الخميس، 18 يوليو 2013

تحديات ما بعد الانسحاب الأميركي من العراق



 تحديات ما بعد الانسحاب الأميركي من العراق
ا.د.إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث-جامعة الموصل
    صدر عن مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن، في 23 ديسمبر/كانون الأول 2003، تقرير وضعه الخبير الاستراتيجي الأمريكي أنطوني كوردسمان، أشار فيه إلى الأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها الإدارة الأمريكية في العراق بعد الاحتلال وأبرزها: (حل الجيش العراقي) و(الفشل في إيجاد توازن بين القوى السياسية) و(التشجيع على مبدأ المحاصة الطائفية) و(الفشل في ضبط الأمن وتحقيق الاستقرار) و(الفشل في إيجاد موازنات جديدة في العلاقات مع جيران العراق تكفل عدم تهديدهم له أو تدخلهم في شؤونه)، وأخيرا (عدم القدرة على إعادة الأعمار) و(الفشل في تفعيل الخدمات الضرورية للمواطنين كالماء والكهرباء والتعليم والصحة).
    نشرت مجلة (الشؤون الخارجية) الأمريكية في أعدادها التي صدرت بين سبتمبر/ أيلول و أكتوبر /تشرين الأول 2004 وبين نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر /كانون الأول 2004، وبين يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2005، سلسلة دراسات كتبها أساتذة وأكاديميون أمريكيون متخصصون بالشأن العراقي، كشفوا فيها ما أطلقوا عليه (أخطاء الإدارة الأمريكية في العراق)، ومنها القرار بحل الجيش العراقي (مايو /أيار 2003). ومن أبرز الذين كتبوا هذه الدراسات (روبرت تكر) و(وديفيد هندرسون) و(لاري دياموند).
   كما كشفت مجلة الأهرام العربي الأسبوعية المصرية، في الرابع من يونيو /حزيران 2005، عن أنها حصلت على نص وثيقة أمريكية سرية تتألف من ثلاثين صفحة، أطلق عليها: (خريطة الطريق العراقية) بشأن خروج القوات الأمريكية من العراق في نهاية السنة 2005. وقالت المجلة أن الخارطة تتضمن أربعة عناصر تتمثل بـ(عقد مؤتمر مصارحة ومصالحة عراقية، وصياغة بروتوكول واتفاق تفاهم شرف مشترك، وتبني مشروع مارشال عالمي لأعمار العراق، على أن تصبح القوات العسكرية الموجودة الآن في العراق تحت إشراف الأمم المتحدة وتتحول إلى قوات حفظ سلام).
   وأوضحت الخطة أنها تسمح بقدوم قوات عسكرية من دول عربية وإسلامية إلى العراق لحفظ الأمن، وتدريب الشرطة والجيش العراقيين لحين إتمام العملية السياسية، وكتابة الدستور الدائم. وأشارت المجلة إلى أن الوثيقة وضعت من قبل أرفع الشخصيات والقيادات والتيارات السياسية العراقية الحكومية، فضلا عن الجماعات المعارضة والرافضة للاحتلال.
   وقد بدأت تظهر في الكونغرس الأمريكي دعوات للانسحاب من العراق، ومواجهة الخسائر التي باتت تعاني منها القوات الأمريكية (قتل أكثر من 4400 جندي أميركي بالعراق منذ 2003 وحتى 2010، حسب إحصائيات موقع "أي كاجويلتيز دوت أورغ" المستقل. كما قدرت الخسائر الأميركية للحرب هناك بمئات المليارات من الدولارات).
     كما عقد الكونغرس جلسات استماع عديدة، منها جلسة يوم 19 يونيو /حزيران 2005، وتحدث فيها عدد من المتخصصين بالشأن العراقي أمثال الدكتورة فيبي مار، والدكتور نوح فيلدمان والسيدة جودي فان رست، والسناتور جوزيف بايدن. وقد تأكد في الجلسة تنامي القناعة لدى المسئولين الأمريكيين بضرورة حل مشكلة العراق، وإشراك كل أطياف المجتمع العراقي في العملية السياسية، والابتعاد عن الدخول في التفاصيل المثيرة للجدل، والسعي باتجاه تأجيلها. وقد بدأت بعض المصادر تتحدث عن محادثات بين مسئولين دبلوماسيين ورجال استخبارات أمريكيين من جهة، وبعض أطراف المقاومة العراقية، للخروج من المأزق الأميركي الكبير في العراق.http://www.aljazeera.net/Studies/KEngine/imgs/top-page.gif
    جاء اختيار نوري المالكي بعد وقوع أزمة سياسية استمرت قرابة أربعة أشهر، نتيجة تمسك الدكتور إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء، المنتهية ولايته، بمنصبه واعتراض البعض الآخر على ترشحه لرئاسة الوزراء.
    وفي يوم 22 أبريل/نيسان 2006 كلف جلال الطالباني رئيس الجمهورية نوري كامل المالكي بتشكيل حكومة وصفها التكليف بأنها: " تكون قادرة على التعاطي مع مشاكل البلد الأمنية والاقتصادية، ومواجهة الفساد الإداري، ورفع الظلم عن كافة شرائح المجتمع العراقي...". ولكن هل استطاعت حكومة المالكي القيام بمهامها؟
    للإجابة على هذا السؤال لابد من الإشارة إلى أن الدستور العراقي الجديد يحصر السلطة الفعلية بيد رئيس الوزراء، فهو فضلا عن رئاسته لمجلس الوزراء فإنه القائد العام للقوات المسلحة. ويمارس رئيس الوزراء سلطته من خلال مجلس الوزراء الذي يتولى تخطيط وتنفيذ السياسة العامة للدولة، وإعداد مشروع الموازنة العامة، وخطط التنمية، والتوصية بالموافقة على تعيين وكلاء الوزارات والسفراء وأصحاب الدرجات الخاصة، ورئيس أركان الجيش ومعاونيه، ورئيس جهاز المخابرات ورؤساء الأجهزة الأمنية، والتفاوض بشأن الاتفاقيات الدولية والتوقيع عليها، وتكون مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء أمام مجلس النواب تضامنية.
   والذي حصل أن نوري المالكي –كما يقول خصومه– استفاد من بقائه بمنصبه للفترة من 2005 وحتى السابع من آذار 2010 وهو اليوم الذي جرت فيه الانتخابات النيابية لاختيار 325 نائبا، في تعزيز سلطته، وتقوية نفوذه داخل الجيش والإدارة. وقد قام بإسناد الكثير من المناصب الإدارية والعسكرية إلى أقربائه وأنصاره من أعضاء حزب الدعوة الإسلامية. وقد خاض انتخابات سنة 2010 بقائمة واحدة هي" ائتلاف دولة القانون"، وحصل على 89 مقعدا في مجلس النواب مقابل 91 مقعدا حصل عليه منافسه الدكتور إياد علاوي رئيس القائمة العراقية. أما الائتلاف الوطني فقد فاز بـ70 مقعدا، والتحالف الكردستاني بـ43 مقعدا.
   وظل المالكي متشبثا بموقعه. ومع أن مجلس النواب عقد جلسته الأولى في 14 يونيو/حزيران 2010 إلا انه علق اجتماعاته إلى إشعار آخر بسبب الأزمة السياسية المتعلقة بالخلافات حول تسمية رئيس الوزراء، وتفسير معنى مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددا في المجلس الذي يحق له تشكيل مجلس الوزراء (المادة 73 من الدستور). وقد تم اختيار الدكتور فؤاد معصوم ليكون رئيسا للمجلس باعتباره الأكبر سنا. وصرح الدكتور معصوم بأن قادة الكتل السياسية في المجلس اتفقوا على اعتبار حكومة المالكي حكومة تصريف أعمال، فيما أبدى المالكي استغرابه لهذا الموقف.
   وقال القيادي في ائتلاف دولة القانون كمال ألساعدي أنه من: " الغريب أن يبحث قادة الكتل السياسية مسألة تحويل الحكومة الحالية إلى حكومة تصريف أعمال، في وقت كان من المفترض بهم بحث المسألة الأهم وهي تشكيل الحكومة المقبلة". وبين ألساعدي أن: "الدستور العراقي يشير في فقرتين فقط تقضي بجعل الحكومة حكومة تصريف أعمال وهما في حل مجلس النواب أو إقالتها وهذا لم يتحقق"، معتبراً أن:" القرار جاء مخالفاً للدستور، وان غاياته سياسية وإعلامية في محاولة للضغط على الحكومة وإحراجها".
   أما القائمة العراقية، فأكدت أن حكومة المالكي تمارس صلاحياتها خارج الدستور العراقي، وهناك نداءات داخلية وخارجية وجهت إلى الحكومة بهذا الصدد. ولم تتوصل الكتل السياسية الفائزة إلى توافقات لتشكيل الحكومة، في وقت يدور الخلاف حول أحقية الجهة المخولة بتشكيل الحكومة في ظل تمسك أكثر من طرف بهذا الحق وفقا لنتائج الانتخابات وتفسير المادة 76 من الدستور العراقي، حيث ترى القائمة العراقية (91 مقعد ويتزعمها علاوي) أنها الكتلة الأكبر التي يجب تكليفها بتشكيل الحكومة بناء على تحقيقها أعلى الأصوات في الانتخابات التي أجريت في 7 من مارس/آذار الماضي، فيما ترى دولة القانون (89 مقعدا ويقودها المالكي) أن تفسير المحكمة الاتحادية للمادة الدستورية أعطى الحق للكتلة الأكبر بعد التحالف بتشكيل الحكومة.
   وكانت المحكمة الاتحادية قد أصدرت في 11 من يوليو/تموز تفسيرا جديدا للمادة 76 من الدستور العراقي مفاده أن:"من حق الكتلة الأكبر التي تتشكل داخل مجلس النواب ترشيح رئيس الوزراء بعد أن يتم تكليفها من قبل رئيس الجمهورية".
    ومع أن حكومة المالكي استطاعت تحقيق بعض الانجازات على الصعيد الأمني، وتمشية أمور الدولة، إلا أن خصومه يتهمونه بأن أسلوبه في الحكم، يقوم على النهج التسلطي الدكتاتوري. كما أن حكومته فشلت في حل مشاكل الكهرباء، والخدمات، والبطالة، والوقود والحصة التموينية للمواطنين. ويبرر المالكي هذا الفشل في أن مجلس النواب لم يتعاون معه. كما أنه عاجز عن تغيير أي وزير في حكومته لأن الوزراء يتبعون قادة أحزابهم والكتل التي ينتمون إليها. وفوق هذا فهو مقيد بوجود القوات الأميركية، وبوقوع العراق تحت بند الفصل السابع، وعليه فإنه لابد من السعي لحل كل هذه الإشكالات، وأبرزها ضمان انسحاب القوات الأميركية من العراق والتوقيع على اتفاقية تضمن ذلك.
    في عهد المالكي تم التوقيع على ما سمي ب"إعلان مبادئ حول علاقة العراق والولايات المتحدة الأميركية"، وبموجب هذا الإعلان تنسحب القوات الأميركية من العراق بحلول نهاية آب- أغسطس 2010. وقد تضمن الإعلان مبادئ وتصورات حول مستقبل العلاقة بين العراق والولايات المتحدة في العديد من القضايا السياسية والأمنية والعسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية. وكان هذا الإعلان بمثابة إطار عام للمفاوضات مع الولايات المتحدة التي ابتدأت مع مطلع سنة 2008 وانتهت قبل 31 يوليو/تموز 2008، واستهدفت التوصل إلى اتفاقية ثنائية نظمت العلاقة بين البلدين. وفي 25 نوفمبر /تشرين الثاني 2007، وقع نوري المالكي رئيس الوزراء والرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش " اتفاقية الصداقة والتعاون طويلة الأمد بين جمهورية العراق والولايات المتحدة الأميركية ".
    وفي يوم الأحد 16 نوفمبر /تشرين الثاني 2008 أقر مجلس الوزراء العراقي الاتفاقية ووصفت واشنطن الموقف العراقي بأنه خطوة ايجابية. وتسمح الاتفاقية للقوات الأمريكية بالبقاء في العراق حتى عام 2011. وتشير مسودة الاتفاقية الأمنية بين الولايات المتحدة والعراق، التي نشرتها وسائل الإعلام العراقية الرسمية، إلى أن الغرض منها هو تحديد "الأحكام والمتطلبات الرئيسة التي تنظم الوجود المؤقت للقوات الأميركية في العراق وأنشطتها فيه وانسحابها من العراق".
ومن أهم بنودها أن القوات الأميركية تنسحب من جميع الأراضي العراقية في موعد لا يتعدى 31 ديسمبر /كانون الأول 2011 ميلادي. وتنسحب جميع قوات الولايات المتحدة المقاتلة من المدن والقرى والقصبات العراقية في موعد لا يتعدى تاريخ تولي قوات الأمن العراقية كامل المسؤولية عن الأمن في أي محافظة عراقية، على أن يكتمل انسحاب قوات الولايات المتحدة من الأماكن المذكورة أعلاه في موعد لا يتعدى 30 يونيو/ حزيران 2009. وتتمركز قوات الولايات المتحدة المقاتلة المنسحبة في المنشآت والمساحات المتفق عليها التي تقع خارج المدن والقرى والقصبات والتي سوف تحددها اللجنة المشتركة لتنسيق العمليات العسكرية.
    كما تعترف الولايات المتحدة بالحق السيادي لحكومة العراق في أن تطلب خروج قوات الولايات المتحدة من العراق في أي وقت. وتعترف حكومة العراق بالحق السيادي للولايات المتحدة في سحب قواتها من العراق في أي وقت.
    ويتفق الطرفان على وضع آليات وترتيبات لتقليص عدد قوات الولايات المتحدة خلال المدد الزمنية المحددة، ويجب أن يتفقا على المواقع التي ستستقر فيها هذه القوات. أما ما يتعلق بردع المخاطر الأمنية، وعند نشوء أي خطر خارجي أو داخلي ضد العراق أو وقوع عدوان ما عليه، من شأنه انتهاك سيادته أو استقلاله السياسي أو وحدة أراضيه أو مياهه أو أجوائه، أو تهديد نظامه الديمقراطي أو مؤسساته المنتخبة، يقوم الطرفان، بناء على طلب من حكومة العراق، بالشروع فورا في مداولات إستراتيجية، ووفقا لما قد يتفقان عليه فيما بينهما، تتخذ الولايات المتحدة الإجراءات المناسبة، والتي تشمل الإجراءات الدبلوماسية أو الاقتصادية أو العسكرية أو إي إجراء آخر، للتعامل مع مثل هذا التهديد.
    إلا أن مجيء الرئيس باراك أوباما إلى دفة الرئاسة الأميركية عجل في قرار الانسحاب من العراق وذلك تنفيذا للوعود التي قطعها أوباما على نفسه في حملته الانتخابية. ففي يوم السبت 28 أغسطس/ آب 2010، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما، أن الولايات المتحدة ستنهي رسميا، في الثلاثاء 31 آب- أغسطس 2010، مهامها القتالية في العراق، مؤكداً بذلك أن "الحرب بدأت تضع أوزارها" بعد سبع سنوات على الغزو، وأن العراق قادر على "رسم مسار مستقبله".
    وأشار في الخطاب إلى أن انسحاب القوات القتالية الأميركية من العراق وخفض عددها إلى أقل من خمسين ألفا حالياً ساعد في الوفاء بتعهد قطعه خلال حملة الانتخابات الرئاسية عام 2008. وقال بأن الولايات المتحدة أعادت أكثر من تسعين ألف جندي منذ أن أصبح رئيساً، "وتولى العراقيون المسؤولية الأمنية في أجزاء كثيرة من البلاد، وهم حالياً يتولون فعلياً القيادة الأمنية للعراق".
    ونبه أوباما إلى أن القوات الأميركية المتبقية في العراق ستواصل "دعم وتدريب القوات العراقية ومشاركة العراقيين في مهام مكافحة الإرهاب". وأضاف: "خلاصة القول أن الحرب تنتهي، والعراق مثل أي دولة مستقلة ذات سيادة حر في رسم مساره الخاص، وبنهاية العام المقبل ستكون جميع قواتنا قد عادت إلى البلاد". ويحاول البيت الأبيض أن يؤكد إنجازات أوباما قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس نوفمبر/تشرين الثاني 2010 لدعم مرشحي حزبه الديمقراطي الذي من المرجح أن يخسر مقاعد وربما الأغلبية في أحد مجلسي الكونغرس أو كليهما.
    من ناحية ثانية حث أوباما الأميركيين على إبداء التقدير للقوات الأميركية العائدة من العراق، وقال: " إن القوات القتالية الأميركية فعلت كل ما طلبته منهم بلادهم على مدى السنوات السبع الماضية، ونحن مدينون لهم بامتناننا العميق لكل ما فعلوه ويفعلونه وسيستمرون بفعله للدفاع عن أمتنا". وسبق لأوباما أن وجه رسالة شكر مصورة نشرت على الموقع الإلكتروني للبيت الأبيض أشاد فيها بالقوات الأميركية التي خدمت في العراق وتلك التي ما زالت فيه، مبرزاً دورها في المساعدة على ما أسماه "إحلال الديمقراطية بالعراق".
    يؤكد خصوم المالكي حقيقة أن الانسحاب الأميركي لم يأت لجهود بذلها المالكي، وإنما جاء وفق حسابات أميركية صرف تتعلق بوعود أطلقها الرئيس الأميركي الجديد أوباما في حملته الانتخابية تقضي بتحقيق الانسحاب الأميركي من العراق في موعد أقصاه أواخر آب- أغسطس 2010. ولكن السؤال المهم هو هل تحقق الانسحاب فعليا؟
   إن مما ينبغي ذكره في هذا المجال أن الإدارة الأميركية لا تزال تبقي على 50 ألف جندي على الأراضي العراقية، وتتواجد هذه القوات في قواعد ثابتة، وأن من حق هذه القوات التدخل لمساعدة القوات العراقية في مواجهة التحديات. فضلا عن أن الإدارة الأميركية تعاقدت مع شركات أمنية خاصة، وأسست لها أكبر سفارة في العراق تستوعب أكثر من أربعة آلاف عنصر أمني واستخباري وفني. كما أنها لا تزال تمتلك أوراق التعاون مع القوى السياسية العراقية. ومما يقوي الاعتقاد باستمرار الحاجة إلى الوجود الأمريكي عدم جاهزية القوات المسلحة العراقية لمسك الملف الأمني والعسكري وتحقيق الاستقرار المنشود في ظل تصاعد أعمال العنف والتحدي العسكري الذي تواجهه الحكومة العراقية. ومما يدعم هذا الرأي ما قاله الفريق الركن بابكر الزيباري، رئيس أركان الجيش العراقي، من أن الجيش العراقي يفتقد القدرة على تنفيذ واجباته، لنواقص فنية، وإدارية، وتنظيمية، وتسليحية. كما أن الجيش الجديد يفتقد الكثير من المقومات التي تجعله يمارس دوره كجيش وطني بسبب تشكيلته الناقصة، وضعف تدريبه، ووجود عناصر ميليشياوية فيه تعود في ولائها إلى أحزابها وطوائفها أكثر مما تعود إلى مرجعية وطنية واضحة.http://www.aljazeera.net/Studies/KEngine/imgs/top-page.gif
       ثمة مشكلة أخرى تواجه السلطة في العراق بعد الانسحاب الأميركي، تتعلق بمسألة دمج قوات البيشمركة الكردية بمؤسسة الجيش. فثمة من يقول أن البيشمركة ميليشيا تعود في ولائها للحزبين الكرديين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، وبالتالي فهي ليست مستعدة للاندماج بالقطاعات العسكرية العراقية، وغير قادرة –لأسباب كثيرة فنية وتسليحية وسياسية – على القيام بمهام قتالية دفاعية خاصة عند تعرض حدود العراق الشمالية والشرقية للخطر الخارجي.
    لكن الأكراد يقولون: "إن البيشمركة ليست ميليشيا، وإنما قوة عسكرية منضبطة تسهر على تحقيق الأمن في إقليم كردستان، كما أنها قادرة على ضبط الحدود". وعلى أية حال فالمصادر الأميركية الرسمية تعترف" بأن قوات البيشمركة قامت في السابق بمقاتلة نظام صدام حسين، وأسهمت في الانتفاضة المسلحة التي اندلعت في سنة 1991".
    كما أنها شاركت إلى جانب القوات الأميركية في العمليات العسكرية خلال حرب 2003، وهي تساند القوات الأميركية وتعمل حاليا كقوة نظامية لحفظ الأمن في إقليم كردستان العراق والدفاع عنه ". ومعنى هذا أن مسألة دمجها بالجيش ليست صعبة، خاصة وأنها تعتمد الألبسة والتشكيلات والسياقات التدريبية والفنية والعسكرية التي كان يتبعها الجيش العراقي السابق.http://www.aljazeera.net/Studies/KEngine/imgs/top-page.gif
   إن من التحديات التي يواجهها العراق بعد الانسحاب الأميركي مستقبل كركوك، هذه المحافظة الغنية بالنفط وذات الموقع الاستراتيجي، ومما يفاقم هذه المشكلة، الاختلاف حول اقتسام عائدات النفط بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان. ويقينا أن التصريحات والهواجس التي تنطلق من أطراف الصراع حول كركوك تدور بين العرب والأكراد والتركمان. وكما هو معروف، فإن مشكلة كركوك ليس جديدة، وإنما هي من المشاكل المتوارثة من تسويات الصراع الدولي حول العراق منذ سنوات الحرب العالمية الأولى، والتسويات التي أعقبتها، والمساومات التي جرت بين بريطانيا وفرنسا لحل إشكالات الاتفاقيات السرية المتناقضة التي حتمت عقدها ظروف الحرب العالمية الأولى.
    فكركوك كانت لواء تابعا لولاية الموصل وقد شملتها معاهدة سايكس- بيكو التي عقدت بين بريطانيا وفرنسا. وقد اضطر الانكليز الفرنسيين للتخلي عن ولاية الموصل لصالحهم مقابل تخلي الانكليز عن دعم حكومة الملك فيصل بن الشريف حسين في سوريا، وهكذا قيل أن بريطانيا باعت عرش فيصل في سوريا بنفط الموصل.
    وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى باحتلال بريطانيا للعراق بين 1914-1918، ودخول ولاية الموصل تحت الاحتلال البريطاني، ظهرت مشكلة الموصل عند مطالبة تركيا بها باعتبار أن القوات البريطانية دخلتها بعد إعلان الهدنة في نوفمبر /تشرين الثاني 1918. وقد تطلب الأمر تدخل عصبة الأمم- وهي المنظمة الدولية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى وسبقت الأمم المتحدة - والوصول إلى اتفاقية عراقية – تركية – بريطانية، أصبحت ولاية الموصل، وفيها كركوك، جزءا من الدولة العراقية التي تشكلت سنة 1920.
     يسمي الأكراد الأراضي التي كانت تضمها ولاية الموصل "كردستان الجنوبية "، وهي تسمية كان الضباط السياسيون البريطانيون يطلقونها على ولاية الموصل، ويرى الأكراد بأن كركوك سلخت من كردستان تحت عنوان " ترسيم الحدود بين العراق وتركيا " سنة 1926، فحدثت مشكلة قومية معقدة، ومما زاد في حدة هذه المشكلة التغييرات السكانية والإدارية التي حدثت في العهود التالية للاحتلال البريطاني للعراق، ورغم عدم رضا الأكراد وقيامهم بالكثير من الثورات والانتفاضات، إلا إن مشكلة كركوك ظلت بدون حل، وقد زاد في تعقيد الأمر التدخلات الإقليمية والدولية في هذه المشكلة. إلا أن العقدة الكبيرة هي الإجراءات التي قام بها النظام السابق لتقليل عدد الأكراد في كركوك وبوسائل عديدة منها التعريب وترحيل الأكراد عن بعض القرى، وإجراء تغييرات إدارية في لواء كركوك.
    وضع الدكتور مكرم الطالباني -وهو أكاديمي كردي ذو توجه ماركسي، عمل وزيرا سابقا في العراق خلال عهد النظام السابق - دراسة بعنوان: "نحو حل صحيح لمستقبل كركوك " نشرت في كراس صغير في السليمانية سنة 2010، قال فيها أن وجود الأكراد والتركمان والعرب وحجم كل منهم في كركوك ليس مشكلة ولكن توسع أية مجموعة على حساب المجموعات الأخرى هو العقبة أمام حل عادل للمشكلة. المتطرفون من القوميين العرب أرادوا التوسع على حساب الأكراد والتركمان منذ تأسيس الدولة العراقية بضم مساحات شاسعة من كردستان بلغت في المراحل الأخيرة حوالي 40 % من مساحتها الإجمالية، وقد شمل استقطاع السهول الخصبة ضمن حدود لواء الموصل قبل فصل محافظة دهوك عنها وكذلك سهول كنديناوا، وقراج في محافظة إربيل، وسهل الحويجة، وداقوق، وطوز، وكفري، وقره تبة بلواء كركوك قبل سلخ المناطق الكردية الصرف منها، وهذه السهول كانت تشكل 80 % من المناطق الغنية بالنفط والمزروعة بالحبوب.
    والمشكلة الثانية هي المبالغة في حجم كل قومية في محافظة كركوك. فالقوميون المتطرفون الأكراد يكادون ينكرون وجود التركمان أو يعدونهم وافدين لذا يرون أن على التركمان أن يقبلوا بما " يتصدقون " عليهم من حقوق. والقوميون المتطرفون التركمان يبالغون في حجم التركمان وقلة عدد الأكراد، حتى أن احدهم أنكر وجود أكراد من ساكنة كركوك، واعتبرهم وافدين من المناطق الأخرى.
    جرت محاولات لحل مشكلة كركوك، ومنها تلك التي حدثت في المفاوضات بين وفد من الأحزاب الكردية والحكومة المركزية في 1991، ووضعت ورقة سميت "ورقة تطبيع الوضع في كردستان "، تضمنت إعادة الأكراد المرحلين إلى أماكنهم وإعادة العرب الوافدين إلى مناطقهم واعتماد إحصاء سنة 1957، إلا أن شيئا من ذلك لم يحصل وظلت المشكلة قائمة ومستمرة بسبب أن هواجس العرب في الحكومة المركزية تجاه الأكراد تحول دون الإقرار الكامل بحقوقهم القومية، وهواجس الأكراد تجاه الحكومة المركزية تحول دون التوصل إلى اتفاق عادل، وهواجس التركمان تحول دون جلوسهم مع الأكراد، وهواجس الأكراد تجاه التركمان تحول دون تقديمهم عرضا سخيا للتركمان يقرون بحقوقهم.
     أما تمسك الأكراد بالمادة 140 من الدستور وموافقة الحكومة المركزية عليها والتي تقضي بتطبيع الوضع في المناطق المسماة ب" المناطق المتنازع عليها"، وتعويض المتضررين من المهجرين الأكراد والعرب الوافدين عند إعادتهم إلى مناطقهم أو أية منطقة أخرى، فسوف لن يحل مشكلة كركوك لسبب بسيط وهو أن الحكومة المركزية لم تقر بعودة تلك المناطق إلى إقليم كردستان، حتى وان كانت فيها كثرة كردية لوجود منشئات نفطية. لذا فإن الحكومة متشبثة ببقاء تلك المناطق ضمن الحدود الإدارية للحكومة المركزية. ورغم تباين مواقف الكتل والأحزاب سواء الموجودة في البرلمان أو خارجه، فإن محافظة كركوك تعد خطا أحمر لا يستطيع أحد تجاوزه.
    ويترتب على هذا أن تمسك الأكراد بالمادة 140 من الدستور سوف لن يحقق لهم هدفهم حتى وإن قبلوا بمبدأ ضمان تصرف الحكومة المركزية بالموارد الطبيعية، ومنها النفط، لمصلحة العراقيين جميعا.
   إن مشكلة كركوك سوف تبقى بدون حل ولمدة طويلة، وليس ثمة أمل في التوفيق بين المواقف المتناقضة لأطرافها لأسباب داخلية تتعلق بما يريده كل طرف وأسباب إقليمية ودولية، فتركيا لا يمكن أن تقبل بضم كركوك لإقليم كردستان خوفا من أن ييسر ذلك لهم الانفصال عن العراق وتشكيل دولة، وكذلك الخشية على حقوق التركمان، وقد تقبل بأن يكون لكركوك وضع خاص أو أن يكون للأكراد والعرب والتركمان تمثيل نسبي متساو في إدارة المحافظة. كما أن الولايات المتحدة الأميركية تريد أن تتعامل مع حكومة قوية في بغداد بشأن النفط وغيره من القضايا المتعلقة بمصالحها، وهي تفعل مثلما فعلت بريطانيا في مرحلة الحرب العالمية الأولى وما بعدها عندما تشبثت بولاية الموصل وكركوك ضمنها، والتقت مصالحها آنذاك مع مصالح الحكومة العراقية في رد مطالب تركيا بولاية الموصل وتأكيد صيرورة الموصل جزءا من العراق.http://www.aljazeera.net/Studies/KEngine/imgs/top-page.gif
     ثمة تحد آخر يعترض العراق بعد الانسحاب الأميركي، ويتعلق باستمرار مجلس الأمن بتجديد بقاء العراق خاضعا لأحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
    ومع أن حكومة المالكي كانت تعول على الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن التي عقدت في آب – أغسطس 2010 إلا أن آمالها خابت، عندما جدد المجلس إبقاء العراق ضمن الفصل السابع وطلب من القوى السياسية العراقية الإسراع في تشكيل حكومة وفقا للاستحقاقات الانتخابية.
    ومعنى بقاء العراق تحت الفصل السابع أن سيادته ستظل منقوصة، وهذا يضع على عاتق الحكومة الجديدة مسؤولية العمل للسعي لاستعادة العراق وضعه الطبيعي كدولة كاملة السيادة والصلاحيات، واسترجاعه لوضعه القانوني الدولي، أي الحالة التي كان عليها قبل صدور قرار مجلس الأمن رقم 661 في سنة 1990.http://www.aljazeera.net/Studies/KEngine/imgs/top-page.gif
    في هذا السياق لا يمكن تجاوز الدور الذي تقوم به المقاومة في العراق، خاصة بعد عجز قيادات القوائم السياسية الأربع التي فازت في انتخابات آذار- مارس 2010 ولحد الآن (أواخر آب-أغسطس 2010)، عن التوافق لتشكيل حكومة وطنية تأخذ على عاتقها حل المشاكل الإدارية والعسكرية، وتوفير الخدمات للمواطنين، والبحث عن سبل إخراج العراق من أتون أزماته وتلطيف علاقاته بجيرانه. ومع أن هناك من ينكر وجود مقاومة - سلمية أو مسلحة - إلا أن الوقائع على الأرض تثبت وجودها. وقد اعترفت الإدارة الأميركية بذلك، وأشار الرئيس العراقي جلال الطالباني إلى وجودها، فقال في أكثر من مرة: " إننا نحاول كسب العناصر المسلحة، ونعمل على إقناعهم بأن ينضموا إلى العملية السياسية".
    لقد شهد العراق منذ الاحتلال الأميركي في 9 نيسان- أبريل 2003 هياكل ومؤسسات وإدارات عديدة كان لها دورها في صنع القرار السياسي، لكن مما لابد من تأكيده أن شكل الدولة العراقية لا يزال يعتريه الكثير من الغموض، فثمة ملاحظات كثيرة على الدستور، ومع أن رئيس الجمهورية كما جاء في الدستور هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن فان صلاحياته محدودة وبروتوكولية والسلطة الفعلية بيد رئيس الوزراء. كما أن هناك هياكل دستورية موجودة في الدستور لم تجد لها طريقا إلى الواقع كالمحكمة الاتحادية العليا، وثمة اختصاصات متداخلة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وسلطات إقليم كردستان والمحافظات وخاصة فيما يتعلق بإدارة الجمارك واقتسام واردات النفط ومصادر الطاقة الكهربائية ورسم السياسات البيئية والتنموية والصحية والتعليمية والتربوية والموارد المائية.
    هذا إلى جانب أن الدستور جميل بنصوصه فيما يتعلق بحقوق الإنسان في العراق وكرامته لكن ذلك غير موجود على أرض الواقع فالاعتقالات العشوائية مستمرة، ودهم البيوت لا يزال موجودا،   وثمة أعداد كبيرة في السجون والمعتقلات، ولم يقدم الكثيرون منهم إلى المحاكمة ودون توجيه تهم محددة لهم. كما أن العراق يواجه مشكلات اقتصادية وبنيوية كثيرة أبرزها تدهور الزراعة وتوقف المصانع وتردي المواصلات، وارتفاع نسبة الفقر والتشرد، وزيادة أعداد الأرامل والأيتام، وضعف التعليم، وتدهور المؤسسات الصحية. كما وصل البلد إلى مستويات عالية من الفساد الإداري، والبطالة منتشرة، والعشوائية تسم جوانب عديدة من الحياة العراقية.
     وإذا كان القرار الدولي رقم 1483 قد نص صراحة على دور الأمم المتحدة في مساعدة الشعب العراقي على تنظيم حكومته الوطنية، والقرار الدولي رقم 1546 ينهي رسميا الاحتلال الأميركي بعد وضع جدول زمني لإجراء الانتخابات، فإن العراقيين اليوم، وخاصة السياسيين الذين يتحملون المسؤولية، لا يزالون عاجزين عن صنع قراراتهم بأنفسهم، وهم يبحثون عن المشورة من دول عربية وإقليمية ودولية وفقا لأجندات لا تصب دائما في المصلحة الوطنية العليا، لذلك فإن من أبرز التحديات التي  يواجهها من يتحمل المسؤولون  العراقيون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض

  النجف والقضية الفلسطينية .........في كتاب للدكتور مقدام عبد الحسن الفياض ا.د. ابراهيم خليل العلاف استاذ التاريخ الحديث المتمرس - جامعة ال...