الجمعة، 16 أكتوبر 2015

شاعر الحدباء الكبير الاستاذ عبد الوهاب اسماعيل وغواية الغنائيات الأندلسّية أنور عبد العزيز-الموصل

شاعر الحدباء الكبير الاستاذ عبد الوهاب اسماعيل وغواية الغنائيات الأندلسّية
أنور عبد العزيز-الموصل
"صبوات متأخرة " .. ديوان للشاعر السبعيني عبد الوهاب إسماعيل، صادر عن مطبعة العلا بالموصل لسنة 2013 ، وسبق أن صدر للشاعر فاتحة النار 1974، طقس آخر 1987، مسرحيات غنائية مشتركة مع الشاعر معد الجبوري 1987، هواجس على مرآة خاصّة 2002، لا فضاء سوى وحشتي 2007، غصون المنتهى 2010 وله تحت الطبع سبعة أعمال شعرية ومسرحية وموشحات وأغنيات للأطفال…
الصبوات في تسعين صفحة من القطع المتوسط.. احتوت تسع عشرة قصيدة كلها من الشعر العمودي بأوزانه وقوافيه وأن كان قد سبق للشاعر أن كتب في دواوينه السابقة بطريقة الشعر الحر والتفعيلة ولم يقترب من قصيدة النثر.. أهدى الشاعر ديوانه لقرائه بهذه الكلمات إلى كل عاشق ذبلت روحه قبل أن يلامسها الندى.. إلى كل نفس ظمئت لعبق الحبيب.. وكل خاطرة داهمها اليباس فتشقّقت أرضها أهدي هذه النفثات، علّ الصدى يورق في ذاكرة المشيب، ويبلّ حرقة الروح، قبل أن تجّف العروق، وينسدل الستار على بوابة الحلم إلى الأبد…
قلتُ أن الديوان كله من الموزون المقفّى وبامتداد وابداع شعري يؤكد أن عبقري البصرة الفراهيدي ما تزال بحوره ونغماته وقوافيه متفاعلة مع شعر هذا الزمان، وليس كما يقال أنه مضى وانتهى واندحر زمانه وخابت موسيقاه والتي وكما يروّجون أنها ليست غير طنين ورنين ، وزادوا على ذلك تلفيقهم وأكذوبتهم التاريخية أن كل علم وفن الخليل استقاه لمجرد مروره في سوق الصفارين ومن هذه السوق وأصوات ضربات السنادين تكاملت في أذنيه بحور الشعر وهم لم يقولوا هل أستقى كل ذلك العلم والفن لمرة واحدة عبر هذا السوق أو لمرات ..
الفراهيدي عالم لغوي وموسيقي وفنان كبير ولن تنطلي مثل هذه الفرية والأضحوكة إلاّ على الجهلة من ناقصي القدرات على التفكير الموزون.. أي طنين وأي رنين؟ وأين مثل هذا الطنين والرنين الرتيب الممّل في أشعار المتنبي والمعّري وأبي تمام والبحتري وأبي نؤاس والجواهري والبردوني وألف شاعر عروضي منذ قرن وألف شاعر حديث ومعاصر حتى ممّن كتبوا في الشعر الحرّ وبداياتهم كانت فراهيدية كالسّياب ونازك والبياتي وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ويوسف الصائغ وسعدي يوسف وأمل دنقل و.. و.. و.. قرأنا لغالبية من هؤلاء ولم نتحسس ذلك الطنين والرنين، بل أغنوا عقولنا بحكمة الحياة وتجاربها الثرية وأمتعوا مشاعرنا وذائقتنا بأحلى عذوبة من كلام شهيّ وأحاسيس إنسانية.. خواء الطنين والرنين الأجوف لا يرتبط كسبب في الأسلوب الشعري، بل في عجز الشاعر حتى لو تواصل مع الشعر لسنين طويلة.. فشل الشاعر أي شاعر كان وبأي أسلوب ليس غير نتاج لقدرات خائبة ليس مكانها الشعر، وليس لها إلا أن تغادر عوالم الشعر السحرية التي لم تخلق لها.. مثل هؤلاء الشعراء وما أكثرهم هم كانوا السّبة والقيح والدمامل بوجه أي شعر موزون وغير موزون حر أو تفعيلي، حتى لأقصى حالات الاختلاف والمغايرة والتحديث الشعري.. شاعر الصبوات من الفئة المقتدرة المتمرسة المتمكنة من التفاعل مع موسيقى الخليل، بل وقد أحسسته وفي كل منجزه الشعري حفياً معتزاً بهذا التراث إذ هو يقترب منه ولحد كبير من غنائية روحية تذكرنا بالأندلسيات الشعرية في نغماتها مع أن الشاعر لا يصل لها لفنون التطريب فالتطريب شيء آخر وفن آخر، ومهما كان الشعر عذباً رقيقاً فهو لن يصلح كله للغناء، والشاعر المقتدر عارف خبير بما يفعله إذ هو يدرك كم هي المسافة بين شعر قيل للحياة برقة، وبين شعر أعدَّ خصيصاً ليكون غناءً صرفاً وتطريباً..
فالتطريب حالة أخرى وغواية أخرى مع متطلبات السهولة والوضوح مما يبعده عن الحالة الشعرية الواقعية الواعية وبتشكيل حضورها الفكري.. وأحسب أن شاعرنا عبد الوهاب إسماعيل هو مما ناغم وجانس بين غنائية تهفو لها نفسه وبين موضوعات تظل أقرب لعوالم الشعر بما فيه من فكر وتجارب حياتية وخيال، أرى أيضاً أن قوة الرغبة عنده لغنائيات شعرية هي التي جعلته ميالاً متابعاً جامعاً لإبداعات الشعر الشعبي ليس كله بل لأفضل قائليه الشعر الشعبي المعروف بمترادفاته ومتضاداته وصوره وأخيلته وبخصوصية غرائبيات جناساته المثيرة في فن الإبداع والصناعة اللغوية الماهرة هذه الصبوات المتأخرة .. كلها غناء وبوح وتغريدات ونغمات وموسيقى تطوف في كل كلماتها وشجوها ترانيم موشحات أندلسية لم تستطع الأزمان على غدرها من إذابتها ونسيانها.. زدتني تيهاً فزدني عطشا.. أنا لن أشكوك يا هذا الرشا، هو قلبي كلما عاندته.. خان صبري وبكتماني وشى .. كل من رمناه قبل التفتا..
أيها التائه بالحسن متى؟ يا غزالاً تائهاً من شركي.. صاف بالروح وبالقلب شتا ، يا مليح الوجه يا من حسنه.. كلما أخرس روحي همسا.. طلعة الفاتن في شرع الهوى.. يأخذ السّراق منها قبسا ، تنكرين الصبّ في ستينه.. أنا في الستين ربّ الألق والسنين وكما يقولون فهي حدّ السكين في هذا المقطع يبدو ضجراً محاصراً فيدفع عنه الضجر والحصار بتحدٍ وأنه في كامل نشوة الوجود وبكل بهائه وتألقه.. لم تذق أجفان عيني وسنا… جل من أعطاك وجهاً حسناً يلاحظ مخاطبة الشاعر للحبيبة على طريقة القدامى بالتذكير عوضاً عن التأنيث لإخفاء أمر حبّه وصباباته.. يا غزالاً رابياً في رغد.. وضلالا حبله من مسد لاحظوا ميل الشاعر لاستخدام كلمات تراثية يجد لها مكاناً في استخدامات معاصرة.. عتّق العمر لحائي فأنا.. قُرمةٌ نسّت من الجوز الصدي.. أنها السّتون مرّت مثلما قطرة ضاعت ببحر الأبد.. حكاية العمر هذه والخوف من دهاليز عمر سود مظلمة كلما تطاولت السنون تثقل على الشاعر سكينته وتؤرقه.. وهذه الحكاية الموجعة الأليمة ترددت في كثير من دواوينه السابقة وسنراها تتكرر هنا أكثر.. الخوف.. الخوف من النهاية وبأسرارها الأبدية الموغلة في العتمة.. فهو أبداً في رعب تسارع وجريان العمر ويرجو الخلاص من المجهول وبحسن العاقبة.
ونتواصل مع شاعرنا وهو يترنم همد العشاق في أحلامهم.. ومشى ليل الدجى في البلج.. أيها الساقي عطاش كلّنا.. فأغثنا يا قريب الفرج .. نصف الليل وديك العرش صاحا.. والذي مثلك أغفى وأستراحا.. سرحت في خضرة الروح يد.. وقضى سرحك حزناً وجراحا.. فاتك السرب وما اصطدت منىً.. يوم كان الصيد مبذولاً مباحا .. أنا في الستين صبّ مستهام.. ولأهل الجهل في الغيّ أمام.. فاتقوا ضعفي إذا ما طيفكم.. زارني في الليل والناس نيام ..
ثم يلظى العذر والعمر معاً.. مثلما يلهب في قشّ ضُرام .. صبوة الشيب ضلال كامل… آثمٌ مجنونها والعاقل.. آثم بائعها والمشتري.. والذي طاف بها والحامل … ملّني الصبر فما معنى اصطباري؟.. فأنا جارك يا من كنت جاري.. كم من الأعذار يشفي عذرها.. وشفى العمر وقد شاب عِذاري .. رابه الشيب ولغز الشيب صعب.. والبرايا حصده والدهر خرب… عابثاً يأتيك من مأمنه.. والأماني في يد الأيام نهب ، تنقّل أيها الناجي.. من البلور للعاج.. لطبع فيه للملكات من دلّ وتغناج.. لأعظم في حلال الحسن من ملك ومن تاج ..
سلاماً أيها التفّاح يا خدَاً على الخد.. أحقاً راحت الأعوام بالشمّام والورد؟… وغامت سكرة العنقود في عينيك بالوعد؟ والضحى والفجر والنور وعمّا .. أنا للرشفة من ثغرك أظما…
أنا للشعر وللنثر إذا.. جئت أستصرخه خالاً وعمّا .. لاوقت للصبر الجميل فها أنا.. تتراكض الأعوام خلف جداري .. ها قد عدنا ثانية لهواجس الخوف من هرولة وركض الأعمار التي لا تتحسس لأية مشاعر من خوف الإنسان الذي يريد تهدئة سنينه قليلاً ليس غير رغم معرفته باستحالة مثل هذه الأماني وتمر السنون تعقبها سنون ويكبر الخوف من الخطايا وتقترب التوبة.. تعلّل بالسنين من الخطايا.. ولا تجنح فعذرك غير كافي .
كل الديوان غزل واستذكارات وأمانٍ وأحلام وصبوات تجيء حيناً مشتعلة فائرة متوهجة، وحيناً مرموزة وعلى استحياء من العمر والشيب.. وكان الجميل فيها الخاتمة المهداة لزوجته.. وكما يقال لا يصحّ ألا الصحيح .. وكان هذا الصحيح هو هذه الأبيات الموجعة الأليمة طوّفت في طوال البلاد وعرضها.. ورجعتُ منها متعباً وكليلاً.. وخبرت أسرار الجمال فلم أجد.. في مثل وجهك هادئاً وجميلاً.. لومتّ قبلك فأذكري ريحانتي.. أو متِ مثلي لن أعيش طويلاً.. يا منتهى الحبّ الأصيل ولم أزل رغم المشيب متيماً مبتولا ..
بعد هذا لنا وقفة مع العنوان الذي وصفه القاصّ الراحل محمود عبد الوهاب بأنه ثريا النصّ ، فالعنوان دالّ مهم برمزيته وإيحائه وكشفه واختصاره لكل ما قيل وكما قرأناه.. فكلما قرأناه كان صدى أثيراً لصبوات عشق روحية.. ولكنها جاءت متأخرة شبه ضائعة ومما يمكن أن تتوغل عميقاً مخفيّة في أسرار الرغبات الولهى والتي ستظل رغبات رومانسية حالمة ومع خشية صاحبها من دوران هذا الناعور الرهيب وهو يقرض ملتهماً وبلا رحمة رحلة العمر..
*رحم الله الاستاذ أنور عبد العزيز القاص والكاتب والناقد الموصلي الكبير
*http://www.alefyaa.com/?p=9825

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية بقلم : الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف

  فاروق عمر فوزي وكتابه : تجربتي في الكتابة التاريخية الأستاذ الدكتور إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة الموصل أجا...