الأحد، 12 مايو 2013

أفكار نقدية بقلم :الاستاذ سامي مهدي

أفكار نقدية
بقلم :الاستاذ سامي مهدي

1. القصيدة الحرة والقواعد الجاهزة

ثمة خطأ ، أو وهم ، أو زعم ، أشاعه بعض الكتاب حول قصيدة الشعر الحر ( قصيدة التفعيلة ) هو أن هذه القصيدة تخضع لـ ( قواعد جاهزة ) شأنها شأن القصيدة العمودية ، وذلك لتسويغ التخلي عن الوزن في الكتابة الشعرية . والحقيقة أن هذه القصيدة لا تخضع لأية قواعد جاهزة عدا الوزن . وهي تتسم بتنوع أسلوبي ، في الرؤى ، واللغة ، والإيقاع ، وشكل البناء وتقنياته ، بعدد شعرائها المبدعين . فلو قارنا قصيدة السياب بقصيدة نازك الملائكة ، وقصيدة البياتي بقصيدتيهما ، وقصيدة بلند الحيدري بقصائد الثلاثة ، وقصيدة سعدي يوسف بقصائد الأربعة ، وقصيدة أدونيس بقصائد الخمسة ، وقصيدة نزار قباني بقصائد الستة ، وقصيدة صلاح عبد الصبور بقصائد السبعة ، أقول : لو قمنا بهذه المقارنة لتجلى لنا هذا التنوع بأوضح صورة ، ولتكشّف الحال عن مغالطة سافرة مقصودة . مثل هذا التنوع موجود في قصائد شعراء الجيل الذي أعقب هذا الجيل أيضاً ، وإمكانات المقارنة في ما بينها قائمة .
بل أن الوزن نفسه أطوع من أن يكون ( قاعدة جاهزة ) في القصيدة الموزونة . ذلك لأنه تلقائي ، تأتي به القصيدة دون قرار مسبق ، فينساب معها خلال عملية الكتابة كما تنساب مياه الينابيع . وهذه حقيقة يعرفها الشعراء المتمرسون . فما من شاعر يفكر بأنه سيكتب قصيدته الجديدة على هذا البحر أو ذاك ، إلا في حالات نادرة مقصودة . أما في العادة فالوزن إيقاع يتقرر منذ الدفقة الأولى للقصيدة ، ويمضي فيه الشاعر إلى النهاية ، أو إلى أمد تقرره تقلبات هذا الإيقاع وتحولاته في القصيدة نفسها . وهذا كله يحدث في خضم عملية ، تتضافر فيها رؤى الشاعر وتجلياتها الذهنية وما يرافقها من انفعالاته العاطفية ، وهي عملية معقدة يصعب تحليلها وتوصيفها ، ويستحيل تقعيدها .
لذا أصبحت لقصيدة كل شاعر خصائصها الإيقاعية . فالتنوع الإيقاعي يحدث حتى عندما يكتب شاعر واحد ، أو شاعران ، قصيدتين على بحر واحد . فإيقاعات القصيدة السيابية المكتوبة على بحر الوافر مثلاً هي غيرها في القصيدة البياتية . وإيقاعات قصيدة أدونيس المكتوبة على بحر المتدارك هي غيرها سعدي يوسف . وهكذا ...
إذن فما يقوله بعض الكتاب عن ( القواعد الجاهزة ) في القصيدة الحرة ، هو هرطقة نقدية بامتياز !
2. القيمة والمعيار في البحث الأدبي

يقول الناقد الأمريكي رينيه ويليك ( إن التحليل الكامل لبنية العمل الفني لا يستوفي مهمة البحث الأدبي . فالعمل الفني كلٌّ من القيم لا ينضوي تحت البنية ، بل يشكل جوهرها . وقد فشلت كل المحاولات التي تصدت إلى إخراج القيم من الأدب ، وسوف تفشل لأن القيمة جوهر الأدب . ولا يمكن فصل الدراسة الأدبية عن النقد الذي هو عبارة عن حكم تقويمي ) ومن المستحيل ( فصل الشكل والبنية عن مفاهيم كمفاهيم القيمة والمعيار والوظيفة ، والحصول على علم للشكل والبنية أو الأسلوب لا يشكل جزءاً من فلسفة إستطيقية ما ومن كيان نقدي معترف به).
3. آداب ما بعد الحداثة وفنونها

كلما تأملت مآلات الأجناس الأدبية والفنية في عصر ما بعد الحداثة تذكرت رأي الشكلاني الروسي توماشيفسكي . فهذا الرجل كان يرى أن كل عصر أدبي يتميز بنظام خاص من الطرائق ، وكذلك كل ( مدرسة أدبية ) . وهذا النظام يمثل ( أسلوب الجنس ، أو المذهب ، الأدبي) .
ورأى أن الأجناس الأدبية تعيش ، وتتطور ، ثم تتفتت ، وتحل الأجناس المبتذلة محل الأجناس الرفيعة ، أو أن الطرائق المبتذلة تغزو الأجناس الرفيعة ، وتكتسب وظيفة هزلية . وسيكون تصنيف الأجناس الأدبية ذرائعياً ومفيداً ، وصالحاً ، وتاريخياً ، لوقت معلوم . وسيتمكن المرء حينئذ من توزيع المادة في إطارات محددة ، وستتوزع على طبقات واسعة ، وستتميز هذه بدورها لتكون نماذج وأنواعاً .
هذا هو ملخص رأي توماشيفسكي في عشرينيات القرن العشرين ، وهو كما هو واضح ( نبوءة ) . وقد صدقت نبوءته ، وانطبقت على جميع الأجناس الأدبية الأدبية والفنية في عصر ما بعد الحداثة . فقد عاشت هذه الأجناس ، وتطورت ، وتفتت ، وابتعدت كثيراً عن أصولها الأولى وقواعدها ، حتى ليصح القول اليوم : إنها أخذت تتحلل وتتفسخ وتؤول إلى الموت لتحل محلها مسوخ خرجت من أرحامها !
قد يبدو هذا رأياً محافظاً ، يجافي حركة التطور ، ولكن هذه هي الحقيقة كما أراها حين أتأمل الأجناس الأدبية والفنية في واقعها الراهن وأتخيل مآلاتها .
4. القصيدة عمارة

القصيدة ليست كلاماً سائلاً ، ولا مجرد صورة حاذقة ، أو مفارقة ذكية ، أو طرفة ، أو حكمة ، أو ما إلى ذلك مما نقرؤه اليوم في كثير من المجموعات ، أو على صفحات التواصل الاجتماعي . القصيدة ليست هذا ولا هي شيء منه ، لأن الخطاب الشعري خطاب بناء ، والقصيدة التي ينشئها عمل فني مركب ، عمارة مشيدة ، ولهذه العمارة شكل ينتظمها وينظمها ( لابد من أن يكون لها شكل ) ولهذا الشكل سمات وخصائص تميزها عن غيرها من القصائد ، وتميز صاحبها عن غيره .
ربما ظن من يكتبون هذا الكلام السائل أنهم يكتبون ( الهايكو ) الياباني ، أو يتشبهون به ، وفاتهم أن لكتابة ( الهايكو ) قواعد نظمية خاصة تجعل منه قصيدة مشعة زاخرة بالدلالات ، هذا إذا أحسنا بهم الظن ، وإلا فهم يهربون من فن كتابة القصيدة وصعوبته إلى سهولة الثرثرة بكلام استهلاكي نفعي وفضفاض لا يؤول إلى تحصيل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حركة الشواف المسلحة في الموصل 8 من آذار 1959 وتداعياتها

  حركة الشواف المسلحة  في الموصل  8 من آذار 1959 وتداعياتها  أ.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل ليس القصد ...