الثلاثاء، 27 أبريل 2021

رمضان في مدينة الموصل بين الامس واليوم .................مقال للدكتور ابراهيم خليل العلاف *




رمضان في مدينة الموصل بين الامس واليوم

ا.د. ابراهيم خليل العلاف*

سألني صديقي عن رمضان هذا الشهر الفضيل شهر القرآن الكريم في مدينتنا العزيزة الموصل كيف كان أمس وكيف هو اليوم فأقول للأسف هناك فرق كبير فنحن اليوم نعيش زمن كورونا هذا الفايروس اللعين الذي فتك بالبشرية ولايزال ويقتضي منا الابتعاد عن بعضنا وارتداء الكمامة والابتعاد عن بعضنا البعض يكون في الصلاة وفي التجمعات وفي الاحتفالات بشعائر رمضان وهذا يتناقض مع ما كان رمضان يتطلبه عندما كنا صغارا وقبل قرابة (100) سنة . كان مجيء شهر رمضان فرصة لالتقاء العوائل والسمر والاجتماع وممارسة الالعاب الجميلة ومنها لعبة الفر – الصينية واليوم نحن ممنوعون من ذلك وعلينا ان نلتزم بيوتنا وان نتباعد عن بعضنا البعض وان بلبس الكمامة هذا هو واقع رمضان اليوم وهو يطل علينا .
لكن هذا يجب ان لا يمنعنا من ان نذكر اولادنا واحفادنا بما كان عليه رمضان امس في مدينتنا القديمة في الموصل وانا عن نفسي اتحدث اقول اننا كنا في اسعد حالاتنا ونحن نستقبل حلول الشهر الفضيل بالتهليل والتكبير وبالأناشيد .
كنا نردد اغنية رمضان ومنها :
ليالي رمضان ما احلاها
ليالي رمضان ما ابهاها
فيها البركة وفيها النعمة
فيها الايمان
فيها التوبة وفيها العزة
فيها الغفران
فيها فيها البركات
فيها فيها الخيرات
ليالي رمضان
والاغنية من كلمات ولحن الفنان المرحوم الموسيقار زكي ابراهيم وهي طويلة .
ويصعد الشباب على السطوح وعلى المنائر ليهللوا ويرحبوا برمضان اهلا اهلا رمضان .
اما اليوم فالكل منشغل بالانترنت والفيسبوك وقليلا ما ترى احدا يفعل ذلك مع الاسف الشديد .
نعم اليوم الاسر تتهافت على الاسواق ومنها سوق العطارين لتشتري احتياجات رمضان من الاطعمة والاشربة استعدادا للصيام لذلك والحمد لله نرى اليوم الاسواق عامرة مع ان منع التجول والدعوة الى عدم التجمع وارتداء الكمامة والتباعد هو سيد الموقف .ترى الناس حذرين من بعضهم وهم يستذكرون من فقدوه بسبب هذا الفايروس اللعين الذي ما يزال منتشرا ومؤثرا وفي حالة انتشار متزايد .
الموصليون اناس متدينون محافظون محبون للدين مؤمنون بالتقاليد ولرمضان والحمد لله لاتزال لديه قدسية ومكانة محترمة عندهم .وهم يعرفون ان الله سبحانه وتعالى كتب عليهم الصيام كما كتبه على الذين من قبلهم وان ابواب السماء تفتح في رمضان وان الشياطين تُقيد وان الصوم عبادة لله وهو يجزي بها من هنا فهم يبدأون بوضع برنامج لهم كما هو في تاريخهم القديم برنامج لقراءة القرآن وختمه وللتسبيح والاستغفار وسابقا أي في الامس كان كثير من اهل الموصل يعملون بالمهن والحرف لهذا هم يعطلون اعمالهم وينصرفون للصوم اما اليوم فقد اصبح الكثير منهم موظفين لذلك فهم يداومون في دوائرهم وهم صيام لكن عادة ما تقلص الدولة الدوام ساعة واحدة لتتيح للصائمين ممارسة صومهم بكل روحانية وانسيابية وراحة .
والموصليون امس واليوم يعظمون شعائر الله في رمضان فلرمضان طعم خاص وجو خاص تجده واضحا في اسواق وشوارع الموصل ودائما انا اقول ان لرمضان روحانية طيبة في الموصل اذهب الى باب الجديد او الى حضيرة السادة او الى سوق النبي يونس او الى الموصل الجديدة تجد لرمضان روحانية خاصة واجواء خاصة لا تجدها مثلا في بغداد او بعض المدن فالموصليون يحتفون حقا برمضان ولهم فيه تقاليد قديمة متوارثة لايتنازلون عنها ابدا .
ومن العادات التي يحرص عليها ابناء الموصل كما كانوا يفعلون امس ويفعلون اليوم انهم يدربون اطفالهم لاستقبال رمضان ويوجهونهم للصيام ويبدأون في الاستعداد لتنظيف البيوت وتهيئة ما تحتاجه في رمضان من البهارات والفحم والعصائر والبقوليات والخضراوات والحلويات ويبدأون بصوم أيام عديدة من شهري رجب وشعبان ، خاصة يومي الاثنين والخميس منهما تطوعاً أو إيفاءَ لما أفطروه من رمضان السنة الماضية بعذر شرعي.
وفي رمضان كان الموصليون يتبادلون التهنئة وجها لوجه وفي وقتنا الحاضر أصبح الهاتف الجوال اي (الموبايل) يرن بين الفينة والاخرى وعندما تفتحه تجد التهاني برمضان تترى أي تتوالى من الاصدقاء والاقرباء والمحبين .
وعندما تسأل احد من الاصدقاء متى رمضان يقول لك اننا ننتظر اقرار الهيئة الشرعية أو قاضي الموصل ثبوت رؤية دخول الشهر الفضيل ..كان الناس ينتظرون ان يعلن القاضي ذلك من خلال المذياع او التلفزيون .. وغالبا ما يتم الاختلاف فيصوم البعض اعتمادا على ما اعلنه مفتي السعودية في حين يلتزم الاخرون بما يعلنه قاضي العراق .. وكان في الستينات وما بعدها السيد عبد الرزاق ابراهيم .. ومنذ اكثر من الف واربعمائة سنة يختلف المسلمون هنا وهناك بشأن بدء الصوم ونهايته وحجتهم ليست الحسابات الفلكية الدقيقة ، ونتائج الاجهزة العلمية وانما لابد ان يروا الهلال بأعينهم المجردة أو أن يرى احدهم او بعضهم الهلال "فمن شهد منكم الشهر فليصمه " .. وقد جاء في الاثر :" صوموا لرؤيته ..وأفطروا لرؤيته " .
ولقد ادركت في صباي جانبا من الاحتفالات بقدوم رمضان في الموصل حيث تطوف المسيرات في الشوارع ويشارك الناس في احتفالات فولكلورية رافعين الفوانيس والمشاعل ويرافق هذه المواكب الاطفال فرحين مبتهجين ويدورون على ابواب الميسورين مرددين "ماجينا ياماجينا حل الجيس وانطينا " ويتم ذلك بعد ذكر اسماء الاعزاء من اطفال اولئك الناس "الله يخلي احمد " "الله يخلي حسين " وهكذا ..
كنت اسمع بخروج اناس الى البادية عصر اليوم السابق لرمضان او قبل ذلك حيث يصفو الجو خاصة لرؤية الهلال الجديد هلال رمضان ..ويتوزع الناس على جوامع المدينة ليسمعوا (الوعظ) وخطب الجمع ..جامع الشيخ عبدال وجامع النبي جرجيس وجامع النبي شيت وجامع النبي يونس وجامع الخضر وجامعة عبد الله بك والجامع النوري وجامع المصفي "هل هلالك شهر مبارك " .
نعم كان رمضان في الموصل وايامه الجميلة أمس وحتى يومنا هذا شهرا للطاعات وتسود الاجواء الروحانية ايامه ولياليه فالرجال والنساء والاطفال يفرحون برمضان المبارك ويستعدون له وتمتلأ الجوامع والمساجد وخاصة في احياء المدينة وفي القرى والارياف بالمصلين ويبدأ الناس بقراءة القرآن الكريم ويحرصون على ختمه اكثر من مرة سواء في الجامع او في البيت كما تقيم المساجد والجوامع دورات لتحفيظ القرآن للأطفال وتقيم المسابقات فيما بينهم ضمانا لاتقان قراءة القرآن الكريم وحفظ بعض من آياته وسوره وكثيرا ما نشاهد اطفال الموصل وهم يرتدون الدشاديش البيضاء وعلى رؤوسهم العرقجين ويذهبون الى المساجد والجوامع ومن الطريف ان الشيوخ والرجال يفسحون لهم وحتى للنساء اماكن خاصة تشجيعا لهم لارتياد الجوامع والمساجد .ول اعتقد ان هذه الدورات اليوم متاحة ونحن نعيش زمن فايروس كورونا اللعين.
لازلت اتذكر كيف اننا كنا ننتظر اطلاقة المدفع مع اشهار اذان المغرب كان المدفع
ينصب في الجانب الايسر قرب حديقة الشعب وعلى الحافة اليسرى لنهر دجلة الخالد ..يتهيئا الجندي لإطلاق الطلقة الاولى من المدفع ما ان يسمع مؤذن جامع الاغوات يلهج بعبارة الله اكبر وغالبا ما كنا نٌسعد برؤية المدفع وهو يعلن بدء الافطار ومما اتذكره انني بقيت مرة وانا طفل في الابتدائية مع عدد من اصدقائي الى جانب المدفع لنسمعه وهو يدوي وسط أهازيجنا وفرحنا برمضان وبطقوسه الجميلة ..
وعندما نكون في البيت وكان بيتنا في رأس الكور في الخمسينات من القرن الماضي نصعد الى سطح الدار لنسمع الاذان اذان المغرب ونصرخ لنسمع اهلنا في الداخل "دق الطوب .... أذن افطغوا " وعندئذ ننزل لنشارك اهلنا الافطار الذي يبتدأ كما يقول الاستاذ ازهر سعد الله العبيدي في كتابه "الموصل ايام زمان " بأن يتناول كل صائم تمرة ..وهذه سنة درج عليها الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وتتألف مائدة رمضان من التمن والمرق والشوربة ال "السوب " وغالبا ما تكون الشوربة اما من العدس واما من "الجريش " ولاننسى الكباب والسنبوسك او السنبوسه الى جانب الخضروات والحلويات والفواكه ..كانوا يضعون في الشوربة قطعا من اللحم تسمى العصافير ولايزالون في الموصل يلتزمون بهذه العادة .
وقد دأبت العائلة الموصلية ان تؤدي صلاة المغرب قبل الافطار الذي يبتدأ بتناول التمر وقليلا من الماء او " الشنينة " وبعدها تتجه العائلة الى الصلاة ويؤمهم رب البيت هذا اذا كان يصلي في البيت او ان البعض يذهب الى المسجد القريب او الجامع القريب ليؤدي فريضة صلاة المغرب وبالمناسبة فقد كان من عادة الموصليين التبرع للجامع بالتمر والشربت الذي يٌقدم للمصلين قبل ادائهم للصلاة . وما انت تنتهي الصلاة حتى يتحلق افراد العائلة حول سفرة رمضان ويبدأون الافطار . ويقينا ان هذه الطقوس القديمة هي ما يحرص الموصليون اليوم على ممارستها بالرغم من التقييدات من جراء انتشار فايروس كورونا .
وما ان ينتهي الافطار الا وتبدأ العائلة بشرب الشاي وتناول الحلويات وغالبا ما كان الشاي يٌخدر على الفحم الذي يظل متقدا بعد شواء الكباب ليوضع اناء الشاي الكتلي فيغلي الماء ويخدر الشاي في القوري وغالبا ما يوضع الهيل او عطر النعناع وبقدر ما يتعلق الامر بي فأنني احب الشاي من السماور الذي نخرجه لنستعمله في رمضان والعيد وشاي السماور يٌخدر بشكل جيد وما ألذ واطيب من رائحة الشاي الزكية وقد تخدر ...وقد ارتبط تخدير الشاي بتلك الاغنية التراثية الشعبية المعروفة "خدري الجاي خدري ..عيوني المن اخدره " .
الشيء الجميل والجديد اليوم ان الموصليين اليوم في وقتنا الحاضر يؤكدون على بعضهم ان يكون التلفزيون ثابتا على قناة ( الموصلية ) الفضائية فهي قناتهم التي يشاهدونها وهي تقدم لهم الجديد من البرامج في رمضان يفطرون على الاذان الذي ينطلق منها ويتابعون قراءة القرآن وما تقدمه لهم من برامج منوعة ووعظ .
كانوا يذهبون الى صلاة التراويح اما اليوم فهذه الصلاة ستكون ممنوعة بسبب تفشي فايروس كورونا لذلك اليوم يصلونها في بيوتهم والاب يؤم اهل منزله او الاخ الكبير وهكذا وبعد ذلك تبدأ جلسات السمر ومشاهدة برامج التلفزيون .
كانوا يذهبون أي الرجال الى المقاهي بعد الافطار ويبقون حتى وقت السحور واليوم لا يستطيعون ذلك بسبب الوباء .وسابقا كان المسحر يتجول بين الاحياء واليوم ليس ثمة مسحر ولعل احدا يتطوع ليقوم بهذا الدور ويتجول بين دور المحلات ليردد مقولة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم :" تسحروا ففي السحور بركة " ..
ومما ادركته سابقا في رمضان ان الجمعيات والاصناف الحرفية كانت تقيم موائد للفقراء وللايتام كما كانت تتبرع ب"صواني "البقلاوة والزلابية الى دور الايتام ودور المسنين ويجب ان اذكر جهود المرحوم الصحفي الكبير احمد سامي الجلبي رئيس جمعية الشبان المسلمين واراه وهو يوصي اصحاب الحلويات على كميات من الحلويات ليقدمها بنفسه خلال زيارة يقوم بها هدية لدور الايتام والمسنين .
وارجو ان تظل هذه العادة تمارس لأهميتها وفائدتها لهؤلاء الذين فقدوا المعيل ويستحقوا منا الف خير والحمد لله توجد لدينا اليوم جمعيات كثيرة ومنظمات للمجتمع المدني تفعل ذلك .
ويجب ان نستذكر ما كان يدفعه الصائم في رمضان من زكاة تسمى في الموصل "الفطرة " .. وغالبا ما تحدد من احد العلماء المجتهدين وحسب الظرف الاقتصادي فيقولون ان زكاة الفطر لهذه السنة كذا مبلغ لكل فرد بينما كانت في السنة الماضية كذا مبلغ وهكذا ..وكان عدد من الموصليين يرتبون اوقاتهم للقيام بالعمرة في رمضان لكن ظروف اليوم لا تساعد على ذلك .
ومهما يكن من امر اختلاف الظروف بين الامس واليوم في رمضان فان الموصليين وخاصة في المدينة القديمة وبالرغم مما حدث لهم من دمار خلال سيطرة عناصر داعش وحرب تحرير الموصل منهم لايزالون مصرين على ان تكون ايام رمضان اليوم مشابهة لأيام رمضان أمس ولكن لابد ان نذكر الجميع بوجوب الحفاظ على صحتهم من خلال ارتداء الكمامة والتباعد قدر الامكان . رمضانكم كريم رمضانكم مبارك أعاده الله عليكم وانتم ترفلون بالعافية والخير والبركة .
____________________________
*كاتب ومؤرخ موصلي

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...