ذكريات سامي مهدي
ذكريات (1)
عالم الكلمات
عالم الكلمات عالم مدهش عجيب ، وأبي هو الذي قادني إلى
أبوابه . كان شبه أمي ، معرفته بالقراءة والكتابة جد ضئيلة ، ولكنه علمني أن أكتب
اسمي واسمه ، وكلمات أخرى قليلة ، وأنا بعد في أواخر العام الرابع من عمري . يومها
حسبت الكتابة لعبة من اللعب فأحببتها واستمرأتها . جعلتني أحس إحساساً غامضاً بأن
وراء كل كلمة سراً من الأسرار ، وباباً يختفي وراءه عالم سحري غريب ، فصرت ألح على
أبي ، المرة بعد المرة ، بأن يشتري لي قلماً ودفتراً لأخط على الورق ما يحلو لي
خطه . وأظن أن هذا لم يكن يضايقه ، بل يسعده ، فكان يستجيب لطلباتي وعلامات الرضا
بادية على وجهه .
في العام الخامس من عمري قرر أبي أن يلحقني بكتّاب من
كتاتيب ذلك الزمان . كانت الكتاتيب يومئذ تقوم بالمهام التي تقوم بها اليوم رياض
الأطفال وأكثر . فتعلمت في ( كتاب الملا قاسم في باب السيف ) القراءة والكتابة ، و
العمليات الحسابية الأربع بأشكالها الأولية البسيطة ، وحفظت أجزاء كثيرة من القرآن
، وصرت أردد آيات من سورة الكهف ، وآيات سورة النجم كلها ، بطرب واستمتاع يبلغ حد
النشوة . ورحت أقرأ بلا صعوبة كل ما يقع في يدي من الصحف والمجلات التي كان خالي
يحملها معه إلى بيتنا في زياراته الأسبوعية ، ومنها مجلة المختار الأمريكية (
النسخة العربية من مجلة : ريدر دايجست ) ومجلة الهلال المصرية ومجلات خفيفة أخرى .
وهكذا تعلقت بعالم الكلمات حتى صرت من أهله .
ما كان أجملها من أيام !
ذكريات (2)
النشأة والتكوين
ولدت في كرخ بغداد عام 1940 . كانت الحرب العالمية
الثانية قد استعرت قبل ذلك بعام ، وكانت حياة الناس في ضيق شديد . ولما انتهت
الحرب عام 1945 شهد العالم تحولات عميقة
على كل صعيد ، ولم يكن العراق في منأى عن ذلك ، فقد بدأت فيه مرحلة من
التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية امتدت حتى عام 1958 .
على المستوى الاقتصادي والاجتماعي كان النظام شبه
الإقطاعي يؤول إلى التفسخ والانحلال . وكانت الشرائح البرجوازية والعمالية تنمو
باطراد وتتقدم ، في حين بدأ المجتمع يتخلص من وطأة الظروف المعيشية القاسية التي ساءت
كثيراً خلال سنوات الحرب ، ويشهد تغيراً عميقاً في عاداته وتطلعاته . وفي الوقت
نفسه اتسع نطاق التعليم ونمت قاعدته البشرية وبنيته التحتية ، وكثر عدد المبعوثين
إلى الدراسة في الخارج ، والعائدين من البعثات بشهاداتهم العالية ومعارفهم
وتطلعاتهم الجديدة ، وتعالت الأصوات المطالبة بإصلاح مناهج التعليم وتأسيس جامعة
عراقية ، وأخذت السوق العراقية تستقبل أعداداً
متزايدة من الكتب والصحف والمجلات والأفلام العربية والأجنبية ، واتسع نطاق
السفر إلى الخارج ، وكان لكل ذلك تأثيره الكبير في الأذواق والميول والرغبات
والاتجاهات ، حتى ليمكن القول : إننا بدأنا في حينه مرحلة جديدة من التمدن ، رافقه
دخول نظريات ومفهومات جديدة على صعيد الفكر والأدب والفن ، أفضت ، في ما أفضت إليه
، إلى تحديثها على أيدي جيل جديد من المفكرين والأدباء والفنانين . وكان هناك نضال
وطني يتصاعد حيناً ويتراجع حيناً آخر ، تفجرت خلال فترات صعوده انتفاضات ومظاهرات
وإضرابات واحتجاجات في شتى المناسبات ، وكان إلغاء معاهدة 1930 المعقودة مع
بريطانيا ، والمطالبة بالحريات الديمقراطية ، وتعديل قانون الانتخابات ، وتحسين
الظروف المعيشية ، ومناهضة الأحلاف العسكرية الاستعمارية ، والدفاع عن عروبة
فلسطين ، أهم شعاراته .
الصحافة العراقية ، لاسيما الصحافة الحزبية المعارضة ،
لعبت دوراً مهماً في هذا النضال ، فقد كانت وسيلة من وسائل الكشف والتوعية
والتحريض والتعبئة ، ولذا كان نصيبها من الإجراءات القمعية وافراً جداً ، فما أكثر
ما ألغيت امتيازاتها ، أو عطلت عن الصدور لمدد محددة ، أو صودرت أعدادها ، أوعُدّت
مادة جرمية . ورغم ذلك كان إصدار المجلات الثقافية هماً دائماً من هموم الأدباء
والمثقفين . كانوا في فورة ، وكانت بهم حاجة ماسة إلى نشر نتاجاتهم الفكرية
والأدبية والفنية ، وكان ما يصدر من مجلات ثقافية في مصر ولبنان وسورية يحفزهم على
إصدار مجلات شبيهة بها ، فصدرت خلال الحقبة الممتدة من عام 1945 حتى عام 1958
مجلات ثقافية وأدبية وفنية كثيرة ( بالعشرات ) ولكنها كانت قصيرة الأعمار ، فلم
تتمكن من بلوغ أهدافها ، إذ ما يكاد يصدر منها عدد أو عددان أو عدة أعداد حتى تغلق
، لأسباب سياسية أو مادية . وكان أكثر السنوات إزدهاراً بالمجلات هي السنوات 1945 –
1946 و 1953 – 1954 ، والتي صدرت في هاتين السنتين الأخيرتين كانت هي الأنشط ، وهي
الأهم كماً ونوعاً ، أعني مجلات مثل : الأسبوع ، والثقافة الجديدة ، والكاتب
العربي ، والفصول الأربعة ، والرسالة الجديدة .
لم أكن في حينها بعيداً عما كان يحدث ، فالمصادفات حكمت
بأن تزرعني في صفوف أكثر من تظاهرة . وكنت منذ صغري مولعاً بقراءة الصحف اليومية ،
الصحف التي يصدرها الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال والجبهة الشعبية ،
وقلما قرأت صحف البلاد والزمان والشعب . وكنت مواظباً على اقتناء الكتب والمجلات
الثقافية ، وزيارة المعارض التي تقيمها الجماعات الفنية ، ومتابعة ما يجري من
مناقشات في قضايا الأدب والفن ، لاسيما ما كان يدور من نقاش حول الحركة الشعرية
الفتية : حركة الشعر الحر ، وانحزت منذ البدء إلى هذه الحركة ، وكتبت قصائد من هذا
الشعر ونشرتها في مجلة فنون وغيرها ابتداء من عام 1957 .
إذن فقد نشأت في مرحلة هذه طبيعتها ، وتلوّن تكويني
الثقافي الأساسي بألوانها ، واعياً أو غير واع .
ذكريات (3)
مجلة الآداب
صلتي بعالم الثقافة والأدب انعقدت وأنا في عامي الثالث
عشر ، وارتبطت بمجلة الآداب اللبنانية دون غيرها . اكتشفت هذه المجلة حين جاء بأحد
أعدادها إلى صفنا مدرس اللغة العربية القدير الأستاذ عباس علي القرغولي . كان
الدرس درس مطالعة ، فوضع المجلة أمامي وطلب مني أن أقرأ على زملائي قصيدة عن
فلسطين كانت منشورة فيها ، أظنها كانت للشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد ، فقرأتها
، وبعد أن قام هو بشرح القصيدة والتعليق عليها ، طلب منا الانصراف إلى كتابنا
الغني الجميل المقرر أيامئذ لدرس المطالعة . ولكنني رجوته أن يسمح لي بالقراءة في
المجلة حتى نهاية الدرس ، فوافق وهو يبتسم ابتسامة عريضة وتنفرج نواجذه عن سنه
الذهبية . وعندها رحت أقرأ في المجلة سطوراً من هنا وأخرى من هناك ، فوجدتني أشبه
بمن يدخل غابة مجهولة غامضة ، ولكنها مغرية بما تنطوي عليه من سحر الغموض ، ومن
يومها ، من يومها تماماً ، صرت أجمع الفلس إلى الفلس حتى أقتني أعدادها بلهفة
وانتظام .
كان ذلك في أواخر عام 1953 ، وكنت في الصف الأول المتوسط
، وكانت المجلة ما تزال في سنتها الأولى ، فصرت أترقب صدور كل عدد من أعدادها
بلهفة ، وأقرأه من الغلاف إلى الغلاف بلا ملل ، بما في ذلك ما نشر فيه من إعلانات
عن الكتب الجديدة ، وكثيراً ما كنت أعيد قراءة بعض موضوعاته وقصصه وقصائده مرة
واثنتين . فأنا لم أكن أفهم الكثير مما يرد فيها ، ولكن كان حسبي ما كنت أفهمه
منها . وكان هذا الذي أفهمه ينمو ويتسع عدداً بعد عدد وقراءة بعد أخرى .
في وسعي الآن أن أقول : إن هذه المجلة هي التي فتحت لي
باب الأدب وأغرتني بدخوله ، وهي التي دربتني على الصبر والتساؤل والتفهم في أثناء
القراءة ، وأدخلتني عالم الأدب الحديث دون مقدمات ، وأثرت في ذوقي وفي تكويني
الثقافي . فقد صرت أقتني ما يلفت نظري من كتب تعلن عن صدورها أو تنشر عروضاً لها
أو نقوداً عنها . وهي لم تهدني إلى كتب بعينها فقط ، بل قادتني إلى مجلات أخرى بما
أثارت في من فضول ومن رغبة في المعرفة ، فرحت أقتني ، إلى جانبها ، شتى المجلات
الأدبية : عراقية ولبنانية ومصرية وسورية . وهكذا اتسعت دائرة اهتماماتي وتنوعت ،
ولكن الآداب بقيت مجلتي الأولى ، وبقيت هي الأساس والمحور ، مثلما كانت هي نقطة
الانطلاق .
آه كم أحسست بالألم يوم أعلن الدكتور سماح إدريس بعد
عقود اضطراره إلى إيقافها عن الصدور !
ذكريات (4)
سبيل الرشاد
قضيت كل سنوات حياتي العملية تقريباً في الصحافة وما
جاورها ، وكنت قريباً منها حتى وأنا بعيد عنها ، وتوليت خلال تلك السنوات رئاسة
تحرير عدة صحف ومجلات ، ولكن أول صحيفة توليت رئاسة تحريرها كانت نشرة مدرسية
اسمها : سبيل الرشاد ، فهل كان هذا فألاً لحياة قادمة ؟!
سبيل الرشاد ، هكذا شاء مرشد الصف ، مدرس الرياضيات في
متوسطة فيصل ، الأستاذ قاسم محمد عبد الله ، هكذا شاء أن يسمي النشرة ، وطلب مني
أن أكتب تحت الاسم آية قرآنية تفسره ، آية ما زلت أتذكرها ولكني لا أتذكر من أية
سورة هي ، آية تقول ( وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد ) .
علمت في ما بعد أن الأستاذ قاسم اختارني لمهمة إصدار
النشرة باقتراح من مدرس اللغة العربية الأستاذ عباس علي القرغولي . قال لي ذلك هو
نفسه ، وأخبرني بأن القرغولي ذكر له أنني ( أفضل من يمكن الاعتماد عليه في هذا
الأمر ) . وكان لهذا بالغ الأثر في نفسي .
كنت يومئذ في الصف الثاني متوسط ، فرحت أقترح على طلبة الصف
موضوعات يكتبونها ، وأكتب أنا نفسي ما تعن لي كتابته ، حتى إذا جمعت من المواد ما
يكفي لإصدار النشرة ، رحت اقرأها وأصحح بكل اعتداد أخطاءها النحوية والإملائية ،
وأفرز ما يصلح منها للنشر وأستبعد ما لا يصلح ، ثم وضعتها كلها بين يدي الأستاذ
قاسم ليقول فيها كلمته الأخيرة ، وما إن قالها حتى كتبت النشرة على صفحة كبيرة
بيضاء من الورق المقوى بعناية فائقة ، وزينت بعض المواد برسوم رسمتها وصور لصقتها
، فظهرت في صورة بهية تعجب الناظرين .
حررت من هذه النشرة عددين ، الأول في النصف الأول من
السنة الدراسية ، والثاني في النصف الثاني من السنة نفسها ، وكان الجميع راضياً
عنهما : مدير المدرسة ، ومعاونه ، ومرشد الصف ، ومدرس اللغة العربية ، وطلبة الصف
، وكان هذا يفرحني . وفي نهاية السنة أهداني الأستاذ قاسم كتابين ما زلت أحتفظ
بهما حتى اليوم ، أحدهما لأحمد أمين ، والآخر لمحمد الغزالي .
أنهيت دراستي المتوسطة عام 1956 ، وانتقلت من متوسطة
فيصل إلى ثانوية الكرخ ، وصادف أن نقل الأستاذ قاسم إلى هذه الثانوية أيضاً ، ولكن
صلتي به انقطعت فقد كلف بالتدريس في الصفوف العلمية . وفي العام نفسه وقع العدوان
الثلاثي على مصر انتقاماً منها لقيامها بتأميم قناة السويس ، فتحولت ثانوية الكرخ
إلى بؤرة نشاط ثوري لا يخمد : مظاهرات واعتصامات وهتافات في ساحة المدرسة تنتصر
لمصر وتدين العدوان وتندد بالحكومة . ولم يتوقف هذا النشاط إلا بعد أن منعت إدارة
المدرسة عشرات الطلاب من الدوام ، واشترطت عليهم أن يوقعوا هم وأولياء أمورهم على
تعهد يلزمهم بـ ( حسن السلوك ) . وكنت واحداً من هؤلاء !
ولأنني كنت أتهيب من أن أطلب من أبي التوقيع على تعهد
كهذا ، فكرت بعرض مشكلتي على الأستاذ قاسم نفسه ، وفعلت ، ورغم أن الشائع عنه بين
الطلاب أنه من جماعة الأخوان المسلمين ، لم يكن منه إلا أن يوقع التعهد دون تردد ،
ودون أن يلومني أو يوصيني ، وقعه بثقة مطلقة ، فأنقذني من موقف شديد الإحراج .
رحم الله هذا المربي الفاضل ، فقد كان رجلاً فذاً
ونبيلاً .
ذكريات (5)
القصيدة الأولى
هل يتذكر الشعراء قصائدهم الأولى ؟ أعني القصائد التي
كتبوها أول مرة ، ونالوا بها الاعتراف بأنهم شعراء من عارفين موثوقين ؟ لا أدري ،
أما أنا فأذكر قصيدتي الأولى جيداً .
في صباي المبكر نظمت أبوذيات جميلة . تعلمت نظمها من أبي
، فقد كان ممن ينظمونها ، وإن على قلّة . تعلمت بالسماع ونظمت أبوذياتي . وكتبت
قصائد باللهجة البغدادية في هجاء الحزب الدستوري ، حزب نوري السعيد ، وحزب الأمة
الاشتراكي ، حزب صالح جبر ، لكنني لم أكتشف أنني شاعر إلا عام 1954 . فقد فاضت
دجلة في ذلك العام فيضاناً مرعباً أغرق ضواحي بغداد ، وكادت بغداد نفسها تغرق ،
حتى أُخِذ الرجال سخرة لإعداد السداد وحماية المدينة . فكتبت عن هذا كله قصيدة
موزونة مقفاة بلغ عدد أبياتها نحو ثلاثين بيتاً ، على ما أّذكر . كانت قصيدة رائية
، على البحر السريع ، نظمتها على السليقة ، فلم أكن أعرف شيئاً من قواعد النظم ،
لا الأوزان ولا التفاعيل ولا الزحافات والعلل ولا غيرها .
أخذت القصيدة إلى مرشد الصف الأستاذ قاسم محمد عبد الله
وعرضتها عليه ليوافق على نشرها في العدد الثاني من نشرتنا المدرسية ( سبيل الرشاد
) . فلما قرأها ظن أنني نقلتها من مصدر ما ، مع أنها كانت قصيدة ضحلة تصب اللوم
على دجلة وتتهمها بالغدر ، قصيدة صبي كان ما يزال قاصراً في معرفته وخبرته . ورغم
أنني أكدت له أنها من نظمي ظل يتوجس ، ثم أخذها إلى مدرس اللغة العربية الأستاذ
عباس القرغولي ليفتي في أمرها . وكان هذا الأستاذ الرائع يعرف مدى تفوقي في درسه
وشدة شغفي بالأدب فاستدعاني ، وسألني عما إذا كانت القصيدة قصيدتي فأقسمت له بـ (
روح خالي العزيز ) أنها لي ، ثم سألني عما إذا كان هناك من ساعدني في نظمها أو
تعديلها ، فقلت : لا أحد ، وسألني أيضاً عما إذا كنت أعرف أوزان الشعر فنفيت
معرفتي بها وأوضحت له أنني نظمت قصيدتي على السليقة . فتهلل وجهه أخيراً وأثنى علي
، وأخبرني بأنها تخلو من أي خطأ نحوي أو عروضي ، وقال لي بلغته التي يحرص على
فصاحتها حين يحدث تلاميذه : هيا اذهب يا فتى فأنت شاعر !
وعندئذ نشرت القصيدة في النشرة وذاع بين المدرسين
والطلبة أنني شاعر ، وهذا ما صرت أحس به وأدعيه لنفسي منذ ذلك اليوم !
ذكريات (6)
المنشورات الأولى
ما أن نلت اعتراف أستاذي القرغولي بأنني شاعر حتى اندفعت
أكتب برغبة عارمة . لم أكتب قصائد فقط ، بل كتبت معها قصصاً قصيرة وقطعاً نثرية
أدبية كثيرة ، ورحت أجمع ما أكتبه في دفتر خاص بها حتى بلغ ما كتبته العشرات .
وحدث ذات يوم أن طلب الدفتر مني أحد زملائي ، وكان أقربهم إلي ، فأعرته إياه . مكث الدفتر عند زميلي أياماً عدة ، وحين
طالبته به وعدني بإعادته إلي ولم يعده ، فساورني قلق وشك ، ولما ألححت عليه أخبرني
بأن الدفتر عند أخته الكبرى ( واسمها نجاة ) . وعندئذ أصررت على مرافقته إلى بيته في كرادة مريم لاستعادته وهذا ما كان .
ولكنني فوجئت بعد أكثر من شهر بأن أخته ( استعارت ) من الدفتر بعض ما كان فيه من
قطع نثرية رومانسية وراحت تنشرها في مجلة أسبوعية كانت تصدر يومئذ باسم : الحياة
العراقية !
لم أكترث يومها لهذه الفعلة ، لأن تلك القطع لم تكن تعني
الكثير عندي ، ولكنها لفتت نظري إلى ما لم أكن أفكر فيه ، وهو أن ما أكتبه قابل
للنشر في الصحف والمجلات ، فأرسلت ، على سبيل التجربة ، قصة قصيرة إلى إحدى الصحف
الأسبوعية . أرسلتها بالبريد . ولم يمض على إرسالها سوى أسبوعين حتى وجدتها منشورة
في صدر صفحتها الثقافية . ففرحت لذلك أشد الفرح . كان ذلك في أواخر عام 1955 ، ثم
أرسلت للصحيفة نفسها قصة أخرى فنشرت كسابقتها . وبعدها نشرت لي الصحيفة قصيدة
عنوانها ( أسقنيه ) وكانت تتكون من عدة مقاطع متنوعة القوافي ، ثم نشرت لي قطعة من
سبعة أبيات عنوانها ( صاحبي ) ، ولكنها لم تلبث أن توقفت عن الصدور لسبب لا أعلمه
، فتوقفت عن النشر بعدها . كان اسمها ( المجتمع ) وعلمت في ما بعد أن المحرر الذي
كان ينشر المواد التي أرسلها هو الصحفي المخضرم والأديب : خضر الولي ، رحمه الله .
توقفت ( المجتمع ) عن الصدور فتوقفت عن النشر ، ولكنني
لم أتوقف عن الكتابة ، وصرت أغتنم فرص النشر هنا أو هناك دون تردد . لم أكن أعرف
أحداً يعمل في الصحافة ، كنت أغامر فأرسل ما أريد نشره بالبريد ، ونادراً ما خاب
ظني في ما أرسلته . غير أنني حرصت على النشر في المجلات وعزفت عن النشر في الصحف
اليومية ، فالشعر مكانه الكتاب والمجلة وليس الجريدة ، وما نشرته في ( المجتمع )
كان مجرد تجربة .
عدت إلى النشر بقوة عام 1957 ، فنشرت في مجلتين عراقيتين
هما : ( الأسبوع ) و ( فنون ) وفي مجلتين لبنانيتين هما ( المجلة ) و ( الورود ) ،
نشرت فيها قصائد ومقالات نقدية كثيرة ، ثم توقفت عن النشر مرة أخرى بعد ثورة 14
تموز عام 1958 .وتوقفت عن الكتابة أيضاً !
ذكريات (7)
المكتبة الأولى ، الكتاب الأول
كان بيتنا بلا مكتبة ، ولم يكن فيه كتاب غير القرآن ،
ولذا كان علي أن أنشيء مكتبتي بنفسي كتاباً فكتاباً . غير أن معاناتي في توفير
أثمان الكتب والمجلات التي أريد اقتناءها كانت كبيرة ، حتى اضطررت ، وأنا بعد صبي
، إلى مزاولة أعمال شتى ، بأجور متواضعة ، بعلم أبويّ ، وبدون علمهما أحياناً ،
لأحصل على ما أريد . وربما كان جهل أبويّ نعمة لي في حينها ، فلم يكونا يتدخلان في
شؤوني الثقافية ، ولا يسألانني عن هذا الكتاب أو تلك المجلة . كان حسبهما أنني
أنجح بتفوق عال في نهاية كل عام دراسي ، وهذا ما وفر لي حرية مطلقة في اختيار ما
أقتني وما أقرأ من كتب ومجلات ، دون رقابة ، ولا منغصات .
خميرة مكتبتي كانت كتباً بيعت لنا في المدارس التي درست
فيها ، وأخرى أهديت لي من إداراتها ، ولم يكن عددها كلها يزيد عن عشرة . أما أول
كتاب اشتريته من السوق بنقودي الخاصة فكان رواية مكسيم غوركي الشهيرة ( الأم ) .
اشتريته بـ ( 600 ) فلس من كشك كان يقع عند رأس جسر الشهداء من جهة الكرخ ، بعد أن
قرأت إعلاناً عنه في مجلة الآداب . ثم قرأت الرواية كلها ، وأعجبت بها ، وضممتها
إلى مكتبتي الناشئة باعتزاز .
كان ذلك في أواخر عام 1954 ، وكنت ما أزال في الصف
الثاني من دراستي المتوسطة ، ولي يومئذ زميل مندائي ، يجلس في الصف إلى جانبي ، اسمه
: فاروق جاني ، لم أره ، ولم أسمع شيئاً عنه ، منذ أن تفرقت بنا السبل بعد
انتقالنا إلى الدراسة الثانوية . كان فاروق من عائلة شيوعية ، وكانت بيني وبينه
علاقة صداقة وطيدة ، وما أن حدثته عن رواية غوركي حتى دهش ، وقال لي إنه سمع بها
ولم يقرأها ، فهي كتاب ممنوع ، واقتناؤه أمر خطر ، ولذا نصحني بالتخلص منه . ولما
أخبرته بأنني اشتريته من السوق رد عليّ بما مفاده : إن يكن هذا الكتاب مسموحاً
بتداوله اليوم فسيصبح في الغد وثيقة جرمية . ولأنني كنت أعرف كيف كانت الحكومات
تعامل الشيوعيين صدقت صديقي وخفت ، وبلغ بي الخوف حداً جعلني أفكر بالتخلص من
الكتاب ، رغم أنني شقيت في جمع ثمنه وشرائه .
مرت عدة أيام وأنا قلق متردد بين الاحتفاظ بالكتاب
والتخلص منه . وصادف في حينها أن تلبد المناخ السياسي بعد انفراج نسبي قصير ،
وأغلقت مجلات ثقافية كنت أحرص على متابعتها واقتنائها مثل الثقافة الجديدة والكاتب
العربي ، فاشتد قلقي وخوفي ، وما كان مني إلا أن أحمل الكتاب ذات ظهيرة تحت (
دشداشتي ) وألقي به في خربة كانت تقع خلف ( جامع حنّان ) ثم أعود إلى البيت وأنا
جد حزين .
ذكريات (8)
في ثانوية الكرخ
لا أدري لم اخترت الدراسة الأدبية ولم أختر الدراسة
العلمية . كنت متفوقاً تفوقاً عالياً في جميع الدروس ، كنت الأول في الصف دائماً ،
وكان من هو مثلي يفضل الدراسة العلمية حسب المزاج السائد في المجتمع ، غير أنني
خالفت هذا المزاج واخترت الدراسة الأدبية .
لم يكن في ثانوية الكرخ سوى صفين أدبيين هما : الرابع
والخامس ، وكان جميع طلاب الصف الرابع جديدين عليّ عدا واحداً هو زميلي في متوسطة
فيصل وصديقي : سامي حنا . وكان البغداديون في هذا الصف قلة ينتمي أفرادها إلى جميع
أحياء الكرخ ، من كرادة مريم حتى الجعيفر . أما الغالبية فكانت تنحدر من شتى مدن
المحافظات المحيطة ببغداد ، يوم لم يكن ثمة من يسأل المرء عن منبته ودينه أو
طائفته . كنا خليطاً متنوعاً ، وكذلك كان أساتذتنا . وأشهد أن خلافاتنا كانت جد
قليلة ، وهادئة ، ولم يكن أي منها يتعلق
بالدين أو الطائفة أو الحزب أو العشيرة ، ولا أدعي قط إذا قلت : إننا كنا متآلفين
متحابين متعاونين .
كان عدد طلاب الصف الرابع حوالي الأربعين طالباً ،
غالبيتهم تحب الأدب وتتبارى في حفظ النصوص ، ولكن عدد الواعدين منهم بمستقبل أدبي
لم يكن يزيد عن خمسة هم : موفق خضر ، ومثنى حمدان ، وعبد الأمير الأعسم ، وسامي
حنا ، وسامي مهدي . كان موفق خضر يكتب القصة ، ومثله كان الأعسم ، أما مثنى حمدان
فكان شاعراً مثلي ، وأما سامي حنا فاختار الترجمة من الإنكليزية .
حين أنهينا الدراسة الثانوية عام 1958 دخل ثلاثة منا ،
نحن الخمسة ، كلية الآداب : موفق خضر وسامي حنا اختارا الدراسة في قسم الاجتماع ،
واخترت أنا دراسة الاقتصاد ، أما الأعسم فاختار كلية أصول الدين ، وأما مثنى حمدان
فدخل الكلية العسكرية ، فكان لكل منا شأن :
_ موفق نشر رواية عنوانها ( المدينة تحتضن الرجال )
كتبها ونحن بعد في الصف الخامس الثانوي ونشرها ونحن في سنتنا الجامعية الأولى .
_ سامي حنا نشر كتاباً عن آرنيست همنغواي كان قد ترجمه
في ذلك الحين ، ثم ترك الترجمة واتجه في الحياة وجهة أخرى .
_ عبد الأمير الأعسم ترك كتابة القصة وتفرغ في ما بعد
لدراسة الفلسفة ونال فيها شهادة الدكتوراه .
_ مثنى حمدان دخل الكلية العسكرية واستشهد عام 1963 ، ثم
تولى صديقي اللامع جليل العطية ( الدكتور ) نشر مجموعة شعرية له عام 1965 .
_ أما أنا فتوقفت عن الكتابة وكرست نفسي للقراءة .
وكذلك هي تصاريف الحياة .
ذكريات (9)
كانوا رائعين
أتذكرهم كلهم ، أتذكر أسماءهم ، وأشكالهم ، وعاداتهم في
التدريس ، وما كان لبعضهم من لازمة يرددها في أثناء قيامه بشرح الدرس ، أو خلال
أحاديثه معنا . أتذكر الأستاذ عبد الحميد الهيتي معلم اللغة العربية في مدرسة
الأماني الابتدائية وعينيه السابحتين في الفضاء البعيد ، أتذكر الأستاذ عباس علي
القرغولي الذي درسنا هذه اللغة في متوسطة فيصل ، أتذكر الأستاذين حسين البياتي
ومظفر بشير اللذين درسانا إياها في ثانوية الكرخ ، وأتذكر أيضاً الأستاذ عبد
الحليم اللاوند ، الشاعر ، الذي طبق في مدرستنا مدة شهر واحد قبل تخرجه في دار
المعلمين العالية .
كانوا مدرسين رائعين ، على درجة عالية من الكفاءة
المهنية والرصانة الأخلاقية ، وكانوا متنورين ، متفتحين ، متفانين في أداء رسالتهم
التعليمية والتربوية ، يؤدونها عن إيمان بها وإخلاص لها ، فهم لا يقصرون ولا
يتقاعسون ، وكانوا إذا ما وجدوا في أحدنا موهبة رعوه وشجعوه ووجهوه وتبسطوا معه في
الحديث . وكنت أبتهج وأكاد أضحك وأنا أسمع القرغولي وهو يردد لازمته الشهيرة في
المدرسة ( زين بابا .. زين ) حين يشعر
بالرضا ، وكنت أشفق على البياتي ، ذي الجسد الضامر النحيل ، وأنا أرى شفتيه
تتيبسان لشدة ما يبذل من جهد في شرح دروسه .
لم أنسهم قط ، بل بقيت أتذكرهم ، وأشعر نحوهم بالامتنان
، فهم علموني قواعد اللغة ، ومهدوا لي الطريق لأكون ما أنا عليه ، وإن أنس فلا
أنسى تشجيعهم لي ورسائلهم في توجيهي ، وخاصة رسائل الأستاذين البياتي والبشير .
في يوم من أيام 1987 ، كنت في مكتبي في جريدة الجمهورية
حين اتصل بي موظف الاستعلامات وأبلغني بأن رجلاً يدعى مظفر بشير يريد زيارتي ،
فتذكرت في اللحظة الرجل الذي ما عدت رأيته منذ تسعة وعشرين عاماً ، وطلبت من موظف
الاستعلامات أن يصحبه فوراً إلى مكتبي .
كان هو ، أستاذي المبجل نفسه ، مظفر بشير ، فهببت
لاستقباله والترحيب به . وبعد حديث جميل تبادلناه عن الماضي وذكرياته ، والحاضر
ومتاعبه ، قال :
_ أتدري لم زرتك اليوم ؟
_ لا والله يا أستاذي !
_ زرتك لأقدم لك هذه الهدية !
قالها وهو يمد إلي يده بدفتر قديم ..
_ هذا دفترك الذي كنت تكتب فيه مواضيع الإنشاء التي
أكلفكم بكتابتها .
وتذكرت . تذكرت أنه أخذ هذا الدفتر مني في نهاية السنة
الدراسية 1957 – 1958 ، وهي السنة التي أنهيت فيها دراستي الثانوية ، وأخذ معه
دفتر زميلي الراحل القاص موفق خضر ، على سبيل الاعتزاز بتلاميذه النابهين .
ترى كم يوجد اليوم من أمثال هؤلاء المدرسين ؟!
ذكريات ( 10 )
القراءات الأولى
لم يكن في بيتنا مكتبة ، وما كان فيها من كتاب سوى
القرآن ، ولذا كان علي أن أنشيء مكتبتي بنفسي وأختار بنفسي الكتب التي أقتنيها
وأقرأها . هذا ما قلته في إحدى الذكريات .
وأقول الآن : إنني لم يكن لي من دليل في البداية سوى ما
ينشر من إعلانات وأخبار ومقالات نقدية عن الكتب ومؤلفيها في مجلة الآداب . ولكن لم
تمض سوى شهور على معرفتي بهذه المجلة ، حتى صرت أتابع مجلات أخرى ( عربية وعراقية
) وأحرص على اقتنائها . وكان ما يصدر من مجلات وكتب في القاهرة وبيروت ودمشق ، في
تلك الحقبة ، أعني الحقبة الممتدة من عام 1953 حتى عام 1958 ، كان يوزع في بغداد
بعد مدة وجيزة جداً من صدوره . وبذلك اتسع أفقي وتعددت اختياراتي وتنوعت قراءاتي .
وحين أراجع اليوم ما كنت اخترت واقتنيت أجد أنني لم أخفق فيه إلا نادراً ، بل
نادراً جداً .
قرأت الكثير خلال تلك الحقبة ( 1953 – 1958 ) . كنت أقرأ
يومياً عدداً من الساعات المتصلة حتى لأجور أحياناً على واجباتي المدرسية . كانت
القراءة تساعدني في أمرين : التخلص من الشعور بالوحدة داخل البيت ( كنتُ وحيدَ
أبويّ ) واكتشاف ما لا أعرفه عن نفسي وعن العالم . كنت أشعر بالسعادة وأنا أكتشف
وأتعلم فأزداد نهماً للقراءة ، حتى صرت أعزف عما يستهوي أقراني في المحلة من ألعاب
كنت ألعبها معهم ، وتخليت شيئاً فشيئاً عن هواياتي القديمة الخاصة ( عن جمع
الطوابع مثلاً ) عدا السباحة في دجلة صيفاً والنزهة عصر كل يوم على ظهر دراجة
مستأجرة من دكان ( حسن البايسكلجي ) .
قرأت الكثير من الشعر والقصة والرواية والنقد والقليل
القليل من المسرح . وتوقفت عند شعراء معينين ، وأعجبت ببعضهم وميّزتهم عمن سواهم :
أحمد شوقي ، وعلي محمود طه ، ومحمود حسن إسماعيل ، من المصريين ، وإلياس أبي شبكة
، وسعيد عقل ، وبشارة الخوري ، وصلاح لبكي ، وفؤاد الخشن ، من اللبنانيين ، وبدوي
الجبل ، وعمر أبي ريشة ، من السوريين ، والجواهري فقط من العراقيين . الآخرون
الذين قرأتهم ، أو قرأت لهم ما تيسر لي من أشعارهم ، لم يعجبوني . فمثلاً لم
يعجبني الرصافي ، ولا الزهاوي ، ولا الشرقي ، ولا الشبيبي ، ولا النجفي . ربما
استحسنت لهم هذه القصيدة أو تلك من قصائدهم ، ولكنني لم أعجب بهم ، وبدا لي في
الحقبة اللاحقة أنهم شعراء إحيائيون ، شأنهم شأن محمود سامي البارودي ، بغض النظر
عن ادعاءات الزهاوي وغيره .
قرأت أيضاً الكثير من الأدب المهجري ، ولكنني لم أتوقف
إلا عند إيليا أبي ماضي ، وميخائيل نعيمة ، ونسيب عريضة ، وفوزي المعلوف . أما
جبران خليل جبران فقرأت أغلب مؤلفاته ، غير أنني لم أجد عنده ما يجتذبني ، بما في
ذلك كتابه : النبي ، ولم يغير وجهة نظري فيه ما قيل ويقال عن مكانته الأدبية وعن
دوره التحديثي .
وقرأت في ما قرأت أغلب مسرحيات أحمد شوقي وتوفيق الحكيم
وعلي أحمد باكثير ، والعراقي محمد الهاشمي . وتابعت بحرص ما كان ينشر فؤاد التكرلي
وعبد الملك نوري وشاكر خصباك من القصص . وقرأت من أعمال نجيب محفوظ روايتيه :
بداية ونهاية والقاهرة الجديدة ، كما قرأت مجموعة يوسف إدريس : أرخص ليالي وبعض
قصص محمود تيمور ويوسف الشاروني ، وبعض روايات إحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم
عبد الله ، على ما لي من رأي سلبي في أدبهما .
أما على صعيد
المؤلفات الفكرية والكتابات النقدية فقد غلب على قراءاتي التنوع في الأفكار
والاتجاهات والمواقف ، وأهم ما قرأته إبان تلك الحقبة : أغلب أعمال طه حسين وعباس
محمود العقاد وأحمد أمين ، وقرأت بتفاوت لكتاب آخرين أهمهم : أحمد حسن الزيات وعلي
أدهم وأمين الخولي ومصطفى الرافعي ومحمد مندور وعائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطيء )
ومحمود شاكر ومحمد عبده وسلامة موسى والكواكبي والمودودي والقصيمي وحسن البنّا
وسيد قطب وزكريا إبراهيم وجورج حنا وعلي الوردي ومحمد مهدي البصير وروفائيل بطي
ونهاد التكرلي ، وبعض ما كانت تنشره دار المعارف في مصر ، ودار العلم للملايين
ودار المكشوف ودار الحكمة في لبنان ، ودار اليقظة العربية في سورية ، لغير من ذكرت
، وكذلك الكثير مما كان يصدر في سلاسل أدبية في القاهرة مثل : إقرأ ، وكتابي ،
والكتاب الذهبي ، والكتاب الفضي ، وكتب للجميع ، وغيرها . وعدا ذلك قرأت الكثير من
الروايات البوليسية ، وخاصة روايات أغاثا كريستي ، وأغلب ما ترجم إلى العربية من
مؤلفات سارتر وألبير كامو ، وقادني ما قرأت لهذين إلى قراءة ما وجدت لغيرهما من
الفلاسفة والأدباء الوجوديين .
وبعد هذا كله أعترف بأن معرفتي بالتراث العربي في تلك
الحقبة لم تكن تتجاوز حدود ما جاء في كتابات من ذكرت ، ولم أقرأ من الأدب العالمي
، وخاصة الشعر ، إلا ما وجدته مترجماً ومنشوراً في كتب أو مجلات . وأعترف أيضاً
بأنني سحرت بلغة طه حسين وخاصة لغته في كتابه : الفتنة الكبرى ، وتأثرت كثيراً بما
قرأت من الأدب الوجودي وعنه ، وشغفت بالقصص والروايات الروسية : جيخوف وترغينف
وتولستوي وغوركي ، ولكنني لم أقرأ دستييفسكي قراءة كاملة إلا بعد أن قام سامي
الدروبي بترجمتها . وأضيف إلى اعترافاتي أنني وجدت في نفسي منذ وقت مبكر عزوفاً
كبيراً عن كل أدب فيه ميوعة عاطفية من قبيل رواية : آلام فيرتر وأشباهها من القصص
والروايات العربية كمؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي وعبد الحليم عبد الله ، وللسبب
نفسه عزفت نفسي عن الكثير من شعر تلك الحقبة .
لا أدري كم كان في ميولي تلك من الموضوعية والاتزان أو
المزاجية والاعتباطية ، ولكن هذا ما كان .
ذكريات (11 )
عن الشعر الحر
قلت في إحدى الذكريات السابقة : إن أول قصيدة كتبتها
كانت قصيدة عمودية ، خرجت مني وهي منظومة تلقائياً على البحر السريع ، وكانت رائية ، موحدة القافية ،
تجاوز عدد أبياتها الثلاثين بيتاً ، أخبرني مدرس اللغة العربية الأستاذ عباس علي
القرغولي بأنها خالية من أي خطأ نحوي أو عروضي ، ولكن ما لم اقله : إنه نصحني يومها
بتعلم الأوزان الشعرية ، وأشار علي باقتناء كتاب : ميزان الذهب في صناعة شعر العرب
لهذا الغرض ، وهو ما فعلته دون تردد ، ورحت أدرس فيه بحور الشعر وأتعلم منه بصبر ،
دونما مشرف أو دليل .
كان ذلك عام 1954 ، ولم يكن عمري يزيد عن أربعة عشر
عاماً ، فتعلمت من هذا الكتاب ما تعلمت ، وتطورت معرفتي بالأوزان بمرور الأيام
والأعوام ، ورحت أكتب مقطعات شعرية وقصائد لا يزيد عدد أبياتها عن عشرين بيتاً ،
وأنشر بعضها في صحف ومجلات عراقية وعربية . غير أنني انحزت منذ البداية إلى حركة
الشعر الحر ، وإلى الشعر الحر ، متأثراً بما كنت أقرؤه من هذا الشعر ، ومن
المناقشات التي تدور حوله ، في المجلات ، وخاصة مجلة الآداب ومجلة الأديب ، وكتبت
يومها عدداً من القصائد الحرة ، ونشرت بعض ما كتبت هنا أو هناك .
وفي الوقت نفسه رحت أتابع بشغف ما ينشر رواد هذه الحركة
من القصائد في هاتين المجلتين ، وأقتني ما يصدر من دواوينهم ودواوين زملائهم العرب
، وكذلك دواوين من تأثروا بهم ، وفي مقدمتها جميعاً دواوين : شظايا ورماد لنازك
الملائكة ، وأساطير لبدر شاكر السياب ، وأغاني المدينة الميتة لبلند الحيدري ،
وأباريق مهشمة لعبد الوهاب البياتي . وقد احتل كل ديوان من هذه الدواوين منزلة ما
عندي ، ولكنني فضلت عليها جميعاً ديوان الأخير ، أعني أباريق البياتي ، حتى قمت
بتجليده بجلد سميك لدى بائع للقرطاسية يدعى
( ذيبان الغبّان ) وصرت أصحبه معي حيثما ذهبت . ومن أكثر ما أعجبني في هذا
الديوان قصائد : الملجأ العشرون ، وريح الجنوب ، والأفّاق ، وذكريات الطفولة
، والظلال الهائمة ، حتى لقد حفظت بعضها .
لم أنحز اعتباطاً لهذا الديوان ( الذي صدر في مطلع عام
1954 ونشر الكثير من قصائده في مجلة الأديب خلال الأعوام 1951 – 1953 ) ، بل انحزت
إليه بدافع من شعور كان يخامرني ، شعور لا يخلو من بعض الوعي ، بأن شعره جديد /
حديث حقاً ، شعر مختلف عن غيره ، مختلف حتى عن شعر نازك وبدر وبلند ويتفوق عليه .
وكان هذا الشعور هو الأساس الذي انطلقت منه دراستي المطولة عنه بعد أكثر من نصف قرن
على صدوره ، وهي إحدى الدراسات التي ضمها كتابي الجديد المنتظر : في الطريق إلى
الحداثة .
لا أبالغ إذا قلت : إنني صرت يومها من غلاة الداعين
المتعصبين للشعر الحر ، ودخلت مع زملائي في ثانوية الكرخ ، وخاصة إبراهيم الزبيدي
وعدنان خير الله ، في مساجلات مطولة حول هذا الشعر ومستقبله ، وكان يؤيدني بحماسة
زميل آخر هو المرحوم الشاعر مثنى حمدان العزاوي ، الذي كان يكتب الشعر الحر أيضاً
وكانت لديه نسخة خاصة من ديوان ( الأباريق ) مهداة ( بتوقيع البياتي ) إلى أخيه
حاتم . ( رأيتها بعيني ) .
بل بلغت بي حماستي لهذا الشعر حد التصدي لمن يهاجمونه في
الصحف والمجلات بغض النظر عن أعمارهم ومنزلاتهم الأدبية . ومن ذلك مقال كتبته في
الرد على كاتب كانت له صولاته الأدبية في صحافة تلك الحقبة هو : المرحوم مهدي
القزاز . فقد حمل الرجل على ديوان نازك الملائكة ( قرارة الموجة ) الذي صدر في
حينها ، وشملت حملته الشعر الحر ، فقال في ما قال ( إن الشعر الحر لا حياة فيه ولا روح ) وإنه ( بلا موسيقى
) ، فحاولت تفنيد أقواله هذه ، والكشف عن مزايا الشعر الحر وصلته بعصرنا وواقعنا ،
وعما حققته القصيدة الحرة من وحدة عضوية افتقر إليها شعرنا الموروث ، ثم أوضحت ما
في هذه القصيدة من وزن ، ومن موسيقى تجاهلها القزاز ، وختمت مقالي بأن نازك إن
أخفقت في قصيدة فهذا لا يعني أنها أخفقت في جميع قصائدها ، وهي إن أخفقت في جميع
قصائدها فإن إخفاقها هذا لا يحسب على الشعر الحر ، بل عليها وحدها .
نشر مقالي في مجلة الأسبوع ( الملحق الأسبوعي لجريدة
الشعب ) العدد : 2869 الصادر في 29 / 6 / 1957 وهي المجلة التي نشرت مقال القزاز ،
وكنت يومئذ ما أزال طالباً في الصف الرابع الثانوي .
ذكريات (12)
ما أنا بناقد !
لي في حقل الدراسات الأدبية والنقدية عشرة كتب منشورة ،
وثمة كتابان قيد النشر ، وآخران يبحثان عن فرصة ، ولكنني ، رغم ذلك ، لا أعدّ نفسي
ناقداً ، ولا أحب أن أحسب في النقاد ، لأنني مجرد شاعر صاحب أفكار وآراء في الشعر
والقصة والرواية والنقد والمناهج النقدية يحب أن يجهر بأفكاره وآرائه ويضعها موضع
الاختبار ، لتكون له مشاركة إيجابية في الحياة الثقافية التي يعدّ نفسه لولباً من
لوالبها . لذلك يفاجئني أن يصفني أحد بأنني ناقد ، فأجفل وأنكمش ، وأشعر بالارتباك
كما لو أنني اقترفت شيئاً محرجاً على مرأى من الناس .
أول من وصفني بهذه الصفة هو الصديق الناقد الفلسطيني
فخري صالح ، عندما بدأت أنشر ، قبل سنوات ، دراسات ومقالات أدبية ، في الملحق
الثقافي لجريدة الدستور الأردنية ، أيام كان مديراً للقسم الثقافي في هذه الجريدة
، فحرت كيف أتصرف . فكرت بالكتابة إليه ولكنني ترددت فلم أفعل ، ثم تقبلت الأمر
بعد تكراره وكأنني استمرأته . وحين فعل الشيء نفسه الشاعر الأردني الأستاذ أمجد
ناصر ، المشرف على ثقافية صحيفة القدس العربي التي تصدر في لندن ، هان الأمر
وتقبلته تقبل الأمر الواقع . وشيئاً فشيئاً بدأ آخرون يطلقون علي هذه الصفة حتى
رضخت ، وأنا غير راض في قرارة نفسي .
بدأت أدلي بآرائي وأفكاري حول الشعر والشعراء منذ أواسط
عام 1957 . كنت في عامي السابع عشر ، وكنت قد قرأت العديد من الكتب ، والكثير من
المقالات ، التي تتناول الشعر وجمالياته ، والشعراء ومنجزاتهم ، ولي عدا ذلك مزاجي
وذوقي ، فصار لي ، في ضوء هذا وذاك ، أفكار ورؤى ومعايير ، وتفتحت حواسي النقدية ، ومن يومها صرت أنظر إلى كل ما أقرأ من أدب وفكر
، وكل ما أرى وأسمع من فن ، نظرة نقدية ، ثم بلغت بي الجرأة حدّ أن أخذت أدون
أفكاري وآرائي ، وأصوغها في مقالات وأنشرها في مجلات ذلك الزمان .
عام 1957 كان الجدل ما يزال يدور حول الشعر الحر ، وكان
هناك من ينكر عليه أن يكون شعراً ، فأسهمت في هذا الجدل بمقال قصير نشر في مجلة
الأسبوع ( ملحق جريدة الشعب ) كما بيّنت في ذكرى سابقة . وصادف في ذلك العام أن
أصدرت نازك الملائكة ديوانها ( قرارة الموجة ) فكتبت عنه خلال العطلة الصيفية
مقالاً أرسلته بالبريد إلى زميلي وصديقي القاص موفق خضر فلم يتسنّ لي نشره في حينه
. ونشر بلند الحيدري ديوانه ( أغاني المدينة الميتة وقصائد أخرى ) فكتبت عنه
مقالاً نشرته مجلة الورود اللبنانية ( أيلول / 1957 ) . وقد كشفت في هذا المقال عن
مدى تأثير قصيدة الشاعر ت. س. إليوت ( أغنية العاشق بروفروك ) في قصيدة بلند ( كبرياء
) المنشورة في نهاية ديوانه . ونشر أدونيس ( الذي لم يكن قد عرف واشتهر بعد )
قصيدته ( البعث والرماد ) فكتبت عنها مقالاً نشر في المجلة التي نشرت فيها القصيدة
، وهي مجلة ( المجلة ) في الأرجح ، وأوضحت في هذا المقال مدى تأثر أدونيس بطريقة
السياب في استخدام الأسطورة في بناء القصيدة ، فهي ، كما رأيت ، محض قصيدة سيابية
. وكان مما كتبته في ذلك العام مقال بعنوان ( الكلمة في الشعر ) نشرته ( المجلة )
نفسها في تموز من ذلك العام .
وما زلت حتى اليوم أكتب الدراسات والمقالات الأدبية
والنقدية ، وأجد متعة في كتابتها وإن قل نشاطي في هذا الحقل . وأعرف أن
الأكاديميين لا يرتاحون لما يكتب الشعراء من نقود ، وأعرف أن النقاد المحترفين
يعدون نقود الشعراء هوامش على متونهم الشعرية ، وأنا نفسي لا أعد نفسي ناقداً ،
ولا أطمح إلى أن أحسب في عداد النقاد ، ولكنني ماض في سبيلي ، وها هو الزمن يمر ،
والعمر يتآكل ، والصحة تتراجع ، والله المستعان .
ذكريات (13)
في الوسط الأدبي
لم تنشأ لي صلة مباشرة بالوسط الأدبي حتى عام 1957 . كنت
أتابع أخبار هذا الوسط ونشاطاته من خلال ما ينشر في الصحف والمجلات ، فعرفت أسماء
كثيرة ، وتعرفت على نتاجاتها الأدبية ، ومنزلاتها ، ولكنني لم أعرف أي أديب معرفة
مباشرة ، عدا من ذكرت من زملائي في ثانوية الكرخ : موفق خضر ، وسامي حنا ، وعبد
الأمير الأعسم ، ومثنى حمدان ، وهم مثلي : أدباء ناشئون ، لا أكثر .
صلتي المباشرة بالوسط الأدبي بدأت في ذلك العام ،
واقتصرت على مجموعة أخرى صغيرة من الأدباء الناشئين ، فيهم من يكتب الشعر ، ومن
يكتب القصة ، ومن يكتب المقالة ، وكان صاحب الفضل في تحقيق هذه الصلة صديقي القاص
والروائي الراحل : موفق خضر . فهو من طالبني بالخروج من ( قوقعتي ) وألح علي حتى
استجبت ، فذهبت معه إلى مقهى يقع في منطقة حافظ القاضي كان يلتقي فيه بمجموعة من
أصدقائه الأدباء مساء كل يوم جمعة .
كانت هذه المجموعة تتكون من : القصاصين غازي العبادي
وخضير عبد الأمير وباسم عبد الحميد حمودي ، والشعراء سلمان الجبوري وعبد اللطيف
إطيمش وجواد البدري وصلاح نيازي ، وهاويي الكتابة : أسعد محمد جعفر وحامد طالب ،
وهم جميعاً بين طالب جامعي أو ثانوي أوموظف صغير ، وكلهم كان في بداية حياته
الأدبية ، لم ينشر له من نتاجه سوى مادتين أو ثلاث ، ولكن الشاعر صلاح نيازي كان
أكثرهم رسوخاً وأقلهم حضوراً في لقاءاتهم الدورية الأسبوعية .
ويبدو أن الراحل العزيز موفق كان يحدث أفراد المجموعة
عني ، فرحبوا بي حين التحقت بهم أحسن ترحيب . كانوا جميعاً ، بمن فيهم موفق ،
يكبرونني بعام أو عامين أو ثلاثة ، ولكنني لم أجد بينهم غير الألفة والمحبة .
وكانت أحاديثنا في اللقاءات تدور حول الأدب والإصدارات الجديدة ، والصفحات
الثقافية في الصحف والمجلات ومحرريها وما ينشرونه فيها ، وكان كل منهم يتابع ما
ينشر له وللآخرين ، فإن وجد لأحدهم شيئاً في صحيفة أو مجلة اشترى له نسخة منها ،
وكان أكثرنا دأباً وحرصاً على ذلك الشاعر الراحل سلمان الجبوري . وكان الشعراء منا
ممن يكتبون الشعر الحر ، عدا جواد البدري ، وكان القصاصون من المعجبين بأدب نجيب
محفوظ وقصص عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي ، وكنا جميعاً من المؤمنين بضرورة تحديث
الأدب ، ولكننا كنا مختلفين حول استخدام العامية في كتابة القصة .
كان لقائي بهذه المجموعة مفيداً لي على أكثر من صعيد ، فقد
أكسبني أصدقاء اتسع بهم أفقي ، وأتاح لي أن أختبر نفسي بوجودي بينهم ، فاتضح لي
مكاني وحدوده ، وعرفت الكثير مما لم أكن أعرفه عن الأدباء والحياة الأدبية ، وعن
النشر وعالمه ، وبقي بعضهم صديقاً لي حتى رحل عن عالمنا ، وبعضهم ما يزال صديقي
حتى اليوم ، وهذا ما جعلني في ما بعد أحرص على أن تكون صلتي بالوسط الأدبي مباشرة
وحية ودائمة .
بعد ثورة 14 تموز 1958 بمدة قليلة اقترح الشاعر سلمان
الجبوري علينا إصدار مجموعة شعرية مشتركة ، وتولى هو بنفسه جمع القصائد ومتابعة
طبعها في كتاب لم يصدر إلا بعد شهور . ولست أعرف كم كانت تكاليف طبع هذه المجموعة
ولا كيف سددت ، ولكنني لم أتحمل منها فلساً واحداً . كان عنوانها ( كلمات طيبة )
والشعراء الذين شاركوا فيها هم كل من : جواد البدري ، وسامي مهدي ، وسلمان الجبوري
، وصلاح نيازي ، وعبد اللطيف إطيمش ، ومحمود الريفي .
صدرت المجموعة في أواخر عام 1958 ، بعد أن فرقتنا
السياسة بين شيوعيين وقوميين ومستقلين ، وعصفت بما كان بيننا من تآلف جميل . وقد
كان لي فيها ثلاث قصائد من الشعر الحر ، أفسد الرقيب اثنتين منها بحذف ما خشي أن
يفسر بأنه تعريض بالجيش ، حذف أشطراً كاملة منهما وأجزاء من أشطر وشوّههما أيما
تشويه . وما زلت أستغرب حتى اليوم كيف رضي سلمان بذلك ، وكيف تقبّل إبقاء
القصيدتين في المجموعة دون علمي وموافقتي
، وهو الإنسان الحساس الودود .
يؤسفني أن أعترف اليوم بأنني لا أعتد بهذه المجموعة ،
ولا بقصائدي التي نشرت فيها ، وأتجنب ذكرها في قائمة إصداراتي ومشاركاتي ، ولا
أتحدث عنها إلا إذا سئلت ، أو كانت هناك ضرورة أدبية للحديث .
ذكريات (14)
الاقتصاد بدلاً من الأدب
أحياناً تلعب المصادفة دورأ مصيرياً في حياة الإنسان .
أما أنا فتبدو لي حياتي وكأنها سلسلة من المصادفات ، وهذه واحدة منها .
كان عام 1958 عام تحول ليس في حياة العراق فقط ، بل في
حياتي أنا كلها . فهو العام الذي وقعت فيه ثورة 14 تموز ، وكذلك هو العام الذي
أنهيت فيه دراستي الثانوية ، ودخلت كلية الآداب .
في الواقع لم أكن أفكر بدخول هذه الكلية ، بل فكرت بدخول
دار المعلمين العالية ، والدراسة في قسم اللغة العربية ، مأخوذاً بشهرة هذه الدار
التي تخرج فيها كبار شعرائنا المحدثين . غير أن طالباً من طلاب الآداب ، كان يدرس
معنا في مقهى البيروتي الشهير في الكرخ ، نصحني بدخولها ودراسة علم الاقتصاد فيها
.
كان اسم هذا الطالب محمد الهاشمي ، وكان هو نفسه قد أنهى سنته الدراسية الأولى في قسم الاقتصاد
في هذه الكلية ، ولم يكن لقائي به في المقهى وحديثي معه إلا محض مصادفة ، ولكنها
مصادفة غيرت مجرى حياتي كلها .
قال لي : ماذا تنتظر من الدراسة في قسم اللغة العربية
غير أن تصبح من مدرسيها في إحدى المدارس الثانوية ، سواء أدخلت دار المعلمين أم
غيرها ؟ أتروقك مهنة التدريس ؟ لم لا تدخل كلية الآداب وتدرس فيها علم الاقتصاد
مثلي ، وهو من علوم المستقبل ؟
حين فكرت بما قاله محمد وجدته معقولاً جداً ، فأنا لا
تروقني مهنة التدريس على جلالها وقيمتها الأخلاقية الرفيعة ، وحديثه عن الاقتصاد
بوصفه من علوم المستقبل ألهب خيالي ، خاصة ونحن درسنا أوليات هذا العلم في
الثانوية ، وكنت يومها من محبيه ، ومن المعجبين بمدرسه الأستاذ صبري محمد حسن .
المهم أنني اقتنعت بنصيحة محمد الهاشمي فقدمت طلبي إلى
كلية الآداب ، وحددت في استمارة القبول قسم الاقتصاد ، فقبلت في هذا القسم ، وفيه
تخرجت عام 1962 . وبرغم أنني لم أزاول بعد تخرجي عملاً يتصل بهذا العلم ، بل
جرفتني الصحافة ، لم أندم قط على الدراسة فيه . فقد فتحت لي آفاقاً فكرية وثقافية
رحبة ، وجذبتني إلى ارتياد حقول معرفية عدة لولاها ما كنت لأرتادها في ذلك الزمن
المبكر من حياتي . جذبتني إلى الفكر والفلسفة والتاريخ والنظريات الاقتصادية
والتاريخ الاقتصادي وغيرها . فقد كنا ندرس في هذا القسم الاقتصاد النظري ، بخلاف
طلاب كلية التجارة ، وكان أساتذتنا بين مؤيد للاقتصاد الرأسمالي ، كالدكتور عبد
الرحمن الحبيب ، ومؤيد للاقتصاد الاشتراكي ، كالدكتور خزعل البيرماني ، وكان كل
منهم يزين لنا على طريقته ما يؤيده ، في حقبة اشتد فيها الصراع السياسي والفكري في
البلاد وفي أغلب الأقطار العربية .
قرأت في تلك الحقبة لكل من يخطر في الذهن من أعلام الفكر
الاشتراكي من كل الشعوب ، وأعلام الفكر القومي على اختلاف اتجاهاتهم السياسية ،
وكل ما وقع بين يدي من مؤلفات عن تاريخ العراق وتاريخ العرب قبل الإسلام ، وعن
الفلسفة اليونانية والفلسفة الوجودية ، دون أن أنقطع عن القراءات الأدبية في الشعر
والقصة والنقد . وأظن أن هذه القراءات مكنتني من مواكبة تلك الحقبة وتفهم أحداثها
والصراعات التي دارت خلالها ، وجعلتني أقدر في التعرف على طبيعة عصرنا وصراعاته
السياسية والآيديولوجية ، وكان لابد لهذا من أن يؤثر في تكويني الثقافي وفي
اختياراتي .
محمد الهاشمي أحدث دون أن يدري تحولاً عميقاً في حياتي ،
رغم أن علاقتي به ظلت فاترة وعابرة ، ولم أره منذ أن أنهى دراسته في الكلية حتى
اليوم ، ولست أعرف في أي أرض هو الآن ، ولا ماذا يعمل ، أو كيف يعيش .
ذكريات ( 15 )
شعر باللغة الإنكليزية
كانت لغتي الإنكليزية ممتازة منذ البداية . تعلمتها على
أيدي أساتذة كفوئين . في الفيصلية الابتدائية التي قضيت فيها عاماً دراسياً واحداً
علمونا هذه اللغة منذ الصف الرابع . كان الأستاذ إبراهيم ( نايلون ) يعلمنا إياها
في ساحة المدرسة وكأننا نمارس لعبة من الألعاب .
الأستاذ نديم ، مدرسنا في المتوسطة ، كان ضيق الصدر ،
سريع الغضب ، ولكنه كان قديراً ، وكان أول من التفت إلي وشجعني على تعلم هذه اللغة
، وأهداني في نهاية العام الثاني من دراستنا نسخة مبسطة من رواية مارك توين
الشهيرة ( توم سوير ) .
ولكن ألمع من درسنا الإنكليزية وأكفأهم أستاذ أنيق ،
هاديء ، ودود ، هو : بديل حَمّو . درّسنا في ثانوية الكرخ . ولما رأى مني حرصاً
ودأباً على تعلمها راح يتابعني ، وأهداني نسخة من مسرحية ( تاجر البندقية ) ونصحني
بأن أقرا ما أستطيع من مسرحيات شكسبير وبرنارد شو ، وقال لي : اقرأ هذه المسرحيات
ولا تبال بالصعوبات التي تواجهك ، فقراءة مسرح قوم من الأقوام من أفضل السبل لتعلم
لغتهم . وبناء على نصيحته اشتريت من مكتبة مكنزي مسرحيتين أخريين من مسرحيات
شكسبير هما : حلم ليلة صيف ، والملك لير ، ثم اشتريت مسرحية ثالثة هي مسرحية
برناردشو : بيغماليون . وعملت بهذه النصيحة حين تعلمت اللغة الفرنسية بعد عقدين من
الزمان .
والأستاذ حمّو هو من أخبرني بأن في أورزدي باك ( وهو أول
" مول " حقيقي عرفه العراق ) جناحاً صغيراً لبيع الكتب ، وأن هذا الجناح
يعرض كتباً ومجلات وصحفاً إنكليزية في وسعي أن أقتني منها ما أشاء . ومنذ ذلك
الحين أخذت أقوم بجولات أسبوعية راجلة في شارع الرشيد تأخذني إلى مكتبة مكنزي ، ثم
إلى أورزدي باك ، وتنتهي بفنجان قهوة في المقهى البرازيلي أحتسيه وأنا أتلفت من
حولي بحثاً عن وجوه أدباء كبار قيل لي إنهم من رواده . وبقيت هذه الجولة عادة من
عاداتي حتى أوائل السبيعينيات .
حين أنهيت دراستي الثانوية ودخلت كلية الآداب كان اثنان
من أساتذتنا من الإنكليز هما : السيد بنروز Pinrose والسيد هينز Hainze . كان الأول يدرسنا التاريخ الإقتصادي ، وكان الثاني يدرسنا اللغة
الإنكليزية . وكان كلاهما يلقي دروسه ويمتحننا فيها بهذه اللغة ، وكانت هي لغة كل
مراجعنا في الدروس الأخرى ، وخاصة دروس الدكتور عبد الرحمن الحبيب ، ولم أجد في ذلك أية صعوبة ، بل صرت أقرأ وأكتب
بهذه اللغة بيسر وطلاقة . وهذا ما شجعني على خوض مغامرة غير محسوبة ، فكتبت إحدى
عشرة قصيدة باللغة الإنكليزية .
كتبتها خلال العام الدراسي 1958 – 1959 وكانت أولاها
قصيدة تحيي جمال عبد الناصر دون أن تصرح باسمه ، عنوانها : Our generous father . كتبتها بعد أن قرأت لعبد الوهاب البياتي قصيدة يحيي فيها هذا
الرجل في ديوانه ( المجد للأطفال والزيتون ) . كتبت قصيدتي وقهقهت ، وقلت للبياتي
في سري : ها أنا اكتب قصيدة عن عبد الناصر خيراً من قصيدتك !
كان ذلك غروراً مني دون ريب ، ولكن هذا ما كان . وحين
عرضت قصائدي الإحدى عشرة على مستر هينز أعجب بها حد الدهشة ، وكتب لي عنها رسالة
إعجاب طويلة ، حتى أنني لم أصدق أن قصائدي كانت من الجودة والإدهاش بالمستوى الذي
تحدث عنه في رسالته .
ولكن المفارقة الكبيرة هي أنني كنت قد توقفت تماماً عن
كتابة الشعر باللغة العربية في تلك الحقبة ، ولم تكن كتابتي الشعر باللغة
الإنكليزية إلا مغامرة ، أو نزوة ، عابرة .
ذكريات (16)
كيف حصل ما حصل ؟
لا أعرف كيف
حصل ما حصل . لا أعرف لم توقفت عن كتابة الشعر بعد دخولي كلية الآداب بشهور . وكل
مسعى مني لمعرفة سبب هذا التوقف اليوم ليس سوى محاولة متأخرة للبحث عن تفسير أقنع
به نفسي قبل أن أقنع غيري .
لماذا توقفت
؟ أهي الانشغالات الدراسية الجديدة في شكلها ومحتواها ، أم الاستغراق في قراءة
الكتب الفكرية والتاريخية والفلسفية ، أم الأجواء السياسية الخانقة التي سادت في
تلك الحقبة والشعور بلا جدوى الكتابة الشعرية في تلك الأجواء ؟ ربما كل ذلك معاً ، وربما كانت هناك دوافع
غامضة أخرى ، ولكن الحقيقة الثابتة هي أنني توقفت عن كتابة الشعر في بداية عام
1959 ومزقت أغلب ما كنت كتبته ، ثم ألحقت به ما كنت كتبته باللغة الإنكليزية ،
ورحت أكتب أشياء أخرى : دراسة مطولة عن المسألة الزراعية في الصين الشعبية مثلاً !
أظن أن حلماً
رومانسياً اسمه ( الثورة ) هو ما أخذني وشغلني عن الشعر ، حتى صرت أرى هذا الحلم
أكبر من الشعر وأهم . هذا ما كنت أقوله لصديقي موفق خضر في الأقل . موفق كان هو
الوحيد من يلومني على توقفي ويحثني على العودة إلى الكتابة ، إذ يومها لم يعد لي
من صديق أديب سواه . زملاؤنا في الثانوية تفرقت بهم سبل الحياة ، والمجموعة
الأدبية الصغيرة التي كنا ننتمي إليها فرقتها السياسة ، وموفق نفسه صار يلتقي في
الكلية بمجموعة من طلبة قسم الاجتماع لا يجمعني بهم جامع . ولكنني صرت ألتقي به في
أصائل بعض الأيام في محل كبير لبيع الكماليات افتتحه له أبوه في شارع قريب من
منطقة سكناي .
كان موفق يقول لي وهو محق : تستطيع أن تواصل
حلمك هذا في الشعر نفسه ، ولكنني لم اقتنع بقوله . غير أنني ، وإن توقفت وانهمكت
في القراءات الفكرية والفلسفية والتاريخية ، لم أترك الأدب والقراءات الأدبية ،
وواصلت اقتناء الدواوين الشعرية ومتابعة المجلات الأدبية بانتظام ، ولاسيما مجلتا
الآداب وشعر اللبنانيتان .
في أية حال
كان إصراري على التوقف قراراً ساذجاً ، وكان يجب أن تمر ست سنوات أو سبع لأكتشف
سذاجته ، فقد تدفقت مني على غير ما توقع أو تحضير قصيدة هنأني عليها كل من قرأها
من أصدقائي ، وحثني على مواصلة الكتابة ، فواصلتها وأنا فرح سعيد بعودتي إلى الشعر
وعودته إلي ، وهذا هو المقطع الأول من تلك القصيدة :
عدْ بنا ،
عدْ بنا ، إن خبز القناعهْ
كان سمّاً ،
وكانت حكاياتنا في الشجاعهْ
سكرةً وانتهت
بالدوارْ ،
ثمّ لمّا
صحونا وجدنا الحقيقهْ
خرقةً ملَّ
منها شيوخُ الطريقهْ
عندما جرّبوا
بؤسَ هذي القفارْ .
يا زمانَ
الهوى ليس ثَمَّ انتظارْ
أو بقايا
شجاعهْ ،
يا زمانَ
الهوى ، أتعبتنا دروبُ الفرارْ
واختنقنا من
الخوفِ ، قئنا لبانَ الرضاعه .
لم أشعر عند
عودتي إلى كتابة الشعر بأن توقفي عنها كان خسارة ، بل كان ، على نحو ما ربحاً
كبيراً ، ولعله كان توقفاً ضرورياَ ، فقد عدت إليها وأنا أكثر نضجاً وامتلاء
وتدفقاً ، فلم يكد يمضي عام حتى أنجزت كتابة قصائد ديواني الأول : رماد الفجيعة ،
وقمت بنشره .
ذكريات (17)
رماد الفجيعة
هذا هو عنوان مجموعتي الشعرية الأولى التي صدرت في منتصف
عام 1966 ، ولكنني ندمت في ما بعد على صدورها بهذا العنوان . كنت أتمنى أن تصدر
بعنوان آخر أجمل منه أو أفضل ، غير أنني تعجلت فندمت .
تضم المجموعة أربع عشرة قصيدة ، كتب كلها بين نيسان 1965
وحزيران 1966 ، و كان منها قصيدة طويلة عنوانها ( من سيرة أبي ذرّ الغفاري ) مرت
من بين يدي الرقيب بعد أن أساء تأويل مقطع صغير من مقاطعها وطالبني بحذفه ، وهي ما
كانت لتمر لولا تدخل المدير العام للثقافة يومذاك ، الشاعر طيب الذكر : خالد
الشواف . فقد كان هذا الرجل النبيل متنوراً ، واسع الأفق ، رغم تدينه الأصيل وورعه
، فأجاز النص حالما اطلع عليه وعلى تأويله .
لكن الغريب أن أحد المشايخ كان سيطلع على النص نفسه
مصادفة بعد عشرين عاماً ، فيؤوله كما شاء له فهمه الضيق ، ويهاجمني في خطبة من
خطبه العصماء ، بلغت مسامع صديقي الشاعر عبد الرحمن طهمازي فجاء إلى مكتبي في
جريدة الجمهورية صباح اليوم التالي فزعاً ، فحكيت له الحكاية ، وأخبرته كيف أن هذا
الرجل لم يكتف بما قاله في خطبته ، بل كتب رسالة تحريض علي وطالب بمعاقبتي ، ولكن
تأويله رفض وسفّه ومرّ الأمر بسلام . ومع ذلك اضطررت إلى رفع القصيدة من المجموعة
عند نشر الجزء الأول من أعمالي الكاملة عام 1986 تجنباً للتقولات .
طبعت ( رماد الفجيعة ) على نفقتي الخاصة . يومها كنت
مفصولاً من عملي لأسباب سياسية ، فدفعت تكاليف الطبع من قرض حصلت عليه أم نوار من
مصرف الرافدين ، عندما كان هذا المصرف يقرض موظفي الدولة العاملين على الملاك
الدائم مبالغ مالية يستردها بأقساط شهرية تستقطع من رواتبهم .
كانت ( رماد الفجيعة ) أول ، أو ثاني ، مجموعة شعرية
يصدرها شاعر من شعراء الستينيات . ربما صدرت قبلها مجموعة الشاعر عمران القيسي (
الصمت لا يتعب الموتى ) . لا أذكر . ولكن صدور مجموعتي قوبل بحفاوة واسعة لم
أتوقعها ، حفاوة لم تقتصر على أصدقائي المقربين ، بل شملت مساحة مهمة من الوسط
الأدبي والثقافي ، فكُتِب عنها أكثر بكثير مما كُتِب عن غيرها ، حتى بلغ ما كُتِب
ثماني عشرة دراسة ومقالة ، وكان أول من كتب عنها الشاعر الموصلي الراحل : سالم
الخباز ، ثم تبعه آخرون ، نقاد وكتاب وشعراء أذكر منهم عبد الجبار داود البصري
وموسى العبيدي وعيسى العيسى ورشدي العامل وقيس الياسري .
الشاعر فاضل العزاوي كتب عنها هو الآخر مقالاً في جريدة
( الثورة العربية ) ولكن ما كتبه لم يكن نقداً أدبياً بريئاً ، بل هجوم شخصي
عدواني مباشر ، انطلق فيه من الإهداء الذي تصدّر المجموعة ليستخلص منه أخيراً أن
شعري ( شعر نفعي ) . أما لماذا هو ( شعر نفعي ) فلأنني أهديت المجموعة إلى زوجتي !
يومها لم أكن أعرف العزاوي إلا بالاسم ، فلم أكن قد التقيت به ، ولم تكن بيني
وبينه أية صلة من أي نوع ، وكان مقاله هجوماً على شخصي أكثر مما هو هجوم على شعري
، وهو ما أثار استغرابي ، وجعلني أحس بشيء من الإهانة ، فأخذتني حميّة الشباب
وعنجهيته ورددت عليه التحية بأحسن منها !
المهم أن المجموعة نالت استحسان النقاد والكتاب والشعراء
، وراجت في السوق رواجاً جيداً ، واستعدت كل ما أنفقته على طبعها خلال أقل من
أربعين يوماً .
ذكريات (20 )
حين وقعت معلمتي في غرامي
وصلت باريس في السابع من نيسان عام 1977 ، وكان علي أن أتعلم اللغة الفرنسية في معهد من معاهد تعليم هذه اللغة في أقرب وقت ، فتعلمها كان واجباً رسمياً مطلوباً مني تنفيذه ، وكنت أنا نفسي على شغف بتعلمها ، وهذا ماكان . فبعد أيام قلائل التحقت بمعهد مختص بتعليم هذه اللغة للأجانب في مدينة فيشي يدعى كافيلام CAVILAM وهذه هي الحروف الأولى من اسمه الطويل .
كان الدوام في هذا المعهد يومياً ، يبدأ من الساعة التاسعة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهراً ، ومن الساعة الثانية بعد الظهر حتى الرابعة عصراً ، أي بمعدل خمس ساعات يومياً عدا أيام الآحاد . أما طلاب المعهد فكلهم من الأجانب : ذكور وإناث ، عرب وألمان وإسبان وأفارقة ولاتينيون ويابانيون وغيرهم وغيرهم . وكانت مدة الدورة ثلاثة أشهر يتقدم فيها الطالب من مستوى إلى آخر .
في الشهر الأول من التحاقي بهذا المعهد كنت الطالب الوحيد في صفي ، وكانت معلمتي شابة جميلة ممشوقة القوام اسمها " كريستين بونفوا " . وكانت بونفوا هذه قد جاوزت الثلاثين من عمرها ، وبدا لي أنني أكبر منها بعدة سنوات ، ربما بأربع سنوات أو خمس . وكنت أقضي معها في الصف خمس ساعات مرهقة يومياً ، فقد كانت حريصة على تعليمي ومخلصة فيه ، لا تكاد تضيع دقيقة من وقت الدرس ، فما أكاد أجيبها على سؤال من اسئلتها حتى تلحقه بآخر . وكنت أتعلم منها بسرعة ، وأحضّر دروسي يومياً كأي تلميذ حريص نشيط .
لم يكد الشهر ينتهي حتى أحسست من تصرفاتها معي في سفرة طلابية من سفرات المعهد بأن كريستين صارت تحبني بالمعنى الذي نعرفه عن الحب . " وقعت في غرامي " كما تقول أم نوار . ولكنني أفهمتها بلباقة قبل أن تتمادى ، بأنني رجل متزوج ، ولي من زوجتي ثلاث بنات ، وأنني سعيد في حياتي الزوجية ومخلص لها وأمين عليها . وعنئذ كفّت عني ، وصار كلانا يتحفظ في كلامه ويحذر في تصرفاته ، حتى إذا التحقت بي أم نوار بطلب مني ، وسجلت معي طالبة في المعهد ، عرّفتها بكريستين ، فابتعدت هذه عني وقنطت ، ومضى كل شيء بسلام .
ولكن حدث بعدها حادث لم يكن في الحسبان . ذلك أن أم نوار جلبت معها بعض الهدايا بناء على توصية مني ، وكنت أنوي إهداء كريستين إحداها لفضلها الكبير علي ، فكان نصيبها حلية ذهبية تتكون من سلسلة يتدلى من وسطها تمثال " أسد بابل " فأخذتها فرحة شاكرة . غير أنها جاءتني في اليوم التالي وفي يدها الحلية وسألتني بانزعاج عن مغزاها ، فاتضح لي من كلامها أنها أوّلت وضعية الأسد وهو يجثم على إنسان تأويلاً جنسياً . فكان عليّ أن أشرح لها المغزى في رأي الآثاريين ، وأريها صورة للأثر لأقنعها بحسن نيتي وسلامة موقفي . وعندئذ اقتنعت واعتذرت ، وصرنا بعد هذا الحادث نتبادل تحايا عابرة نادراً ما تقودنا إلى ما هو أكثرمنها .
حين عدت في إجازتي السنوية للتسجيل في دورة أخرى متقدمة والحصول على شهادة DELF لم أجد كريستين هناك ، وأخبرتني زميلة لها بأنها تزوجت ووجدت عملاً آخر .
إنني أدين للآنسة كريستين بونفوا بالأساس القوي الذي وضعته لي في تعلم اللغة الفرنسية .
حين وقعت معلمتي في غرامي
وصلت باريس في السابع من نيسان عام 1977 ، وكان علي أن أتعلم اللغة الفرنسية في معهد من معاهد تعليم هذه اللغة في أقرب وقت ، فتعلمها كان واجباً رسمياً مطلوباً مني تنفيذه ، وكنت أنا نفسي على شغف بتعلمها ، وهذا ماكان . فبعد أيام قلائل التحقت بمعهد مختص بتعليم هذه اللغة للأجانب في مدينة فيشي يدعى كافيلام CAVILAM وهذه هي الحروف الأولى من اسمه الطويل .
كان الدوام في هذا المعهد يومياً ، يبدأ من الساعة التاسعة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهراً ، ومن الساعة الثانية بعد الظهر حتى الرابعة عصراً ، أي بمعدل خمس ساعات يومياً عدا أيام الآحاد . أما طلاب المعهد فكلهم من الأجانب : ذكور وإناث ، عرب وألمان وإسبان وأفارقة ولاتينيون ويابانيون وغيرهم وغيرهم . وكانت مدة الدورة ثلاثة أشهر يتقدم فيها الطالب من مستوى إلى آخر .
في الشهر الأول من التحاقي بهذا المعهد كنت الطالب الوحيد في صفي ، وكانت معلمتي شابة جميلة ممشوقة القوام اسمها " كريستين بونفوا " . وكانت بونفوا هذه قد جاوزت الثلاثين من عمرها ، وبدا لي أنني أكبر منها بعدة سنوات ، ربما بأربع سنوات أو خمس . وكنت أقضي معها في الصف خمس ساعات مرهقة يومياً ، فقد كانت حريصة على تعليمي ومخلصة فيه ، لا تكاد تضيع دقيقة من وقت الدرس ، فما أكاد أجيبها على سؤال من اسئلتها حتى تلحقه بآخر . وكنت أتعلم منها بسرعة ، وأحضّر دروسي يومياً كأي تلميذ حريص نشيط .
لم يكد الشهر ينتهي حتى أحسست من تصرفاتها معي في سفرة طلابية من سفرات المعهد بأن كريستين صارت تحبني بالمعنى الذي نعرفه عن الحب . " وقعت في غرامي " كما تقول أم نوار . ولكنني أفهمتها بلباقة قبل أن تتمادى ، بأنني رجل متزوج ، ولي من زوجتي ثلاث بنات ، وأنني سعيد في حياتي الزوجية ومخلص لها وأمين عليها . وعنئذ كفّت عني ، وصار كلانا يتحفظ في كلامه ويحذر في تصرفاته ، حتى إذا التحقت بي أم نوار بطلب مني ، وسجلت معي طالبة في المعهد ، عرّفتها بكريستين ، فابتعدت هذه عني وقنطت ، ومضى كل شيء بسلام .
ولكن حدث بعدها حادث لم يكن في الحسبان . ذلك أن أم نوار جلبت معها بعض الهدايا بناء على توصية مني ، وكنت أنوي إهداء كريستين إحداها لفضلها الكبير علي ، فكان نصيبها حلية ذهبية تتكون من سلسلة يتدلى من وسطها تمثال " أسد بابل " فأخذتها فرحة شاكرة . غير أنها جاءتني في اليوم التالي وفي يدها الحلية وسألتني بانزعاج عن مغزاها ، فاتضح لي من كلامها أنها أوّلت وضعية الأسد وهو يجثم على إنسان تأويلاً جنسياً . فكان عليّ أن أشرح لها المغزى في رأي الآثاريين ، وأريها صورة للأثر لأقنعها بحسن نيتي وسلامة موقفي . وعندئذ اقتنعت واعتذرت ، وصرنا بعد هذا الحادث نتبادل تحايا عابرة نادراً ما تقودنا إلى ما هو أكثرمنها .
حين عدت في إجازتي السنوية للتسجيل في دورة أخرى متقدمة والحصول على شهادة DELF لم أجد كريستين هناك ، وأخبرتني زميلة لها بأنها تزوجت ووجدت عملاً آخر .
إنني أدين للآنسة كريستين بونفوا بالأساس القوي الذي وضعته لي في تعلم اللغة الفرنسية .
ذكريات ( 21 )
تجربة في تعلم لغة أجنبية
حين كنت أتعلم اللغة الفرنسية في معهد كافيلام CAVILAM في مدينة فيشي ، وهو معهد متخصص بتعليم الأجانب هذه اللغة ، كنت أشعر بأنني أمام تحد ينبغي لي مواجهته والتغلب عليه بأي ثمن ، ولذا كنت أحرص على تحضير دروسي وكتابة واجباتي بهمة ونشاط ورغبة ، وعملت بنصيحة معلمتي " كريستين بونفوا " ، فرحت أحاول قراءة الصحف والمجلات ، أياً كانت ، ومتابعة برامج التلفزيون الفرنسي بقنواته الثلاث ، وحفظ الأغاني ، لا سيما أغاني جاك بريل وإديث بياف وشارل أزنافور ومغنية جميلة صاعدة اسمها ميراي ماتيو ، وكان هذا كله يغني حصيلة مفرداتي المتواضعة ، ويعلمني نطق الكلمات ، وييسر لي قراءة النصوص وفهمها ، ويعوضني إلى حد ما عن الاختلاط المباشر بأهل اللغة من سواد الناس ، على ضرورته .
تذكرت في هذا الخضم بعد حين ، نصيحة مدرس اللغة الإنكليزية في ثانوية الكرخ الأستاذ " بديل حمّو " في تقوية معرفتي بهذه اللغة عن طريق قراءة مسرحيات شكسبير دون اكتراث للصعوبات التي تواجهني عند قراءتها ، فاشتريت من صاحبة محل قرب المعهد تبيع فيه الكتب القديمة والحديثة نسختين قديمتين من مسرحيتي ألبير كامو : كاليغولا ، وسوء تفاهم ، ومنها صرت أتردد على هذا المحل أسبوعياً لأشتري ما يهمني من الدواوين الشعرية والمسرحيات وغيرها . وكانت صاحبة المحل ، وهي سيدة جميلة ، تتعجب من إقبالي على شراء هذه الكتب وهي ترى أن حديثي الركيك المتعثر معها لا يكشف عن مقدرة على قراءة ما أشتريه منها . فلم تمنع نفسها ذات يوم من أن تسألني عن ذلك ( قل لي : هل تستطيع قراءة ما تشتريه ؟! ) فقلت لها ضاحكاً : إنني أشتريه للمستقبل ، فصارت تتعاطف معي وتبيعني بسعر مخفض ، وتنبهني إلى كتب تعتقد أنها تهمني ، ومنها دواوين شعرية زهيدة الثمن لشعراء فرنسيين شبان لم أسمع بهم .
بقيت أعاني من صعوبة في التكلم بالفرنسية . كنت أفهم ما يقال لي وما أسمعه بسهولة ، ولكنني كنت أتلكأ كلما هممت بالتكلم . كانت مفردات اللغة تهرب مني حتى لينتابني بعض الخجل أحياناً . غير أن أغلب الناس هم من اللياقة والتهذيب واللطف بحيث يحاول فهمك ويعيد عليك الجملة التي نطقتها بعد تصحيحها دون أن يخجلك أو يحرجك أو يضيق بك ذرعاً ، ربما لتعودهم على السياح الأجانب والمهاجرين الجدد ، وربما لسرورهم بأن هناك من يريد تعلم لغتهم .
لازمتني هذه الصعوبة مدة عام تقريباً ، فكنت أستعين في اللقاءات والمناسبات المهمة بمترجم من العاملين معي في المركز الثقافي ، ولكن هذه الصعوبة كانت تتضاءل بمرور الأيام ، بالاختلاط بالناس ، والاستمرار في متابعة الصحف اليومية والمجلات الأدبية وبرامج التلفزيون ، وقراءة الدواوين الشعرية والمسرحيات ، حتى صرت أعتمد على نفسي في كل شؤوني ، فاستغنيت عن أية مساعدة .
لم أنقطع عن القراءة بالفرنسية بعد نقلي إلى بغداد ، بل واصلتها بالهمة نفسها . فقد اصطحبت معي ما كنت اشتريته من الكتب والمجلات الأدبية في فيشي وباريس ، وهي تعد بالعشرات ، وكان صديقي وزميلي جليل العطية يزودني بالصحف والمجلات الأدبية مثل : مغازين ليترير ولير ، وببعض الكتب أحياناً ، مع بريده الإسبوعي بوصفه مراسلاً لجريدة الجمهورية في باريس . وكنت كلما أحظى بسفرة إلى باريس أعود بشيء من الإصدارات الجديدة . وكانت آخر سفرة لي إلى هناك عام 2000 ، كنت مدعواً للمشاركة في مهرجان شعري ، وكان سعدي يوسف مدعواً هو الآخر غير أنه لم يحضر . حتى إذا وثقت بنفسي وعدّتي رحت أترجم مختارات من شعر جاك بريفير وهنري ميشو وألان بوسكيه وباول تسيلان وغيرهم ، ولهذا حديث آخر .
تجربة في تعلم لغة أجنبية
حين كنت أتعلم اللغة الفرنسية في معهد كافيلام CAVILAM في مدينة فيشي ، وهو معهد متخصص بتعليم الأجانب هذه اللغة ، كنت أشعر بأنني أمام تحد ينبغي لي مواجهته والتغلب عليه بأي ثمن ، ولذا كنت أحرص على تحضير دروسي وكتابة واجباتي بهمة ونشاط ورغبة ، وعملت بنصيحة معلمتي " كريستين بونفوا " ، فرحت أحاول قراءة الصحف والمجلات ، أياً كانت ، ومتابعة برامج التلفزيون الفرنسي بقنواته الثلاث ، وحفظ الأغاني ، لا سيما أغاني جاك بريل وإديث بياف وشارل أزنافور ومغنية جميلة صاعدة اسمها ميراي ماتيو ، وكان هذا كله يغني حصيلة مفرداتي المتواضعة ، ويعلمني نطق الكلمات ، وييسر لي قراءة النصوص وفهمها ، ويعوضني إلى حد ما عن الاختلاط المباشر بأهل اللغة من سواد الناس ، على ضرورته .
تذكرت في هذا الخضم بعد حين ، نصيحة مدرس اللغة الإنكليزية في ثانوية الكرخ الأستاذ " بديل حمّو " في تقوية معرفتي بهذه اللغة عن طريق قراءة مسرحيات شكسبير دون اكتراث للصعوبات التي تواجهني عند قراءتها ، فاشتريت من صاحبة محل قرب المعهد تبيع فيه الكتب القديمة والحديثة نسختين قديمتين من مسرحيتي ألبير كامو : كاليغولا ، وسوء تفاهم ، ومنها صرت أتردد على هذا المحل أسبوعياً لأشتري ما يهمني من الدواوين الشعرية والمسرحيات وغيرها . وكانت صاحبة المحل ، وهي سيدة جميلة ، تتعجب من إقبالي على شراء هذه الكتب وهي ترى أن حديثي الركيك المتعثر معها لا يكشف عن مقدرة على قراءة ما أشتريه منها . فلم تمنع نفسها ذات يوم من أن تسألني عن ذلك ( قل لي : هل تستطيع قراءة ما تشتريه ؟! ) فقلت لها ضاحكاً : إنني أشتريه للمستقبل ، فصارت تتعاطف معي وتبيعني بسعر مخفض ، وتنبهني إلى كتب تعتقد أنها تهمني ، ومنها دواوين شعرية زهيدة الثمن لشعراء فرنسيين شبان لم أسمع بهم .
بقيت أعاني من صعوبة في التكلم بالفرنسية . كنت أفهم ما يقال لي وما أسمعه بسهولة ، ولكنني كنت أتلكأ كلما هممت بالتكلم . كانت مفردات اللغة تهرب مني حتى لينتابني بعض الخجل أحياناً . غير أن أغلب الناس هم من اللياقة والتهذيب واللطف بحيث يحاول فهمك ويعيد عليك الجملة التي نطقتها بعد تصحيحها دون أن يخجلك أو يحرجك أو يضيق بك ذرعاً ، ربما لتعودهم على السياح الأجانب والمهاجرين الجدد ، وربما لسرورهم بأن هناك من يريد تعلم لغتهم .
لازمتني هذه الصعوبة مدة عام تقريباً ، فكنت أستعين في اللقاءات والمناسبات المهمة بمترجم من العاملين معي في المركز الثقافي ، ولكن هذه الصعوبة كانت تتضاءل بمرور الأيام ، بالاختلاط بالناس ، والاستمرار في متابعة الصحف اليومية والمجلات الأدبية وبرامج التلفزيون ، وقراءة الدواوين الشعرية والمسرحيات ، حتى صرت أعتمد على نفسي في كل شؤوني ، فاستغنيت عن أية مساعدة .
لم أنقطع عن القراءة بالفرنسية بعد نقلي إلى بغداد ، بل واصلتها بالهمة نفسها . فقد اصطحبت معي ما كنت اشتريته من الكتب والمجلات الأدبية في فيشي وباريس ، وهي تعد بالعشرات ، وكان صديقي وزميلي جليل العطية يزودني بالصحف والمجلات الأدبية مثل : مغازين ليترير ولير ، وببعض الكتب أحياناً ، مع بريده الإسبوعي بوصفه مراسلاً لجريدة الجمهورية في باريس . وكنت كلما أحظى بسفرة إلى باريس أعود بشيء من الإصدارات الجديدة . وكانت آخر سفرة لي إلى هناك عام 2000 ، كنت مدعواً للمشاركة في مهرجان شعري ، وكان سعدي يوسف مدعواً هو الآخر غير أنه لم يحضر . حتى إذا وثقت بنفسي وعدّتي رحت أترجم مختارات من شعر جاك بريفير وهنري ميشو وألان بوسكيه وباول تسيلان وغيرهم ، ولهذا حديث آخر .
ذكريات ( 23 )
قصة كتاب
كان ذلك في ربيع عام 1994 وكنت يومها بلا عمل تقريباً ، ولكنني كنت أصحو مبكراً كل صباح ، وأتناول فطوري كالمعتاد ، وأحلق لحيتي ، ثم أحمل حقيبتي وأمضي في طريقي بهمة موظف نشيط يحرص على أن يصل إلى دائرته قبل بدء الدوام الرسمي . كنت أذهب إلى المكتبة الوطنية في باب المعظم ، لأراجع أعداد المجلات العراقية ، الثقافية والأدبية والفنية ، التي صدرت بين عام 1945 وهو العام الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية ، والعام 1958 وهو العام الذي وقعت فيه ثورة 14 تموز ، وكان هدفي من هذه المراجعة البحث عن الإرهاصات المبكرة والتباشير الأولى لحركة تحديث الأدب والفن في العراق كما تجسدت على صفحات هذه المجلات ، وتأليف كتاب عنها .
مجلات كثيرة ، شهرية وأسبوعية ، صدرت خلال تلك الحقبة ، وكان نصيبها من إجراءات الغلق والتعطيل والمصادرة والمضايقة والحرمان من الإعلانات الرسمية وتقليل حصة الورق أو إلغائها كنصيب الصحف السياسية ، ولهذا ، ولأن أغلبها مشروعات فردية محدودة الإمكانات كانت ما تكاد تظهر حتى تختفي ، فهي إن لم يُلغَ امتيازها لأسباب سياسية أفلست لقلة مبيعاتها وشحة إعلاناتها واضطر صاحبها إلى إيقاف صدورها ، وهذا ما جعل إصدار أية مجلة مغامرة أقدم عليها كثيرون وتحاشاها كثيرون .
مجلات كثيرة ، قلت ، وهي : المجلة ، والرابطة ، وعالم الغد ، والفكر الحديث ، والبيان ، والجزيرة ، والرحاب ، والفنان ، والهاتف ، والأسبوع ، والثقافة الجديدة ، والملحق الأدبي لصوت الأهالي ، والقلم ، والفن الحديث ، والرسالة الجديدة ، والكاتب العربي ، والفصول الأربعة ، والمثقف ( وهي غير مجلة جمعية الخريجين ) والملحق الأسبوعي لجريدة الشعب ، والسينما ، والفنون ، وكان علي أن أراجعها كلها ، وأتصفح كلاً منها صفحة فصفحة بحثاً عن بغيتي ، ولم تكن بغيتي سوى اكتشاف الإرهاصات المبكرة والتباشير الأولى لتحديث الأدب والفن في بلادنا ، فلم أجدها إلا في ستّ منها هي : الفكر الحديث ، والوقت الضائع ، والأسبوع ، والثقافة الجديدة ، والكاتب العربي ، والفصول الأربعة .
كانت هناك مجلات أخرى مهمة دون ريب كالرابطة ، وعالم الغد ، والبيان ، والجزيرة ، والهاتف ، وملحق جريدة صوت الأهالي ، ولكنها لم تكن تنطوي على ما كنت أبحث عنه ، لم تكن ريادية في ما قدمته من فكر وأدب وفن ، بل كانت تجتر القيم والأفكار والمفهومات التي سادت قبل الحرب العالمية الثانية في الشعر والقصة والنقد والفن وغيرها ، ولذلك لم أدرسها في كتابي هي الأخرى ، بل اكتفيت بالإشارة إليها ، والتنويه بما يستحق التنويه منها .
أما المجلات الست فقد قرأتها كلها ، حرفاً فحرفاً ، حتى توصلت إلى ما أبتغيه ، وخرجت من كل ذلك بحصيلة كتابي ( المجلات العراقية الريادية ، ودورها في تحديث الأدب والفن 1945 – 1958 ) . ولم أكتف في تأليف هذا الكتاب بحصيلة قراءاتي ، بل قصدت من بقي على قيد الحياة من أصحاب تلك المجلات وهما : الفنان جميل حمودي صاحب مجلة " الفكر الحديث " والإعلامي الأستاذ خالص عزمي صاحب مجلة " الأسبوع " وأجريت مع كل منهما حواراً مباشراً حول مجلته ، واستحصلت منه شهادة مكتوبة عنها ، وكان كلاهما غاية في اللطف والكرم والود ، وعززت ذلك كله بثلاث وثائق هن ثلاث دراسات قصيرة .
وقد كان تصفح كل هذه المجلات وقراءتها ، ودراسة ما درسته منها وتأليف كتاب عنها ، رحلة ممتعة في حقبة مهمة من تاريخنا الأدبي والفني ، اكتشفت خلالها شخصيات مهمة وطموحة ، وريادية حقاً ، كان لكل منها دور طليعي مرموق في تلك الحقبة ، يوم كانت كلها ما تزال في أوج شبابها ، ومن أبرز هذه الشخصيات : الفنان جميل حمودي ، والناقد نهاد التكرلي ، والأكلديمي الدكتور صلاح خالص ، والشاعر بلند الحيدري ، والإعلامي خالص عزمي ، والكاتب عدنان رؤوف ، والكاتب ( اليهودي ) نعيم قطان .
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1995 ولكنها نفدت في حينها ، ورأت دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر إصدار طبعة ثانية منه تلبي حاجة الأجيال الجديدة إلى التعرف على تلك الحقبة من تاريخنا الأدبي والفني ، وعلى الإرهاصات المبكرة والتباشير الأولى من حركة تحديث الأدب والفن في بلادنا ، انسجاماً مع دورها المشهود في خدمة ثقافتنا الوطنية ، والكتاب الآن تحت الطبع .
قصة كتاب
كان ذلك في ربيع عام 1994 وكنت يومها بلا عمل تقريباً ، ولكنني كنت أصحو مبكراً كل صباح ، وأتناول فطوري كالمعتاد ، وأحلق لحيتي ، ثم أحمل حقيبتي وأمضي في طريقي بهمة موظف نشيط يحرص على أن يصل إلى دائرته قبل بدء الدوام الرسمي . كنت أذهب إلى المكتبة الوطنية في باب المعظم ، لأراجع أعداد المجلات العراقية ، الثقافية والأدبية والفنية ، التي صدرت بين عام 1945 وهو العام الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية ، والعام 1958 وهو العام الذي وقعت فيه ثورة 14 تموز ، وكان هدفي من هذه المراجعة البحث عن الإرهاصات المبكرة والتباشير الأولى لحركة تحديث الأدب والفن في العراق كما تجسدت على صفحات هذه المجلات ، وتأليف كتاب عنها .
مجلات كثيرة ، شهرية وأسبوعية ، صدرت خلال تلك الحقبة ، وكان نصيبها من إجراءات الغلق والتعطيل والمصادرة والمضايقة والحرمان من الإعلانات الرسمية وتقليل حصة الورق أو إلغائها كنصيب الصحف السياسية ، ولهذا ، ولأن أغلبها مشروعات فردية محدودة الإمكانات كانت ما تكاد تظهر حتى تختفي ، فهي إن لم يُلغَ امتيازها لأسباب سياسية أفلست لقلة مبيعاتها وشحة إعلاناتها واضطر صاحبها إلى إيقاف صدورها ، وهذا ما جعل إصدار أية مجلة مغامرة أقدم عليها كثيرون وتحاشاها كثيرون .
مجلات كثيرة ، قلت ، وهي : المجلة ، والرابطة ، وعالم الغد ، والفكر الحديث ، والبيان ، والجزيرة ، والرحاب ، والفنان ، والهاتف ، والأسبوع ، والثقافة الجديدة ، والملحق الأدبي لصوت الأهالي ، والقلم ، والفن الحديث ، والرسالة الجديدة ، والكاتب العربي ، والفصول الأربعة ، والمثقف ( وهي غير مجلة جمعية الخريجين ) والملحق الأسبوعي لجريدة الشعب ، والسينما ، والفنون ، وكان علي أن أراجعها كلها ، وأتصفح كلاً منها صفحة فصفحة بحثاً عن بغيتي ، ولم تكن بغيتي سوى اكتشاف الإرهاصات المبكرة والتباشير الأولى لتحديث الأدب والفن في بلادنا ، فلم أجدها إلا في ستّ منها هي : الفكر الحديث ، والوقت الضائع ، والأسبوع ، والثقافة الجديدة ، والكاتب العربي ، والفصول الأربعة .
كانت هناك مجلات أخرى مهمة دون ريب كالرابطة ، وعالم الغد ، والبيان ، والجزيرة ، والهاتف ، وملحق جريدة صوت الأهالي ، ولكنها لم تكن تنطوي على ما كنت أبحث عنه ، لم تكن ريادية في ما قدمته من فكر وأدب وفن ، بل كانت تجتر القيم والأفكار والمفهومات التي سادت قبل الحرب العالمية الثانية في الشعر والقصة والنقد والفن وغيرها ، ولذلك لم أدرسها في كتابي هي الأخرى ، بل اكتفيت بالإشارة إليها ، والتنويه بما يستحق التنويه منها .
أما المجلات الست فقد قرأتها كلها ، حرفاً فحرفاً ، حتى توصلت إلى ما أبتغيه ، وخرجت من كل ذلك بحصيلة كتابي ( المجلات العراقية الريادية ، ودورها في تحديث الأدب والفن 1945 – 1958 ) . ولم أكتف في تأليف هذا الكتاب بحصيلة قراءاتي ، بل قصدت من بقي على قيد الحياة من أصحاب تلك المجلات وهما : الفنان جميل حمودي صاحب مجلة " الفكر الحديث " والإعلامي الأستاذ خالص عزمي صاحب مجلة " الأسبوع " وأجريت مع كل منهما حواراً مباشراً حول مجلته ، واستحصلت منه شهادة مكتوبة عنها ، وكان كلاهما غاية في اللطف والكرم والود ، وعززت ذلك كله بثلاث وثائق هن ثلاث دراسات قصيرة .
وقد كان تصفح كل هذه المجلات وقراءتها ، ودراسة ما درسته منها وتأليف كتاب عنها ، رحلة ممتعة في حقبة مهمة من تاريخنا الأدبي والفني ، اكتشفت خلالها شخصيات مهمة وطموحة ، وريادية حقاً ، كان لكل منها دور طليعي مرموق في تلك الحقبة ، يوم كانت كلها ما تزال في أوج شبابها ، ومن أبرز هذه الشخصيات : الفنان جميل حمودي ، والناقد نهاد التكرلي ، والأكلديمي الدكتور صلاح خالص ، والشاعر بلند الحيدري ، والإعلامي خالص عزمي ، والكاتب عدنان رؤوف ، والكاتب ( اليهودي ) نعيم قطان .
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1995 ولكنها نفدت في حينها ، ورأت دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر إصدار طبعة ثانية منه تلبي حاجة الأجيال الجديدة إلى التعرف على تلك الحقبة من تاريخنا الأدبي والفني ، وعلى الإرهاصات المبكرة والتباشير الأولى من حركة تحديث الأدب والفن في بلادنا ، انسجاماً مع دورها المشهود في خدمة ثقافتنا الوطنية ، والكتاب الآن تحت الطبع .
ذكريات ( 24 )
لكي لا تفسده الدروب
بعد يومين من بدء العطلة الصيفية سمعت أمي تقول لأبي : ها هي العطلة قد بدأت ولا يصح أن نترك الولد يسرح في الدروب . فقال لها : إنه ولد عاقل لا خشية عليه . ولكنها ردت عليه قائلة : الدروب تفسد حتى العاقلين . وعندئذ قال : إذن أصحبه معي إلى الدكان . فوافقته وقالت : لعل هذا أفضل له ولنا . وهكذا فرض علي ، دون تعسف ظاهر ، أن أذهب معه ، وأجلس على صفيحة عند باب دكانه ، متفرجاً على المارة في السوق ، أو ملبياً له طلباً من طلباته القليلة البسيطة .
كان ذلك عام 1952 ، وكان أبي سمكرياً متواضعاً ، فتح دكانه هذا بعد فصله من عمله في شركة الزيوت النباتية ، لأنه دعا ( وكان عضواً في حزب الاستقلال ) إلى الإضراب عن العمل في الشركة ، ولم يمض على وجودي معه في الدكان سوى يومين أو ثلاثة ، حتى جاءه صديق من أصدقائه وطلب أن يساعده في البحث عن فتى نشيط وأمين ( وإبن أوادم ) يساعده في دكانه . وتمنيت في اللحظة أن أكون أنا هذا الفتى ، فقد كنت ضجراً من هذا القيد الذي قيدت به وشعرت بالضيق منه . كنت أشعر وكأنني سجين ، رغم محاولات أبي في إلهائي واصطحابي معه بعد الظهر لنسبح في دجلة ، ولكنني لم أكن أجرؤ على الاحتجاج والتملص .
بعد ذهاب صديقه ، قال أبي وكأنه يحدث نفسه : ومن أين آتيه بمثل هذا الفتى : نشيط وأمين وإبن أوادم ؟ فأجبته دون تردد : أنا يا أبي ! فبهت ونظر إلي بعينين مستغربتين : أنت ؟! بلى ، قلت ، أنا وماذا في ذلك ؟! أليس هذا العمل أفضل من هذه القعدة المضجرة ؟! فضحك وقال : إن أنا وافقت فإن أمك لن توافق ، ومع ذلك دعنا نسألها . وسألها في المساء فقالت مستنكرة : أتريده أن يعمل الولد ( صانعاً ) عند رجل غريب ؟! وماذا نقول للعالم وهو إبننا الوحيد ؟! فرد عليها : نقول أن يعمل إبننا خير من أن يسرح في الدروب بلا رقيب . وفي صباح اليوم التالي صحبني إلى دكان صديقه وسلمني إياه وهو يقول : خذ ، هذا ابني يمكن أن يعمل معك حتى تجد بديلاً له قبل نهاية العطلة ، ففوجيء الرجل ، ولكنه سرّ ورحب بي أحسن ترحيب .
كان الرجل يكنى بـ ( أبي رضيّة ) . ورضيّة هي ابنته الكبرى ، عمرها في مثل عمري ، وهي جميلة جداً مثل وردة في بواكير تفتحها . قال لي بعد ذهاب أبي : أريدك أن تتعلم العمل في هذا المحل ، تجلس هنا ، وأشار بيده إلى كرسي ، وتراقب كيف أعمل ، كيف أساوم ، وأبيع ، وأزن ما أبيعه ، وأعبيء ما أزنه في أكياس . وتعلمت ، تعلمت بسرعة : عرفت الأوزان ( العيارات ) بنوعيها ، والحدود الدنيا لأسعار بيع البضائع ، فقد كان الدكان متخصصاً ببيع الحاجات المنزلية المتنوعة : الرز بأنواعه ، والسمن بأنواعه ، والسكر والشاي والقند بأنواعها ، والقدور والصينيات المصنوعة من القصدير ، والقواري والإستكانات ، وغيرها ، وغيرها . وقبل أن ينتهي الأسبوع الأول من عملي في الدكان كلّفني بالمساومة والبيع والوزن تحت إشرافه ، حتى إذا وثق من كفاءتي صار يتركني وحدي في الدكان ويذهب هو إلى البيت ليتغدّى ويستريح وقت القيلولة ، ويذهب مرة في الأسبوع إلى الشورجة للتسوق .
كان المحل قريباً من مدخل سوق الشواكة ومن علوة بيع الأسماك قبل انتقالها إلى مبنى جديد في شارع الجصّاصة ( صنّاع الجص وباعته ) . كان بين بين . وكثير من زبائنه كانوا من أرياف هور رجب واللطيفية والمحمودية ، ولكل منهم يوم يأتي فيه إلى بغداد ليبيع منتوجاته ويتسوّق من محلاتها ويعود بما تسوّقه إلى أهله ، فعرفني أبو رضيّة بهم واحداً فواحداً ، وصرت ألبي طلباتهم في غيابه . وخلاصة الأمر أن الرجل كان فرحاً بعملي معه ، وكان كثير الثناء عليّ في حضوري وغيابي ، ولم أسمع منه كلمة توبيخ أو لوم طوال مدة عملي معه ، وكان يعطيني في نهاية كل يوم مبلغ خمسين فلساً ( درهماً ) حتى تركي العمل في نهاية العطلة . أما أنا فكنت أنفق في كل يوم جزءاً من ( يوميّتي ) هذه في شراء إحدى جريدتين : الأهالي ، أو لواء الإستقلال ، وأحياناً كنت أشتري جريدة الجبهة الشعبية إن كان فيها مقال للراحل الفذ : محمد رضا الشبيبي ، فقد سمعت أبي وهو يثني عليه . وأما بقية المبلغ فكنت أوفره لشراء كتابين أو ثلاثة في كل شهر . وكانت هذه هي العتبة الأولى لدخولي عالم الأدب وعالم السياسة .
ذكريات ( 25 )
مجلة الأديب
ذات يوم من أيام عام 1979 اتصل بي هاتفياً رجل عرفت من لهجته أنه لبناني ، وطلب مني بكل تهذيب أن أسمح له بزيارتي في مكتبي في المركز الثقافي العراقي في باريس . ولما سألته عن الغرض من هذه الزيارة قال : لا غرض عندي سوى السلام عليك ، ألست مدير المركز ؟ قلت : بلى ، فقال : وأنا أريد أن أزورك وأحييك لأنني معجب بنشاط مركزكم ، فرحبت به واتفقت معه على موعد ، وجاءني فيه .
كان مركزنا يحتل مبنى كاملاً من تلك المباني الفخمة المطلة على ساحة النجمة الشهيرة ( Place de l Etoile ) . وكان مالك هذا المبنى داسو ( Dassault ) صاحب الشركة التي تنتج الطائرة الفرنسية المقاتلة المعروفة : ميراج ( Mirage ) فتساهل معنا في مبلغ الإيجار لما بينه وبين الحكومة العراقية من تعاملات . وكان للمركز يومئذ برامج موسمية زاخرة ومتتابعة ، وله أصدقاء وجمهور واسع من الفرنسيين والعرب المقيمين : معارض وفعاليات ثقافية وأدبية متنوعة ، وكنا نعلن عنها بشتى وسائل الإعلان . ولم يكن للأقطار العربية الأخرى يومئذ مراكز ثقافية باستثناء المركز الثقافي المصري ، وكان مركزنا يتفوق عليه كثيراً بنوعية برامجه ، لأن الطابع السياحي كان هو الغالب على المركز المصري .
قلت ، جاءني الرجل اللبناني ( نسيت اسمه مع الأسف ) في الموعد المحدد ، وكان يحمل بيده مجلدأً كبيراً ، وجلس وهو يضع المجلد على ركبتيه ، ثم راح يثني على المركز ونشاطه وفخامة مبناه وسعته وحسن إدارته بما أسعدني وأراحني ، وقال : هذه أول مرة أرى في باريس مركزاً ثقافياً عربياً بهذه الفخامة وهذه النوعية من النشاط ، ونسب فضل ذلك إلي بوصفي مديره ، وهو في الواقع ليس لي وحدي بل لكثيرين من زملائي أيضاً ، مساعدين وستشارين . وما إن أكمل الرجل ارتشاف قهوته حتى نهض ونهضت معه فقدم لي المجلد الذي كان يحمله وهو يقول : هذا المجلد هدية لك ، وهو أفضل ما أستطيع تقديمه احتراماً لجهودك في إدارة هذا المركز ، فأخذته منه وشكرته ورافقته حتى الباب الخارجي تقديراً لمبادرته ، وبقيت أحتفظ بهديته حتى اليوم .
كانت مظاهر القدم بادية على المجلد ، ولما فتحته وتصفحته وجدته يضم الأعداد الستة الأولى من مجلة ( الأديب ) اللبنانية ، واكتشفت أن العدد الأول من هذه المجلة صدر في كانون الثاني من عام 1942 ، أي أنه صدر ونيران الحرب العالمية الثانية في أوج اشتعالها واتساع رقعتها ، وظهر أن المجلة ليست معنية بالأدب وحده ، بل بالسياسة أيضاً ، فقد كانت ، بما تنشره من مقالات وتقارير سياسية وعسكرية ، منبراً من منابر الدعاية للحلفاء ضد ألمانيا النازية . ولاحظت أن خيرة أدباء لبنان وشعرائها وكتابها ، في تلك الحقبة ، كانوا ينشرون فيها ومنهم ألبير اديب صاحب المجلة ، وعمر فاخوري ، وجبران ثويني ( والد غسان ثويني ) وصلاح الأسير ، وإلياس أبو شبكة ، وكرم ملحم كرم ، ونقولا فياض ، ورشدي المعلوف ، وعيسى المعلوف ، ويوسف غصوب ، وقسطنطين زريق ، ومارون عبود ، وميخائيل نعيمة ، وآحاد من السوريين ، ولا أحد من الأقطار العربية الأخرى ، بما فيها العراق .
ومما لاحظته أن المجلة لم تغير شكل غلافها وألوانه منذ عددها الأول حتى آخر أعدادها . ولم يطرأ أي تغيير جوهري على تقاليدها ، وربما كان التوقف عن نشر زاويتها الطبية ، ومقالاتها السياسية وتقاريرها العسكرية ، أهم تغيير طرأ عليها . ولست أدري متى بدأ الأدباء العراقيون النشر على صفحاتها ، ربما في أواخر أربعينيات القرن العشرين ، ولكنهم أكثروا من النشر فيها ابتداء من مطلع عام 1950 ، حتى أصبحت مجلتهم المفضلة بعد احتجاب مجلة ( الرسالة ) المصرية ، وأبرز من نشر فيها ، بحسب متباعاتي ، الناقد والمترجم نهاد التكرلي ، والشعراء : عبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري ومحمود البريكان ( كان ينشر قصائد عمودية ) والقاص عبد الملك نوري ، ولكن التكرلي والبياتي كانا الأكثر نشراً من بقية زملائهم .
بدأ نجم هذه المجلة يخبو بعد صدور مجلة ( الآداب ) في كانون الثاني من عام 1953 ، وزاد أوضاعها صعوبة صدور مجلات أخرى في مختلف الأقطار العربية ، ولكنها ظلت تقاوم الظروف الصعبة وتتشبث بالحياة حتى عام 1983 ، أي قبل وفاة صاحبها ألبير أديب بسنتين . ولد البير أديب عام 1908 وتوفي عام 1985 ، وكان ممن خدموا الأدب العربي خدمة جليلة في تلك الحقبة .
لكي لا تفسده الدروب
بعد يومين من بدء العطلة الصيفية سمعت أمي تقول لأبي : ها هي العطلة قد بدأت ولا يصح أن نترك الولد يسرح في الدروب . فقال لها : إنه ولد عاقل لا خشية عليه . ولكنها ردت عليه قائلة : الدروب تفسد حتى العاقلين . وعندئذ قال : إذن أصحبه معي إلى الدكان . فوافقته وقالت : لعل هذا أفضل له ولنا . وهكذا فرض علي ، دون تعسف ظاهر ، أن أذهب معه ، وأجلس على صفيحة عند باب دكانه ، متفرجاً على المارة في السوق ، أو ملبياً له طلباً من طلباته القليلة البسيطة .
كان ذلك عام 1952 ، وكان أبي سمكرياً متواضعاً ، فتح دكانه هذا بعد فصله من عمله في شركة الزيوت النباتية ، لأنه دعا ( وكان عضواً في حزب الاستقلال ) إلى الإضراب عن العمل في الشركة ، ولم يمض على وجودي معه في الدكان سوى يومين أو ثلاثة ، حتى جاءه صديق من أصدقائه وطلب أن يساعده في البحث عن فتى نشيط وأمين ( وإبن أوادم ) يساعده في دكانه . وتمنيت في اللحظة أن أكون أنا هذا الفتى ، فقد كنت ضجراً من هذا القيد الذي قيدت به وشعرت بالضيق منه . كنت أشعر وكأنني سجين ، رغم محاولات أبي في إلهائي واصطحابي معه بعد الظهر لنسبح في دجلة ، ولكنني لم أكن أجرؤ على الاحتجاج والتملص .
بعد ذهاب صديقه ، قال أبي وكأنه يحدث نفسه : ومن أين آتيه بمثل هذا الفتى : نشيط وأمين وإبن أوادم ؟ فأجبته دون تردد : أنا يا أبي ! فبهت ونظر إلي بعينين مستغربتين : أنت ؟! بلى ، قلت ، أنا وماذا في ذلك ؟! أليس هذا العمل أفضل من هذه القعدة المضجرة ؟! فضحك وقال : إن أنا وافقت فإن أمك لن توافق ، ومع ذلك دعنا نسألها . وسألها في المساء فقالت مستنكرة : أتريده أن يعمل الولد ( صانعاً ) عند رجل غريب ؟! وماذا نقول للعالم وهو إبننا الوحيد ؟! فرد عليها : نقول أن يعمل إبننا خير من أن يسرح في الدروب بلا رقيب . وفي صباح اليوم التالي صحبني إلى دكان صديقه وسلمني إياه وهو يقول : خذ ، هذا ابني يمكن أن يعمل معك حتى تجد بديلاً له قبل نهاية العطلة ، ففوجيء الرجل ، ولكنه سرّ ورحب بي أحسن ترحيب .
كان الرجل يكنى بـ ( أبي رضيّة ) . ورضيّة هي ابنته الكبرى ، عمرها في مثل عمري ، وهي جميلة جداً مثل وردة في بواكير تفتحها . قال لي بعد ذهاب أبي : أريدك أن تتعلم العمل في هذا المحل ، تجلس هنا ، وأشار بيده إلى كرسي ، وتراقب كيف أعمل ، كيف أساوم ، وأبيع ، وأزن ما أبيعه ، وأعبيء ما أزنه في أكياس . وتعلمت ، تعلمت بسرعة : عرفت الأوزان ( العيارات ) بنوعيها ، والحدود الدنيا لأسعار بيع البضائع ، فقد كان الدكان متخصصاً ببيع الحاجات المنزلية المتنوعة : الرز بأنواعه ، والسمن بأنواعه ، والسكر والشاي والقند بأنواعها ، والقدور والصينيات المصنوعة من القصدير ، والقواري والإستكانات ، وغيرها ، وغيرها . وقبل أن ينتهي الأسبوع الأول من عملي في الدكان كلّفني بالمساومة والبيع والوزن تحت إشرافه ، حتى إذا وثق من كفاءتي صار يتركني وحدي في الدكان ويذهب هو إلى البيت ليتغدّى ويستريح وقت القيلولة ، ويذهب مرة في الأسبوع إلى الشورجة للتسوق .
كان المحل قريباً من مدخل سوق الشواكة ومن علوة بيع الأسماك قبل انتقالها إلى مبنى جديد في شارع الجصّاصة ( صنّاع الجص وباعته ) . كان بين بين . وكثير من زبائنه كانوا من أرياف هور رجب واللطيفية والمحمودية ، ولكل منهم يوم يأتي فيه إلى بغداد ليبيع منتوجاته ويتسوّق من محلاتها ويعود بما تسوّقه إلى أهله ، فعرفني أبو رضيّة بهم واحداً فواحداً ، وصرت ألبي طلباتهم في غيابه . وخلاصة الأمر أن الرجل كان فرحاً بعملي معه ، وكان كثير الثناء عليّ في حضوري وغيابي ، ولم أسمع منه كلمة توبيخ أو لوم طوال مدة عملي معه ، وكان يعطيني في نهاية كل يوم مبلغ خمسين فلساً ( درهماً ) حتى تركي العمل في نهاية العطلة . أما أنا فكنت أنفق في كل يوم جزءاً من ( يوميّتي ) هذه في شراء إحدى جريدتين : الأهالي ، أو لواء الإستقلال ، وأحياناً كنت أشتري جريدة الجبهة الشعبية إن كان فيها مقال للراحل الفذ : محمد رضا الشبيبي ، فقد سمعت أبي وهو يثني عليه . وأما بقية المبلغ فكنت أوفره لشراء كتابين أو ثلاثة في كل شهر . وكانت هذه هي العتبة الأولى لدخولي عالم الأدب وعالم السياسة .
ذكريات ( 25 )
مجلة الأديب
ذات يوم من أيام عام 1979 اتصل بي هاتفياً رجل عرفت من لهجته أنه لبناني ، وطلب مني بكل تهذيب أن أسمح له بزيارتي في مكتبي في المركز الثقافي العراقي في باريس . ولما سألته عن الغرض من هذه الزيارة قال : لا غرض عندي سوى السلام عليك ، ألست مدير المركز ؟ قلت : بلى ، فقال : وأنا أريد أن أزورك وأحييك لأنني معجب بنشاط مركزكم ، فرحبت به واتفقت معه على موعد ، وجاءني فيه .
كان مركزنا يحتل مبنى كاملاً من تلك المباني الفخمة المطلة على ساحة النجمة الشهيرة ( Place de l Etoile ) . وكان مالك هذا المبنى داسو ( Dassault ) صاحب الشركة التي تنتج الطائرة الفرنسية المقاتلة المعروفة : ميراج ( Mirage ) فتساهل معنا في مبلغ الإيجار لما بينه وبين الحكومة العراقية من تعاملات . وكان للمركز يومئذ برامج موسمية زاخرة ومتتابعة ، وله أصدقاء وجمهور واسع من الفرنسيين والعرب المقيمين : معارض وفعاليات ثقافية وأدبية متنوعة ، وكنا نعلن عنها بشتى وسائل الإعلان . ولم يكن للأقطار العربية الأخرى يومئذ مراكز ثقافية باستثناء المركز الثقافي المصري ، وكان مركزنا يتفوق عليه كثيراً بنوعية برامجه ، لأن الطابع السياحي كان هو الغالب على المركز المصري .
قلت ، جاءني الرجل اللبناني ( نسيت اسمه مع الأسف ) في الموعد المحدد ، وكان يحمل بيده مجلدأً كبيراً ، وجلس وهو يضع المجلد على ركبتيه ، ثم راح يثني على المركز ونشاطه وفخامة مبناه وسعته وحسن إدارته بما أسعدني وأراحني ، وقال : هذه أول مرة أرى في باريس مركزاً ثقافياً عربياً بهذه الفخامة وهذه النوعية من النشاط ، ونسب فضل ذلك إلي بوصفي مديره ، وهو في الواقع ليس لي وحدي بل لكثيرين من زملائي أيضاً ، مساعدين وستشارين . وما إن أكمل الرجل ارتشاف قهوته حتى نهض ونهضت معه فقدم لي المجلد الذي كان يحمله وهو يقول : هذا المجلد هدية لك ، وهو أفضل ما أستطيع تقديمه احتراماً لجهودك في إدارة هذا المركز ، فأخذته منه وشكرته ورافقته حتى الباب الخارجي تقديراً لمبادرته ، وبقيت أحتفظ بهديته حتى اليوم .
كانت مظاهر القدم بادية على المجلد ، ولما فتحته وتصفحته وجدته يضم الأعداد الستة الأولى من مجلة ( الأديب ) اللبنانية ، واكتشفت أن العدد الأول من هذه المجلة صدر في كانون الثاني من عام 1942 ، أي أنه صدر ونيران الحرب العالمية الثانية في أوج اشتعالها واتساع رقعتها ، وظهر أن المجلة ليست معنية بالأدب وحده ، بل بالسياسة أيضاً ، فقد كانت ، بما تنشره من مقالات وتقارير سياسية وعسكرية ، منبراً من منابر الدعاية للحلفاء ضد ألمانيا النازية . ولاحظت أن خيرة أدباء لبنان وشعرائها وكتابها ، في تلك الحقبة ، كانوا ينشرون فيها ومنهم ألبير اديب صاحب المجلة ، وعمر فاخوري ، وجبران ثويني ( والد غسان ثويني ) وصلاح الأسير ، وإلياس أبو شبكة ، وكرم ملحم كرم ، ونقولا فياض ، ورشدي المعلوف ، وعيسى المعلوف ، ويوسف غصوب ، وقسطنطين زريق ، ومارون عبود ، وميخائيل نعيمة ، وآحاد من السوريين ، ولا أحد من الأقطار العربية الأخرى ، بما فيها العراق .
ومما لاحظته أن المجلة لم تغير شكل غلافها وألوانه منذ عددها الأول حتى آخر أعدادها . ولم يطرأ أي تغيير جوهري على تقاليدها ، وربما كان التوقف عن نشر زاويتها الطبية ، ومقالاتها السياسية وتقاريرها العسكرية ، أهم تغيير طرأ عليها . ولست أدري متى بدأ الأدباء العراقيون النشر على صفحاتها ، ربما في أواخر أربعينيات القرن العشرين ، ولكنهم أكثروا من النشر فيها ابتداء من مطلع عام 1950 ، حتى أصبحت مجلتهم المفضلة بعد احتجاب مجلة ( الرسالة ) المصرية ، وأبرز من نشر فيها ، بحسب متباعاتي ، الناقد والمترجم نهاد التكرلي ، والشعراء : عبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري ومحمود البريكان ( كان ينشر قصائد عمودية ) والقاص عبد الملك نوري ، ولكن التكرلي والبياتي كانا الأكثر نشراً من بقية زملائهم .
بدأ نجم هذه المجلة يخبو بعد صدور مجلة ( الآداب ) في كانون الثاني من عام 1953 ، وزاد أوضاعها صعوبة صدور مجلات أخرى في مختلف الأقطار العربية ، ولكنها ظلت تقاوم الظروف الصعبة وتتشبث بالحياة حتى عام 1983 ، أي قبل وفاة صاحبها ألبير أديب بسنتين . ولد البير أديب عام 1908 وتوفي عام 1985 ، وكان ممن خدموا الأدب العربي خدمة جليلة في تلك الحقبة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق