الدكتور عبد الجبار الجومرد ..رمز في سماء العراق
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس –جامعة الموصل
تمهيد :
واحد من الرجالات الذين تركوا بصمة في تاريخ العراق المعاصر من خلال ماقدموه من جهد في بناء العراق، وتطويره ..كان شاعرا وكاتبا وصحفيا ومؤرخا ونائبا ووزيرا وقبل هذا وذاك كان إنسانا فاضلا متواضعا أحب الفقراء ، وعاش بينهم، وكتب عنهم، ودافع عن حقهم في الحياة الحرة الكريمة .
قمين بنا ان نتذكره ونذكر به الأجيال لكي يتخذوا منه قدوة تفيدهم في مواجهة الحياة ..لقد كان رجلا وطنيا ، نزيها ، نظيف الكف واليد واللسان . كما كان شجاعا ، جريئا ، صلبا يقول الحق ولو على نفسه . أحبه الناس وأحبهم التفوا حوله .. كان معهم في السراء والضراء ..عندما مارس الصحافة من خلال " جريدة الهدى" لسان حال حزب الجبهة الشعبية دبج المقالات الملتهبة التي انتقد فيها السلطة الحاكمة في العهد الملكي الهاشمي 1921-1958 ...
وفي مجلس النواب جادل نوري السعيد رئيس الوزراء المزمن وطالبه بأنصاف الناس، وتحقيق مطالبهم في الحياة الحرة الكريمة ....وعندما اختاره الضباط الأحرار - بعد نجاح ثورة 14 تموز –يوليو 1958 - وزيرا للخارجية بعد نجاح الثورة لم يتورع في أن يقول للزعيم الركن (العميد الركن ) عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة : " إنني لا أسمح بأن يتدخل أحد في شؤون وزارة الخارجية وسياستها .. أنت رجل عسكري.. وانا لااعرف ان أكون قائد فرقة لأنني لم أتخرج من الكلية العسكرية ....فكيف اسمح لعسكري ان يتدخل في السياسة الخارجية .... ؟ . قال ذلك معترضا على ما ما كان يتفوه به العقيد فاضل عباس المهداوي رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة بحق بعض الملوك ورؤساء الدول .
من هو الدكتور عبد الجبار الجومرد وماالذي قدمه لوطنه وأمته ؟ما تكوينه الثقافي والفكري ؟ وما نشاطاته ؟ .
وقبل الاجابة على هذه التساؤلات وغيرها لابد أن نقف قليلا عند ظروف العراق بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى حيث حظي العراق اثر ثورة 1920 الكبرى ، وتشكيل الدولة العراقية سنة 1921، وتعاظم الحركة الوطنية بنخبة طيبة من المثقفين الذين عملوا على إثارة النزعة الوطنية والقومية . وفي الوقت نفسه أخذ هؤلاء على عاتقهم تحقيق التواصل مع غيرهم من المثقفين العرب الذين كان لهم دورهم في الحفاظ على الثوابت القومية وإعلاء شأن الأمة وحفظ اسمها عبر العصور وإبراز دورها الحضاري ، وكان من نتائج هذا التوجه صدور كتابات متنوعة والتطرق إلى موضوعات دقيقة ومهمة لم نشهدها في المؤلفات السابقة. وقد وقفت وراء هذه النهضة الفكرية الحديثة عوامل عدة أبرزها :
1 ـ وجود تنظيمات سياسية وثقافية ، اهتمت بالتاريخ العربي الإسلامي واحتضنت الأدباء والمثقفين وشجعتهم على تأليف الكتب ونشر الدراسات الأدبية والتاريخية ، ومن هذه التنظيمات جمعية العلم ، وجمعية العهد ، والنادي العلمي ، والنادي الأدبي ، ونادي الجزيرة .
2 ـ صدور مجلات أدبية متعددة وبخاصة خلال الفترة من سنة 1926
وحتى 1958 ، كان من أبرزها مجلة ( المجلة ) الموصلية –البغدادية التي صدر عددها الأول في الأول من تشرين الأول 1938 . وقد برز على صفحات هذه المجلة مثقفين عراقيين يؤمنون بفكرتي التقدم ، والحرية وينادون بأستقلال العراق ووحدة الأمة العربية .
3 ـ وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية ، ومع تنامي الأفكار الديمقراطية ،
وازدياد اهتمام الدولة بإرسال بعثات دراسية إلى الجامعات الأوربية
والأمريكية للتخصص في العلوم والآداب المختلفة وتنامي دور
بعض المعاهد والكليات الجامعية العراقية،ومنها دار المعلمين العالية ،
وكلية الآداب والعلوم بجامعة بغداد ، ووصول الطلاب المتخصصين
إلى العراق بعد انجاز دراساتهم العليا في أوربا والولايات
المتحدة الأميركية وتأسيس أقسام علمية ، وتطور حركة البحث
العلمي .
برزت أهمية هذه المجاميع من المثقفين ، بعد الحرب العالمية الثانية ، خاصة على أثر عودة طلائع البعثات العراقية التي ذهبت إلى الغرب وهي تحمل درجات علمية متخصصة في العلوم والآداب مما كان لذلك اثر كبير في تطوير الأقسام العلمية في الكليات والمعاهد العالية .فضلا عن إسهامات هذه المجاميع في بناء العراق علميا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا وليس من شك في ان الدكتور عبد الجبار الجومرد هو أحد تلك المجاميع التي كانت تحث الخطى بأتجاه ان يكون العراق بلدا قويا موحدا متطورا له مكانته المحلية والعربية والإقليمية والدولية ..كان الدكتور عبد الجبار الجومرد هو نتاج تلك المتغيرات وقد عمل مع إخوانه وزملائه في سبيل تحقيق الآمال المنشودة .
ولادته وحياته :
ولد عبد الجبار محمد شيت الجومرد في محلة حوش الخان في الموصل سنة 1909 . ومحلة حوش الخان هي من محلات الموصل العريقة وكان آل الجومرد من الأسر الدينية المعروفة ، فجد الدكتور عبد الجبار الجومرد "عبد الله" كان رجلا معروفا بالتقوى والورع وكان عضوا في مجلس إدارة ولاية الموصل أيام سيطرة العثمانيين على الموصل أما والده محمد شيت فكان شاعرا حافظا للقران الكريم وكانت له في داره ندوة علمية (مجلس أدبي ) ، وقد عرف بأتقانه القراءات العشر وقد عمل في التجارة ،وعاش في مصر ردحا من الزمن وهناك تولى طبع ديوانه وديوان أستاذه وصديقه الملا حسن البزاز في مجلد واحد وقد قرظ الديوانين العلامة عبد المجيد الشرنوبي الأزهري. أما المقدمة فكتبها محمد شيت نفسه بأسوب جميل .
ادخل محمد شيت ولده عبد الجبار في الكتاب ليتعلم القران الكريم وشيئا من الحساب . وفي حوالي السنة 1921 أدخله المدرسة القحطانية الابتدائية وكانت من مدارس الموصل القليلة التي تزخر انذاك بنخبة طيبة من المعلمين المعروفين بتوجهاتهم القومية واليسارية وكان من أبرزهم الأستاذ يحيى قاف الشيخ عبد الواحد ..لم يكن هذا معلما عاديا بل كان مدرسة قائمة بذاتها يكتب المقالات ، ويؤلف للمسرح وقد عمل في الحركة العربية القومية أيام العثمانيين الأخيرة. وفي عهد الاحتلال البريطاني الذي ابتدأ في العراق سنة 1914 وفي الموصل سنة 1918 .كان يحيى قاف منتميا إلى جمعية العلم السرية المناهضة للانكليز وكان اسمه الحركي قحطان واختصاره حرف القاف من هنا عرف بيحيى قاف وقد وقف أمام الملك فيصل الأول ملك العراق 1921-1933 اول ملوك العراق عند زيارته للموصل سنة 1921 ليقول له منتقدا سيطرة الانكليز على مقدرات العراق "أنا يحيى قاف أقول وما اخاف " .تأثر الجومرد بمعلمه هذا وصار وزملائه يتقدون حماسة ووطنية ومن ذلك ان الجومرد عبد الجبار وقف أمام الكابتن بيز ناظر(مدير ) المعارف في حفل أقامته المدرسة ليقول قصيدة مطلعها :
خليلي طال الانتظار المؤرق
ولم يبق للصبر المسيطر رونق
وعندما أكمل القصيدة علا هتاف التلاميذ مطالبين بالاستقلال ،وغضب الكابتن بيس واصدر أوامره بمعاقبة المعلمين في المدرسة ونقل بعضهم خارجها .
دخل عبد الجبار الجومرد مدرسة الموصل الثانوية وكانت المدرسة الثانوية الوحيدة سنة 1925 وكان من زملائه علي حيدر سليمان ويونس السبعاوي . ومن حسن الحظ أن مدير المدرسة هاشم السعدي كان من العناصر المعروفة بوطنيتها .... كما كان يدرس في المدرسة الرائد والمربي القومي الفلسطيني درويش المقدادي وممن درسه كذلك الشيخ رشيد الخطيب والسيد احمد أفندي الجوادي وهم من المدرسين الوطنيين فزاده هذا الجو اندفاعا وتحمسا وكانت سماء الموصل انذاك ملبدة بآثار مشكلة الموصل ومطالبة الأتراك بها وعرض الأمر على عصبة الأمم وجاءت لجنة للتحقيق وتشكلت احزاب وطنية وقومية منها حزب الاستقلال الوطني أكدت على عروبة الموصل وضمان عائديتها للعراق ، وصدر قرار العصبة سنة 1926 بصيرورة الموصل جزءا من العراق .وقد ساند المدرسون والمعلمون في الموصل المطالب الوطنية وكان عبد الجبار الجومرد قد بدأ يلقي القصائد في الدفاع عن الموصل واستنكار ربط العراق بالمعاهدات الجائرة مع بريطانيا في سنتي 1926 و1927 .
لم يكتف الجومرد" بالشعر" بل حفز زملائه لاستخدام "المسرح "فشكل معهم لجنة للتمثيل ومثلت اللجنة مسرحية يوليوس قيصر ولعب الجومرد دور بروتس اما يونس السبعاوي فمثل دور يوليوس قيصر .كما ألف الجومرد مسرحية باللهجة العامية بعنوان : " الحمال "وكانت مسرحية ساخرة وقد حضر عرض المسرحية في الموصل آنذاك مدير المعارف العام طه الهاشمي الذي أعجب بالمسرحية وامتدح دور الجومرد .
ولم يكن اهتمام الجومرد مقتصرا على الشعر والتمثيل ، وإنما كان مولعا بالرياضة وخاصة لعبة كرة القدم حتى انه أصبح لاعبا مرموقا فيها وهو ما قاده للترشيح لكي يلعب مع منتخب الموصل لكرة القدم وقتذاك .
التحق عبد الجبار الجومرد بدار المعلمين الابتدائية ببغداد وتخرج فيها سنة 1929 . وواصل دراسته في " المعهد العربي للحقوق في دمشق " وتخرج سنة 1935 ، وعاد إلى الموصل ليمارس المحاماة . وفي سنة 1936 التحق بالبعثة العلمية العراقية في باريس وحصل على الدكتوراه عن أطروحته الموسومة : " الدستور العراقي عام 1925 بين النظرية والتطبيق " وذلك سنة 1940 ، وقد حالت ظروف الحرب العالمية الثانية دون عودته لبلده ، ليحصل على دكتوراه أخرى في الأدب سنة 1944 من جامعة باريس وكتب أطروحته الثانية عن " الأصمعي" .
من آثاره المطبوعة: الأصمعي: حياته وآثاره - بيروت 1955، وهارون الرشيد (جزآن) - بيروت 1956، وغرّة العرب: يزيد بن مزيد الشيباني - بيروت 1961، و مؤسس دولة بني العباس : أبو جعفر المنصور - بيروت 1963، وله كتابان باللغة الفرنسية: الدستور العراقي لعام 1925 في النظرية والتطبيق - 1941، مأساة فلسطين العربية - 1945، ومن آثاره المخطوطة التي يحترز عليها ولده الصديق الأستاذ الدكتور جزيل : « تاريخ الموصل» - وهو في 950 صفحة، و«العراق في طريق الثورة الاجتماعية» - وهو في 200 صفحة، و«محور النجاة» - عن قضية فلسطين،و"سياسة العراق الخارجية " .وقد ذكر الجومرد لمراسل جريدة الفكر العربي في الموصل في 28 أيار –مايو 1964 انه يعمل في كتاب بعنوان " القناديل الثلاثة " ويتناول فيه سير حياة وجهاد كل من عماد الدين زنكي ،ونور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي وقال إن هؤلاء الثلاثة حملوا الراية التي وضعت حدا للغزو الصليبي الاستعماري .
الجومرد شاعرا :
عُرف الجومرد شاعرا ومع انه شاعر مقل إلا أن شعره يفيض بالقيم والمبادئ الوطنية والقومية والإنسانية والأخلاقية السامية .في سنة 1934 كتب قصيدة انتقد فيها الوضع السياسي في العراق وأبدى امتعاضه من أولئك الذين ينافقون السلطة وصور بغداد وقد طالها الإهمال وكيف كانت تزهو أيام المنصور، والرشيد والمأمون وقال :
لايبيت الشريف إلا طريدا
وفي دياجيك والابي الجواد
لو رآك المنصور أعرض حز
نا وقال الرشيد ما لايعاد
وهجا سنة 1932 وهو في طريقه من دمشق إلى بغداد نوري السعيد رئيس الوزراء الذي وقع معاهدة 1930 الجائرة مع بريطانيا والتي كبلت العراق بقيود ثقيلة قائلا :
محى الله في ارض العراق عصابة
لها عمل ناء عن الحق ناكس
حكومة سراق تبيع بلادها
كما باع مسروق الودائع حارس
يقولون في بغداد مجلس امة
ألا منيت بالخزي تلك المجالس
مجالس شر الناس فيها ممثل
لخيرهم والعبد للحر سائس
ومما آلمه انه سمع بقيام بعض الملاكين الغائبين في فلسطين ببيع أراضيهم لليهود فكتب قصيدته الشهيرة: قصيدة (( نحن وعرب وادي الحوارث )) قال فيها :
مَنْ سامعٌ فأبثُّ شكوى لم تزلْ
بين الضلوع دفينةً آلامُها؟
لم أخشَ إذ قلتُ الحقيقة ناقدًا
أو لام فيما قلتُه لُوَّامــــها
إنا تعوَّدنا الكلام فألـــــــــسنٌ
ثرثارةٌ في الكِذْب بات غرامها
شِيَعٌ وأحزابٌ يحطّم بعضــها
وجرائدٌ مأجورةٌ أقلامُـــــها
يتطاحنون لمقصدٍ أو مأربٍ
ولـــكل نفسٍ غايةٌ ومَرامـــها
وهلِ ارتقت للمجد إلا أمّةٌ
كثرتْ فعائلها، وقلَّ كـــــــلامها؟
إذ كان باقٍ للعروبة فتيةٌ
فمتى يفيق من السُّبات نِيامها ؟
تأسيسه نادي الجزيرة :
عايش لجومرد أحداث الموصل وتأثر بما كان يسود فيها من أجواء قومية بتأثير مطالبة تركيا بها . لذلك أسهم في الحملة الوطنية لتأكيد عروبتها مع مدرسيه وزملائه ، ثم سعى لتأسيس نادٍ قومي في الموصل باسم " نادي الجزيرة " ، وقد انتخب الجومرد رئيساً له سنة 1935 واستطاع من خلال نشاطاته الثقافية والسياسية أن يجعل النادي واجهة للعمل السياسي القومي شأنه في ذلك شأن" نادي المثنى ابن حارثة الشيباني " في بغداد و"نادي المهلب بن أبي صفرة " في البصرة .
الجومرد في جامعة الدول العربية :
وفي سنة 1946 رشح للعمل في جامعة الدول العربية ، فسافر إلى القاهرة ، لكنه استقال من عمله بعد سنتين وعاد إلى الموصل ليرشح نفسه نائباً في انتخابات أول أيار-مايو 1948 ، وقد استقال من المجلس النيابي سنة 1950 ثم رشح كنائب عن حزب الجبهة الشعبية المتحدة في انتخابات سنة 1953 وفاز عن الموصل وقد بقي في المجلس حتى يوم 9 حزيران –يونيو وهو يوم صدور الإرادة الملكية بحله اثر تشكيل وزارة ارشد العمري وقد رشح لانتخابات حزيران –يونيو سنة 1954 وبقي حتى صدور الإرادة الملكية بتعطيل المجلس النيابي الى نهاية تشرين الثاني –نوفمبر 1954 .
وفي هذه الفترة إلف نوري السعيد وزارته في 3 آب –اغسطس سنة 1954 وقد عد الدكتور عبد الجبار الجومرد تكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة إيذانا ببدء مرحلة تكميم الأفواه تمهيدا لربط العراق بعجلة الأحلاف الغربية ومنها حلف بغداد الذي وقع سنة 1955.. لهذا اعتزل الجومرد الحياة النيابية وقد صدق ظن الجومرد اذ اصدر نوري السعيد سلسلة من المراسيم الإرهابية كا أسمتها المعارضة في العراق سنة 1954 وبموجبها حكم السعيد العراق بيد من حديد واستمر الأمر هكذا حتى قيام ثورة 14 تموز 1958 وسقوط النظام الملكي الهاشمي ومقتل نوري السعيد .
على الرغم من قصر الفترة التي عمل فيها الجومرد نائبا في البرلمان، إلا انه اكتسب شعبية واسعة وغدا قريبا من هموم الناس وتطلعاتهم .انتقد سياسة الحكومات المتعاقبة واتهمها بالتقصير في الاستجابة لمطالب الشعب . وقال إن الشعب انتبه ووعى وان حجة الحكومة في اعتقال المعارضين بحجة انتمائهم للحزب الشيوعي واهية وان الموقوفين من المعارضين دائما هم من القوميين والإخوان المسلمين والشيوعيين على حد سواء وان مذاهب الوزارات غير معروفة وكل همومها سرقة أموال الشعب وان الحكومات تفتقد إلى سياسات إستراتيجية تجاه التعليم والاقتصاد والسياسة الخارجية وان الوزارات لو سمعت انتقادات المعارضة "لكنا في جنات عدن " ودعا إلى تخفيض النفقات الحكومية غير الضرورية وتطبيق قانون ضريبة الدخل ومنع التهريب والرشوة وطالب بالدخول في مفاوضات مع شركات النفط الاحتكارية الغربية لزيادة حصة العراق والقيام بمشاريع زراعية وعمرانية .كما أكد على أهمية إعطاء طرق المواصلات ما تستحقه من اهتمام والنهوض بالزراعة والصناعة وتحدث عن حالة الشعب الاقتصادية المزرية ومردودها الاجتماعي مطالبا الحكومة بما أسماه " ثورة اجتماعية واقتصادية " وانتقد الجهاز الإداري الحكومي ووصفه بضعف الكفاءة ، وأكد أهمية القيام بالإصلاح الشامل . وقال في احدى مداخلاته : " زرت بعض نواحي العراق ، وسمعت- كما تسمعون أنتم - الانات الصارخة التي تخرج من قرارة الصدر " وهكذا كان للجومرد دور متميز في البرلمان ، وذلك من خلال تركيزه على مطالب الشعب الحيوية ، وانتقاده للسلطة الحاكمة لتجاهلها العمل على تحقيق سعادة الشعب ورفاهيته والاستجابة لمطالبه في الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
إسهامه في تأسيس حزب الجبهة الشعبية :
في 1950 سنة استقال من البرلمان ليسهم في تأسيس حزب الجبهة الشعبية المتحدة وكان من أعضائه الشيخ محمد رضا الشبيبي والسيد طه الهاشمي ، وليكون مسؤول فرع الموصل . كما رشح لانتخابات سنة 1952 و 1954 وأسهم في تكوين جبهة وطنية انتخابية شعبية واسعة.
الجومرد وجريدة الهدى
لم يكن الجومرد بعيدا عن ممارسة الصحافة فمنذ اكماله الدكتوراه وهو يغذي العديد من الصحف والمجلات بمقالاته التي كان يناقش فيها مسائل حيوية تمس حياة الشعب . وقد تميزت هذه المقالات بالرصانة والدقة وبراعة الأسلوب . وقد كان طموحه الشخصي أن يصدر جريدة وجاءت الفرصة عندما تأسس حزب الجبهة الشعبية المتحدة واحتاج الأمر أن يصدر جريدة في الموصل . وفي 8 كانون الثاني –يناير سنة 1952 ، وافقت وزارة الداخلية على طلبه بأصدار جريدة الهدى في الموصل لتكون لسان حال فرع حزب الجبهة الشعبية بأسم جريدة الهدى . وقد صدر العدد الأول في 24 كانون الثاني وهو يحمل توقيع الدكتور عبد الجبار الجومرد صاحب الامتياز وبمقال افتتاحي بعنوان : " رسالة الهدى " .كتب الجومرد في جريدة الهدى ، بأسمه الصريح ، وبأسماء مستعارة منها : صاحب التوقيع ورياضي قديم وزيد وخبير زراعي .وتناول في مقالاته وكان معظمها بعناوين مثيرة من قبيل "سياسة الأمر الواقع " و"الشعب الذي ينسى لايستحق الحياة " و" مطق العمياء " و" التسيب الأخلاقي " و" الشعور بالدولة " و" اجراس الخطر تنذر العرب بالدفاع المشترك " .كان في كل مقالاته ينتقد الحكومة ويتهمها بالإهمال وبالسعي لربط العراق بالأحلاف وبإبقاء حالة البؤس الاقتصادي والاجتماعي والثقافي .كان لاينتقد فحسب بل كثيرا ما كان يقدم الحلول والمعالجات .
لقد حاول النظام الملكي استمالة الدكتور عبد الجبار الجومرد مرات ومرات لكنه كان معارضا عنيدا صلبا لايخشى الا الله .عرضوا عليه المناصب فكان يرفض رفضا قاطعا .
الجومرد وزيرا للخارجية :
واثر ثورة 14 تموز 1958 اختير وزيراً للخارجية في أول حكومة تشكلت في العراق الجمهوري وقد سمع مرسوم تعيينه من الإذاعة وتوجه من الموصل إلى بغداد عصر يوم 15 تموز –يوليو 1958 وحضر في اليوم نفسه اجتماعا لمجلس الوزراء برئاسة الزعيم (العميد ) الركن عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة وبعدها توجه إلى وزارة الخارجية ليتسلم مهامه ففوجئ بخلو الوزارة الا من البعض فقرر استدعاء الجميع وألقى كلمة بينهم استطاع من خلالها إعادة الطمأنينة إلى نفوسهم وطلب إذاعة بيان يطمئن الأجانب داعيا الشعب إلى المحافظة على أرواح الأجانب وممتلكاتهم .وفي 17 تموز –يوليو 1958 شكل وفدا من موظفي التشريفات في الوزارة لزيارة الهيئات الدبلوماسية وأكد في خطابه الذي ألقاه في اجتماعات هيئة الأمم المتحدة في 18 اب-اغسطس 1958 ان النظام الجديد يحترم الاتفاقيات والمعاهدات وان للثورة ما يبررها وأشار إلى مساؤئ النظام السابق وقال ان العراق مصر على ترصين الوضع الداخلي وتثبيت اركان الجمهورية ودفع الاخطار الخارجية والداخلية .وفي احاديثه الصحفية وفي مجلس الوزراء ظل الجومرد يؤكد أهمية اقامة نظام سياسي ديمقراطي يضمن الحريات العامة .وفي السياسة الخارجية كان الجومرد يؤكد على ضرورة إقامة علاقات دبلوماسية متينة وعلى قدم المساواة مع الدول العربية والاجنبية بما يضمن مصلحة العراق .وقد اشار في محاضرة له ألقاها في كلية الأركان العراقية في 27 اب –اغسطس 1958 الى ان السياسة الخارجية للعراق الجمهوري تستند الى ما أقر الدستور المؤقت الذي تم اعلانه في 17 تموز 1958 من حيث اولا : إن الدولة العراقية جمهورية مستقلة ذات سيادة كاملة .وثانيا :إن العراق جزء من الأمة العربية .ومن هذا المنطلق فأن سياسة العراق الخارجية تسعى الى التعاون والتضامن الدول العربية المتحررة والعمل لاسيما في المحافل الدولية على تحقيق الأهداف العربية القومية الى جانب دعم جامعة الدول العربية كما أكد على ان ثورة العراق تعمل على تحرير فلسطين والأجزاء المغتصبة الأخرى .
وعلى صعيد سياسة العراق الدولية قال ان السياسة الخارجية تستهدف المحافظة على استقلال العراق وانتهاج سياسة الحياد الايجابي وتجنيب العراق ويلات الحرب ويمكن التعامل بمطلق الحرية مع سائر دول العالم دون تفريق أو تمييز .وفي تصريح لجريدة الصباح التونسية في نيويورك أوضح بأن علاقات العراق مع دول العالم ستبقى ودية طالما احترمت تلك الدول حقوق العراق ومصالحه واستقلاله وهذا ينطبق على الجميع بما فيها الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي القائم آنذاك . لقد كانت الظروف التي تولى فيها الدكتور الجومرد وزارة الخارجية صعبة للغاية فالولايات المتحدة الأميركية أنزلت قواتها بعد قيام الثورة في العراق ..أنزلت قواتها في لبنان كما انزل البريطانيون قواتهم في الاردن وكان هم الجومرد وقد مثل العراق في الأمم المتحدة ان يصون الثورة بكل ما اوتي من حكمة ودبلوماسية وخلال وجوده في وزارة الخارجية عمل على إدخال كل من المغرب وتونس إلى جامعة الدول العربية يوم فشلت المحاولات لضمهما إليها وقد قدرت تونس والمملكة المغربية هذا الجهد فيما بعد حتى ان الملك محمد الخامس ملك المغرب والحبيب بورقيبة كرماه وقلداه ارفع الأوسمة .
لم تلق تلك السياسة تجاوبا من لدن رئيس الوزراء كما أن ثمة اطرافا سياسية وحزبية أصبحت تثير المشاكل مع بعض الدول ومنها الجمهورية العربية المتحدة . وفي خضم الصراع السياسي الذي نشب بين قائدي الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم ونائبه العقيد الركن عبد السلام عارف واستغلال بعض القوى الحزبية لهذا الصراع وتحريك الشارع للاستفادة منه قابل الدكتور الجومرد الزعيم عبد الكريم قاسم على انفراد وتحدث معه حول ما يدور في الشارع سواء في بغداد او بقية المدن العراقية وخاصة ما يتعلق بتصرفات الحزب الشيوعي وما لتلك التصرفات من انعكاسات سلبية على علاقات العراق الخارجية والموقف الحرج الذي يجد فيه وزير الخارجية نفسه ولما لم يجد أذنا صاغية من الزعيم قرر الاستقالة وكان أول وزير راودته فكرة الاستقالة من منصبه .وفي صباح 3 شباط –فبراير 1959 قدم الجومرد استقالته إلى رئيس مجلس السيادة نجيب الربيعي ومما قاله إن وزارة الخارجية لم تستطع ان توفق بين بياناتها وبين بيانات وآراء الأجهزة الإعلامية والمؤسسات وهذا لايصب في صالح سمعة العراق ومستقبل علاقاته مع الدول وسرعان ما لحق الجومرد في الاستقالة عدد من الوزراء القوميين والاكراد والوطنيين الاخرين امثال صديق شنشل وفؤاد الركابي وبابا علي الشيخ محمود .
عندما سقط نظام الزعيم عبد الكريم قاسم في 8 شباط –فبراير 1963 وجد الجومرد بأن التغيير ربما يفيد العراق ويعيده إلى محيطه العربي لكنه توجس خيفة من طموحات عبد السلام عارف رئيس الجمهورية الجديد وكان يرى بأنه لم يكن على مستوى جيد من النضج السياسي فضلا عن افتقاره الى منهج محدد وإستراتيجية للحكم ثابتة تنطلق من مصالح العراق لذلك رفض الجومرد تنفيذ مرسوم تعيينه سفيرا في ديوان وزارة الخارجية واعتذر رسميا بذريعة ظروفه الصحية وانصرافه إلى إدارة أمور عائلته وانشغاله بالتأليف ومع هذا فقد لبى الدعوة للمشاركة في وضع دستور الاتحاد الثلاثي بين العراق ومصر وسوريا وحضر بضعة اجتماعات في جامعة بغداد خلال شهري تموز وآب يوليو واغسطس 1963 الا ان الظروف السياسية حالت دون إكمال المهمة . ولم يكن الجومرد بعيدا عن شعبه بعد هذا بل ترأس سنة 1966 لجنة شعبية في الموصل تولت توعية الناس بعد انتشار مرض الكوليرا آنذاك . كما وافق سنة 1967 على اختياره من جامعة الموصل ليكون عضوا في مجلس "هيئة الإنسانيات" والتي تحولت فيما بعد لتصبح كلية الاداب وكان عميدها انذاك الاستاذ الدكتور عبد المنعم رشاد .ويقينا بأن الدكتور الجومرد اسهم بفاعلية في وضع اسس تلك الهيئة وتوسيع نشاطاتها وترصين عملها ولم يغادر عمله هذا الا بعد ان اشتد عليه المرض .
الجومرد وفلسطين :
عُرف الجومرد حينما كان في باريس بنشاطه القومي العربي ، وبدفاعه عن قضية فلسطين والتعريف بها من خلال محاضراته وكان كتابه " مأساة فلسطين العربية " الذي نشره بالفرنسية سنة 1945 ، قد نال شهرة واسعة بين الرأي العـام وخاصة في مجال الوقوف ضد الدعاية الصهيونية في فرنسا .
الجومرد وكتابة السير :
والجومرد يعد رائداً من رواد كتابة السير والتراجم في العراق . وقد اتجه في محاولة منه للتعريف بمواقف بعض الشخصيات التاريخية إلى وضع مجموعة من الكتب أبرزها كتابه عن " هارون الرشيد " و " يزيد بن مزيد الشيباني " و " أبو جعفر المنصور " . وكان منهج الجومرد في كتبه هذه يعتمد الأسس العلمية في الوصول إلى الحقيقة التاريخية مع ملاحظة إبراز الدروس المستنبطة في تناول هذه الشخصيات والأحداث والوقائع،وبما يساعد القارئ على استلهام التاريخ واستحضار رموزه وعناصر البطولة فيه ، وغرس قيم الخير وخدمة الإنسانية . ولم ينسَ الجومرد أن يقوي حجته بالعودة إلى المصادر الأساسية والمراجع الحديثة "ويتبع منهجية البحث التاريخي،حيث حرص على تحري الموضوعية قدر الإمكان في خضم الروايات المتناقضة والصور المتنوعة . والجومرد لم يبحث عصر الرشيد أو عصر أبي جعفر المنصور فحسب ، بل مهّد لهما عن الفترة التي سبقت عصرهما " إلاّ أن الجومرد مثله مثل أي مؤرخ يتأثر بالأوضاع السائدة في عصره في العراق ، كان حدياً في بعض أحكامه ، وربما حمل نصوصه أكثر مما تحتمل ، أو بالغ بعض الشيء في التفسير " . ومع هذا فإن لموقفه ما يسوغه،ولا تزال كتبه في السير والتراجم أفضل ما ألفه العراقيون في هذا المجال .
الجومرد مؤرخا للموصل :
وللجومرد كتاب مهم في تاريخ الموصل لا يزال مخطوطاً وهو في 950 صفحة وهو بعنوان : " الموصل والتاريخ منذ أقدم العصور حتى اليوم " ،ويحترز على مخطوطته نجله صديقنا الأستاذ الدكتور جزيل الأستاذ في قسم التاريخ بكلية التربية ، ويتألف من (20) فصلاً . وقد قدّم له بما أسماه " تعريف " بقوله : " تاريخ مدينة الموصل قصة من أروع من كتب الزمن فصولاً طوالاً ، ومن أمتعها خبراً ، وأغناها حدثاً ، وأغزرها فجاءة وتناقضاً ، فهي من أعرق مدن الشرق الأوسط وامنعها قدماً ، عاشت أكثر من ثلاثة آلاف سنة ، ذاقت خلالها حلو العيش ومره ، وسعادة الحياة وبؤسها " .
ويتطرق الجومرد إلى الهدف من وضعه تاريخاً مفصلاً للموصل بقوله : إنّ عمله هذا ليـس إلاّ مجهوداً أراد منه " خدمـة لمن يهمـه معرفـة أمر الموصل ، وحقيقة تاريخها ، كمدينة أثرية ثمينة ، ساهمت في موكب الإنسانية على مختلف العصور،وقدّمت في أيام عزها نماذج رائعة من أبنائها في ميادين العلم والأدب والفن والفروسية ، وبعثت في مواهبهم أشعة نحو طرق الحضارة قديمها وحديثها،وصمدت أمام نكبات الزمن حتى اليوم ".
وكتاب تاريخ الموصل ، ليس كتاباً تسجيلياً لأحداث مرت بالموصل عبر العصور ، وإنما هو كتاب علمي يعتمد التحليل والنقد ولذلك ، فإن للجومرد آراء مبثوثة في صفحاته ، فعلى سبيل المثال هناك رأي في نشوء الموصل ، ومناقشة لأخطاء المؤرخين القدامى في بعض الفترات الغامضة في تاريخ الموصل ورأي في أسباب سوء أوضاع الموصل خلال العهد العثماني،ورأي في سلوك الولاة العثمانيين ، ورأي في سياسة الملك فيصل الرامية لإقامة
" دولة عربية ذات سيادة " في العراق ورأي في انقلاب بكر صدقي ورأي في أسباب صمود الموصل بوجه التحديات ، ورأي في مواجهة مجتمع الموصل المحافظ للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية منذ أواخر القرن التاسع عشر .
ويخلص الجومرد إلى تأكيد أمرين يستلفتان النظر في تاريخ الموصل ، أولهما صمودها وعدم تلاشيها امام كل التيارات الجارفة من الأحداث الجسام، وتمسكها بأهداب الحياة إزاء تلك النوائب والأمر الثاني ، وهو أكثر غرابة من سابقه ، كما يقول الجومرد ، ذلك أن الموصل حُكمت من قبل شعوب وأقوام ودول غريبة أصلاً ولغة وعادات وتقاليد زهاء ثمانمائة سنة ، لكنها بقيت محافظة على عروبتها ولغتها العربية حتى اليوم . ويرجع الجومرد صمود الموصل واحتفاظها بعروبتها إلى عدة أسباب منها موقعها الجغرافي واتصالها من الجنوب الغربي بخط عربي عريض يمر بالعراق طولاً وينتهي بشبه الجزيرة العربية .
والجومرد الذي عُرف عنه اهتمامه بالسير والتراجم وما قدمه في هذا المجال ، يؤكد مقدرته على التحليل ورسم صورة واضحة لمن يكتب عنه ، نراه في تاريخ الموصل مولعاً بمتابعة الأسر والشخصيات الموصلية عبر العصور . فعلى سبيل المثال كتب عن الأسرة العمرية والأسرة الجليلية والأسرة العلوية، وأسرة الغلامي ، وأسرة ياسين المفتي ، وأسرة آل شويخ . كما أرخ لصفوة واسعة من علماء الموصل وأدبائها أمثال : الشيخ محمد الرضواني،والحاج أحمد الجوادي،والحاج عبد الله النعمة،وعثمان الديوه جي، والملا عثمان الموصلي ، والشيخ محمد الصوفي ، والحاج محمود شيت الجومرد ، والشيخ يوسف الرمضاني ، والسيد أحمد الفخري ، والشيخ محمد ضياء الدين الشعار ، والحاج مصطفى البكري ، وسليمان بن مراد الجليلي ، ومحمد حبيب العبيدي ، وفائق الدبوني ، ومحمود الملاح ، والشيخ محمد نوري الفخري ، والدكتور داؤد الجلبي .
إنّ كتابات الجومرد التاريخية تتميز بسماتها القومية وبحرصها على التصدي لمحاولات الانتقاص من العرب ودورهم في التاريخ ، فالجومرد يهدف إلى كشف حقائق الأحداث ، بأسلوب علمي تحليلي ، لذلك فإنه يدافع في كل صفحة من كتبه عن العرب والعروبة ، ويسعى لتنمية الوعي في الحاضر ، ولرسم مستقبل الأمة الحضاري ، وفي الوقت نفسه يطالب الأجيال الصاعدة بالمزيد من دراسة تاريخ العراق والأمة العربية ، ومن خلال اهتمامه بالسِيَرْ والتراجم ، فإنه رمى إلى تقديم النموذج الحي ، والقدوة الصالحة ، وبذلك عبّر في دراساته عن مبادئه القومية العربية ، وانتماءاته الوطنية الصادقة التي جعلت منه رائداً حياً من رواد حركة كتابة التاريخ المعاصرة ليس في الموصل وحسيب ، وإنما في الوطن العربي .
وفاته :
منذ سنة 1945 بدأت بوادر مرض السكر تظهر عليه ومع انه اتخذ الاحتياطات اللازمة من قبيل الحمية وما شاكل إلا أن المرض اخذ –بمرور الزمن –يتفاقم عليه كما ظهر عنده عجز في القلب لهذا انصرف في أخريات حياته إلى قراءة القران الكريم وإكمال تأليف مالديه من كتب وكان يخطط لحضور مهرجان ابي تمام في مدينة الموصل والذي كان من المقرر عقده في 11 كانون الأول-ديسمبر سنة 1971 لتحضره وفود أدبية وشعرية من مختلف الدول العربية الا انه سقط صريعا بالمرض مساء يوم 29 تشرين الثاني-نوفمبر سنة 1971 وعندما انعقد المهرجان وقف الأدباء والشعراء دقيقة لقراءة سورة الفاتحة على روحه وكان من ابرز الأدباء والشعراء الذين حضروا نزار قباني وعبد الله البردوني وعبد الوهاب البياتي وحمد عفيفي مطر .وقد أبنته " مجلة الجامعة " التي كانت جامعة الموصل تصدرها بكلمات منها :" لقد جفت محبرة واحد من أعلام الموصل ومن مفكريها وادبائها البارزين هو المرحوم الدكتور عبد الجبار الجومرد .لقد كان يستعد هو الاخر بفكره وقلمه للاسهام في هذا المهرجان الكبير بمناسبة مرور اثني عشر قرنا على وفاة الشاعر العربي الخالد حبيب بن أوس الطائي المكنى ب(أبي تمام ) وهكذا غاب عن الساحة العربية فارس كرس حياته لإظهار وجه أمته الناصع تاريخا وأدبا وكافح من أجل صيانة حقوقها ..." .
شيع تشييعا مهيبا يليق به وقال الشيخ عمر النعمة وهو أحد ابرز علماء الدين في الموصل انذاك عند قبره : " انك كنت أديب الموصل ومؤرخها ووزيرها وكنت ممثلها في المجلس النيابي وكنت مثال الموصلي البار لبلده وكنت وجه الموصل في أحسن صورها وأثوابها وأصالتها ..بفضيلتها وبأخلاصها وبنزاهتها " .وقد حضر التشييع جمع كبير من الناس يتقدمهم ممثل لرئيس جمهورية العراق آنذاك السيد أحمد حسن البكر .
حقا يحتاج الدكتور عبد الجبار الجومرد الى مجلدات كثيرة وحلقات تلفزيونية عديدة .. فالرجل كان متعدد الاهتمامات .. كما انه ملّا الدنيا وشغل الناس .تزوج من السيدة مهدية بنت صالح حديد وهي من أسرة حديد المعروفة في الموصل .وله بنت واحدة وثلاثة أبناء هم( وافر) وهو من مواليد 1947 ويعيش حاليا خارج العراق واثيل 1949 وهو أستاذ للاقتصاد في كلية الإدارة والاقتصاد –جامعة الموصل وجزيل 1952 وهو أستاذ التأريخ الإسلامي بكلية التربية –جامعة الموصل ..وما تركه الجومرد من ذرية صالحة وعلم ينتفع به لجدير بأن يجعلنا نتذكره ونذكره بأستمرار .مؤلفاته المطبوعة والمخطوطة كثيرة وجديرة بأن تطبع أكثر من مرة وكتاباته في الصحف والمجلات أكثر من أن تحصى وأحاديثه للصحافة العربية والأجنبية كثيرة ، ومداخلاته في البرلمان واسعة وقد كتب عنه الأستاذ الدكتور عدنان سامي نذير الزرري أطروحة بعنوان :" عبد الجبار الجومرد :نشاطه الثقافي ودوره السياسي " قدمت لجامعة الموصل واستحقت الامتياز وطبعت في كتاب سنة 1991 .
الجومرد حقا " رجلا في امة " ورمز بارز في سماء العراق ....انه رجل دولة والعراق اليوم بأمس الحاجة إلى" رجال دولة" لا إلى سياسيين مغامرين .
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس –جامعة الموصل
تمهيد :
واحد من الرجالات الذين تركوا بصمة في تاريخ العراق المعاصر من خلال ماقدموه من جهد في بناء العراق، وتطويره ..كان شاعرا وكاتبا وصحفيا ومؤرخا ونائبا ووزيرا وقبل هذا وذاك كان إنسانا فاضلا متواضعا أحب الفقراء ، وعاش بينهم، وكتب عنهم، ودافع عن حقهم في الحياة الحرة الكريمة .
قمين بنا ان نتذكره ونذكر به الأجيال لكي يتخذوا منه قدوة تفيدهم في مواجهة الحياة ..لقد كان رجلا وطنيا ، نزيها ، نظيف الكف واليد واللسان . كما كان شجاعا ، جريئا ، صلبا يقول الحق ولو على نفسه . أحبه الناس وأحبهم التفوا حوله .. كان معهم في السراء والضراء ..عندما مارس الصحافة من خلال " جريدة الهدى" لسان حال حزب الجبهة الشعبية دبج المقالات الملتهبة التي انتقد فيها السلطة الحاكمة في العهد الملكي الهاشمي 1921-1958 ...
وفي مجلس النواب جادل نوري السعيد رئيس الوزراء المزمن وطالبه بأنصاف الناس، وتحقيق مطالبهم في الحياة الحرة الكريمة ....وعندما اختاره الضباط الأحرار - بعد نجاح ثورة 14 تموز –يوليو 1958 - وزيرا للخارجية بعد نجاح الثورة لم يتورع في أن يقول للزعيم الركن (العميد الركن ) عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة : " إنني لا أسمح بأن يتدخل أحد في شؤون وزارة الخارجية وسياستها .. أنت رجل عسكري.. وانا لااعرف ان أكون قائد فرقة لأنني لم أتخرج من الكلية العسكرية ....فكيف اسمح لعسكري ان يتدخل في السياسة الخارجية .... ؟ . قال ذلك معترضا على ما ما كان يتفوه به العقيد فاضل عباس المهداوي رئيس المحكمة العسكرية العليا الخاصة بحق بعض الملوك ورؤساء الدول .
من هو الدكتور عبد الجبار الجومرد وماالذي قدمه لوطنه وأمته ؟ما تكوينه الثقافي والفكري ؟ وما نشاطاته ؟ .
وقبل الاجابة على هذه التساؤلات وغيرها لابد أن نقف قليلا عند ظروف العراق بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى حيث حظي العراق اثر ثورة 1920 الكبرى ، وتشكيل الدولة العراقية سنة 1921، وتعاظم الحركة الوطنية بنخبة طيبة من المثقفين الذين عملوا على إثارة النزعة الوطنية والقومية . وفي الوقت نفسه أخذ هؤلاء على عاتقهم تحقيق التواصل مع غيرهم من المثقفين العرب الذين كان لهم دورهم في الحفاظ على الثوابت القومية وإعلاء شأن الأمة وحفظ اسمها عبر العصور وإبراز دورها الحضاري ، وكان من نتائج هذا التوجه صدور كتابات متنوعة والتطرق إلى موضوعات دقيقة ومهمة لم نشهدها في المؤلفات السابقة. وقد وقفت وراء هذه النهضة الفكرية الحديثة عوامل عدة أبرزها :
1 ـ وجود تنظيمات سياسية وثقافية ، اهتمت بالتاريخ العربي الإسلامي واحتضنت الأدباء والمثقفين وشجعتهم على تأليف الكتب ونشر الدراسات الأدبية والتاريخية ، ومن هذه التنظيمات جمعية العلم ، وجمعية العهد ، والنادي العلمي ، والنادي الأدبي ، ونادي الجزيرة .
2 ـ صدور مجلات أدبية متعددة وبخاصة خلال الفترة من سنة 1926
وحتى 1958 ، كان من أبرزها مجلة ( المجلة ) الموصلية –البغدادية التي صدر عددها الأول في الأول من تشرين الأول 1938 . وقد برز على صفحات هذه المجلة مثقفين عراقيين يؤمنون بفكرتي التقدم ، والحرية وينادون بأستقلال العراق ووحدة الأمة العربية .
3 ـ وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية ، ومع تنامي الأفكار الديمقراطية ،
وازدياد اهتمام الدولة بإرسال بعثات دراسية إلى الجامعات الأوربية
والأمريكية للتخصص في العلوم والآداب المختلفة وتنامي دور
بعض المعاهد والكليات الجامعية العراقية،ومنها دار المعلمين العالية ،
وكلية الآداب والعلوم بجامعة بغداد ، ووصول الطلاب المتخصصين
إلى العراق بعد انجاز دراساتهم العليا في أوربا والولايات
المتحدة الأميركية وتأسيس أقسام علمية ، وتطور حركة البحث
العلمي .
برزت أهمية هذه المجاميع من المثقفين ، بعد الحرب العالمية الثانية ، خاصة على أثر عودة طلائع البعثات العراقية التي ذهبت إلى الغرب وهي تحمل درجات علمية متخصصة في العلوم والآداب مما كان لذلك اثر كبير في تطوير الأقسام العلمية في الكليات والمعاهد العالية .فضلا عن إسهامات هذه المجاميع في بناء العراق علميا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا وليس من شك في ان الدكتور عبد الجبار الجومرد هو أحد تلك المجاميع التي كانت تحث الخطى بأتجاه ان يكون العراق بلدا قويا موحدا متطورا له مكانته المحلية والعربية والإقليمية والدولية ..كان الدكتور عبد الجبار الجومرد هو نتاج تلك المتغيرات وقد عمل مع إخوانه وزملائه في سبيل تحقيق الآمال المنشودة .
ولادته وحياته :
ولد عبد الجبار محمد شيت الجومرد في محلة حوش الخان في الموصل سنة 1909 . ومحلة حوش الخان هي من محلات الموصل العريقة وكان آل الجومرد من الأسر الدينية المعروفة ، فجد الدكتور عبد الجبار الجومرد "عبد الله" كان رجلا معروفا بالتقوى والورع وكان عضوا في مجلس إدارة ولاية الموصل أيام سيطرة العثمانيين على الموصل أما والده محمد شيت فكان شاعرا حافظا للقران الكريم وكانت له في داره ندوة علمية (مجلس أدبي ) ، وقد عرف بأتقانه القراءات العشر وقد عمل في التجارة ،وعاش في مصر ردحا من الزمن وهناك تولى طبع ديوانه وديوان أستاذه وصديقه الملا حسن البزاز في مجلد واحد وقد قرظ الديوانين العلامة عبد المجيد الشرنوبي الأزهري. أما المقدمة فكتبها محمد شيت نفسه بأسوب جميل .
ادخل محمد شيت ولده عبد الجبار في الكتاب ليتعلم القران الكريم وشيئا من الحساب . وفي حوالي السنة 1921 أدخله المدرسة القحطانية الابتدائية وكانت من مدارس الموصل القليلة التي تزخر انذاك بنخبة طيبة من المعلمين المعروفين بتوجهاتهم القومية واليسارية وكان من أبرزهم الأستاذ يحيى قاف الشيخ عبد الواحد ..لم يكن هذا معلما عاديا بل كان مدرسة قائمة بذاتها يكتب المقالات ، ويؤلف للمسرح وقد عمل في الحركة العربية القومية أيام العثمانيين الأخيرة. وفي عهد الاحتلال البريطاني الذي ابتدأ في العراق سنة 1914 وفي الموصل سنة 1918 .كان يحيى قاف منتميا إلى جمعية العلم السرية المناهضة للانكليز وكان اسمه الحركي قحطان واختصاره حرف القاف من هنا عرف بيحيى قاف وقد وقف أمام الملك فيصل الأول ملك العراق 1921-1933 اول ملوك العراق عند زيارته للموصل سنة 1921 ليقول له منتقدا سيطرة الانكليز على مقدرات العراق "أنا يحيى قاف أقول وما اخاف " .تأثر الجومرد بمعلمه هذا وصار وزملائه يتقدون حماسة ووطنية ومن ذلك ان الجومرد عبد الجبار وقف أمام الكابتن بيز ناظر(مدير ) المعارف في حفل أقامته المدرسة ليقول قصيدة مطلعها :
خليلي طال الانتظار المؤرق
ولم يبق للصبر المسيطر رونق
وعندما أكمل القصيدة علا هتاف التلاميذ مطالبين بالاستقلال ،وغضب الكابتن بيس واصدر أوامره بمعاقبة المعلمين في المدرسة ونقل بعضهم خارجها .
دخل عبد الجبار الجومرد مدرسة الموصل الثانوية وكانت المدرسة الثانوية الوحيدة سنة 1925 وكان من زملائه علي حيدر سليمان ويونس السبعاوي . ومن حسن الحظ أن مدير المدرسة هاشم السعدي كان من العناصر المعروفة بوطنيتها .... كما كان يدرس في المدرسة الرائد والمربي القومي الفلسطيني درويش المقدادي وممن درسه كذلك الشيخ رشيد الخطيب والسيد احمد أفندي الجوادي وهم من المدرسين الوطنيين فزاده هذا الجو اندفاعا وتحمسا وكانت سماء الموصل انذاك ملبدة بآثار مشكلة الموصل ومطالبة الأتراك بها وعرض الأمر على عصبة الأمم وجاءت لجنة للتحقيق وتشكلت احزاب وطنية وقومية منها حزب الاستقلال الوطني أكدت على عروبة الموصل وضمان عائديتها للعراق ، وصدر قرار العصبة سنة 1926 بصيرورة الموصل جزءا من العراق .وقد ساند المدرسون والمعلمون في الموصل المطالب الوطنية وكان عبد الجبار الجومرد قد بدأ يلقي القصائد في الدفاع عن الموصل واستنكار ربط العراق بالمعاهدات الجائرة مع بريطانيا في سنتي 1926 و1927 .
لم يكتف الجومرد" بالشعر" بل حفز زملائه لاستخدام "المسرح "فشكل معهم لجنة للتمثيل ومثلت اللجنة مسرحية يوليوس قيصر ولعب الجومرد دور بروتس اما يونس السبعاوي فمثل دور يوليوس قيصر .كما ألف الجومرد مسرحية باللهجة العامية بعنوان : " الحمال "وكانت مسرحية ساخرة وقد حضر عرض المسرحية في الموصل آنذاك مدير المعارف العام طه الهاشمي الذي أعجب بالمسرحية وامتدح دور الجومرد .
ولم يكن اهتمام الجومرد مقتصرا على الشعر والتمثيل ، وإنما كان مولعا بالرياضة وخاصة لعبة كرة القدم حتى انه أصبح لاعبا مرموقا فيها وهو ما قاده للترشيح لكي يلعب مع منتخب الموصل لكرة القدم وقتذاك .
التحق عبد الجبار الجومرد بدار المعلمين الابتدائية ببغداد وتخرج فيها سنة 1929 . وواصل دراسته في " المعهد العربي للحقوق في دمشق " وتخرج سنة 1935 ، وعاد إلى الموصل ليمارس المحاماة . وفي سنة 1936 التحق بالبعثة العلمية العراقية في باريس وحصل على الدكتوراه عن أطروحته الموسومة : " الدستور العراقي عام 1925 بين النظرية والتطبيق " وذلك سنة 1940 ، وقد حالت ظروف الحرب العالمية الثانية دون عودته لبلده ، ليحصل على دكتوراه أخرى في الأدب سنة 1944 من جامعة باريس وكتب أطروحته الثانية عن " الأصمعي" .
من آثاره المطبوعة: الأصمعي: حياته وآثاره - بيروت 1955، وهارون الرشيد (جزآن) - بيروت 1956، وغرّة العرب: يزيد بن مزيد الشيباني - بيروت 1961، و مؤسس دولة بني العباس : أبو جعفر المنصور - بيروت 1963، وله كتابان باللغة الفرنسية: الدستور العراقي لعام 1925 في النظرية والتطبيق - 1941، مأساة فلسطين العربية - 1945، ومن آثاره المخطوطة التي يحترز عليها ولده الصديق الأستاذ الدكتور جزيل : « تاريخ الموصل» - وهو في 950 صفحة، و«العراق في طريق الثورة الاجتماعية» - وهو في 200 صفحة، و«محور النجاة» - عن قضية فلسطين،و"سياسة العراق الخارجية " .وقد ذكر الجومرد لمراسل جريدة الفكر العربي في الموصل في 28 أيار –مايو 1964 انه يعمل في كتاب بعنوان " القناديل الثلاثة " ويتناول فيه سير حياة وجهاد كل من عماد الدين زنكي ،ونور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي وقال إن هؤلاء الثلاثة حملوا الراية التي وضعت حدا للغزو الصليبي الاستعماري .
الجومرد شاعرا :
عُرف الجومرد شاعرا ومع انه شاعر مقل إلا أن شعره يفيض بالقيم والمبادئ الوطنية والقومية والإنسانية والأخلاقية السامية .في سنة 1934 كتب قصيدة انتقد فيها الوضع السياسي في العراق وأبدى امتعاضه من أولئك الذين ينافقون السلطة وصور بغداد وقد طالها الإهمال وكيف كانت تزهو أيام المنصور، والرشيد والمأمون وقال :
لايبيت الشريف إلا طريدا
وفي دياجيك والابي الجواد
لو رآك المنصور أعرض حز
نا وقال الرشيد ما لايعاد
وهجا سنة 1932 وهو في طريقه من دمشق إلى بغداد نوري السعيد رئيس الوزراء الذي وقع معاهدة 1930 الجائرة مع بريطانيا والتي كبلت العراق بقيود ثقيلة قائلا :
محى الله في ارض العراق عصابة
لها عمل ناء عن الحق ناكس
حكومة سراق تبيع بلادها
كما باع مسروق الودائع حارس
يقولون في بغداد مجلس امة
ألا منيت بالخزي تلك المجالس
مجالس شر الناس فيها ممثل
لخيرهم والعبد للحر سائس
ومما آلمه انه سمع بقيام بعض الملاكين الغائبين في فلسطين ببيع أراضيهم لليهود فكتب قصيدته الشهيرة: قصيدة (( نحن وعرب وادي الحوارث )) قال فيها :
مَنْ سامعٌ فأبثُّ شكوى لم تزلْ
بين الضلوع دفينةً آلامُها؟
لم أخشَ إذ قلتُ الحقيقة ناقدًا
أو لام فيما قلتُه لُوَّامــــها
إنا تعوَّدنا الكلام فألـــــــــسنٌ
ثرثارةٌ في الكِذْب بات غرامها
شِيَعٌ وأحزابٌ يحطّم بعضــها
وجرائدٌ مأجورةٌ أقلامُـــــها
يتطاحنون لمقصدٍ أو مأربٍ
ولـــكل نفسٍ غايةٌ ومَرامـــها
وهلِ ارتقت للمجد إلا أمّةٌ
كثرتْ فعائلها، وقلَّ كـــــــلامها؟
إذ كان باقٍ للعروبة فتيةٌ
فمتى يفيق من السُّبات نِيامها ؟
تأسيسه نادي الجزيرة :
عايش لجومرد أحداث الموصل وتأثر بما كان يسود فيها من أجواء قومية بتأثير مطالبة تركيا بها . لذلك أسهم في الحملة الوطنية لتأكيد عروبتها مع مدرسيه وزملائه ، ثم سعى لتأسيس نادٍ قومي في الموصل باسم " نادي الجزيرة " ، وقد انتخب الجومرد رئيساً له سنة 1935 واستطاع من خلال نشاطاته الثقافية والسياسية أن يجعل النادي واجهة للعمل السياسي القومي شأنه في ذلك شأن" نادي المثنى ابن حارثة الشيباني " في بغداد و"نادي المهلب بن أبي صفرة " في البصرة .
الجومرد في جامعة الدول العربية :
وفي سنة 1946 رشح للعمل في جامعة الدول العربية ، فسافر إلى القاهرة ، لكنه استقال من عمله بعد سنتين وعاد إلى الموصل ليرشح نفسه نائباً في انتخابات أول أيار-مايو 1948 ، وقد استقال من المجلس النيابي سنة 1950 ثم رشح كنائب عن حزب الجبهة الشعبية المتحدة في انتخابات سنة 1953 وفاز عن الموصل وقد بقي في المجلس حتى يوم 9 حزيران –يونيو وهو يوم صدور الإرادة الملكية بحله اثر تشكيل وزارة ارشد العمري وقد رشح لانتخابات حزيران –يونيو سنة 1954 وبقي حتى صدور الإرادة الملكية بتعطيل المجلس النيابي الى نهاية تشرين الثاني –نوفمبر 1954 .
وفي هذه الفترة إلف نوري السعيد وزارته في 3 آب –اغسطس سنة 1954 وقد عد الدكتور عبد الجبار الجومرد تكليف نوري السعيد بتأليف الوزارة إيذانا ببدء مرحلة تكميم الأفواه تمهيدا لربط العراق بعجلة الأحلاف الغربية ومنها حلف بغداد الذي وقع سنة 1955.. لهذا اعتزل الجومرد الحياة النيابية وقد صدق ظن الجومرد اذ اصدر نوري السعيد سلسلة من المراسيم الإرهابية كا أسمتها المعارضة في العراق سنة 1954 وبموجبها حكم السعيد العراق بيد من حديد واستمر الأمر هكذا حتى قيام ثورة 14 تموز 1958 وسقوط النظام الملكي الهاشمي ومقتل نوري السعيد .
على الرغم من قصر الفترة التي عمل فيها الجومرد نائبا في البرلمان، إلا انه اكتسب شعبية واسعة وغدا قريبا من هموم الناس وتطلعاتهم .انتقد سياسة الحكومات المتعاقبة واتهمها بالتقصير في الاستجابة لمطالب الشعب . وقال إن الشعب انتبه ووعى وان حجة الحكومة في اعتقال المعارضين بحجة انتمائهم للحزب الشيوعي واهية وان الموقوفين من المعارضين دائما هم من القوميين والإخوان المسلمين والشيوعيين على حد سواء وان مذاهب الوزارات غير معروفة وكل همومها سرقة أموال الشعب وان الحكومات تفتقد إلى سياسات إستراتيجية تجاه التعليم والاقتصاد والسياسة الخارجية وان الوزارات لو سمعت انتقادات المعارضة "لكنا في جنات عدن " ودعا إلى تخفيض النفقات الحكومية غير الضرورية وتطبيق قانون ضريبة الدخل ومنع التهريب والرشوة وطالب بالدخول في مفاوضات مع شركات النفط الاحتكارية الغربية لزيادة حصة العراق والقيام بمشاريع زراعية وعمرانية .كما أكد على أهمية إعطاء طرق المواصلات ما تستحقه من اهتمام والنهوض بالزراعة والصناعة وتحدث عن حالة الشعب الاقتصادية المزرية ومردودها الاجتماعي مطالبا الحكومة بما أسماه " ثورة اجتماعية واقتصادية " وانتقد الجهاز الإداري الحكومي ووصفه بضعف الكفاءة ، وأكد أهمية القيام بالإصلاح الشامل . وقال في احدى مداخلاته : " زرت بعض نواحي العراق ، وسمعت- كما تسمعون أنتم - الانات الصارخة التي تخرج من قرارة الصدر " وهكذا كان للجومرد دور متميز في البرلمان ، وذلك من خلال تركيزه على مطالب الشعب الحيوية ، وانتقاده للسلطة الحاكمة لتجاهلها العمل على تحقيق سعادة الشعب ورفاهيته والاستجابة لمطالبه في الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
إسهامه في تأسيس حزب الجبهة الشعبية :
في 1950 سنة استقال من البرلمان ليسهم في تأسيس حزب الجبهة الشعبية المتحدة وكان من أعضائه الشيخ محمد رضا الشبيبي والسيد طه الهاشمي ، وليكون مسؤول فرع الموصل . كما رشح لانتخابات سنة 1952 و 1954 وأسهم في تكوين جبهة وطنية انتخابية شعبية واسعة.
