ذكريات جانبية (2):
*************************************
سيدة في غير زمانها ومكانها..الشاعرة عاتكة الخزرجي
بقلم : سامي مهدي
كان ذلك عام 1957 ، وكانت أمسية شعرية في دار المعلمين العالية ، وكنت وصديقي وزميلي القاص الراحل موفق خضر من حضورها . فقد كنّا على موعد مع بدر شاكر السياب وقصيدته المعروفة ( بور سعيد ) . وقبل أن تبدأ الأمسية بدقائق قليلة دخلت سيدة سافرة ، وجميلة ، وأنيقة ، تفوح أشذاء عطرها عن جانبيها ، وراحت تخترق القاعة بثقة وثبات نحو المقاعد الأمامية . سألت صديقي موفق : من تكون هذه السيدة التي شدّت إليها الأنظار ؟ فرد عليّ مستغرباً : ألا تعرفها ؟ فقلت : لا ! قال : هي الشاعرة عاتكة الخزرجي .
مرت بي يومها مرور طيف هفهاف جميل ، ولم أرها ثانية إلا بعد أكثر من ربع قرن . زارتني في مكتبي في جريدة " الجمهورية " فجأة ، في يوم من أيام عام 1984. لم أعد ذلك المراهق الذي كنته ، ولم تعد هي في عنفوان تلك الشابة البهية ، ولكنها كانت ما تزال تحتفظ بالكثير من بهائها وبكامل أناقتها واعتدادها العظيم بنفسها ، وإن بلغت الستين من عمرها .
استقبلتها كما ينبغي لسيدة مثلها أن تستقبل . قالت إنها تريد نشر ما تكتب ، أو تترجم ، من قصائد في " الجمهورية " فرحبت ، وسلمتني إحدى قصائدها وصورة من صورها الشخصية ، فنشرت القصيدة مع الصورة بعد أيام قليلة من زيارتها . ثم تكررت زياراتها ، وتكرر نشر قصائدها مع الصورة نفسها . وكنا خلال ذلك نتبادل بعض الأحاديث والمجاملات ، وكان الكثير من أحاديثنا ردوداً على اسئلة تتعلق بشخصي وبعملي ، فهي تسأل و أنا أجيب ، دون أن أشعر بأي حرج أو ضيق .
أفضى تكرار الزيارات والمعاملة الحسنة الصبورة التي عاملتها بها إلى نشوء علاقة ودية بيننا هي أقرب إلى الصداقة ، حتى باتت تطمئن إلي ، وبلغ بها الاطمئنان حد أن دعتني بإلحاح إلى زيارتها في بيتها ، وحدي ، وأم نوار معي إن شئت ، وأهدتني كتبها ، وكتبت في الثناء عليّ ثلاث قصائد ، وكانت تبادر إلى تهنئتي في الأعياد والمناسبات ولا تفوّت واحدة منها . غير أنني حرصت ، رغم كل ذلك ، على أن أبقي بيني وبينها مسافة وحدوداً لا أتجاوزها ، فلم ألبِّ دعوتها ، ولم أسألها أي سؤال عن حياتها الخاصة ، واكتفيت بشكرها على حسن ظنها بي وثنائها علي ، فكان أن ظلت تخاطبني بضمير الجمع على الطريقة الفرنسية ( أنتم / vous ) كما كانت تفعل في مخاطبتي منذ زيارتها الأولى ، ثم استمرت تزورني في مكتبي في " الجمهورية " حتى نُقِلتُ منها عام 1990 .
كانت ، رحمها الله ، سيدة أرستقراطية أصيلة في تهذيبها وترفّعها ، وطبقيّة في نظرتها إلى الناس . ولأن هناك من خيبوا ظنها في الحياة ، أو أساءوا إليها ، كانت قليلة الثقة بالآخرين ، وكثيرة الشك في نيّاتهم حيالها . وكثيراً ما سمعتها تتحدث باشمئزاز عن هذا أو ذاك من زملاء لها ومعارف أساءوا إليها أو تجاوزوا حدود اللياقة في تعاملهم معها ، ومن هؤلاء عميد إحدى الكليات الإنسانية . حتى أنا لم تطمئن إلي تمام الاطمئنان إلا بعد أن سألت عني وعن حياتي العائلية أكثر من مصدر وتلقت من المعلومات ما طمأنها . بل أن فضولها دفعها ذات مرة إلى أن تقوم بزيارة مفاجئة إلى بيتي لترى سيدة البيت ، أم نوار ، بعينيها ، كما أظن ، رغم أنها أن تحدثت معها هاتفياً أكثر من مرة ، واكتفت في تلك الزيارة بالنظر إلى أم نوار من داخل السيارة التي أوصلتها ولم تترجّل منها!
كانت الشاعرة الدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي من أسرة ميسورة الحال . ذكر أحد الكتاب أن أباها كان متصرف ( محافظ ) الموصل بين 14-11-1921 -19-2-1922 .. . ولدت في بغداد عام 1924 ، وتخرجت في دار المعلمين العالية عام 1945 . عينت بعد تخرجها مدرسةً في ثانوية الأعظمية للبنات . وحصلت على بعثة دراسية إلى فرنسا عام 1950 ، فدرست في جامعة السوربون ، وكان المشرف عليها المستشرق المعروف ( ريجي بلاشير ) . وناقشت رسالتها في في حزيران 1956 ( وليس عام 1955 كما جاء في بعض الكتابات ) ونالت شهادة دكتوراه دولة في آداب اللغة العربية من مرتبة الشرف الأولى ، عن بحثها عن الشاعر ( العباس بن الأحنف ) وتحقيق ديوانه . وبعد عودتها من البعثة عينت مدرسة في دار المعلمين العالية ( كلية التربية في ما بعد ) وظلت كذلك حتى توفيت عام 1997 . وصدر لها ثلاثة دواوين شعرية هي : أنفاس السحر ( 1963 ) و لألاء القمر ( 1965 ) و أفواف الزهر ( 1975 ) .
*************************************
سيدة في غير زمانها ومكانها..الشاعرة عاتكة الخزرجي
بقلم : سامي مهدي
كان ذلك عام 1957 ، وكانت أمسية شعرية في دار المعلمين العالية ، وكنت وصديقي وزميلي القاص الراحل موفق خضر من حضورها . فقد كنّا على موعد مع بدر شاكر السياب وقصيدته المعروفة ( بور سعيد ) . وقبل أن تبدأ الأمسية بدقائق قليلة دخلت سيدة سافرة ، وجميلة ، وأنيقة ، تفوح أشذاء عطرها عن جانبيها ، وراحت تخترق القاعة بثقة وثبات نحو المقاعد الأمامية . سألت صديقي موفق : من تكون هذه السيدة التي شدّت إليها الأنظار ؟ فرد عليّ مستغرباً : ألا تعرفها ؟ فقلت : لا ! قال : هي الشاعرة عاتكة الخزرجي .
مرت بي يومها مرور طيف هفهاف جميل ، ولم أرها ثانية إلا بعد أكثر من ربع قرن . زارتني في مكتبي في جريدة " الجمهورية " فجأة ، في يوم من أيام عام 1984. لم أعد ذلك المراهق الذي كنته ، ولم تعد هي في عنفوان تلك الشابة البهية ، ولكنها كانت ما تزال تحتفظ بالكثير من بهائها وبكامل أناقتها واعتدادها العظيم بنفسها ، وإن بلغت الستين من عمرها .
استقبلتها كما ينبغي لسيدة مثلها أن تستقبل . قالت إنها تريد نشر ما تكتب ، أو تترجم ، من قصائد في " الجمهورية " فرحبت ، وسلمتني إحدى قصائدها وصورة من صورها الشخصية ، فنشرت القصيدة مع الصورة بعد أيام قليلة من زيارتها . ثم تكررت زياراتها ، وتكرر نشر قصائدها مع الصورة نفسها . وكنا خلال ذلك نتبادل بعض الأحاديث والمجاملات ، وكان الكثير من أحاديثنا ردوداً على اسئلة تتعلق بشخصي وبعملي ، فهي تسأل و أنا أجيب ، دون أن أشعر بأي حرج أو ضيق .
أفضى تكرار الزيارات والمعاملة الحسنة الصبورة التي عاملتها بها إلى نشوء علاقة ودية بيننا هي أقرب إلى الصداقة ، حتى باتت تطمئن إلي ، وبلغ بها الاطمئنان حد أن دعتني بإلحاح إلى زيارتها في بيتها ، وحدي ، وأم نوار معي إن شئت ، وأهدتني كتبها ، وكتبت في الثناء عليّ ثلاث قصائد ، وكانت تبادر إلى تهنئتي في الأعياد والمناسبات ولا تفوّت واحدة منها . غير أنني حرصت ، رغم كل ذلك ، على أن أبقي بيني وبينها مسافة وحدوداً لا أتجاوزها ، فلم ألبِّ دعوتها ، ولم أسألها أي سؤال عن حياتها الخاصة ، واكتفيت بشكرها على حسن ظنها بي وثنائها علي ، فكان أن ظلت تخاطبني بضمير الجمع على الطريقة الفرنسية ( أنتم / vous ) كما كانت تفعل في مخاطبتي منذ زيارتها الأولى ، ثم استمرت تزورني في مكتبي في " الجمهورية " حتى نُقِلتُ منها عام 1990 .
كانت ، رحمها الله ، سيدة أرستقراطية أصيلة في تهذيبها وترفّعها ، وطبقيّة في نظرتها إلى الناس . ولأن هناك من خيبوا ظنها في الحياة ، أو أساءوا إليها ، كانت قليلة الثقة بالآخرين ، وكثيرة الشك في نيّاتهم حيالها . وكثيراً ما سمعتها تتحدث باشمئزاز عن هذا أو ذاك من زملاء لها ومعارف أساءوا إليها أو تجاوزوا حدود اللياقة في تعاملهم معها ، ومن هؤلاء عميد إحدى الكليات الإنسانية . حتى أنا لم تطمئن إلي تمام الاطمئنان إلا بعد أن سألت عني وعن حياتي العائلية أكثر من مصدر وتلقت من المعلومات ما طمأنها . بل أن فضولها دفعها ذات مرة إلى أن تقوم بزيارة مفاجئة إلى بيتي لترى سيدة البيت ، أم نوار ، بعينيها ، كما أظن ، رغم أنها أن تحدثت معها هاتفياً أكثر من مرة ، واكتفت في تلك الزيارة بالنظر إلى أم نوار من داخل السيارة التي أوصلتها ولم تترجّل منها!
كانت الشاعرة الدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي من أسرة ميسورة الحال . ذكر أحد الكتاب أن أباها كان متصرف ( محافظ ) الموصل بين 14-11-1921 -19-2-1922 .. . ولدت في بغداد عام 1924 ، وتخرجت في دار المعلمين العالية عام 1945 . عينت بعد تخرجها مدرسةً في ثانوية الأعظمية للبنات . وحصلت على بعثة دراسية إلى فرنسا عام 1950 ، فدرست في جامعة السوربون ، وكان المشرف عليها المستشرق المعروف ( ريجي بلاشير ) . وناقشت رسالتها في في حزيران 1956 ( وليس عام 1955 كما جاء في بعض الكتابات ) ونالت شهادة دكتوراه دولة في آداب اللغة العربية من مرتبة الشرف الأولى ، عن بحثها عن الشاعر ( العباس بن الأحنف ) وتحقيق ديوانه . وبعد عودتها من البعثة عينت مدرسة في دار المعلمين العالية ( كلية التربية في ما بعد ) وظلت كذلك حتى توفيت عام 1997 . وصدر لها ثلاثة دواوين شعرية هي : أنفاس السحر ( 1963 ) و لألاء القمر ( 1965 ) و أفواف الزهر ( 1975 ) .
كانت ، يرحمها الله ، واحدة من كوكبة جليلة من الأدباء والشعراء تخرجوا في دار المعلمين العالية بعد الحرب العالمية الثانية ، وكان لها وزنها ومكانتها بينهم . عاصرت حركة الشعر الحر وشعراءها ، غير أنها ظلت متمسكة بقواعد النظم التقليدي ، ولم تتخلَّ عنها طوال حياتها . ومن غريب أقوالها أن ( الحداثة واجبة في كل فن إلا الشعر ! ) . قالت هذا في لقاء صحفي معها نشرته جريدة العراق عام 1992 . وحملت على الشعر الحر وقصيدة النثر ومن يكتبونهما حملة جارحة شعواء في هذا اللقاء .
بدأت رومانسية في شعرها ، شأنها شأن شعراء جيلها ، قبل تحول كثير منهم نحو الواقعية . وظلت رومانسية كما بدأت ، وكان أكثر من يعجبها من الشعراء الرومانسيين ( الفرنسي : لامارتين ) وكانت قصيدته ( البحيرة ) أعلى النماذج الشعرية الرومانسية عندها . كانت الرومانسية أقرب إلى مزاجها وميولها الشخصية ونظرتها إلى الحياة . غير أنها جنحت في ما بعد نحو الصوفية ، وأخذت تنظم شعراً في الحب الإلهي ، وهل الصوفية إلا ضرب من ضروب الرومانسية ؟! ربما كان ذلك من نتائج تأثرها بالعباس بن الأحنف وانكبابها على دراسة شعره وتحقيق ديوانه . إذ كانت ترى أن ابن الأحنف " إمام المتصوفة في الحب " وهي كانت " مفتونة به جدّ الفتون " كما قالت في بحثها عن شعره .
سألتني ذات زيارة من زياراتها : لماذا لا تنظم شعراً على وفق قواعد النظم العربي ( التقليدي ) ؟ فقلت لها : لأنني أعيش في عصر غير العصور القديمة . فسكتت غير راضية ثم لم تتحدث معي في هذا الموضوع مرة اخرى . كانت ترى فيَّ ( شاعراً رمزياً عميقاً ) وترى شعري أقرب إلى شعر ( بودلير ) ، ولست أدري كيف توصلت إلى هذا الرأي ، لأنها لم تعلله ولم أطلب منها تعليله .
أظنها لم تقرأ من شعري سوى ديوان ( الزوال ) . وقد جاءتني ذات يوم بقصاصة عليها قطعة من أربعة أبيات ، مكتوبة ، على عادتها ، بحبر أخضر اللون ، وهذا هو نص ما جاء فيها :
( تحية إلى شاعر " الزوال " الأديب الأريب والشاعر العميق سامي مهدي حفظه الله :
قرأتُ " الزوالَ " أيا شاعري / وتهتُ طويلاً بما بينَ بينْ
وها أنا لمّا أفِقْ بعدُ مِنْ / ذهولي .. فأينَ أنا منك أينْ ؟
قصيدُكَ يُذْكِرُ " بودليرَ " في " الأزاهيرِ " فدَّتْكَ من كلِّ عينْ
فشعرُك لغزٌ وإنك رمزٌ / وسرُّ الجمالِ على اللوحتينْ
المخلصة أبداً : أختكم ( التوقيع ) .. بغداد في 23 / 12 / 1984 ) . انتهى .
توفيت ، رحمها الله ، عام 1997 . كانت سيدة فاضلة ، وشاعرة بحق ، في شعرها وفي سلوكها . ويبدو لي أنها ولدت وعاشت في زمان غير زمانها ومكان غير مكانها ، وكنت أرى فيها دائمأ صورة سيدة أرستقراطية فرنسية من سيدات القرن التاسع عشر .
بدأت رومانسية في شعرها ، شأنها شأن شعراء جيلها ، قبل تحول كثير منهم نحو الواقعية . وظلت رومانسية كما بدأت ، وكان أكثر من يعجبها من الشعراء الرومانسيين ( الفرنسي : لامارتين ) وكانت قصيدته ( البحيرة ) أعلى النماذج الشعرية الرومانسية عندها . كانت الرومانسية أقرب إلى مزاجها وميولها الشخصية ونظرتها إلى الحياة . غير أنها جنحت في ما بعد نحو الصوفية ، وأخذت تنظم شعراً في الحب الإلهي ، وهل الصوفية إلا ضرب من ضروب الرومانسية ؟! ربما كان ذلك من نتائج تأثرها بالعباس بن الأحنف وانكبابها على دراسة شعره وتحقيق ديوانه . إذ كانت ترى أن ابن الأحنف " إمام المتصوفة في الحب " وهي كانت " مفتونة به جدّ الفتون " كما قالت في بحثها عن شعره .
سألتني ذات زيارة من زياراتها : لماذا لا تنظم شعراً على وفق قواعد النظم العربي ( التقليدي ) ؟ فقلت لها : لأنني أعيش في عصر غير العصور القديمة . فسكتت غير راضية ثم لم تتحدث معي في هذا الموضوع مرة اخرى . كانت ترى فيَّ ( شاعراً رمزياً عميقاً ) وترى شعري أقرب إلى شعر ( بودلير ) ، ولست أدري كيف توصلت إلى هذا الرأي ، لأنها لم تعلله ولم أطلب منها تعليله .
أظنها لم تقرأ من شعري سوى ديوان ( الزوال ) . وقد جاءتني ذات يوم بقصاصة عليها قطعة من أربعة أبيات ، مكتوبة ، على عادتها ، بحبر أخضر اللون ، وهذا هو نص ما جاء فيها :
( تحية إلى شاعر " الزوال " الأديب الأريب والشاعر العميق سامي مهدي حفظه الله :
قرأتُ " الزوالَ " أيا شاعري / وتهتُ طويلاً بما بينَ بينْ
وها أنا لمّا أفِقْ بعدُ مِنْ / ذهولي .. فأينَ أنا منك أينْ ؟
قصيدُكَ يُذْكِرُ " بودليرَ " في " الأزاهيرِ " فدَّتْكَ من كلِّ عينْ
فشعرُك لغزٌ وإنك رمزٌ / وسرُّ الجمالِ على اللوحتينْ
المخلصة أبداً : أختكم ( التوقيع ) .. بغداد في 23 / 12 / 1984 ) . انتهى .
توفيت ، رحمها الله ، عام 1997 . كانت سيدة فاضلة ، وشاعرة بحق ، في شعرها وفي سلوكها . ويبدو لي أنها ولدت وعاشت في زمان غير زمانها ومكان غير مكانها ، وكنت أرى فيها دائمأ صورة سيدة أرستقراطية فرنسية من سيدات القرن التاسع عشر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق