ذكريات (22 )
***************
حديث الترجمة
بقلم :الاستاذ سامي مهدي
لي محاولات كثيرة في ترجمة الشعر عن اللغتين الإنكليزية والفرنسية ، أصدرت منها أربعة كتب هي : جاك بريفير _ مختارات شعرية ، وهنري ميشو _ مختارات ، ومختارات من الشعر الإسباني المعاصر _ 1950 _ 1975 ، وسنابل الليل – مختارات من الشعر العالمي ، وهناك الكثير مما ترجمته ونشرته ضمن دراسات ومقالات أدبية كتبتها ونشرتها ، ورغم هذا كله لا أعد نفسي مترجماً محترفاً .
أنا مجرد هاوٍ في ترجمة الشعر ، ولم أترجم من غيره سوى القليل جداً من القصص والمقالات القصيرة قد لا يزيد عددها عن عدد أصابع اليدين . وقد كان وراء هذه الهواية ثلاثة دوافع أولها : إعجابي الشخصي بالشعر الذي أترجمه ، وثانيها : البقاء على تماس مستمر مع اللغتين الأجنبيتين اللتين تعلمتهما ، وثالثها : شعوري بحاجة وسطنا الأدبي إلى الإطلاع على نماذج من الشعر العالمي لم يلتفت إليها لسبب أو لآخر . وفي ما عدا استثناءات قليلة لم أترجم من الشعر إلا ما راقت لي ترجمته ووجدت في نفسي القدرة الكافية على إعطاء نصه العربي حقه من الدقة والجمال والإشراق ، ومن هذه الاستثناءات ما ترجمته من شعر الشاعر الأمريكي روبرت كريلي .
أذكر أن محاولاتي في الترجمة بدأت عام 1965 ، وهو العام الذي عدت فيه إلى كتابة الشعر بعد انقطاع دام نحو ست سنوات . فكنت إذا راقت لي قصيدة أعمد إلى ترجمتها . كان عندي يومئذ من الفراغ ما يجعلني آخذ مداي في متعة الترجمة حتى النهاية . وكان أغلب ما ترجمته في تلك الحقبة قصائد لشعراء إنكليز عرفوا باسم شعراء الحركة The Movement ، إذ كنت أتابع ما ينشرونه في ملحق جريدة التايمز الأدبي وفي مجلة إنكاونتر Encounter ومجلة لندن مغازين London Magazine وما أقتنيه من كتب المختارات التي تصدرها درا النشر المعروفة Penguin ، وفي مقدمتهم فليب لاركن وتيد هيوز وجورج ماكبث ، ثم بعض قصائد الأمريكيين ألن غينزبيرغ ولورنس فرلنغيتي .
غير أنني لم أبدأ بنشر ما ترتجمه إلا في عام 1966 عندما توليت تحرير الصفحة الأخيرة والصفحة الأدبية الأسبوعية في جريدة " صوت العرب " . وأذكر مما ترجمته ونشرته يومئذ قصيدة " بابي يار " لإيفتشنكو ، وإشراقة " ديمقراطية " لرامبو ، وقصيدتين لجورج ماكبث ، وواحدة لتيد هيوز . أما بقية ما ترجمته ، وهو ليس بالقليل ، فقد أهملته ومزقته إما لعدم ارتياحي لترجمته ، أو لقلة أهميته ، حتى إذا حلت ثمانينيات القرن العشرين بدأت أفكر بمشاريع للترجمة منها ما أسفر عن كتبي الأربعة التي ذكرتها ، ومنها ما بقي في أدراجي وأهمه مجموعة من قصائد الشاعر الأمريكي وليام كارلوس وليامز .
ولكن على الرغم من اتخاذي الترجمة هواية ، كنت أشعر بمسؤولية كبيرة حيال النص الذي أترجمه ، وحيال مؤلفه وقارئه ، وحيال نفسي أيضاً . ولذلك لم أستهن بأي نص ترجمته ، ولم أتعجل قط في ترجمته أو أستسهل نشره . أذكر أنني ترجمت نصوصاً كثيرة ثم أهملتها لشعوري بأنني لم أوفق فيها التوفيق الذي أنشده . ولذا ألزمت نفسي باعتماد منهج لم أتخل عنه في جميع ما ترجمته ونشرته . ويمكن تلخيص هذا المنهج بما يأتي :
أولاً : قراءة نصوص الشاعر قراءة متأنية متأملة ، والغوص في عالمه الداخلي ، والإحاطة بمناخه الشعري ، والتعرف على أدائه اللغوي والتقني .
ثلنياً : قراءة القصيدة التي أنوي ترجمتها مرات عدة حتى تتكشف لي دلالاتها وأسرارها الفنية .
ثالثاً : اعتماد الدقة والأمانة في الترجمة ، واحترام أسلوب الشاعر في توزيع أبيات قصيدته وكلماتها على الورق ، وطريقته في التنقيط ، حتى ليمكنني القول : إن ترجمتي للشعر حرفية أو شبه حرفية ، فأنا ضد ما يسمى ( الترجمة بتصرف ) لأنني أعتقد أنها تسيء إلى القصيدة وشاعرها ، ولذا كنت ألوم الشاعرة الكبيرة الراحلة نازك الملائكة على ترجماتها .
رابعاً : قراءة النص المترجم ، أي النص العربي ، عدة مرات ، في أوقات متباعدة ، ولا أقره إلا بعد أن أطمئن إلى تماسكه وقوة سبكه وانسيابيته .
خامساً : وضع هوامش للنص حيثما وجدت ذلك ضرورياً .
سادساً : كتابة تقديم واف عن الشاعر وشعره .
هذا كله لا يعني أنني لم أقع في بعض الهفوات ، ولكنها هفوات جزئية جداً ، وقليلة جداً ، في ما أظن . وهي هفوات قد لا تخلو منها أية ترجمة . وبعد تجربتي الطويلة في ترجمة الشعر وقراءة ما يترجمه الآخرون صرت أعتقد أن الشعراء هم أفضل من يترجمه ، لأنهم خير من يفهم النصوص الشعرية بأدائها اللغوي والتقني ، ويحفظ لها ، بأكبر قدر ممكن ، روح الشعر . فما من شعر يترجم من لغة إلى لغة أخرى إلا ويفقد قدراً من روحه وجماله ، ولذلك وصفت الترجمة بالخيانة ، أي خيانة النص الأصلي . وأحسب ، بعد ذلك ، أن الترجمة عمل يحتمل قدراً من الاجتهادات والاختلافات وتعدد الآراء ، كما يحتمل الخطأ والسهو وسوء القراءة ، وأن المراجعات والاستدراكات والتصويبات تقاليد مألوفة في عالم الترجمة .
وأحسب أيضاً ، أن ترجمة الشعر أفادتني كثيراً ، فقد قرأت النصوص التي ترجمتها بإمعان ، وغصت فيها بعمق ، بل قل : فككتها وأعدت تركيبها ، لأن الترجمة في نهاية الأمر تفكيك وإعادة تركيب ، وهذا مما أغنى ثقافتي الشعرية ، وزاد من خبراتي التقنية ، ومن قدرتي على التذوق والتمييز بين الجيد والضعيف ، فضلاً عما حصلت عليه من متعة التحاور مع النصوص ، ومصارعتها أحياناً ، وأفترض أن هذا أثّر في شعري نفسه ، وهو تأثير قد لا أحسه أو ألحظه ، ولكنني أفترض وجوده بشكل من الأشكال .
***************
حديث الترجمة
بقلم :الاستاذ سامي مهدي
لي محاولات كثيرة في ترجمة الشعر عن اللغتين الإنكليزية والفرنسية ، أصدرت منها أربعة كتب هي : جاك بريفير _ مختارات شعرية ، وهنري ميشو _ مختارات ، ومختارات من الشعر الإسباني المعاصر _ 1950 _ 1975 ، وسنابل الليل – مختارات من الشعر العالمي ، وهناك الكثير مما ترجمته ونشرته ضمن دراسات ومقالات أدبية كتبتها ونشرتها ، ورغم هذا كله لا أعد نفسي مترجماً محترفاً .
أنا مجرد هاوٍ في ترجمة الشعر ، ولم أترجم من غيره سوى القليل جداً من القصص والمقالات القصيرة قد لا يزيد عددها عن عدد أصابع اليدين . وقد كان وراء هذه الهواية ثلاثة دوافع أولها : إعجابي الشخصي بالشعر الذي أترجمه ، وثانيها : البقاء على تماس مستمر مع اللغتين الأجنبيتين اللتين تعلمتهما ، وثالثها : شعوري بحاجة وسطنا الأدبي إلى الإطلاع على نماذج من الشعر العالمي لم يلتفت إليها لسبب أو لآخر . وفي ما عدا استثناءات قليلة لم أترجم من الشعر إلا ما راقت لي ترجمته ووجدت في نفسي القدرة الكافية على إعطاء نصه العربي حقه من الدقة والجمال والإشراق ، ومن هذه الاستثناءات ما ترجمته من شعر الشاعر الأمريكي روبرت كريلي .
أذكر أن محاولاتي في الترجمة بدأت عام 1965 ، وهو العام الذي عدت فيه إلى كتابة الشعر بعد انقطاع دام نحو ست سنوات . فكنت إذا راقت لي قصيدة أعمد إلى ترجمتها . كان عندي يومئذ من الفراغ ما يجعلني آخذ مداي في متعة الترجمة حتى النهاية . وكان أغلب ما ترجمته في تلك الحقبة قصائد لشعراء إنكليز عرفوا باسم شعراء الحركة The Movement ، إذ كنت أتابع ما ينشرونه في ملحق جريدة التايمز الأدبي وفي مجلة إنكاونتر Encounter ومجلة لندن مغازين London Magazine وما أقتنيه من كتب المختارات التي تصدرها درا النشر المعروفة Penguin ، وفي مقدمتهم فليب لاركن وتيد هيوز وجورج ماكبث ، ثم بعض قصائد الأمريكيين ألن غينزبيرغ ولورنس فرلنغيتي .
غير أنني لم أبدأ بنشر ما ترتجمه إلا في عام 1966 عندما توليت تحرير الصفحة الأخيرة والصفحة الأدبية الأسبوعية في جريدة " صوت العرب " . وأذكر مما ترجمته ونشرته يومئذ قصيدة " بابي يار " لإيفتشنكو ، وإشراقة " ديمقراطية " لرامبو ، وقصيدتين لجورج ماكبث ، وواحدة لتيد هيوز . أما بقية ما ترجمته ، وهو ليس بالقليل ، فقد أهملته ومزقته إما لعدم ارتياحي لترجمته ، أو لقلة أهميته ، حتى إذا حلت ثمانينيات القرن العشرين بدأت أفكر بمشاريع للترجمة منها ما أسفر عن كتبي الأربعة التي ذكرتها ، ومنها ما بقي في أدراجي وأهمه مجموعة من قصائد الشاعر الأمريكي وليام كارلوس وليامز .
ولكن على الرغم من اتخاذي الترجمة هواية ، كنت أشعر بمسؤولية كبيرة حيال النص الذي أترجمه ، وحيال مؤلفه وقارئه ، وحيال نفسي أيضاً . ولذلك لم أستهن بأي نص ترجمته ، ولم أتعجل قط في ترجمته أو أستسهل نشره . أذكر أنني ترجمت نصوصاً كثيرة ثم أهملتها لشعوري بأنني لم أوفق فيها التوفيق الذي أنشده . ولذا ألزمت نفسي باعتماد منهج لم أتخل عنه في جميع ما ترجمته ونشرته . ويمكن تلخيص هذا المنهج بما يأتي :
أولاً : قراءة نصوص الشاعر قراءة متأنية متأملة ، والغوص في عالمه الداخلي ، والإحاطة بمناخه الشعري ، والتعرف على أدائه اللغوي والتقني .
ثلنياً : قراءة القصيدة التي أنوي ترجمتها مرات عدة حتى تتكشف لي دلالاتها وأسرارها الفنية .
ثالثاً : اعتماد الدقة والأمانة في الترجمة ، واحترام أسلوب الشاعر في توزيع أبيات قصيدته وكلماتها على الورق ، وطريقته في التنقيط ، حتى ليمكنني القول : إن ترجمتي للشعر حرفية أو شبه حرفية ، فأنا ضد ما يسمى ( الترجمة بتصرف ) لأنني أعتقد أنها تسيء إلى القصيدة وشاعرها ، ولذا كنت ألوم الشاعرة الكبيرة الراحلة نازك الملائكة على ترجماتها .
رابعاً : قراءة النص المترجم ، أي النص العربي ، عدة مرات ، في أوقات متباعدة ، ولا أقره إلا بعد أن أطمئن إلى تماسكه وقوة سبكه وانسيابيته .
خامساً : وضع هوامش للنص حيثما وجدت ذلك ضرورياً .
سادساً : كتابة تقديم واف عن الشاعر وشعره .
هذا كله لا يعني أنني لم أقع في بعض الهفوات ، ولكنها هفوات جزئية جداً ، وقليلة جداً ، في ما أظن . وهي هفوات قد لا تخلو منها أية ترجمة . وبعد تجربتي الطويلة في ترجمة الشعر وقراءة ما يترجمه الآخرون صرت أعتقد أن الشعراء هم أفضل من يترجمه ، لأنهم خير من يفهم النصوص الشعرية بأدائها اللغوي والتقني ، ويحفظ لها ، بأكبر قدر ممكن ، روح الشعر . فما من شعر يترجم من لغة إلى لغة أخرى إلا ويفقد قدراً من روحه وجماله ، ولذلك وصفت الترجمة بالخيانة ، أي خيانة النص الأصلي . وأحسب ، بعد ذلك ، أن الترجمة عمل يحتمل قدراً من الاجتهادات والاختلافات وتعدد الآراء ، كما يحتمل الخطأ والسهو وسوء القراءة ، وأن المراجعات والاستدراكات والتصويبات تقاليد مألوفة في عالم الترجمة .
وأحسب أيضاً ، أن ترجمة الشعر أفادتني كثيراً ، فقد قرأت النصوص التي ترجمتها بإمعان ، وغصت فيها بعمق ، بل قل : فككتها وأعدت تركيبها ، لأن الترجمة في نهاية الأمر تفكيك وإعادة تركيب ، وهذا مما أغنى ثقافتي الشعرية ، وزاد من خبراتي التقنية ، ومن قدرتي على التذوق والتمييز بين الجيد والضعيف ، فضلاً عما حصلت عليه من متعة التحاور مع النصوص ، ومصارعتها أحياناً ، وأفترض أن هذا أثّر في شعري نفسه ، وهو تأثير قد لا أحسه أو ألحظه ، ولكنني أفترض وجوده بشكل من الأشكال .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق