الثلاثاء، 3 فبراير 2015

يوم تسجيل الاناث في الموصل* ا.د.ابراهيم خليل العلاف

يوم تسجيل الاناث في الموصل*
ا.د.ابراهيم خليل العلاف
استاذ متمرس -جامعة الموصل
عانت المرأة العراقية خلال الفترة التي اعقبت سقوط الدولة العربية الاسلامية بيد المغول سنة1258 الكثير من العنت والاضطهاد . فقد عاشت آنذاك وهي محجبة لايسمح لها بالخروج من الدار إلا نادرا .. وإذا ارادت الخروج كانت تسدل عليها العباءة السوداء وتتبرقع ببرقع اسود لايرى منه شيء ، وعليها ان تمر في الدروب الضيقة والازقة المتعرجة .. وقد يصل الامر بالرجل ان يمنع زوجته من الخروج من البيت لاي سبب كان .. وكان احدهم يتحدث مفاخرا بان زوجته لم تر عتبة الباب . ويخجل الكثير من الرجال من ذكر إسم الام أو الزوجة أو الاخت امام الغرباء .
لقد إرتبطت تلك النظرة الى المرأة بواقع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كان يعيشها العراق آنذاك حينما كان خاضعا ، بولاياته الثلاث : بغداد والموصل والبصرة ، للسيطرة العثمانية . ولم يحدث تغيير ملحوظ في هذا الواقع حتى اواسط القرن التاسع حين شهد العراق محاولات اصلاحية استهدفت تحديث بعض جوانب الحياة . وضمن سياق تلك المحاولات الاصلاحية العامة التي بدأت في الدولة العثمانية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر جرت حركة واسعة لاحصاء السكان تمهيدا لوضع خطط تنهض بوضع الدولة بولاياتها المختلفة كلها وتستطيع الوقوف امام التحديات التي واجهتها انذاك خاصة من الغرب الاوربي الاستعماري لكن حركة التسجيل تلك واجهت معارضة شديدة من لدن العناصر الرجعية والمحافظة .
حقيقة لم تكن إجراءات الاحصاء وتسجيل السكان جديدة على اهل العراق . فقد اعتادت السلطات العثمانية بين وقت وآخر القيام بنوع من الاحصاء لاغراض تتعلق بالخدمة العسكرية . ولكن الجديد في الامر أن السلطات لم تكتف بتسجيل الذكور ، شأنها في المرات السابقة ، وإنما ارادت تسجيل الاناث كذلك ، فثار الاهالي وعدوا هذا العمل إنتهاكا للحرمات وبدعة يجب مقاومتها . ففي بغداد أعد الاهالي قرار الوالي عبد الوهاب باشا في سنة1904 لاحصاء الاناث يمس بشرفهم ويحط من كرامتهم لذلك فانهم اصروا على مقاومته وإعتصموا في ساحة السراي ولم يخرجوا منها الا بعد ان تراجع الوالي عن قراره .
أما في الوصل ، فقد إعترض الاهالي على إجراءات تسجيل الاناث التي جرت في عهد الوالي مصطفى يمني باشا العابد(1904 ـ1908) وكادت تنشب بسبب تلك الاجراءات ثورة دامية . ومن الطريف ان ( توثق) لنا اليوميات السياسية للمقيمية البريطانية في بغداد وللاسبوع الذي ينتهي في29 تشرين الثاني1906 التظاهرات التي قامت بها جماهير الموصل احتجاجا على اجراءات تسجيل الاناث خلال الفترة الواقعة بين10 و15 تشرين الثاني1906.
ومازال شيوخ الموصل الذين تقدمت بهم السن يقصون على احفادهم سيرة قائد تلك التظاهرات واسمه ( محمد ابو جاسم) والذي توفي في الموصل سنة 1969 ويروون وهم معجبون ضربا من بطولاته والوانا من مغامراته في سبيل الدفاع عن شرف المرأة الموصلية حدثني قبل سنوات احد كبار السن (والد زوجتي) المرحوم( طه الحاج محمد الرحو87 سنة) ان الجماهير كانت تردد اهزوجة جاء مطلعها :
ابو جاسم فدى روحو للاسلام
عمل هوسة على جتبة النسوان
ودون مصطفى الواعظ في كتابه ( الروض الازهر) بعض الاهازيج التي شاعت انذاك :
هذا (…) والينا جاء وظلم عليــــــنا
ياربي الطف بينا من قسوة هـذا الــوالي
ابو جاسم الدافع ، عن الحريم أو مــــانع
ويا الجندرمة او تواكع هجام جاء على الوالي
ابو جاسم الصنديد ، جت لو الفزعة من البيعيد
ياللهوسة هو الكعيد ابو الجوما هل الغــالي
ابو جاسم جمعها للهوسات او حركــــها
بالشوارع سيرها ، نزل صدمة على الــوالي
ياريت على الموصل ما جيت ولا هل فكرة بثيت
دخلك يالنبي شيت خلصنا من هل الـــوالي
ابن متى ياذنون حطم والينا المجنون
اهل الحدبة مايرضون ابحكم هذا الوالـــي
وعندما القت السلطات العثمانية القبض على محمد ابو جاسم وزجت به في السجن ، خرجت جموع من الوصليين يتقدمهــا ( سرحان) ابن اخت محمد ابو جاسم وهو يردد معها مفتخرا :
هذا الخال واني ابن اختة
عند الموت خالي إعرفته
كما انهالت البرقيات على العاصمة اسطنبول محتجة على عمل الوالي ، وعاد الجواب من العاصمة يقول ان السلطات العثمانية عازمة على معرفة حقيقة مايجري في الموصل وسوف لايطمئن الا بعد تسوية الموضوع . لذلك سرعان ماصدرت الاوامر للوالي بان يلغي اجراءاته الخاصة بتسجيل الاناث .
بدأت عوامل التغيير الاقتصادي والاجتماعي والثقافي تاخذ طريقها الى العراق . وظهرت فئة من المثقفين تطالب بتحرير المراة وتأكيد مكانتها المتميزة في عملية النهوض . واستنـدت تلك الفئة الى الموروث الحضاري العربي الاسلامي الذي يولي المرأة اهمية كبيرة . وقد ركزت دعوات اولئك المثقفين على ان مشكلة تخلف المراة تعد من اخطر معوقات النهضة . بدأت منذ ذلك الوقت مسيرة تحرير المراة من القيود الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية البالية لكي تساهم بشكل فعال في بناء المجتمع .
واليوم ونحن نتذكر تلك الصفحات من تاريخ المراة العراقية ، لابد ان نؤكد بأن ظروف المجتمع قد هيأت للمرأة شروط التحرر والتقدم ووضعتها على طريق تعزيز واجباتها ، فشرعت لذلك القوانين التي تفتح الطريق رحبا فسيحا امامها تحررها من القيود وتساوي بينها وبين الرجل وتتيح لها الفرص المتكافئة ليكون لها كيانها
المستقل ، هذا فضلا عن تدعيم مشاركتها في الحياة العملية . وقد تزايد اسهام المراة في النشاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي بشكل ملحوظ خلال السنوات
الماضية . والمستقبل المنظور يحمل في طياته المزيد من التحرر وتحطيم العقبات المادية التي تعترض طريق تحرر المراة لتسهم مع الرجل في تحمل مسؤليات البناء .
*ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرت المقالة في جريدة الحدباء(الموصلية)،1 أيلول1984 كما نشرتْ في كتابي :"أوراق تاريخية موصلية " أصدرته دار الفتى بالموصل 2006.
**صورة المرحوم ابو جاسم نشرها -مشكورا - الصديق الاستاذ جعفر الزاملي  وقد التقطت له سنة 1949 في الموصل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حركة الشواف المسلحة في الموصل 8 من آذار 1959 وتداعياتها

  حركة الشواف المسلحة  في الموصل  8 من آذار 1959 وتداعياتها  أ.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل ليس القصد ...