الأحد، 12 أبريل 2015

موفق خضر بقلم : الاستاذ سامي مهدي
















موفق خضر

بقلم : الاستاذ سامي مهدي 

كان موفق خضر واحداً من أصدقاء العمر القليلين ، أعني الحميمين . بدأت علاقتي به عند بدء السنة الدراسية 1956 – 1957 حين انتقلت من متوسطة فيصل إلى ثانوية الكرخ . فقد جمعنا صف واحد هو الصف الرابع الأدبي ، وجلسنا ، مصادفة ، على مصطبة ( رحلة ) واحدة ، وبقينا كذلك طوال هذه السنة والسنة التي تلتها ، فنشأت بيننا صداقة حميمة ، رسخها في ما بعد تاريخ مشترك من المصادفات ، فقد كانت هذه المصادفات تجمعنا كلما فرقتنا سبل الحياة ، وبذلك امتدت صداقتنا حتى وافاه الأجل عام 1981 .
فحين أنهينا دراستنا الثانوية عام 1958 دخل كلانا كلية الآداب على غير اتفاق ، فدرس هو فيها علم الإجتماع ودرست علم الإقتصاد . وحين تخرجنا فضل هو التدريس وفضلت أنا غيره ، ولكننا عدنا فالتقينا عام 1968 في مجلة ألف باء هو مشرفاً على زاوية القصة القصيرة ، وأنا محرراً لصفحات المجلة الأدبية . وحين فرقتنا الظروف مرة أخرى عدنا فالتقينا عام 1980 في وزارة الثقافة والإعلام ، هو مديراً عاماً لدار الجاحظ ، وأنا مديراً عاماً للشؤون الثقافية ودار الرشيد ، وكلتاهما تقعان في مبنى واحد . ومن المفجع أنني ورثت عنه إدارياً دار الجاحظ وأنا من وقع كتاب ترقين قيده بعد وفاته . وقعته والدموع تنهمر من عيني .
كان موفق رحمه الله يكبرني بثلاث سنوات ، وكان امتلاؤه وتورد وجنتيه ينمان عن عافية ويسر . أما ضحكاته المجلجلة ، وتعليقاته المرحة ، ودهشته الكبيرة إزاء الأشياء فيشي كلها بسعادته وخلو باله . فلم يكن يبدو عليه ما يعكر مزاجه أو يكدر صفو حياته . ولذا كان دائم البشر والإنشراح والمرح . كان رومانسياً في نظرته إلى الحياة والأشياء ، وكان في علاقاته عذباً ، رقيقاً ، مهذباً ، محباً ، ميالاً للتأنق والترف ، حتى كأنه لم يكن فتى كرخياً ، وكأن كرادة مريم التي نشأ فيها حي أرستقراطي لا علاقة له بالكرخ ولا ببيئته الشعبية . ويبدو أن موفق لم يكن يختلط بأبناء منطقة سكنه ، مثلما لم يكن يتردد على دكان أبيه بائع الفواكه والأجبان في مدخل سوق الشواكة ( خضر هوبي جواد الحمزة ) .
أذكر أنه دهش دهشة عظيمة حين توغلنا معاً ذات يوم بين أكواخ منطقة " الشاكرية " ورأى فيها ما رأيت على سكانها من بؤس وحرمان . كانت الشاكرية تقع على مرمى حجر من بيته ، ولكنه لم يكن قد رآها إلا من بعيد وسمع ما سمع عنها . والشاكرية ، لمن لا يعرفها ، كانت قرية هامشية كبيرة من أكواخ فقيرة ، تقطنها عوائل جنوبية أمضها الإقطاع فهاجرت من أريافها إلى بغداد ، وكانت تقع على مقربة من كرادة مريم ، وأراضيها اليوم تقع ضمن أراضي " المنطقة الخضراء " . 
كان ثمة بؤس لا يعرفه إلا من رآه ، وقد رآه كلانا عن كثب حين كلف طلاب الثانويات بأن يعملوا " عدّادين " مؤقتين في إحصاء نفوس العراق عام 1957 لقاء أجرة مقطوعة قدرها ديناران . وكان موفق قد سمع شيئاً عن الإقطاع ، ولكنه لم يتعرف جيداً على نتائجه الملموسة إلا حين كلفنا معاً بمهمة إحصاء نفوس هذه المنطقة وتوغلنا معاً بين أكواخها وتحدثنا معاً إلى سكانها .
لموفق أفضال كثيرة علي ، فهو من شجعني على الكتابة في بداية عهدي بها ، وهو من عرفني على الأدباء الشباب في أواخر الخمسينيات ، وهو من كان يحثني على العودة إلى الكتابة حين توقفت عنها بعد دخولي كلية الآداب ، وهو من كان يعيرني كل كتاب جديد يشتريه . وكثيراً ما كنا نتناقش حول الكتب التي نقرأها ، وكثيراً ما كنا نختلف في مناقشاتنا ، وكان الإختلاف يصل حد التناقض في بعض الأحيان ، ولكنه لم يتحول قط إلى خصومة أو فراق أو نفور . فصداقتنا كانت أعمق وأقوى من أن يفسدها شيء . وكانت هذه الصداقة من القوة بحيث كنا نحرص على أن نلتقي خلال أيام العطلات الصيفية ، وإذا عز اللقاء تبادلنا رسائل بريدية مطولة نسرد فيها أخبارنا وأخبار أصدقائنا وندون ملاحظاتنا حول قراءاتنا ، ومن المؤسف أنني لم أحتفظ إلا بالقليل من تلك الرسائل لأنني لم أكن أقدر قيمتها الوثائقية .
كانت لنا كتابات منشورة في الصحف المحلية قبل أن تجمعنا الزمالة في ثانوية الكرخ ، وكان موفق يكتب القصة والمقالة إلى جانب يعض المحاولات الشعرية ، غير أن موهبته الأدبية كانت تتجلى في القصة أكثر من الشعر ، وأول قصة قصيرة نشرت له عام 1954 . أما شعره فكان رومانسياً وصفياً متعثر الأوزان ، ولذا شجعته قاصاً وشجعني شاعراً . وما أكثر ما كان يحثني على النشر في الصحف والمجلات المحلية والعربية . فقد كنت أتردد كثيراً ، ولم أكن أعرف أحداً في الوسط الصحفي ، وأتهيب من دخول مقر أية جريدة أو مجلة ، ولم أكن أطلع أحداً قبله على كتاباتي ، فكنت أحظى منه بأجزل الثناء وكان يبدي من الإعجاب بها ما يحرجني . وكنت أنا الآخر أول من يطلع على كتاباته ولم أكن أضن عليه بالإعجاب والثناء .
وأذكر أنه أخبرني بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 أنه بدأ يكتب رواية فشجعته ، وبقيت أتابعه حتى أنجزها ، فأطلعني عليها وطلب مني إبداء رأي فيها ، ففعلت . وأبديت له بعض الملاحظات ، ومنها على ما أذكر ملاحظة تتعلق بسفرة إلى مدينة التاصرية ولقاء بين شبان وشابات في بيت أحد شخصياتها ، فيمرحون هناك ويرقصون على أنغام الموسيقى . وكان رأيي أن هذا يصعب حصوله في بغداد نفسها ( عدا بيئات بغدادية ضيقة ) فكيف يمكن أن يحدث في ناصرية تلك الأيام . غير أنه لم يوافقني على هذه الملاحظة ، وعلل الأمر بأن ما لا يمكن حدوثه في الواقع اليومي يمكن حدوثه في الواقع الروائي ، وقد يكون هذا صحيحاً من حيث المبدأ ، ولكنه لا يصح دائماً في ما أظن . ومع ذلك لم يكترث لملاحظتي ، وأظنه لم يحدث فيها أي تغيير عند نشرها عام 1960 . وكانت تلك روايته الأولى ( المدينة تحتضن الرجال ) .
توفي موفق خضر وعمره لا يزيد عن أربعة وأربعين عاماً بعد مرض مفاجيء لم يمهله طويلاً ، وتركت وفاته غصة في قلوب أصدقائه ومحبيه . فقد كان إنساناً طيب القلب ، محباً للآخرين ، وكان في ذروة عطائه الأدبي . 
صدرت له روايتان : المدينة تحتضن الرجال ( 1960 ) والإغتيال والغضب ( 1980 ) وخمس مجموعات قصصية هي : الإنتظار والمطر( 1962 ) ومرح في فردوس صغير( 1968 ) وألقِ ما في يدك ( 1970 ) ونهار متألق ( 1974 ) وأغنية الأشجار ( 1977) .
رحم الله صديقي أبا أحمد وطابت ذكراه في قلوب أصدقائه ومحبيه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حركة الشواف المسلحة في الموصل 8 من آذار 1959 وتداعياتها

  حركة الشواف المسلحة  في الموصل  8 من آذار 1959 وتداعياتها  أ.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل ليس القصد ...