، معركتنا مع الموت الذي سينتصر ذات يوم على أجسادنا ، لكنهُ لنْ يستطيع ذلك مع كلماتنا ، فصراعهُ معها أبديّ”- ص111.
والكلماتُ باقيةٌ أبداً : ” لايقهرُ الموتَ إلاّ الحجرُ والكلمةُ ، والكلمةُ أطولُ عمراً من الحجر ” – صلاح عبد الصبور ..وبما أنّ الكاتبَ هوَ نصّه .. وكلماته ، إذنْ فهوَ باقٍ ، وهو المنتصر الوحيد !! قولوا لي مَنْ الذي بقيَ ( مدام بوفاري) أمْ فلوبير؟ ( أنشودة المطر) أمْ بدر شاكر السياب؟ ألمْ يتساويا بالخلود !؟؟
.”كنتُ وبحكم تربيتي أُحبُّ مجالس النساء ، وحنان أُمي ثمّ جدتي وخالتي لمْ يغادرني أبداً”- السيرة ص114.
لعبتِ المرأة دوراً كبيراً في حياة صديقنا الكاتب الكبير عبد الرحمن الربيعي على المستوى الإنسانيّ والإبداعيّ ، وهي نبض الجسد ، وهاجسهُ المشتعل حياةً وإبداعاً معاً !!ترى هلْ حبُّ النساء ، والتعلّق بظل خطواتهنّ يمكنُ أنْ يصبحَ وراثة !؟ :” أمّا والدي فحُبُّ النساء لا يغادره”- ص114.. أمْ أنّ للمرأة والجمال فعلهما في حياة كلّ إنسان ..
فكيف عندما يكون مبدعاً وفنّاناً .. فلماذا هي ” فخ في بعض الأحيان” – سارتر ، ولماذا هي ” ذلك الجحيم العذب” – آرتور رامبو ..!؟ أهيَ سرٌّ جميلٌ بمفهوم طفولة الربيعي :
“وعندما كبرتُ ، وبدأت أعي أخذت الأشياء تتضح لي ، وبدأت أجوبتها تلقائياً “- ص115 أمْ هي بمفهوم الأب القروي ( شحم ولحم) :”عندما كان أبوك معها ، كانَ يسبحُ في خيرات الله من الشحم واللحم”- ص115.. وهلْ يرثُ الأبناء طغيان الذكورة .. وحياة المجون ..والعبث ..والمغامرة أمْ إنه إيعاز الجسد الفتيّ ، ونيران الغريزة إذا ما اشتعلت ، فلا أحد يطفئها إلاّ التلوث بجسد امرأة لا اسمَ لها ، ولها كلّ الأسماء .. وبكل لغات الجسد فاضحة البلاغة والتعبير :”أما ابنة الجيران الملتهبة ، ولقاءاتنا فوق السطح ،وكذلك حسنية فهما مختلفان ، فقدْ كانتا أشبه بندائين موجهين لجسدي وذكورتي..”- ص121.. ومع عطر المرأة يصبحُ الواقعُ حلماً ، والحلمُ واقعاً ، ولكنهما استراحة الجسد الظاميء في الحالتين : “وذات ليلةٍ صيفيةٍ ، وأنا مستغرق في النوم على سطح الدار ، بدشداشتي الناعمة البيضاء..رأيتني وكأنني أعانق ابنة الملاّ داغر، ورائحة جديلتها المعطرة تنفرش عليّ .. كانَ جسدانا ملتصقين “- ص122. حتى بدا أنّ المزيد من المجون .. والعبث .. والعري الفاضح .. يصبحُ زاداً دسماً لنبض ( الربيعي) الإبداعي والروائي على وجه التحديد :” وفوجئت بالوشم الكثير على فخذيها .. ستلاحقني هذهِ الصورة عندَ كتابتي لرواية ( الوشم)”- ص125.
وإذا كان للحياة حكمة .. وللكتابة حكمة ..فهل للجنس حكمتهُ ؟ ألمْ يتحول الجنس لدى كاتب السيرة من غريزة وشهوة طاغية إلى شاغل حياتي خطر ، قدْ يطغي على كلّ شواغل المرء : “لكنّ صفية هيَ معلمتي الحقيقية في التعامل مع جسدِ المرأة أعترف بهذا ..!!
” كنتُ أجدها في الباب أحياناً ، فتلحّ عليّ بالدخول، تفتح لي أحاديث عن أحلامها ومدرستها ، ولكنني أفكّر في جسدها ..”- ص128.
.”لكنّ الناصرية على صغرها كانت لها أسرارها وحكاياتها التي ستتكشف لي، رغم أني لستُ فضولياً إلا بقدر ما يتطلبهُ الجنس الأدبي الذي سأكرس لهُ حياتي .
” وكان لا بد لي أن أتعرف على كلّ ما فيها ، فهي مدينتي التي سأرسمها ومن بعد سأكتبها سواء في رواياتي أو العشرات من قصصي القصيرة ، والتي سأظل أحملها معي أينما ذهبت وفي أي مكانٍ استقرّ بي المقام ..”- ص 130.
ألهذا حفلت سيرة الربيعي ” أية حياة هيَ ” بكلّ فاضحٍ وعارٍ ومسكوت عنه!؟ وهل أخرج الكاتب كلمتي ( العيب) و( الحرام) من قاموسه الإبداعي والحياتي ؟ وهلْ يرى أنّ لكلّ حالةٍ إنسانية عاطفية وغريزية محضة لها صخبها ، وعريها الفاضح ، وأنّ ( الحياء) و
( الخجل) أكذوبتان اجتماعيتان :” في الناصرية كما في كثيرٍ من المدن المكبوتة يشيع الغرام المثلي”-ص131. وفي المدينة ( الشاعرة) .. مدينة الغناء والإلهام هناكَ ما هو أغرب .. الغرام المثلي والجنس المثلي بنوعيه ، كان ذلك منذ زمنٍ والذي يستغرب البعض ويستنكر وجود مثل هذا المصطلح في أيامنا ( المعولمة) ، وربما يبصق على المجتمعات التي ترى للمثليين حقوقاً ، وتجيز لهم تشكيل منظمات .. وفتح نوادٍ ، وربما لهم حقّ التمثيل في البرلمانات والأحزاب :” أمّا الطالبان القريبان لبعضهما ، فكان الهمس حولهما سابقاً للحادث، لكنّ ما رأيته كما يقال الجرم المشهود..
” هذهِ الحادثة ظلت سرّي الذي كتمتهُ ، ولمْ أحكهِ لأحدٍ ، فلوْ أخبرت والدي لربما منعني من الذهاب إلى المدرسة نهائياً .. سكتُّ حتّى هذا اليوم الذي أدونُ فيه هذهِ المذكرات ..”- ص 131. ويرجع ” الربيعي” هذا النوع من الانحراف والشذوذ إلى عواملهِ الأزلية التي لا تتعدى : الكبت أو الإشباع والإدمان .. طال هذا الانحراف شخصيات لها دورها في بناء المجتمع كالمدرسين على سبيل المثال:” لقد رأيت مدرسين أفاضل يتسللون ليلاً إلى المبغى العام في المدينة ، وهم يتنكرون بالعقال واليشماغ حتّى لا يراهم طلبتهم وأولياؤهم ..”- ص139.
.” لكنّ الغريب أنّ حكايات جدّتي لمْ تلهب إلاّ خيالي وحدي ، فحلّقت معها بعيداً ..” – السيرة ص 97.
كلّ نبضٍ حياتيّ وإنسانيّ في ( الناصرية) وفي ( بغداد) ، وكلّ مدينة زارها وأقام بها الربيعي ، وعانق بسطاءها ، وشعراءها ، وفنانيها ، ووجدَ في شوارعها الأمان .. والدفء ..والبهجة حتّى في البكاء .. كلّ ذلكَ كان الزاد الصحي لإبداعهِ ،بكلّ أنواعه القصصي والروائي والشعري وحتّى النقدي .. ولكنه الزاد الذي للرواية فيه حصة الأسد .. ابتداءً من حكايات الجدّة الطيبة : ” كنّا نلتم في حضنها أنا وأخي وأختي ، هي جالسة ونحنُ نتوسد ساقيها.. كانت تروي لنا الحكايات ، وتوقد خيالاتنا “- ص96.
بالإضافة إلى الناس البسطاء ، الشخصيات التي عاشَ معها، والتقاها ، وحفظ همومها وتفاصيل حياتها :”وقد استوحيت شخصية أحد الجسّارين واسمه (جبار) في روايتي
( القمر والأسوار) ، وما عاناه عندما بنت ِ الحكومة جسراً حديدياً بدلاً من الجسر العائم ..”-ص44.و( حسن جوزة) الذي كان ( يتلهى بأكل الجوز والأشرسي) :” وقد استوحيت شخصيته بالاسم في روايتي ( خطوط الطول .. خطوط العرض) – ص45. و( معيوف) فراش المدرسة الذي ” أمسك بولده ليجلده المدير ، ورغم أنّ قلبه كانَ يخفق وكأنّ العصا تنزل عليه هو ، إلا أنه لم يستطع أن يقول للمدير : توقف فهذا ولدي “- ص147.و( معيوف) هوَ باسمه الصريح في رواية
( القمر والأسوار) .ومن زادهِ الإبداعي أيضاً الأصدقاء الذين همُ ليسوا من الأدباء والكتاب والشعراء.. أصدقاء من ( الباعة ،وأصحاب المقاهي ، والدكاكين والتجار والأطباء والمحامين ومصلحي السيارات في الميكانيك والكهرباء) و ” أرى أنّ هؤلاء الأصدقاء يكملون ما ليسَ عندي ، ما لا أملكه ، وكلما جالستهم حتّى فُتِحت أمامي دنيا أخرى، ورأيت الجانب الآخر الذي كانَ من الممكن أن يظل في منطقة العتمة لولاهم ..”-ص 158.ولهذا كانَ ” الربيعي” اجتماعياً كبيراً ، وما زالَ ، حميميته ، وتواضعه ، ومشروعه الإنساني والإبداعي في التواصل مع الآخرين ، وفرّ لهُ هذهِ المادة التي جاءت إلينا عبر كلمات ضوئية ( تقولُ كلّ شيء عن كلّ شيء ) حسب تعبير سارتر ..وظلّ يرى أنّ الفنّ هوَ من صناعة الناس ، وأنّ الفنّان هوَ الضمير الحي للآخرين :
” وجدت نفسي كائناً اجتماعياً لا غنى لي عن الناس ..والكاتب والفنّان لا يستطيع إلا أن يندس بين زحام البشر ليعرف نبض الحياة ، فتأتي نصوصه ثريةً مليئةً “- ص233 .. كذلك القراءة العظيمة ، لأنّ ( فعل الكتابة يستدعي فعل القراءة)- سارتر بقلمه ص 257. وذلك حينَ ” قرأت الترجمة لكتاب ( طفولة) للكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت زاد معرفةَ بأنّ ” لذكريات الطفولة من القدرة على التواصل معنا بعدَ أن تأخذنا السنوات بعيداً”- ص63.
.”هكذا يصبحُ للكلّ في هذهِ السيرة الذاتية قيمة وحياة ، حيث تتعايش الوجوه إلى جانب النصوص والذكريات البسيطة والاستثنائية من حياة شخصٍ وشعب بكامله هوَ الشعب العراقي تحديداً ، بشموخهِ وأناسهِ البسطاء ، وبأبطالهِ التاريخيين والسلبيين ، وبأدبائهِ وفنّانيه أيضاً ” – الناقد عبد الرحيم العلام
المقدمة – ص 17.
فهلْ يُكملُ صديقنا الكاتب والروائي الكبير عبد الرحمن الربيعي فصول هذهِ التراجيديا العراقية؟ ماذا سنرى من كيمياء ألمٍ آخر .. وحزن ٍ .. واحتراقٍ ..ورماد ..وجراحٍ .. وتعريةٍ ..وفضيحةٍ .. وشتائم بعضها ملائكيّ وبعضها الآخر شيطانيّ ؟ وهلْ ينزف قلمهُ الأصيل ، ويندلقُ من قريحته الصافية ما هوَ أكثر جرحاً ..وموتاً ..وتعريةً عن الناصرية .. وبغداد .. والمدن العراقية الداخلة في الغياب ، بأمر الدول العظمى ، وصمت الشقيق والقريب ، حيث يحكم ” المارينز” بخطاهم الملوثة أرض “جلجامش” العظيم ، وتصادر شركة بلاك ووتر الأمنية وغيرها من التنظيمات المدجّجة بأسلحة المخبرين من كلّ نوعٍ وحدبٍ وصوبٍ أحلام الكثيرين من البسطاء ، تحت نظر وضعف الحاكمين ( الفئران اللزجة) كما يسمّي سارتر المحبطين من السياسيين والمثقفين ..!!
جمال سيرة عبد الرحمن الربيعي ” أية حياة هيّ ” في صدقها ..وإتقانها ..ووضوحها الجارح ، وهي تعيدُ القدسية لهمومنا .. وجراحنا القديمة – الجديدة ..وطيبة أهلنا ..
إنها تجرحُ بكلّ حميميةٍ وشفافيةٍ .. ولا تحكُّ على الجرحِ أبداً !!
عِذاب الركابي
كاتب وشاعر
Athabalrekabi22@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق