أخيرا "زيد الحلي" يقدّم خبرة خمسين عاما للجيل الطالع / حسين سرمك حسن
إعتدت في نهاية كل عام، أن أكتب مقالة أستعرض فيها أفضل الكتب التي قرأتها خلال العام المعني،
مستخلصا
منها دروسا وعبرا وميزات هي التي جعلتها أفضل الكتب التي طالعتها خلال تلك
السنة من وجهة نظري، من بين عشرات الكتب التي أقرأها سنويا. كان العام
الماضي عام "جورج طرابيشي" كما أحب أن أسمّيه، هذا المفكر العربي الغيور
والشديد العلمية والموضوعية. كتابان لطرابيشي استوليا على ذهني وقمت
بمراجعة شديدة الدقة للأساسيات التي كنت محملا بها على ضوء معطياتهما، وهما
"المعجزة أو سبات العقل في الإسلام" و "أسلمة الحديث .. من إسلام القرآن
إلى إسلام الحديث".
أما
في هذا العام (2012) فلن أنتظر نهايته لأحكم على الكتب التي سأقرأها،
وأقول مسبقا أن كتاب السيرة الذاتية الذي أصدره الصحفي العراقي الأستاذ
"زيد الحلي" هذا الأسبوع : (50 عاما في الصحافة – ذكريات صحفي في أربعة
عهود) (صادر عن دار أمل الجديدة في دمشق) هو واحد من أمتع الكتب التي
قرأتها وأكثرها إثارة ومنفعة وتشويقا. وهذا الكتاب (290 صفحة) يحقق الشرط
الأول لمطالعة اي كتاب ثقافي وهو " المتعة ".
فلست مجبرا كقاريء على أن أراجع "فروض" تاريخية أو صحفية أو علمية يمكن
للمختصين في هذه المجالات تقديمها أفضل من أي كاتب أو صحفي، ما يهمني هو
المتعة الممزوجة بالمنفعة والدرس.
ولعل
الأهم ايضا هو أن هذا الإنسان ثابر على العطاء على الرغم من الفاجعات التي
كادت تكسر ظهره، وأولها حملته صفحة الكتاب الأولى التي عنونها بعنوان حارق
(يا دجلة لماذا سرقت حياتي؟) والتي تحدث فيها عن الرحيل المبكر لإبنه
طارق الجميل الذي مات غرقا عام 2000. والعنوان يبدو مشتركا يجمع العراقيين
المفجوعين عبر تاريخهم بلا قصد حيث ذكرني بكتابي عن الشاعر المبدع الراحل
"علي الشباني" والذي استقيته من قصيدة له عنوانها هو "نهر الديوانية ..
ماذا فعلت بحياتي؟". والمصيبة أن قصيدة علي الشباني أهداها إلى روح شقيقه
الأصغر الذي مات غرقا في نهر الديوانية وحمّل نفسه مسؤولية خسارته حتى
رحيله –أي رحيل علي !!-.
وقد
أبهرتني مقدمتان كتبهما عميد الصحافة العراقية الأستاذ المهجور في أميركا
(فيصل حسون) والأستاذ "سجاد الغازي" – وهو من أعمدة الصحافة العراقية
المعروفة - يشيدان فيهما بالسلوك الصحفي المثابر والمخلص لتلميذهما البار
والمثابر والمعطاء "زيد الحلي ". وزيد لم يخيّب أمل أستاذه فيصل حسون الذي
قرر منحه هوية نقابة الصحفيين رغم المحاذير التنظيمية، ليكون أصغر صحفي
معترف به رسميا في صحافة العراق والوطن العربي (هل نقول العالمية؟). دخل
زيد الصحافة وهو بعمر (17) عاما، وبتشجيع من أستاذه الصحفي الرائد الأستاذ
(حسن العلوي) الذي كان يدرّسه في مرحلة الدراسة المتوسطة (متوسطة "الثورة"
في كرخ بغداد في بداية ستينيات القرن المنصرم) لكن كان إصراره وتصميمه
الشخصي هو الأساس. ولعل الكثيرين سيحارون في تفسير الدوافع التي جعلت
"مراهقا" من "الحلة" المدينة الصغيرة المهملة آنذاك، وفي مدرسة متوسطة
ببغداد يقوم بكل تلك "المناورات" الصعبة ويزعج أباه الطيّب ويتعبه، كي يصبح
أصغر مراسل لمجلة (الرأي العام) البيروتية مثلا وغيرها؟؟
يقول الأستاذ "فيصل حسون" في شهادته في حق زيد:
(وكان
على الفتى الحلّي (زيد) أن ينخرط في عضوية نقابة الصحفيين التي كان لي شرف
رئاستها في أولى الدورات. ولما كان سن الثامنة عشرة هو الحد الأدنى لقبول
الإنتماء. فلم أتردد في كسر ذلك القيد الذي كان يلزمني بتأخير قبول "زيد
الحلي" ذي الأعوام السبعة عشر بل أصغر أعضاء نقابة الصحفيين، حتى صار أول
وآخر صحفي نقابي في تاريخ صحافة العراق – ص 10).
