كففتُ عن أكون مسيحيا ....المحطة الاولى في حياة المفكر العربي الاستاذ جورج طرابيشي *
<< الجمعه، 6 مارس/آذار، 2015
جورج طرابيشي
وأنا في رحلة نهاية عمر، وبعد عقود ستة من صحبة القلم الذي آثرته – عدا زوجتي وبناتي - على كل صحبة أخرى، أجدني أتوقف أو أعود إلى التوقف عند ست محطات في حياتي كان لها دور حاسم في أن أكتب كل ما كتبته وفي تحديد الاتجاه الذي كتبت فيه ما كتبته وحتى ما ترجمته.
المحطة الأولى: ولدتُ من أسرة مسيحيّة في حلب وتديّنت تديّناً مفرطاً فــي الطور الأوّل من مراهقتي. وكنت أؤدي كلّ واجباتي الدينية بحساسية تثير حتّى سخرية أخي الأصغر منّي.
ذات يوم في المدرسة، وفي السنة الثانية من المرحلة الإعدادية - وكنت صرت في نحو الرابعة عشرة من العمر- كان من جملة دروسنا درس التعليم الديني الذي كان يتولاه كاهن معروفة عنه صرامة الطبع. وكنا في تلك المرحلة قد تكونت لدينا فكرة واضحة بما فيه الكفاية عن خريطة الكون وكروية الأرض ودورانها وحجمها. وفي أحد دروس التعليم الديني قال لنا المدرس الكاهن:» تعرفــون أنتم يا أولادي الآن ما هــــــي الكرة الأرضية، وتعرفون حجمها. أريدكم الآن أن تتصوّروا كرة أرض أكبر من أرضكم بمليون مرّة، وأنّ هذه الكرة الأكبر بمليون مرة من كرة الأرض ليست من تراب وماء بل هــي من حديد فولاذي صلب.هذه الكرة الأكبر من الأرض بمليـــون مرّة والأصلب من الحديد الصلب، يمرّ عليها كل مليون سنة طائر، فيمسحها بجناحه. فكم وكم - وهذه الكلمة لا زالت ترنّ في أذني إلى اليوم- كم مليون.. مليون.. مليون سنة يحتاج هذا الطائر إلـى أن يمسح بجناحه مرة واحدة كلّ مليون سنة ليذيب هذه الكرة الحديدية الأكبر من الأرض بمليون مرة؟ تذوب هذه الكرة ولا يذوب عذابكم في جهنّم إذا متّم في حال الخطيئة».
المحطة الأولى: ولدتُ من أسرة مسيحيّة في حلب وتديّنت تديّناً مفرطاً فــي الطور الأوّل من مراهقتي. وكنت أؤدي كلّ واجباتي الدينية بحساسية تثير حتّى سخرية أخي الأصغر منّي.
ذات يوم في المدرسة، وفي السنة الثانية من المرحلة الإعدادية - وكنت صرت في نحو الرابعة عشرة من العمر- كان من جملة دروسنا درس التعليم الديني الذي كان يتولاه كاهن معروفة عنه صرامة الطبع. وكنا في تلك المرحلة قد تكونت لدينا فكرة واضحة بما فيه الكفاية عن خريطة الكون وكروية الأرض ودورانها وحجمها. وفي أحد دروس التعليم الديني قال لنا المدرس الكاهن:» تعرفــون أنتم يا أولادي الآن ما هــــــي الكرة الأرضية، وتعرفون حجمها. أريدكم الآن أن تتصوّروا كرة أرض أكبر من أرضكم بمليون مرّة، وأنّ هذه الكرة الأكبر بمليون مرة من كرة الأرض ليست من تراب وماء بل هــي من حديد فولاذي صلب.هذه الكرة الأكبر من الأرض بمليـــون مرّة والأصلب من الحديد الصلب، يمرّ عليها كل مليون سنة طائر، فيمسحها بجناحه. فكم وكم - وهذه الكلمة لا زالت ترنّ في أذني إلى اليوم- كم مليون.. مليون.. مليون سنة يحتاج هذا الطائر إلـى أن يمسح بجناحه مرة واحدة كلّ مليون سنة ليذيب هذه الكرة الحديدية الأكبر من الأرض بمليون مرة؟ تذوب هذه الكرة ولا يذوب عذابكم في جهنّم إذا متّم في حال الخطيئة».
سمعت هذا التحذير الحسابي فأصابتني رعدة. – فقد فهمته بكل أبعاده إذ كنت في حينه تلميذاً متفوّقاً - وخرجت مـن المدرسة وسرت في الطريق وأنا أطأطئ رأسي. ذلك أن المدرسة كانت تقع في حيّ عتيق جدّا وكئيب، تفوح منه روائح الأماكن المغلقة. وعلى بعد حوالي 200 متر كنا نخرج من الدرب الضيق والمقفل عليه ليلاً بباب حديدي الى شارع عريض ومفتوح تطالعنا منه ، أول ما تطالعنا، بناية حديثة نسبياً تقطن في الطابق الثاني منها أسرة إيطالية، لها ثلاث بنات جميلات جدّاً، وغالباً ما نجدهن جالسات في «الفيرندا» ومرئيات للناظر من الشارع في إطلالة آسرة . وما إن نظرت إليهن عصرئذ حتى أسرعت أخفض نظري وأغمض عينيّ. لماذا؟ هنا لا بدّ أن أعود الى المسيحية التي ولدت فيها وعمّدني أهلي عليها. ففي المسيحيّة يقال إن الخطيئة مثلّثة: خطيئة بالعمل وخطيئة بالقول وخطيئة بالفكر. وحتى هذه الخطيئة الأخيرة قد تكون خطيئة مميتة، وعقابها جهنم إلى أبد الآبدين حسب اللاهوت المسيحي إذا كان مدارها على الجنس نظراً الى الوصية التي تقول : لا تشتهِ امرأة غيرك. والحال أن كل امرأة هي امرأة للغير ما لم تكن زوجة شرعية. ومن ثم، إن الشهوة الجنسية تغدو بحد ذاتها مسبِّبة لخطيئة مميتة ولا يغفرها الله للإنسان ولا ينجيه من عذابات جهنم ما لم يعترف بها للكاهن. وكان الكاهن يركِّز على خطيئة الفكر هذه في درس التعليم الديني لعلمه أن مدار تفكير الصبيان في طور المراهقة هو على الجنس. وعلى هذ النحو توزعت نفسي وأنا أخرج من درب المدرسة الضيق الى الشارع المفتوح على فيراندا الصبايا الإيطاليات الثلاث بين الرغبة في النظر وبين الخوف من العذاب الأبدي في نار جهنم على ذلك النحو المرعب كما صوّره لنا الكاهن من خلال مثال الطائر والكرة الحديدية الأكبر من الأرض بمليون مرة. وهكذا لم أكتفِ بإغماض عينيّ، بل رحت أمشي في الطريق إلى البيت وأنا أحاول أن أطرد من فكري صورة الإيطاليات الثلاث وكلّي خوف من أن تشاء المصادفة أن يسقط فوق رأسي من إحدى الشرفات أصيص زهر من الأصص التي كان من عادة سكان بلدتي حلب أن يزيّنوا بها شرفاتهم فأموت وأنا في حالة خطيئة مميتة. ووصلت إلـــى البيت وأنا في شبه هذيان وأصابتني حمّى حقيقيـــة وبقيت يومـــين طريح الفراش، ثم لما أفقت كان ردّ فعلي الوحيد أنني قلت بيني وبين نفسي: لا، إن الله ذاك الّذي حدثنـي عنه الكاهن لا يمكن أن يوجد ولا يمكن أن يكون ظالماً إلى هذا الحدّ. ومن ذلك اليوم كففت عن أن أكون مسيحيا.
*جريدة الدستور (بتصرف )http://addustour.com/sn/985173/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق