الاثنين، 2 فبراير 2015

ذكريات سامي مهدي عن المربي الاستاذ عباس علي القرة غولي

ذكريات سامي مهدي عن  المربي الاستاذ عباس علي القرة غولي :
****************************************************
هو ليس بالأديب ، هو مدرس مغمور من مدرسي اللغة العربية ، ولكن له أثراً عظيماً في حياتي وفي سيرتي الأدبية .
حين أنهيت دراستي في مدرسة الأماني الإبتدائية عام 1953 انتقلت إلى مدرسة متوسطة افتتحت حديثاً في الكرخ هي : متوسطة فيصل للبنين . وكانت هذه المدرسة تشغل بيتاً مهيباً ، واسعاً ، ذا طابقين ، يطل على نهر دجلة بإطلالة جميلة ، وكان هذا البيت يعرف بـ ( بيت النواب ) بيت العائلة المعروفة ذات الأصول الهندية .
كان الأستاذ عباس علي القرة غولي مدرساً للغة العربية في هذه المدرسة . وكان الرجل مهيب الطلعة ، أقرب إلى الطول ، ممتلئاً قليلاً ، وربما كان يومئذ في نحو الأربعين من عمره ، وخط الشيب شعر رأسه ، وله سن ذهبية تظهر حين يبتسم ويفتح نواجذه ، ولكنه كان مدرساً قديراً في اللغة ، حريصاً شأن مدرسي تلك الأيام ، يشرح درسه باقتدار وبساطة ، ويحرص على أن يفهمه درسه جميع طلابه ، وأذكر أنه ألف كتيباً بسّط فيه درس النحو ، ولكنه لم يبعه على تلاميذه كما صار يفعل أساتذة ( بيع الملازم ) بل وزعه في السوق شأن أي كتاب .
حين دخلت متوسطة فيصل نسبت إلى الصف الأول ( أ ) . وبعد يومين أو ثلاثة جاء إلى الصف معاون مدير المدرسة ومدرس الرياضة الأستاذ مصطفى الشيخ ونظر في وجوه التلاميذ ، ثم توقف نظره عندي ، فأمرني بالنهوض وحمل كتبي والذهاب إلى الصف الأول ( ب ) لأنني ، كما قال ، قد نقلت إليه ، ولم يكن علي سوى الطاعة فذهبت .
كان الصف الأول ( ب ) يشغل سرداباً نصفياً ينزل إليه بدرجتين ، وكان الدرس فيه حين قصدته درس ( محفوظات ) والمدرس القرة غولي ، وكان ثمة تلميذ واقف من تلاميذه وهو يقرأ أبياتاً مقرراً حفظها من قصيدة للشاعر عبد المحسن الكاظمي :
أحبّاي هزّتني إليكمْ صبا الحمى / وأرواحُ مصرٍ عن شذا الكرخِ تنسمُ
فرحــتُ أداري الحبَّ ، ثمّ أذيـعُـه / وأعلنُ أحـــيانــاً هــــواكـمْ وأكــتمُ
إلخ ...
كان باب السرداب مفتوحاً ، والتلميذ يقرأ ، والقرة غولي يستمع ، فوقفت عند الباب أستمع أنا الآخر ولم أطرقه ، فصار الرجل ينقل نظره بيني وبين التلميذ القاريء ، حتى إذا انتهى هذا من قراءة الأبيات السبعة المقررة طرقت الباب فأذن لي القرة غولي بالدخول ، وقبل أن أجد مكاناً شاغراً للجلوس سألني عن غايتي فأخبرته بنقلي فأومأ إلى مكان شاغر وطلب مني الجلوس .
ولم أكد أجلس حتى سأل التلاميذ عن الأخطاء اللغوية التي وقع فيها التلميذ القاريء ، فرفع بعض التلاميذ أيديهم ولكن لم يستطع أي منهم تحديد الخطأ ، وعندئذ رفعت يدي ولما أذن لي أجبته ، وقلت له إنه وقع في خطأين وحددت موضعيهما وصوّبتهما ، فأعجب الرجل بجوابي . وسألني : من أي مدرسة جئت ؟ فقلت من مدرسة الأماني الإبتدائية ، ثم سألني : ومن كان معلمكم في اللغة العربية ؟ فقلت له : عبد الحميد الهيتي ، فأثنى عليه وعليّ ، ووعدني بإضافة درجة واحدة إلى درجة معدلي الفصلي ، وطلب مني تذكيره عند وضع المعدلات .
هذه إحدى حكاياتي مع القرة غولي . أما الحكاية الثانية فحدثت بعد شهر تقريباً ، فقد اقترح علينا أن نقتني أحد قاموسين ( المنجد ) أو ( مختار الصحاح ) وأوضح أن اقتراحه غير ملزم لمن لا يستطيع أو لا يرغب ، ولكنه سيضيف خمس درجات إلى معدل من يشتري : المنجد ، ودرجتين لمن يشتري : مختار الصحاح . كان المنجد قد صدر حديثاً وكان يباع يومها بخمسة دنانير ، أما مختار الصحاح فكان يباع بدينار واحد وربع الدينار . ولما لم أكن أنا من ذوي الإستطاعة فقد بذلت جهدي في إقناع أبي بشراء : مختار الصحاح . وبذلك صار القرة غولي مديناً لي بثلاث درجات ! غير أن معدلي الفصلي كان مائة درجة تماماً ، وبذلك لم أستفد من الدرجات الثلاث ، وضحك القرة غولي طويلاً حتى انفرجت نواجذه عن سنه الذهبية حين طلبت منه ببراءة أن يضيف الدرجات الثلاث إلى معدل زميلي هشام عبد الحميد الذي لم يزد معدله عن 48 درجة ، قبل أن يقول لي : لا بابا ، هذا لا يجوز !
الحكاية الثالثة أهم من تلكما الحكايتين . هي بداية قصتي مع مجلة ( الآداب ) اللبنانية التي كان لها أثر كبير علي في بدايات تكويني الأدبي . فقد اكتشفت هذه المجلة حين جاء القرة غولي بأحد أعدادها إلى صفنا في النصف الثاني من العام الدراسي . كان الدرس درس مطالعة ، فوضع المجلة أمامي وطلب مني أن أقرأ على زملائي قصيدة عن فلسطين كانت منشورة فيها ، أظنها كانت للشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد ، فقرأتها ، وبعد أن قام هو بشرح القصيدة والتعليق عليها ، طلب منا الانصراف إلى كتابنا الغني الجميل المقرر أيامئذ لدرس المطالعة . ولكنني رجوته أن يسمح لي بالقراءة في المجلة حتى نهاية الدرس ، فوافق وهو يبتسم ابتسامة عريضة . وعندها رحت أقرأ في المجلة سطوراً من هنا وأخرى من هناك ، فوجدتني أشبه بمن يدخل غابة مجهولة غامضة ، ولكنها مغرية بما تنطوي عليه من سحر الغموض ، ومن يومها ، من يومها تماماً ، صرت أجمع الفلس إلى الفلس حتى أقتني أعداد الآداب بلهفة وانتظام .
أما الحكاية الرابعة فهي تتصل بأول قصيدة كتبتها عام 1954 . فقد فاضت دجلة في ذلك العام فيضاناً مرعباً أغرق ضواحي بغداد ، وكادت بغداد نفسها تغرق ، حتى أُخِذ الرجال سخرة لإعداد السداد وحماية المدينة . فكتبت عن هذا كله قصيدة موزونة مقفاة بلغ عدد أبياتها نحو ثلاثين بيتاً ، على ما أّذكر . كانت قصيدة رائية ، على البحر السريع ، نظمتها على السليقة ، فلم أكن أعرف شيئاً من قواعد النظم ، لا الأوزان ولا التفاعيل ولا الزحافات والعلل ولا غيرها . 
أخذت القصيدة إلى مرشد الصف الأستاذ قاسم محمد عبد الله وعرضتها عليه ليوافق على نشرها في العدد الثاني من نشرتنا المدرسية ( سبيل الرشاد ) . فلما قرأها ظن أنني نقلتها من مصدر من المصادر ، مع أنها كانت قصيدة ساذجة تصب اللوم على دجلة وتتهمه بالغدر ، قصيدة صبي كان ما يزال قاصراً في معرفته وخبرته . ورغم أنني أكدت له أنها من نظمي ظل يتوجس ، ثم أخذها إلى مدرسنا القرغولي ليفتي في أمرها . وكان هذا الأستاذ الرائع يعرف مدى تفوقي في درسه وشدة شغفي بالأدب فاستدعاني ، وسألني عما إذا كانت القصيدة قصيدتي فأقسمت له أنها لي ، ثم سألني عما إذا كان هناك من ساعدني في نظمها أو تعديلها ، فقلت : لا أحد ، وسألني أيضاً عما إذا كنت أعرف أوزان الشعر فنفيت معرفتي بها وأوضحت له أنني نظمت قصيدتي على السليقة . فتهلل وجهه أخيراً وأثنى علي ، وأخبرني بأنها تخلو من أي خطأ نحوي أو عروضي ، وقال لي بلغته التي يحرص على فصاحتها حين يحدث تلاميذه : هيا اذهب يا فتى فأنت شاعر ! 
وعندئذ نشرت القصيدة في النشرة وذاع بين المدرسين والطلبة أنني شاعر ، وهذا ما صرت أحس به وأدعيه لنفسي منذ ذلك اليوم ! 
هذا هو أستاذي عباس علي القرة غولي ، فبكم أنا مدين له ؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مقدمات العلاف

   مقدمات العلاف خلال سنوات طويلة، تشرفتُ بكتابة مقدمات لكتب ، اصدرها كتاب ومؤرخون واساتذة اجلاء .. ومراكز بحثية رصينة صدرت تتعلق بموضوع...