الجومرد وجريدة الهدى
لم يكن الجومرد بعيدا عن ممارسة الصحافة فمنذ اكماله الدكتوراه وهو يغذي العديد من الصحف والمجلات بمقالاته التي كان يناقش فيها مسائل حيوية تمس حياة الشعب . وقد تميزت هذه المقالات بالرصانة والدقة وبراعة الأسلوب . وقد كان طموحه الشخصي أن يصدر جريدة وجاءت الفرصة عندما تأسس حزب الجبهة الشعبية المتحدة واحتاج الأمر أن يصدر جريدة في الموصل . وفي 8 كانون الثاني –يناير سنة 1952 ، وافقت وزارة الداخلية على طلبه بأصدار جريدة الهدى في الموصل لتكون لسان حال فرع حزب الجبهة الشعبية بأسم جريدة الهدى . وقد صدر العدد الأول في 24 كانون الثاني وهو يحمل توقيع الدكتور عبد الجبار الجومرد صاحب الامتياز وبمقال افتتاحي بعنوان : " رسالة الهدى " .كتب الجومرد في جريدة الهدى ، بأسمه الصريح ، وبأسماء مستعارة منها : صاحب التوقيع ورياضي قديم وزيد وخبير زراعي .وتناول في مقالاته وكان معظمها بعناوين مثيرة من قبيل "سياسة الأمر الواقع " و"الشعب الذي ينسى لايستحق الحياة " و" مطق العمياء " و" التسيب الأخلاقي " و" الشعور بالدولة " و" اجراس الخطر تنذر العرب بالدفاع المشترك " .كان في كل مقالاته ينتقد الحكومة ويتهمها بالإهمال وبالسعي لربط العراق بالأحلاف وبإبقاء حالة البؤس الاقتصادي والاجتماعي والثقافي .كان لاينتقد فحسب بل كثيرا ما كان يقدم الحلول والمعالجات .
لقد حاول النظام الملكي استمالة الدكتور عبد الجبار الجومرد مرات ومرات لكنه كان معارضا عنيدا صلبا لايخشى الا الله .عرضوا عليه المناصب فكان يرفض رفضا قاطعا .
الجومرد وزيرا للخارجية :
واثر ثورة 14 تموز 1958 اختير وزيراً للخارجية في أول حكومة تشكلت في العراق الجمهوري وقد سمع مرسوم تعيينه من الإذاعة وتوجه من الموصل إلى بغداد عصر يوم 15 تموز –يوليو 1958 وحضر في اليوم نفسه اجتماعا لمجلس الوزراء برئاسة الزعيم (العميد ) الركن عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة وبعدها توجه إلى وزارة الخارجية ليتسلم مهامه ففوجئ بخلو الوزارة الا من البعض فقرر استدعاء الجميع وألقى كلمة بينهم استطاع من خلالها إعادة الطمأنينة إلى نفوسهم وطلب إذاعة بيان يطمئن الأجانب داعيا الشعب إلى المحافظة على أرواح الأجانب وممتلكاتهم .وفي 17 تموز –يوليو 1958 شكل وفدا من موظفي التشريفات في الوزارة لزيارة الهيئات الدبلوماسية وأكد في خطابه الذي ألقاه في اجتماعات هيئة الأمم المتحدة في 18 اب-اغسطس 1958 ان النظام الجديد يحترم الاتفاقيات والمعاهدات وان للثورة ما يبررها وأشار إلى مساؤئ النظام السابق وقال ان العراق مصر على ترصين الوضع الداخلي وتثبيت اركان الجمهورية ودفع الاخطار الخارجية والداخلية .وفي احاديثه الصحفية وفي مجلس الوزراء ظل الجومرد يؤكد أهمية اقامة نظام سياسي ديمقراطي يضمن الحريات العامة .وفي السياسة الخارجية كان الجومرد يؤكد على ضرورة إقامة علاقات دبلوماسية متينة وعلى قدم المساواة مع الدول العربية والاجنبية بما يضمن مصلحة العراق .وقد اشار في محاضرة له ألقاها في كلية الأركان العراقية في 27 اب –اغسطس 1958 الى ان السياسة الخارجية للعراق الجمهوري تستند الى ما أقر الدستور المؤقت الذي تم اعلانه في 17 تموز 1958 من حيث اولا : إن الدولة العراقية جمهورية مستقلة ذات سيادة كاملة .وثانيا :إن العراق جزء من الأمة العربية .ومن هذا المنطلق فأن سياسة العراق الخارجية تسعى الى التعاون والتضامن الدول العربية المتحررة والعمل لاسيما في المحافل الدولية على تحقيق الأهداف العربية القومية الى جانب دعم جامعة الدول العربية كما أكد على ان ثورة العراق تعمل على تحرير فلسطين والأجزاء المغتصبة الأخرى .
وعلى صعيد سياسة العراق الدولية قال ان السياسة الخارجية تستهدف المحافظة على استقلال العراق وانتهاج سياسة الحياد الايجابي وتجنيب العراق ويلات الحرب ويمكن التعامل بمطلق الحرية مع سائر دول العالم دون تفريق أو تمييز .وفي تصريح لجريدة الصباح التونسية في نيويورك أوضح بأن علاقات العراق مع دول العالم ستبقى ودية طالما احترمت تلك الدول حقوق العراق ومصالحه واستقلاله وهذا ينطبق على الجميع بما فيها الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي القائم آنذاك . لقد كانت الظروف التي تولى فيها الدكتور الجومرد وزارة الخارجية صعبة للغاية فالولايات المتحدة الأميركية أنزلت قواتها بعد قيام الثورة في العراق ..أنزلت قواتها في لبنان كما انزل البريطانيون قواتهم في الاردن وكان هم الجومرد وقد مثل العراق في الأمم المتحدة ان يصون الثورة بكل ما اوتي من حكمة ودبلوماسية وخلال وجوده في وزارة الخارجية عمل على إدخال كل من المغرب وتونس إلى جامعة الدول العربية يوم فشلت المحاولات لضمهما إليها وقد قدرت تونس والمملكة المغربية هذا الجهد فيما بعد حتى ان الملك محمد الخامس ملك المغرب والحبيب بورقيبة كرماه وقلداه ارفع الأوسمة .
لم تلق تلك السياسة تجاوبا من لدن رئيس الوزراء كما أن ثمة اطرافا سياسية وحزبية أصبحت تثير المشاكل مع بعض الدول ومنها الجمهورية العربية المتحدة . وفي خضم الصراع السياسي الذي نشب بين قائدي الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم ونائبه العقيد الركن عبد السلام عارف واستغلال بعض القوى الحزبية لهذا الصراع وتحريك الشارع للاستفادة منه قابل الدكتور الجومرد الزعيم عبد الكريم قاسم على انفراد وتحدث معه حول ما يدور في الشارع سواء في بغداد او بقية المدن العراقية وخاصة ما يتعلق بتصرفات الحزب الشيوعي وما لتلك التصرفات من انعكاسات سلبية على علاقات العراق الخارجية والموقف الحرج الذي يجد فيه وزير الخارجية نفسه ولما لم يجد أذنا صاغية من الزعيم قرر الاستقالة وكان أول وزير راودته فكرة الاستقالة من منصبه .وفي صباح 3 شباط –فبراير 1959 قدم الجومرد استقالته إلى رئيس مجلس السيادة نجيب الربيعي ومما قاله إن وزارة الخارجية لم تستطع ان توفق بين بياناتها وبين بيانات وآراء الأجهزة الإعلامية والمؤسسات وهذا لايصب في صالح سمعة العراق ومستقبل علاقاته مع الدول وسرعان ما لحق الجومرد في الاستقالة عدد من الوزراء القوميين والاكراد والوطنيين الاخرين امثال صديق شنشل وفؤاد الركابي وبابا علي الشيخ محمود .
عندما سقط نظام الزعيم عبد الكريم قاسم في 8 شباط –فبراير 1963 وجد الجومرد بأن التغيير ربما يفيد العراق ويعيده إلى محيطه العربي لكنه توجس خيفة من طموحات عبد السلام عارف رئيس الجمهورية الجديد وكان يرى بأنه لم يكن على مستوى جيد من النضج السياسي فضلا عن افتقاره الى منهج محدد وإستراتيجية للحكم ثابتة تنطلق من مصالح العراق لذلك رفض الجومرد تنفيذ مرسوم تعيينه سفيرا في ديوان وزارة الخارجية واعتذر رسميا بذريعة ظروفه الصحية وانصرافه إلى إدارة أمور عائلته وانشغاله بالتأليف ومع هذا فقد لبى الدعوة للمشاركة في وضع دستور الاتحاد الثلاثي بين العراق ومصر وسوريا وحضر بضعة اجتماعات في جامعة بغداد خلال شهري تموز وآب يوليو واغسطس 1963 الا ان الظروف السياسية حالت دون إكمال المهمة . ولم يكن الجومرد بعيدا عن شعبه بعد هذا بل ترأس سنة 1966 لجنة شعبية في الموصل تولت توعية الناس بعد انتشار مرض الكوليرا آنذاك . كما وافق سنة 1967 على اختياره من جامعة الموصل ليكون عضوا في مجلس "هيئة الإنسانيات" والتي تحولت فيما بعد لتصبح كلية الاداب وكان عميدها انذاك الاستاذ الدكتور عبد المنعم رشاد .ويقينا بأن الدكتور الجومرد اسهم بفاعلية في وضع اسس تلك الهيئة وتوسيع نشاطاتها وترصين عملها ولم يغادر عمله هذا الا بعد ان اشتد عليه المرض .
الجومرد وفلسطين :
عُرف الجومرد حينما كان في باريس بنشاطه القومي العربي ، وبدفاعه عن قضية فلسطين والتعريف بها من خلال محاضراته وكان كتابه " مأساة فلسطين العربية " الذي نشره بالفرنسية سنة 1945 ، قد نال شهرة واسعة بين الرأي العـام وخاصة في مجال الوقوف ضد الدعاية الصهيونية في فرنسا .
الجومرد وكتابة السير :
والجومرد يعد رائداً من رواد كتابة السير والتراجم في العراق . وقد اتجه في محاولة منه للتعريف بمواقف بعض الشخصيات التاريخية إلى وضع مجموعة من الكتب أبرزها كتابه عن " هارون الرشيد " و " يزيد بن مزيد الشيباني " و " أبو جعفر المنصور " . وكان منهج الجومرد في كتبه هذه يعتمد الأسس العلمية في الوصول إلى الحقيقة التاريخية مع ملاحظة إبراز الدروس المستنبطة في تناول هذه الشخصيات والأحداث والوقائع،وبما يساعد القارئ على استلهام التاريخ واستحضار رموزه وعناصر البطولة فيه ، وغرس قيم الخير وخدمة الإنسانية . ولم ينسَ الجومرد أن يقوي حجته بالعودة إلى المصادر الأساسية والمراجع الحديثة "ويتبع منهجية البحث التاريخي،حيث حرص على تحري الموضوعية قدر الإمكان في خضم الروايات المتناقضة والصور المتنوعة . والجومرد لم يبحث عصر الرشيد أو عصر أبي جعفر المنصور فحسب ، بل مهّد لهما عن الفترة التي سبقت عصرهما " إلاّ أن الجومرد مثله مثل أي مؤرخ يتأثر بالأوضاع السائدة في عصره في العراق ، كان حدياً في بعض أحكامه ، وربما حمل نصوصه أكثر مما تحتمل ، أو بالغ بعض الشيء في التفسير " . ومع هذا فإن لموقفه ما يسوغه،ولا تزال كتبه في السير والتراجم أفضل ما ألفه العراقيون في هذا المجال .
الجومرد مؤرخا للموصل :
وللجومرد كتاب مهم في تاريخ الموصل لا يزال مخطوطاً وهو في 950 صفحة وهو بعنوان : " الموصل والتاريخ منذ أقدم العصور حتى اليوم " ،ويحترز على مخطوطته نجله صديقنا الأستاذ الدكتور جزيل الأستاذ في قسم التاريخ بكلية التربية ، ويتألف من (20) فصلاً . وقد قدّم له بما أسماه " تعريف " بقوله : " تاريخ مدينة الموصل قصة من أروع من كتب الزمن فصولاً طوالاً ، ومن أمتعها خبراً ، وأغناها حدثاً ، وأغزرها فجاءة وتناقضاً ، فهي من أعرق مدن الشرق الأوسط وامنعها قدماً ، عاشت أكثر من ثلاثة آلاف سنة ، ذاقت خلالها حلو العيش ومره ، وسعادة الحياة وبؤسها " .
ويتطرق الجومرد إلى الهدف من وضعه تاريخاً مفصلاً للموصل بقوله : إنّ عمله هذا ليـس إلاّ مجهوداً أراد منه " خدمـة لمن يهمـه معرفـة أمر الموصل ، وحقيقة تاريخها ، كمدينة أثرية ثمينة ، ساهمت في موكب الإنسانية على مختلف العصور،وقدّمت في أيام عزها نماذج رائعة من أبنائها في ميادين العلم والأدب والفن والفروسية ، وبعثت في مواهبهم أشعة نحو طرق الحضارة قديمها وحديثها،وصمدت أمام نكبات الزمن حتى اليوم ".
وكتاب تاريخ الموصل ، ليس كتاباً تسجيلياً لأحداث مرت بالموصل عبر العصور ، وإنما هو كتاب علمي يعتمد التحليل والنقد ولذلك ، فإن للجومرد آراء مبثوثة في صفحاته ، فعلى سبيل المثال هناك رأي في نشوء الموصل ، ومناقشة لأخطاء المؤرخين القدامى في بعض الفترات الغامضة في تاريخ الموصل ورأي في أسباب سوء أوضاع الموصل خلال العهد العثماني،ورأي في سلوك الولاة العثمانيين ، ورأي في سياسة الملك فيصل الرامية لإقامة
" دولة عربية ذات سيادة " في العراق ورأي في انقلاب بكر صدقي ورأي في أسباب صمود الموصل بوجه التحديات ، ورأي في مواجهة مجتمع الموصل المحافظ للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية منذ أواخر القرن التاسع عشر .
ويخلص الجومرد إلى تأكيد أمرين يستلفتان النظر في تاريخ الموصل ، أولهما صمودها وعدم تلاشيها امام كل التيارات الجارفة من الأحداث الجسام، وتمسكها بأهداب الحياة إزاء تلك النوائب والأمر الثاني ، وهو أكثر غرابة من سابقه ، كما يقول الجومرد ، ذلك أن الموصل حُكمت من قبل شعوب وأقوام ودول غريبة أصلاً ولغة وعادات وتقاليد زهاء ثمانمائة سنة ، لكنها بقيت محافظة على عروبتها ولغتها العربية حتى اليوم . ويرجع الجومرد صمود الموصل واحتفاظها بعروبتها إلى عدة أسباب منها موقعها الجغرافي واتصالها من الجنوب الغربي بخط عربي عريض يمر بالعراق طولاً وينتهي بشبه الجزيرة العربية .
والجومرد الذي عُرف عنه اهتمامه بالسير والتراجم وما قدمه في هذا المجال ، يؤكد مقدرته على التحليل ورسم صورة واضحة لمن يكتب عنه ، نراه في تاريخ الموصل مولعاً بمتابعة الأسر والشخصيات الموصلية عبر العصور . فعلى سبيل المثال كتب عن الأسرة العمرية والأسرة الجليلية والأسرة العلوية، وأسرة الغلامي ، وأسرة ياسين المفتي ، وأسرة آل شويخ . كما أرخ لصفوة واسعة من علماء الموصل وأدبائها أمثال : الشيخ محمد الرضواني،والحاج أحمد الجوادي،والحاج عبد الله النعمة،وعثمان الديوه جي، والملا عثمان الموصلي ، والشيخ محمد الصوفي ، والحاج محمود شيت الجومرد ، والشيخ يوسف الرمضاني ، والسيد أحمد الفخري ، والشيخ محمد ضياء الدين الشعار ، والحاج مصطفى البكري ، وسليمان بن مراد الجليلي ، ومحمد حبيب العبيدي ، وفائق الدبوني ، ومحمود الملاح ، والشيخ محمد نوري الفخري ، والدكتور داؤد الجلبي .
إنّ كتابات الجومرد التاريخية تتميز بسماتها القومية وبحرصها على التصدي لمحاولات الانتقاص من العرب ودورهم في التاريخ ، فالجومرد يهدف إلى كشف حقائق الأحداث ، بأسلوب علمي تحليلي ، لذلك فإنه يدافع في كل صفحة من كتبه عن العرب والعروبة ، ويسعى لتنمية الوعي في الحاضر ، ولرسم مستقبل الأمة الحضاري ، وفي الوقت نفسه يطالب الأجيال الصاعدة بالمزيد من دراسة تاريخ العراق والأمة العربية ، ومن خلال اهتمامه بالسِيَرْ والتراجم ، فإنه رمى إلى تقديم النموذج الحي ، والقدوة الصالحة ، وبذلك عبّر في دراساته عن مبادئه القومية العربية ، وانتماءاته الوطنية الصادقة التي جعلت منه رائداً حياً من رواد حركة كتابة التاريخ المعاصرة ليس في الموصل وحسيب ، وإنما في الوطن العربي .
وفاته :
منذ سنة 1945 بدأت بوادر مرض السكر تظهر عليه ومع انه اتخذ الاحتياطات اللازمة من قبيل الحمية وما شاكل إلا أن المرض اخذ –بمرور الزمن –يتفاقم عليه كما ظهر عنده عجز في القلب لهذا انصرف في أخريات حياته إلى قراءة القران الكريم وإكمال تأليف مالديه من كتب وكان يخطط لحضور مهرجان ابي تمام في مدينة الموصل والذي كان من المقرر عقده في 11 كانون الأول-ديسمبر سنة 1971 لتحضره وفود أدبية وشعرية من مختلف الدول العربية الا انه سقط صريعا بالمرض مساء يوم 29 تشرين الثاني-نوفمبر سنة 1971 وعندما انعقد المهرجان وقف الأدباء والشعراء دقيقة لقراءة سورة الفاتحة على روحه وكان من ابرز الأدباء والشعراء الذين حضروا نزار قباني وعبد الله البردوني وعبد الوهاب البياتي وحمد عفيفي مطر .وقد أبنته " مجلة الجامعة " التي كانت جامعة الموصل تصدرها بكلمات منها :" لقد جفت محبرة واحد من أعلام الموصل ومن مفكريها وادبائها البارزين هو المرحوم الدكتور عبد الجبار الجومرد .لقد كان يستعد هو الاخر بفكره وقلمه للاسهام في هذا المهرجان الكبير بمناسبة مرور اثني عشر قرنا على وفاة الشاعر العربي الخالد حبيب بن أوس الطائي المكنى ب(أبي تمام ) وهكذا غاب عن الساحة العربية فارس كرس حياته لإظهار وجه أمته الناصع تاريخا وأدبا وكافح من أجل صيانة حقوقها ..." .
شيع تشييعا مهيبا يليق به وقال الشيخ عمر النعمة وهو أحد ابرز علماء الدين في الموصل انذاك عند قبره : " انك كنت أديب الموصل ومؤرخها ووزيرها وكنت ممثلها في المجلس النيابي وكنت مثال الموصلي البار لبلده وكنت وجه الموصل في أحسن صورها وأثوابها وأصالتها ..بفضيلتها وبأخلاصها وبنزاهتها " .وقد حضر التشييع جمع كبير من الناس يتقدمهم ممثل لرئيس جمهورية العراق آنذاك السيد أحمد حسن البكر .
حقا يحتاج الدكتور عبد الجبار الجومرد الى مجلدات كثيرة وحلقات تلفزيونية عديدة .. فالرجل كان متعدد الاهتمامات .. كما انه ملّا الدنيا وشغل الناس .تزوج من السيدة مهدية بنت صالح حديد وهي من أسرة حديد المعروفة في الموصل .وله بنت واحدة وثلاثة أبناء هم( وافر) وهو من مواليد 1947 ويعيش حاليا خارج العراق واثيل 1949 وهو أستاذ للاقتصاد في كلية الإدارة والاقتصاد –جامعة الموصل وجزيل 1952 وهو أستاذ التأريخ الإسلامي بكلية التربية –جامعة الموصل ..وما تركه الجومرد من ذرية صالحة وعلم ينتفع به لجدير بأن يجعلنا نتذكره ونذكره بأستمرار .مؤلفاته المطبوعة والمخطوطة كثيرة وجديرة بأن تطبع أكثر من مرة وكتاباته في الصحف والمجلات أكثر من أن تحصى وأحاديثه للصحافة العربية والأجنبية كثيرة ، ومداخلاته في البرلمان واسعة وقد كتب عنه الأستاذ الدكتور عدنان سامي نذير الزرري أطروحة بعنوان :" عبد الجبار الجومرد :نشاطه الثقافي ودوره السياسي " قدمت لجامعة الموصل واستحقت الامتياز وطبعت في كتاب سنة 1991 .
الجومرد حقا " رجلا في امة " ورمز بارز في سماء العراق ....انه رجل دولة والعراق اليوم بأمس الحاجة إلى" رجال دولة" لا إلى سياسيين مغامرين .
خير جليسا في الزمان الكتاب
ردحذف