ثم
ينطلق بنا الحلي – ولقبه الأصلي هو العادي نسبة إلى جدّه "عبود العادي"
الذي انطلق راكضا "يعدو" من النجف إلى الحلة ليخبر أهل مدينته باندلاع
شرارة ثورة العشرين المباركة في ركضة تذكّرك بقصة ركضة الماراثون الإغريقية
– في رحلة رائعة ومشوّقة امتدت لخمسين عاما .. من بغداد إلى الصين .. ومن
فرنسا إلى موسكو .. فبريطانيا وهنغاريا وهولندا والهند وغيرها من الدول
الأجنبية .. ناهيك عن الدول العربية .. وفي كل زيارة يمزج ما هو تجربة
شخصية بمعلومات عامة عن البلد المعني منها التاريخي والسياسي والاجتماعي
والنفسي والفلكلوري. ومن مقابلة فريدة ونادرة مع الزعيم الصيني ماو تسي
تونغ إلى عبد الخالق حسونة والراحل عرفات والراحل جورج حبش وما حصل عليه من
أسرار خطيرة. ومن لقاءات متكررة مع "محمد حسنين هيكل" إلى لقاءات مع نجيب
محفوظ فإلى طليعة الفنانين المصريين آنذاك. ومرورا بلقاءات ثرة ومواقف
حافلة مع النخبة اللامعة من المثقفين العراقيين البارزين كالجواهري
والبياتي ويوسف الصائغ وغيرهم. ومن العمل كمراسل لصحف ومجلات عربية معروفة
إلى ترؤس تحرير صحف ومجلات عراقية مشهودة مثل مجلة (وعي العمال) وغيرها ..
ثم ستعلم أيها القاريء، ولأول مرّة، أن زيدا الحلي هو – وقت عمله في إذاعة
القوات المسلّحة – مكتشف أو المساهم الأساسي في تقديم اسماء احتلت مواقع
فنية وثقافية مميزة لاحقا: منهم الدكتور علاء بشير في الرسم والنحت،
والدكتور عوني كرومي في الإخراج المسرحي وغزوة الخالدي في التمثيل وحسين
نعمة وسعدي الحلي وياس خضر في الغناء.
وتستوقفك
في مسيرة الحلي هذه الضريبة الباهضة التي يدفعها – للأسف- الناجحون
المخلصون في مجتمعنا من قبل من أسماهم بحق "كارهي النجاح"؛ هؤلاء الذين لا
ينجحون ويكرهون من ينجح، ويضعون العصي في عجلات الناجحين. فمن المعيب
والمؤذي أن هذا الصحفي البارز والمعروف بنزاهته ومثابرته وشعبيته يتعرّض
لتجميد العضوية والإعفاء وهو العضو المنتخب بجدارة واستحقاق لست دورات
انتخابية.. ويقحم في لعبة إعادة الإنتخابات لغرض خلعه من منصبه المشروع
ولكنه يفوز على الرغم من إعادة الانتخابات أكثر من مرة لثقة الصحفيين به
ومحبتهم له. وقد إطلعتُ على أغرب تقرير "تجسسي" رفعه صحفي –وبخط يده- يصول
ويجول في الفضائيات رفعه – يا للغرابة - متبرعا ومن دون طلب – إلى نقيب
الصحفيين آنذاك بعد تجميد عضوية زيد، يقدّم فيها معلومات عن زيد يمكن أن
توصله إلى حبل المشنقة، وفي التقرير نفسه معلومات عن مالك المطلبي ومدني
صالح ومنى سعيد وغيرهم .
لم
يكتف زيد الحلي بعرض إنجازاته ونجاحاته المتفرّدة، كما يفعل البعض الذين
يكتفون بالجانب الإيجابي من مسيرتهم ويُظهرون أنفسهم وكأنهم "هبة" محصّنة
ضد الفشل والعثرات . تحدث الحلي عن ذاته كإنسان بسيط معرض للخطأ والصواب،
فعرض تجاربه الفاشلة بلا تردد. ولعل وقفته التي أسماها (زملائي .. إياكم
والغرور) هي درس في المراجعة والنقد الذاتي حيث يشخص سبب فشله في إحدى
التجارب بأنه " الغرور". ومن لا يعرف زيدا أقول وعبر علاقة طويلة وعميقة أن
هذا الإنسان الكبير بالصحافة وعبر خمسين عاما هو فائق البساطة في التعامل.
وكثيرا ما أقف مع نفسي لأقارن سلوكه كسنبلة ممتلئة بتلك السنابل الفارغة
التي تنتصب فوق رؤوسنا .. لكن للريح منطقها .
ومن
السمات المهمة لهذا الكتاب هو رشاقة العبارة، والجملة القصيرة المكثفة
التي اتبعها الحلّي في سرد ذكرياته، فجاء الكتاب رشيقا وبلا استطالات ثقيلة
وإفاضات مملة .
وهناك
سمة أخرى مركزية ستسهم في شد القاريء وإمتاعه وهي روح الطرافة التي خلّصت
الكتاب من " الجفاف " وروح الجدّية المفرطة التي تسم الكثير من السير
الشخصية والتي تضعف ملاحقة القاريء لأحداثها ووقائعها.
ومن
السمات الأخرى هو لجوء الكاتب إلى المنحى السردي، الأمر الذي منح كتاب
سيرته تماسكا ووحدة جنّبه التفكك حتى كأنك تشاهد شريطا سينمائيا يعالج قصة
طويلة تمر أمام ناظريك مشاهدها المتسلسلة فلا تتزحزح عن كرسيّك خوف أن
يفوتك مشهد منها، الأمر الذي يجعل الملاحظة التي حملها الغلاف الأخير صحيحة
تماما: (ذكريات صحفية وحياتية أخاذة تمتد مساحتها على أربعة عهود. وربما
إذا بدأت بتصفّح أوراقها فإنك لن تتركها حتى تقرأ آخر سطر فيها. تشدك إليها
بوثائقها وصورها النادرة وحوادثها المثيرة).
وقد
يعتقد البعض أن الحلّي قد دخل ميدان الصحافة الشائك بدافع الرغبة التي
تؤكد الذات المراهقة ومسلحا بالموهبة المجردة حسب. ولكن هذا استنتاج خاطيء
فقد ارتكزت تجربة زيد أيضا على الساق الثانية التي يقوم عليها أي بناء صحفي
متميز، وهو اشتراطات الصحافة كعلم، فهو حائز على أربعة دبلومات في الصحافة
من المعهد القومي للصحفيين العرب 1976، وإثنان من كلية التضامن للصحافة
والإعلام في هنغاريا (1986 و1990)، والرابع من معهد يوليوس فوجم في براغ
عام 1989.
تحيّة لأبي زياد الصحفي المثابر المخلص المجاهد، مدرسة صحفية تستحق التقدير والإجلال والإحترام.
*http://almothaqaf.com/index.php/araaa/61003.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق