ذكريات جانية (7 ):
*******************
نهاد التكرلي
بقلم :الاستاذ سامي مهدي
هذا رجل لم أعرفه معرفة مباشرة ، ولم ألتقِ به في مجلس ، رأيته مرة واحدة من بعيد ، في دورة من دورات مهرجان المربد الشعري ولم يتسنَّ لي فيها حتى السلام عليه ، ومع ذلك ألفت كتاباً عنه عنوانه ( نهاد التكرلي : رائد النقد الأدبي الحديث في العراق ) .
صدر هذا الكتاب عام 2001 عن دار الشؤون الثقافية العامة وقوبل بصمت مطبق بخلاف كتبي الأخرى . ولكن كثيرين استغربوا تأليفي كتاباً عن نهاد ، وبعضهم سألني بصراحة : هل يستحق هذا الرجل تأليف كتاب عنه يضعه في المكان الذي وضعته فيه بين النقاد ؟ ولذا فوجئت قبل يومين حين سألني عنه الصديق الأستاذ علي حسين واقترح علي إعادة نشره بعد إضافة شيء جديد إليه .
عرفت نهاد التكرلي من خلال كتاباته فقط ، وبدأت هذه المعرفة عام 1954 ، وكان أول ما قرأته له مقالة كتبها لتكون مقدمة لديوان الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي " أباريق مهشمة " ، ومنها رحت أتتبعه في ما كان ينشر من كتابات مثيرة للجدل في مجلة " الأديب " اللبنانية ، وفي المجلتين العراقيتين " الثقافة الجديدة " و " الكاتب العربي " . ولكنه لم يلبث أن توقف عن النشر ، ثم هاجر إلى فرنسا عام 1955 ، وتزوج من فرنسية ، ولم ينشر بعد ذلك سوى دراستين ، إحداهما عام 1956 والثانية عام 1957 ، ثم توقف مرة أخرى .
عاد إلى النشر عام 1972 فصدرت له رواية مترجمة من روايات الكاتبة الفرنسية " مارغريت دورا " ، وهي يومئذ اسم لامع بين كتاب ما يعرف بالرواية الفرنسية الجديدة ، والرواية التي ترجمها نهاد كانت أول عمل يترجم لها إلى العربية . ثم صدرت له عام 1979 دراسة عنوانها " اتجاهات النقد الأدبي الفرنسي المعاصر " نشرت ضمن سلسلة " الموسوعة الصغيرة " ثم دراسة أخرى عن " الرواية الفرنسية الجديدة " ظهرت بحلقتين متتابعتين من حلقات هذه السلسلة عام 1985 . ونشر له بعد ذلك كتابان مترجمان : الأول مجموعة قصصية بعنوان " أقاصيص معاصرة " و الثاني " عالم الرواية " لرولان بورنوف وريال أونليه ، وكان جميع هذه الكتب من منشورات دار الشؤون الثقافية العامة .
بين عامي 1992 و1996 كنت بلا عمل تقريباً ، فقد فرض علي نوع من التفرغ الإجباري ولم يسند إلي أي عمل ، فاستغللت هذا الظرف ورحت أبحث عن كتابات نهاد التكرلي قبل عام 1954 في مجلة " الأديب " . دفعني إلى ذلك اهتمامي الخاص بمتابعة حركة التحديث في الأدب العراقي ، فقد لمست من كتاباته أنه كان رائداً من رواد هذه الحركة ، ولكنني لم أكن أنوي يومئذ تأليف كتاب عنه . قصدت المكتبة الوطنية بحثاً عن مجلدات مجلة " الأديب " فلم أجد فيها بغيتي ، بل وجدتها في مكتبة المجمع العلمي العراقي ، واكتشفت أن نهاد بدأ النشر في هذه المجلة عام 1950 ، وأن ما نشره من دراسات ومقالات فيها يؤكد لي ما ذهبت إليه حول ريادته ، وعندئذ فكرت بتأليف الكتاب .
ولكن سرعان ما تبين لي أن تأليفه يتطلب الحصول من نهاد على بعض المعلومات عن شخصه وعن أعماله ، فكتبت بذلك إلى شقيقه الروائي فؤاد التكرلي الذي كان يقيم يومئذ في تونس ، واستمرت المكاتبات بيني وبين فؤاد من جهة ، وبين فؤاد ونهاد من جهة أخرى ، نحو عام تقريباً حتى تم لي الحصول منه على ما أردت . غير أن ظروفي الخاصة لم تسمح لي بإنجاز كتابي إلا في حزيران عام 2000 ، ولم ينشر الكتاب إلا عام 2001 .
إذن هذه هي قصة كتابي عن نهاد التكرلي ، وهذا هو سر اهتمامي به . وأحسب أن من استغربوا تأليف كتاب عنه ، ومن استكثروا عليه المكانة التي وضعته فيها بين النقاد ، لم يطلعوا على كتاباته الأولى ليحكموا عليه .
لقد كان الرجل أول ناقد عراقي ذي رؤية محددة للعالم ، وممارسة نقدية منهجية واضحة ، وهدف معين يسعى إليه بإخلاص . ولعله أول أديب وجودي عربي . فقد آمن ، بمعنى الكلمة ، بالفلسفة الوجودية ، السارترية ، بوصفها " رؤية للعالم " شأنها شأن الماركسية ، ووجد فيها منطلقاً لتحرير ذاته من القيم التقليدية ، فتبناها وراح يبشر بها في كتاباته وترجماته ، قبل مجلة الآداب اللبنانية بأعوام .
ولد نهاد التكرلي عام 1922 ، ولا أعرف اليوم ما إذا كان ما يزال على قيد الحياة أم لا ، ولكن دوره في تحديث أدبنا ، وفي نشر أفكار ومفهومات حديثة تتعلق بالقصة والرواية والشعر والنقد ، دور جدير بالتقدير . وليس كثيراً عليه تأليف كتاب عنه وعن دوره التحديثي .
*******************
نهاد التكرلي
بقلم :الاستاذ سامي مهدي
هذا رجل لم أعرفه معرفة مباشرة ، ولم ألتقِ به في مجلس ، رأيته مرة واحدة من بعيد ، في دورة من دورات مهرجان المربد الشعري ولم يتسنَّ لي فيها حتى السلام عليه ، ومع ذلك ألفت كتاباً عنه عنوانه ( نهاد التكرلي : رائد النقد الأدبي الحديث في العراق ) .
صدر هذا الكتاب عام 2001 عن دار الشؤون الثقافية العامة وقوبل بصمت مطبق بخلاف كتبي الأخرى . ولكن كثيرين استغربوا تأليفي كتاباً عن نهاد ، وبعضهم سألني بصراحة : هل يستحق هذا الرجل تأليف كتاب عنه يضعه في المكان الذي وضعته فيه بين النقاد ؟ ولذا فوجئت قبل يومين حين سألني عنه الصديق الأستاذ علي حسين واقترح علي إعادة نشره بعد إضافة شيء جديد إليه .
عرفت نهاد التكرلي من خلال كتاباته فقط ، وبدأت هذه المعرفة عام 1954 ، وكان أول ما قرأته له مقالة كتبها لتكون مقدمة لديوان الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي " أباريق مهشمة " ، ومنها رحت أتتبعه في ما كان ينشر من كتابات مثيرة للجدل في مجلة " الأديب " اللبنانية ، وفي المجلتين العراقيتين " الثقافة الجديدة " و " الكاتب العربي " . ولكنه لم يلبث أن توقف عن النشر ، ثم هاجر إلى فرنسا عام 1955 ، وتزوج من فرنسية ، ولم ينشر بعد ذلك سوى دراستين ، إحداهما عام 1956 والثانية عام 1957 ، ثم توقف مرة أخرى .
عاد إلى النشر عام 1972 فصدرت له رواية مترجمة من روايات الكاتبة الفرنسية " مارغريت دورا " ، وهي يومئذ اسم لامع بين كتاب ما يعرف بالرواية الفرنسية الجديدة ، والرواية التي ترجمها نهاد كانت أول عمل يترجم لها إلى العربية . ثم صدرت له عام 1979 دراسة عنوانها " اتجاهات النقد الأدبي الفرنسي المعاصر " نشرت ضمن سلسلة " الموسوعة الصغيرة " ثم دراسة أخرى عن " الرواية الفرنسية الجديدة " ظهرت بحلقتين متتابعتين من حلقات هذه السلسلة عام 1985 . ونشر له بعد ذلك كتابان مترجمان : الأول مجموعة قصصية بعنوان " أقاصيص معاصرة " و الثاني " عالم الرواية " لرولان بورنوف وريال أونليه ، وكان جميع هذه الكتب من منشورات دار الشؤون الثقافية العامة .
بين عامي 1992 و1996 كنت بلا عمل تقريباً ، فقد فرض علي نوع من التفرغ الإجباري ولم يسند إلي أي عمل ، فاستغللت هذا الظرف ورحت أبحث عن كتابات نهاد التكرلي قبل عام 1954 في مجلة " الأديب " . دفعني إلى ذلك اهتمامي الخاص بمتابعة حركة التحديث في الأدب العراقي ، فقد لمست من كتاباته أنه كان رائداً من رواد هذه الحركة ، ولكنني لم أكن أنوي يومئذ تأليف كتاب عنه . قصدت المكتبة الوطنية بحثاً عن مجلدات مجلة " الأديب " فلم أجد فيها بغيتي ، بل وجدتها في مكتبة المجمع العلمي العراقي ، واكتشفت أن نهاد بدأ النشر في هذه المجلة عام 1950 ، وأن ما نشره من دراسات ومقالات فيها يؤكد لي ما ذهبت إليه حول ريادته ، وعندئذ فكرت بتأليف الكتاب .
ولكن سرعان ما تبين لي أن تأليفه يتطلب الحصول من نهاد على بعض المعلومات عن شخصه وعن أعماله ، فكتبت بذلك إلى شقيقه الروائي فؤاد التكرلي الذي كان يقيم يومئذ في تونس ، واستمرت المكاتبات بيني وبين فؤاد من جهة ، وبين فؤاد ونهاد من جهة أخرى ، نحو عام تقريباً حتى تم لي الحصول منه على ما أردت . غير أن ظروفي الخاصة لم تسمح لي بإنجاز كتابي إلا في حزيران عام 2000 ، ولم ينشر الكتاب إلا عام 2001 .
إذن هذه هي قصة كتابي عن نهاد التكرلي ، وهذا هو سر اهتمامي به . وأحسب أن من استغربوا تأليف كتاب عنه ، ومن استكثروا عليه المكانة التي وضعته فيها بين النقاد ، لم يطلعوا على كتاباته الأولى ليحكموا عليه .
لقد كان الرجل أول ناقد عراقي ذي رؤية محددة للعالم ، وممارسة نقدية منهجية واضحة ، وهدف معين يسعى إليه بإخلاص . ولعله أول أديب وجودي عربي . فقد آمن ، بمعنى الكلمة ، بالفلسفة الوجودية ، السارترية ، بوصفها " رؤية للعالم " شأنها شأن الماركسية ، ووجد فيها منطلقاً لتحرير ذاته من القيم التقليدية ، فتبناها وراح يبشر بها في كتاباته وترجماته ، قبل مجلة الآداب اللبنانية بأعوام .
ولد نهاد التكرلي عام 1922 ، ولا أعرف اليوم ما إذا كان ما يزال على قيد الحياة أم لا ، ولكن دوره في تحديث أدبنا ، وفي نشر أفكار ومفهومات حديثة تتعلق بالقصة والرواية والشعر والنقد ، دور جدير بالتقدير . وليس كثيراً عليه تأليف كتاب عنه وعن دوره التحديثي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق