جماعة بغداد للفن الحديث...فصل من تاريخ العراق الثقافي المعاصر*
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس -جامعة الموصل
في العدد (2) السنة (4) من مجلة آفاق عربية العراقية ( تشرين الأول 1978) كتب المرحوم الأستاذ شاكر حسن آل سعيد (1925 ـ2004) دراسة موسعة عن جماعة بغداد للفن الحديث والتي تأسست يوم الخميس 19 من نيسان سنة 1951 وذلك لمناسبة مرور 27 عاما على ظهورها آنذاك، وقد استعاد الرجل بذاكرته ظروف نشأة تلك الجماعة ، وقال إن ذلك يرجع إلى أيام تلمذته في فرع العلوم الاجتماعية بدار المعلمين العالية ببغداد ( كلية التربية ـ جامعة بغداد) سنة 1948 وتعرفه على الفنان جواد سليم (1920 ـ1961) وبعد تخرجه انتسب إلى الدراسة المسائية في قسم الرسم بمعهد الفنون الجميلة وهناك صادف العديد من الطلبة والأساتذة الذين أصبح لهم فيما بعد شأن في حركة النهضة الفنية العراقية المعاصرة ، فهم على سبيل المثال محمد غني حكمت ، وإحسان الملائكة ، وهنري زفوفدا ، ومحمد الحسني ، ورسول علوان ، وعطا صبري ، وفائق حسن . وقد تكررت لقاءا ته بهؤلاء وغيــرهم في (مقهى ياسين) المطل على نهر دجلة من جهة الباب الشرقي ببغداد .. ولم يقتصر اللقاء على الفنانين فحسب ، بل كان هناك أدباء وصحفيون عديد ون اعتادوا الجلوس في المقهى ذاته ومنهم الشاعر حسين مردان والشاعر كاظم جواد والشاعر بلند الحيدري والصحفي عبد المجيد الو نداوي ومعظمهم من الذين يحملون فكرا سياسيا يساريا تقدميا . كما يجمع الكثيرون منهم بين الرسم والنحت والأدب ، ويشتركون في مسألة أخرى وهي نزوعهم لإكمال دراساتهم في خارج العراق ورغبتهم في تجديد الفن العراقي وتحديثه .
يحدد الأستاذ شاكر حسن آل سعيد أسماء الآباء المؤسسين لهذه الجماعة فيقول ((انه في يوم ما من أيام نيسان من عام 1951 ، اجتمعت الأسباب لان نفاتح ، أنا ومحمد الحسني ( مواليد 1925 ) جواد سليم بأهمية تأسيس الجماعة }ويبدو انه اقتنع بذلك{ ودار نقاش حول بنيتها وتسميتها فاتفقنا على أن يكون الاسم ( جماعة بغداد للفن الحديث) وهو ما اقترحه جواد سليم نفسه . وكان من بواكير إنجازات هذه الجماعة إقامة المعرض الأول ببغداد سنة 1951
ويتحدث المرحوم شاكر حسن آل سعيد عن لحظات ولادة الجماعة والمعرض فيقول (( أتذكر اليوم والساعة ، اظنه مساء يوم الخميس من منتصف نيسان من ربيع 1951 .. جمعنا أعمالنا في مكان ما لعله معهد الفنون الجميلة وتعهد المرحوم جواد سليم نقلها بسيارته المتواضعة ( ألبيك آب) .. وافرغنا حمولتنا أمام مبنى الأزياء العراقية سابقا وهي محطة وقوف السيارات عند أعتاب جسر الجمهورية حاليا) ثم تعاونا في نقل اللوحات وتهيئة المعرض والحديقة معا .. ثم كانت حفلة افتتاح المعرض في اليوم التالي ، فقد اكتظت القاعة بالمدعوين من مختلف الطبقات والعناصر .. كان من بين الحضور السياسي حسين جميل والصحفي احمد قطان والطبيب خليل الشابندر والشاعر عدنان الراوي والمهندس منير الله وردي .. وكل الأصدقاء والزملاء وأساتذة معهد الفنون الجميلة وتلاميذه من الرسامين والنحاتين الشباب .. ألقى جواد سليم محاضرة وتلا شاكر حسن آل سعيد ( البيان الأول للجماعة) ورافق افتتاح المعرض حفلة موسيقية أحياها بعض أساتذة وطلبة معهد الفنون الجميلة. .. كان حفلا رائعا ...)) .
ومما قاله جواد سليم في محاضرته : ((أنا والكاتب نريد أن نشارك كل البشرية ما نريد أن نقوله . وكل إنسان يود أن يتحسس مزايا عقلية الإنسان ، وكفرد في المجتمع الإنساني فان هذه المزية مزية العقل والفكر ، لا تتحقق إلا في المبادلة والتجارب )) ويشير صديقنا الأستاذ حميد المطبعي في موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين ( الجزء الأول ، بغداد ، 1995) إلى أن فلسفة جواد سليم تتلخص بكلماته هذه : (( إن الفنان يتابع ما يجري حوله ويعبر عنه بإخلاص ، ولكن عليه أن يعرف كيف يتحقق هذا التعبير)) .
وفي سنة 1953 أقامت الجماعة معرضها الثاني وسرعان ما توالى تنظيم المعارض والتأثير في بنية الحركة الفنية العراقية وتعميق توجهاتها الإنسانية .
ويربط آل سعيد بين ظهور الجماعة من جهة واندلاع ثورة الشعر الحر في العراق من جهة أخرى .. فكلاهما برأيه ، كان يمثل انعكاسا ((لازدهار الوعي الاجتماعي والثقافي لجيل الخمسينيات من القرن الماضي)) . ولقد شهدت مقهى ياسين ، بحق ، تجربة عراقية جديدة في ميداني الأدب والفن تستند إلى أمرين مهمين اولهما الاعتزاز بالموروث في الحضارة العربية والإسلامية العريقة وثانيهما الانفتاح على طبيعة العصر .
ترسخت أقدام الجماعة واتسعت قاعدتها عند الإعداد للمعرض الفني الأول وافتتاحه وقد اشترك في المعرض التشكيلي كل من جواد سليم ولورنا سليم ومحمد الحسني وقحطان عبد الله عوني ونزار على جودت وريشار كنادا ومحمود صبري ( مواليد 1927) وشاكر حسن آل سعيد . وقد نجح المعرض نجاحا باهرا .و بعد سنة من افتتاح المعرض انضم إلى الجماعة نزيهة سليم ، ورسول علوان ، وحافظ الدر وبي ، ومحمد غني حكمت ، وهنري لويس ، وفي سنة 1954 انضم بوغوص بابلو نيان وطارق مظلوم وفرج عبو (1921 ـ1984) وخالد الرحال (1926 ـ1986) وخليل الورد وعلي الشعلان . وهكذا تنامى عدد الجماعة حتى وصل سنة 1957 إلى ما يقارب أل (16)رساما ونحاتا ومن الفنانين والنحاتين الآخرين الذين انضموا إلى الجماعة جبرا إبراهيم جبرا (1920 ـ1994) وكانثي وود وإبراهيم العبد لي وسلمان عباس وخضير الشكرجي وثريا النواب وفؤاد جهاد وإسماعيل فتاح الترك ( توفي 2004) .
كان أعضاء الجماعة يرون أنفسهم بأنهم حملة رسالة فنية عراقية وعربية وإنسانية معا .. لذلك أصبحت الجماعة بعد ظهورها مركز إشعاع فكري للفنانين العراقيين. ويقينا أن أولئك الرواد الأوائل أسهموا في وضع لبنات جديدة إلى صرح الفن العراقي الحديث المعاصر .
استندت الجماعة في فلسفتها على ضرورة العمل الجاد والفاعل من اجل إرساء التذوق الفني على أسس جديدة لعل في مقدمتها أن الفن للجمهور ، وان لا يذهب (الفنان) وحده باتجاه الحصول على المكاسب الذاتية ( المادية والمعنوية) ، بل يجعل همه الوحيد هو ما يحصل عليه من مكاسب ( جماعية) ليس لنفسه وإنما للعمل الفني نفسه .. فالجمهور هو الذي ستؤثر طبيعة الأعمال الفنية المطروحة أمامه به . والفنان الذي يجعل من الإنسانية موضوعه المفضل لا يستطيع أن يغامر بأكثر من الأسلوب الإنساني . . كما أن الفنان الذي يجعل من الإنسان موضوعه المفضل لا يستطيع بدوره إلا أن يغامر بأسلوب إنساني (من الإنسان وليس الإنسانية). ومنذ البداية اضطلعت الجماعة بوظيفة مزدوجة فهي تعين الفنان على تكوين رؤية فنية ثقافية ، تستقي من الحضارة العربية والحضارات المحلية السابقة لها طابعها وشخصيتها القومية ، كما تعين الجمهـور على اتخاذ الموقف الواقعي والمعاصـر في تـذوق العمل الفني عمومـا )) .
كان الفن لدى الجماعة موقف تساؤل فتأمل فإدراك فمعرفة وعبر هذه الرؤيا يمكن أن يكون الفن طريقا للبحث عن الحقيقة . وقد امتازت الأعمال الأولى لأنصار هذه المدرسة باستلهام الموروث الفني الشعبي العراقي ومعالجته بواقعيته.
لم تقل جماعة بغداد للفن الحديث أنها الرائدة في العراق في مجال تنمية الإحساس بالفن ، وإنما قالت بان (جماعة الرواد) التي تمتد جذورها إلى أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين هي التي أنجزت هذه المهمة وان ما سوف تفعله جماعة بغداد سينحصر في ممارسة الأساليب الحديثة في الفن على محورين يتمثل الأول بالعطاء الفني الموسوم بطابعه المحلي والحضاري . وثانيهما هو تهيئة الجمهور للإحساس بقيمة العمل الفني وتأثيره وليتجاوز موقفه من الفن الحديث نحو الفن المحلي الحديث .
واجهت الجماعة بعض المشكلات وفي مقدمتها وفاة جواد سليم سنة 1961 ، وسفر بعض أعضائها خارج العراق لإكمال دراستهم ، لذلك انفرط عقدهم فترة قصيرة إلا أن ذلك لم يفت في عضد الجماعة ، فلقد ظهرت أسماء جديدة واصلت المسيرة مثل نزار سليم ، وعبد الرحمن الكيلاني ، وايان اولد ، وميران السعدي ، وإسماعيل فتاح الترك ، والفريد الرحال ، وفالنيتوس كلا كومبوس ، وغالب الناهي ولم يمنع هذا من انسحاب عدد من الفنانين وخروجهم من الجماعة ومنهم على سبيل المثال حافظ ألدروبي الذي كون له جماعة عرفـت بـ( جماعة الانطباعيين) . وقد استمرت الجماعة في تحمل مسؤولياتها طوال فترة الستينيات من القرن الماضي .. أما في مطلع السبعينيات فقد انضم للجماعة فنانون آخرون منهم محمد عارف ، وعبد الرحمن الوكيل ، وإبراهيم العبد لي ، وسلمان عباس وفؤاد جهاد .
لقد استمر عطاء جماعة بغداد للفن الحديث ، فكان أعضاؤها من الفنانين الذين قدر لهم أن يقودوا الحركة الفنية العراقية المعاصرة ، ولم يقتصر عطاؤهم على ما قدموه في العراق ، بل أن شهرتهم امتدت لتشمل الوطن العربي والعالم كله .. وهذا مما يجعلنا نفخر بهم وبإعمالهم الفنية المتميزة . وقد أكد هذه الحقيقة أكثر من ناقد فعلى سبيل المثال أشار الناقد يحيى الشيخ وعلى موقع ( الفنان العراقي) الالكتروني ((بان الفن العراقي الحديث أنجب في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين مجموعة أعمال إبداعية كبيرة ذات سمات جمالية جديدة تميزت بانتمائها الجذري لتاريخ العراق وارتباطها الصريح بتطوره)) . وأضاف: إن جماليات هذه المجموعة نضجت بفعل نهوض وتطور المجتمع العراقي آنذاك والغنى الثقافي الذي وصل إليه الفنانون وأقطاب الحركة الفنية الفاعلة بالخصوص)) . ومع أن معظم أولئك قد درس الفن خارج العراق ، إلا أن ما شهده العراق من تنامي الوعي السياسي والديموقراطي أسهم في تركيبة الفنانين الثقافية وصياغة الاتجاهات المعاصرة في الفن العراقي الذي شق طريقه على شكل تيارين سارا متوازيين في ظاهرهما ومتلاقيين في جوهرهما بدرجة تأثرهما بالنزعة الشكلية السائدة في أوربا وقد اتجه التيار الأول نحو التقاليد الفنية المتوارثة وتميز بتأثره الواضح بأشكال فنون سومر وأشور والفنون الإسلامية والموروث الشعبي وبمضامين الأساطير والحكايات الشعبية . وقد مثلت هذا التيار جماعة بغداد للفن الحديث متمثلة برائدها جواد سليم و جماعته ، وقد تعامل هذا التيار بفعل ليبرا ليته غير المحدودة مع جماليات الموروث بصفتها جزءا من حركة اجتماعية لها بعدا تاريخيا يمتد إلى الحاضر ووجدانا فاعلا ومؤثرا من مؤثرات الاصالة القومية . أما التيار الثاني فتمثل في أعمال فناني ( جماعة الرواد ، فضلا عن فنانين آخرين لم يجذبهم مناخ الجماعة الفنية أمثال خالد الجاد ر) وتكمن ابرز خصائص هذا التيار الجمالية بتصويره البيئة العراقية وتصعيده للواقع العراقي باعتبار هما موضوعي الجمال الأكثر غنى في الحياة وعلى الرغم من التمايز بين التيارين إلا أنهما كثيرا ما تقاطعا واختلطت مشاربهما .
* المقال منشور في مجلة الصوت الاخر (الاربيلية ) والرابطhttp://www.sotakhr.com/2006/index.php?id=3769
** صورة الفنان الاستاذ جواد سليم وهو يعلن انطلاق الجماعة والى جواره الفنان الاستاذ شاكر حسن ال سعيد رحمهما الله
ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس -جامعة الموصل
في العدد (2) السنة (4) من مجلة آفاق عربية العراقية ( تشرين الأول 1978) كتب المرحوم الأستاذ شاكر حسن آل سعيد (1925 ـ2004) دراسة موسعة عن جماعة بغداد للفن الحديث والتي تأسست يوم الخميس 19 من نيسان سنة 1951 وذلك لمناسبة مرور 27 عاما على ظهورها آنذاك، وقد استعاد الرجل بذاكرته ظروف نشأة تلك الجماعة ، وقال إن ذلك يرجع إلى أيام تلمذته في فرع العلوم الاجتماعية بدار المعلمين العالية ببغداد ( كلية التربية ـ جامعة بغداد) سنة 1948 وتعرفه على الفنان جواد سليم (1920 ـ1961) وبعد تخرجه انتسب إلى الدراسة المسائية في قسم الرسم بمعهد الفنون الجميلة وهناك صادف العديد من الطلبة والأساتذة الذين أصبح لهم فيما بعد شأن في حركة النهضة الفنية العراقية المعاصرة ، فهم على سبيل المثال محمد غني حكمت ، وإحسان الملائكة ، وهنري زفوفدا ، ومحمد الحسني ، ورسول علوان ، وعطا صبري ، وفائق حسن . وقد تكررت لقاءا ته بهؤلاء وغيــرهم في (مقهى ياسين) المطل على نهر دجلة من جهة الباب الشرقي ببغداد .. ولم يقتصر اللقاء على الفنانين فحسب ، بل كان هناك أدباء وصحفيون عديد ون اعتادوا الجلوس في المقهى ذاته ومنهم الشاعر حسين مردان والشاعر كاظم جواد والشاعر بلند الحيدري والصحفي عبد المجيد الو نداوي ومعظمهم من الذين يحملون فكرا سياسيا يساريا تقدميا . كما يجمع الكثيرون منهم بين الرسم والنحت والأدب ، ويشتركون في مسألة أخرى وهي نزوعهم لإكمال دراساتهم في خارج العراق ورغبتهم في تجديد الفن العراقي وتحديثه .
يحدد الأستاذ شاكر حسن آل سعيد أسماء الآباء المؤسسين لهذه الجماعة فيقول ((انه في يوم ما من أيام نيسان من عام 1951 ، اجتمعت الأسباب لان نفاتح ، أنا ومحمد الحسني ( مواليد 1925 ) جواد سليم بأهمية تأسيس الجماعة }ويبدو انه اقتنع بذلك{ ودار نقاش حول بنيتها وتسميتها فاتفقنا على أن يكون الاسم ( جماعة بغداد للفن الحديث) وهو ما اقترحه جواد سليم نفسه . وكان من بواكير إنجازات هذه الجماعة إقامة المعرض الأول ببغداد سنة 1951
ويتحدث المرحوم شاكر حسن آل سعيد عن لحظات ولادة الجماعة والمعرض فيقول (( أتذكر اليوم والساعة ، اظنه مساء يوم الخميس من منتصف نيسان من ربيع 1951 .. جمعنا أعمالنا في مكان ما لعله معهد الفنون الجميلة وتعهد المرحوم جواد سليم نقلها بسيارته المتواضعة ( ألبيك آب) .. وافرغنا حمولتنا أمام مبنى الأزياء العراقية سابقا وهي محطة وقوف السيارات عند أعتاب جسر الجمهورية حاليا) ثم تعاونا في نقل اللوحات وتهيئة المعرض والحديقة معا .. ثم كانت حفلة افتتاح المعرض في اليوم التالي ، فقد اكتظت القاعة بالمدعوين من مختلف الطبقات والعناصر .. كان من بين الحضور السياسي حسين جميل والصحفي احمد قطان والطبيب خليل الشابندر والشاعر عدنان الراوي والمهندس منير الله وردي .. وكل الأصدقاء والزملاء وأساتذة معهد الفنون الجميلة وتلاميذه من الرسامين والنحاتين الشباب .. ألقى جواد سليم محاضرة وتلا شاكر حسن آل سعيد ( البيان الأول للجماعة) ورافق افتتاح المعرض حفلة موسيقية أحياها بعض أساتذة وطلبة معهد الفنون الجميلة. .. كان حفلا رائعا ...)) .
ومما قاله جواد سليم في محاضرته : ((أنا والكاتب نريد أن نشارك كل البشرية ما نريد أن نقوله . وكل إنسان يود أن يتحسس مزايا عقلية الإنسان ، وكفرد في المجتمع الإنساني فان هذه المزية مزية العقل والفكر ، لا تتحقق إلا في المبادلة والتجارب )) ويشير صديقنا الأستاذ حميد المطبعي في موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين ( الجزء الأول ، بغداد ، 1995) إلى أن فلسفة جواد سليم تتلخص بكلماته هذه : (( إن الفنان يتابع ما يجري حوله ويعبر عنه بإخلاص ، ولكن عليه أن يعرف كيف يتحقق هذا التعبير)) .
وفي سنة 1953 أقامت الجماعة معرضها الثاني وسرعان ما توالى تنظيم المعارض والتأثير في بنية الحركة الفنية العراقية وتعميق توجهاتها الإنسانية .
ويربط آل سعيد بين ظهور الجماعة من جهة واندلاع ثورة الشعر الحر في العراق من جهة أخرى .. فكلاهما برأيه ، كان يمثل انعكاسا ((لازدهار الوعي الاجتماعي والثقافي لجيل الخمسينيات من القرن الماضي)) . ولقد شهدت مقهى ياسين ، بحق ، تجربة عراقية جديدة في ميداني الأدب والفن تستند إلى أمرين مهمين اولهما الاعتزاز بالموروث في الحضارة العربية والإسلامية العريقة وثانيهما الانفتاح على طبيعة العصر .
ترسخت أقدام الجماعة واتسعت قاعدتها عند الإعداد للمعرض الفني الأول وافتتاحه وقد اشترك في المعرض التشكيلي كل من جواد سليم ولورنا سليم ومحمد الحسني وقحطان عبد الله عوني ونزار على جودت وريشار كنادا ومحمود صبري ( مواليد 1927) وشاكر حسن آل سعيد . وقد نجح المعرض نجاحا باهرا .و بعد سنة من افتتاح المعرض انضم إلى الجماعة نزيهة سليم ، ورسول علوان ، وحافظ الدر وبي ، ومحمد غني حكمت ، وهنري لويس ، وفي سنة 1954 انضم بوغوص بابلو نيان وطارق مظلوم وفرج عبو (1921 ـ1984) وخالد الرحال (1926 ـ1986) وخليل الورد وعلي الشعلان . وهكذا تنامى عدد الجماعة حتى وصل سنة 1957 إلى ما يقارب أل (16)رساما ونحاتا ومن الفنانين والنحاتين الآخرين الذين انضموا إلى الجماعة جبرا إبراهيم جبرا (1920 ـ1994) وكانثي وود وإبراهيم العبد لي وسلمان عباس وخضير الشكرجي وثريا النواب وفؤاد جهاد وإسماعيل فتاح الترك ( توفي 2004) .
كان أعضاء الجماعة يرون أنفسهم بأنهم حملة رسالة فنية عراقية وعربية وإنسانية معا .. لذلك أصبحت الجماعة بعد ظهورها مركز إشعاع فكري للفنانين العراقيين. ويقينا أن أولئك الرواد الأوائل أسهموا في وضع لبنات جديدة إلى صرح الفن العراقي الحديث المعاصر .
استندت الجماعة في فلسفتها على ضرورة العمل الجاد والفاعل من اجل إرساء التذوق الفني على أسس جديدة لعل في مقدمتها أن الفن للجمهور ، وان لا يذهب (الفنان) وحده باتجاه الحصول على المكاسب الذاتية ( المادية والمعنوية) ، بل يجعل همه الوحيد هو ما يحصل عليه من مكاسب ( جماعية) ليس لنفسه وإنما للعمل الفني نفسه .. فالجمهور هو الذي ستؤثر طبيعة الأعمال الفنية المطروحة أمامه به . والفنان الذي يجعل من الإنسانية موضوعه المفضل لا يستطيع أن يغامر بأكثر من الأسلوب الإنساني . . كما أن الفنان الذي يجعل من الإنسان موضوعه المفضل لا يستطيع بدوره إلا أن يغامر بأسلوب إنساني (من الإنسان وليس الإنسانية). ومنذ البداية اضطلعت الجماعة بوظيفة مزدوجة فهي تعين الفنان على تكوين رؤية فنية ثقافية ، تستقي من الحضارة العربية والحضارات المحلية السابقة لها طابعها وشخصيتها القومية ، كما تعين الجمهـور على اتخاذ الموقف الواقعي والمعاصـر في تـذوق العمل الفني عمومـا )) .
كان الفن لدى الجماعة موقف تساؤل فتأمل فإدراك فمعرفة وعبر هذه الرؤيا يمكن أن يكون الفن طريقا للبحث عن الحقيقة . وقد امتازت الأعمال الأولى لأنصار هذه المدرسة باستلهام الموروث الفني الشعبي العراقي ومعالجته بواقعيته.
لم تقل جماعة بغداد للفن الحديث أنها الرائدة في العراق في مجال تنمية الإحساس بالفن ، وإنما قالت بان (جماعة الرواد) التي تمتد جذورها إلى أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين هي التي أنجزت هذه المهمة وان ما سوف تفعله جماعة بغداد سينحصر في ممارسة الأساليب الحديثة في الفن على محورين يتمثل الأول بالعطاء الفني الموسوم بطابعه المحلي والحضاري . وثانيهما هو تهيئة الجمهور للإحساس بقيمة العمل الفني وتأثيره وليتجاوز موقفه من الفن الحديث نحو الفن المحلي الحديث .
واجهت الجماعة بعض المشكلات وفي مقدمتها وفاة جواد سليم سنة 1961 ، وسفر بعض أعضائها خارج العراق لإكمال دراستهم ، لذلك انفرط عقدهم فترة قصيرة إلا أن ذلك لم يفت في عضد الجماعة ، فلقد ظهرت أسماء جديدة واصلت المسيرة مثل نزار سليم ، وعبد الرحمن الكيلاني ، وايان اولد ، وميران السعدي ، وإسماعيل فتاح الترك ، والفريد الرحال ، وفالنيتوس كلا كومبوس ، وغالب الناهي ولم يمنع هذا من انسحاب عدد من الفنانين وخروجهم من الجماعة ومنهم على سبيل المثال حافظ ألدروبي الذي كون له جماعة عرفـت بـ( جماعة الانطباعيين) . وقد استمرت الجماعة في تحمل مسؤولياتها طوال فترة الستينيات من القرن الماضي .. أما في مطلع السبعينيات فقد انضم للجماعة فنانون آخرون منهم محمد عارف ، وعبد الرحمن الوكيل ، وإبراهيم العبد لي ، وسلمان عباس وفؤاد جهاد .
لقد استمر عطاء جماعة بغداد للفن الحديث ، فكان أعضاؤها من الفنانين الذين قدر لهم أن يقودوا الحركة الفنية العراقية المعاصرة ، ولم يقتصر عطاؤهم على ما قدموه في العراق ، بل أن شهرتهم امتدت لتشمل الوطن العربي والعالم كله .. وهذا مما يجعلنا نفخر بهم وبإعمالهم الفنية المتميزة . وقد أكد هذه الحقيقة أكثر من ناقد فعلى سبيل المثال أشار الناقد يحيى الشيخ وعلى موقع ( الفنان العراقي) الالكتروني ((بان الفن العراقي الحديث أنجب في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين مجموعة أعمال إبداعية كبيرة ذات سمات جمالية جديدة تميزت بانتمائها الجذري لتاريخ العراق وارتباطها الصريح بتطوره)) . وأضاف: إن جماليات هذه المجموعة نضجت بفعل نهوض وتطور المجتمع العراقي آنذاك والغنى الثقافي الذي وصل إليه الفنانون وأقطاب الحركة الفنية الفاعلة بالخصوص)) . ومع أن معظم أولئك قد درس الفن خارج العراق ، إلا أن ما شهده العراق من تنامي الوعي السياسي والديموقراطي أسهم في تركيبة الفنانين الثقافية وصياغة الاتجاهات المعاصرة في الفن العراقي الذي شق طريقه على شكل تيارين سارا متوازيين في ظاهرهما ومتلاقيين في جوهرهما بدرجة تأثرهما بالنزعة الشكلية السائدة في أوربا وقد اتجه التيار الأول نحو التقاليد الفنية المتوارثة وتميز بتأثره الواضح بأشكال فنون سومر وأشور والفنون الإسلامية والموروث الشعبي وبمضامين الأساطير والحكايات الشعبية . وقد مثلت هذا التيار جماعة بغداد للفن الحديث متمثلة برائدها جواد سليم و جماعته ، وقد تعامل هذا التيار بفعل ليبرا ليته غير المحدودة مع جماليات الموروث بصفتها جزءا من حركة اجتماعية لها بعدا تاريخيا يمتد إلى الحاضر ووجدانا فاعلا ومؤثرا من مؤثرات الاصالة القومية . أما التيار الثاني فتمثل في أعمال فناني ( جماعة الرواد ، فضلا عن فنانين آخرين لم يجذبهم مناخ الجماعة الفنية أمثال خالد الجاد ر) وتكمن ابرز خصائص هذا التيار الجمالية بتصويره البيئة العراقية وتصعيده للواقع العراقي باعتبار هما موضوعي الجمال الأكثر غنى في الحياة وعلى الرغم من التمايز بين التيارين إلا أنهما كثيرا ما تقاطعا واختلطت مشاربهما .
* المقال منشور في مجلة الصوت الاخر (الاربيلية ) والرابطhttp://www.sotakhr.com/2006/index.php?id=3769
** صورة الفنان الاستاذ جواد سليم وهو يعلن انطلاق الجماعة والى جواره الفنان الاستاذ شاكر حسن ال سعيد رحمهما الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق