مجلة الاداب البيروتية التي اسسها الدكتور سهيل أدريس تنهي عامها ال60 وتتوقف !!!!
من منا لايتذكر مجلة الاداب (البيروتية ) وصاحبها ومؤسسها وراعيها الاستاذ سهيل ادريس ...كانت تحتضن المبدعين من الشعراء والادباء والمثقفين . كتبت مقالا عن الاستاذ سهيل ادريس والمزاوجة بين التراث والمعاصرة متوفر على النت .اليوم قرأت كلمة العدد الاخير وفيه يعلن ناشرها توقفها عن اصدار نسختها الورقية واصدار نسخة الكترونية ويعلل السبب بقلة القراء ............وأسفاه لبدء اندثار وموت هذه المجلة العتيدة ...التي ربت اجيالا من المثقفين على الايمان بالنهضة والحرية والتقدم والتحديث والتنوير وادناه نص المقال الافتتاحي للعدد الاخير الذي كتبه الاستاذ سماح سهيل ادريس :
..............................................................................
مع هذا العدد، تطوي مجلة «الآداب» عامها الستين (1953ـــ 2012). وقد تولى د. سهيل رئاسة تحريرها بين عامي 1953 و1991، وتولّيتُ تلك المهمة منذ ذلك الحين. ولعلي لا أذيع سرّاً إذا قلت إنّ فكرة تعليق إصدار المجلة، على نحو نهائي أو موقت، لم تغادر ذهني منذ أعوام طويلة، لكنّ والدي كان يحثّني على الصبر، ويدعوني إلى التفاؤل بمستقبل القراءة ومستقبل المجلّة. وما بين عام 1991 واليوم، صدرت مجلات كثيرة بتمويل الأنظمة، أو الأحزاب، أو المنظمات غير الحكومية، أو نتيجة لتبييض أموال كما يشاع؛ فتوقّفتْ كلها تقريباً باستثناء ما أصدرته الأنظمة. لكنني، بعد أعوام قليلة من رئاسة تحرير «الآداب»، غدوتُ أكثر تصميماً على الاستمرار؛ بل انقلبت الأمور رأساً على عقب أحياناً: فصار سهيل «يتفهم» الحاجة إلى حجب المجلة، فيما كنتُ أصرُ شخصياً على الاستمرار فيها.
شيئاً فشيئاً، تحولت «الآداب» من مشروع سهيل إدريس الشخصي لبناء منبر تحرري إبداعي عربي، إلى مشروعي الشخصي أيضاً، فكرّست لها جل أوقاتي. وكان ذلك طبعاً على حساب تدريبي المهني (في النقد الأدبي)، وعلى حساب أدب الأطفال والأحداث الذي شغفتُ به منذ سنة 2003، والأهم: على حساب المعجم العربي ـ العربي، الذي كنتُ قد شاركتُ سهيلًا ود. صبحي الصالح إعدادَه منذ عام 1985 قبل أن أنفرد في العمل عليه بعد عام 1995. ومع ذلك، فإنني لم أشعر بأنني كنتُ «أضحّي» معظم ذلك الوقت؛ على العكس: فـ «الآداب» هي التي علّمتني كيف أكتب، وكيف أقرأ، وكيف أحرّر المواد وأخلّصها من زوائدها وترهّلاتها؛ وهي التي عرّفتني عن قرب إلى المئات من مثقفي الوطن العربي وشبابه وناشطيه؛ والأهم أنها علّمتني ـ وبتشجيع دائم وحثيث من معلّمي الأول سهيل إدريس ـ كيف أضع الكلمة في خط الدفاع الأول عن قضايا العرب العادلة، وعلى رأسها: فلسطين، والتحرر الوطني والاجتماعي، والوحدة العربية، وحرية الفكر والتعبير.
في مجلة «الآداب» صببتُ كل كياني. وكانت «دار الآداب»، وما زالت، ورائي في كل خطوة أخطوها في المجلة؛ فالمجلة ليست ابنة الدار فحسب، وإنما هي أمُّها أيضاً (تأسّست الدار بعد ثلاث سنوات على صدور المجلة). واتّخذنا جميعاً القرار، سنةً بعد سنة، بمواصلة إصدارها، وبمدّها بما توافر لدينا من مال وجهد ووقت، حتى ونحن نشهدُ بأمّ أعيننا توقّف المجلات الثقافية العربية المستقلة الأخرى أو تعثّرها.
كذلك اتّخذنا قراراً آخر: هو رفض كل تمويل خارج «دار الآداب». كان منطقنا يقول انْ لا معنى لإصدار مجلة ثقافيّة تقدمية معادية للأنظمة العربية، ومشكّكة في أجندات المنظمات غير الحكومية (الـ «أن. جي. أوز»)، بأموال هذه المنظمات أو تلك الأنظمة؛ ولا ثقافة حقيقية يمكن أن تنتج من تمويل يعبقُ برائحة النفط أو الاستبداد أو الأجندات الخارجية «البريئة». فالتمويل هو أحد أهم العوامل التي تحدّد خيارات الكتابة والنشر، من حيث استراتيجيات الإقصاء والاستيعاب والتركيز:
ـ فهو من العوامل التي تحدّد إنْ كان علينا أن نغض الطرف عن جرائم الأنظمة ورجعيّتها (بذريعة «الأولويات الأمنية والقومية»)، أم أن نطالب بتغييرها وإسقاطها؛
ـ وهو من العوامل التي تحدّد إنْ كان علينا أن نواصل الحديث عن تحرير فلسطين «من النهر الى البحر» أمْ ننكفئ إلى شعاري «العدالة الانتقالية» و«حلّ الدولتين»؛
ـ وهو من العوامل التي تحدّد إنْ كان «تحرير المرأة» و«محو الأمية» و«تشجيع المطالعة» و«حريّة الخيار الجنسي» بنوداً من ضمن مشروع عربي تحرري تقدمي شامل، أم هي محضُ بنود قائمة بذاتها ولذاتها في مشاريع الـ «أن. جي. أوز».
ويوماً بعد يوم، صرنا نتفرج على الخسائر المادية تتزايد، فنبتسم بمازوشية. ثم ننظر إلى الأقطار العربية وهي تَمنع أعدادَنا، فنتيقّن من أننا على الطريق المستقيم، إذ ما معنى ثقافة لا تُغضب الحاكم العربي، ورجال استخباراته، ومشايخه، و«مثقّفيه»؟ ووصلنا إلى زمن توقّفنا فيه عن إحصاء خسائر المجلة، بل كدنا نصل إلى معادلة تكاد تكون عبثيّة: خسائر أكثر = حريّة أكبر. وهي معادلة جسّدناها عمليّاً في إجراء قد يبدو جنونيّاً من الناحية التجارية، ألا وهو حجب «الآداب»، وبقرار ذاتي من رئيس تحريرها، من دخول سوريا، أكبر سوق لقرّاء هذه المجلة، بعد اندلاع الأحداث الأخيرة، كي نفسح المجال أمام الجميع ليكتبوا ما شاؤوا، ومن دون أن نسمح لأنفسنا بأي «مسايرة» لمقص الرقيب.
■ ■ ■
اليوم تقرّر مجلة «الآداب» أن تحتجب عن قرّائها موقتاً، وهي التي لم تحتجب من قبل على امتداد ستين عاماً. ولن نعود إلى إصدارها قبل أن نتيقّن من أنّ الصيغة الجديدة ستكون قادرة على الاستمرار سنوات طويلة أخرى، لكنْ، ومنعاً لأي تأويل، مغرض أو غير ذلك، يهمّني أن أوضح ما يأتي: المال ليس وراء قرارنا الجديد. المجلة كانت خاسرة على نحو شبه متواصل، وهي قلما ربحت أو غطّت كلفة إنتاجها طوال أكثر من ثلاثة أرباع عمرها. (وما يزيد من خسائرها منذ سنوات طويلة وجود «مقاولين» يبتاعونها بأزهد الأثمان ثم يبيعونها اشتراكات مؤسّساتيةً إلى الجامعات والمعاهد!). ولهذا، فإنّ هذه الافتتاحيّة ليست دعوةً إلى «الإنقاذ»، ولا إلى المزيد من الاشتراكات. إنها عرض للواقع كما هو فحسب.
إنّ «دار الآداب» المموّل الأول والأخير والوحيد لمجلة «الآداب»، ورقاً وطباعةً وأجور تحرير وتأليف وترجمة وبريد وشحن وتخزين واتصالات وموقع إلكتروني... قادرة على أن تواصل إصدارها ستين عاماً قادمة. فهي دار ناجحة، بل متفوّقة بكل المعايير، على ما يشهد القاصي والداني. وهي ابنة بارّة بأمها التي أنجبتها، وأمّ وفية لابنتها التي رعتها. المشكلة أنّ عدد قرّاء مجلة «الآداب»، وعدد قرّاء باقي المجلات الثقافية الورقية المستقلة، يسير في منحى تراجعي منذ سنوات، مع بعض الاستثناءات في هذا البلد أو ذاك، ولإصدارات محدودة من هذه المجلة أو تلك في كل الأحوال. وهذا ما يستدعي طرح الأسئلة الآتية:
ما معنى إصدار مجلة حين يتراجع القرّاء؟ وهل الإصرار على إصدارها بطولة واجبة، أمْ إضاعة لجهد كان يمكن أن يُصرف في مواضع أخرى قد لا تقل أهميّةً ومردوداً ثقافياً ونهضوياً وانتشارياً؟ وما معنى أن تواجه مجلة ورقية حكم الاستبداد والقمع والتخلّف حين لا يستطيع المواطنون الخاضعون له الحصول عليها ـ ولو عبر الاشتراك المباشر أحياناً (في بعض البلدان فتحوا ظروف المجلة وصادروا الأعداد رغم أنها مرسلة إلى مشتركين)؟
هذه أسئلة جوهريّة، لا تخص «الآداب» وحدها، بل تطولُ كل منبر ثقافي مستقل يرفض أن يبيع نفسه لسلطة المال. وكما أنّ المسألة ليست مسألة مادية، فهي أيضاً ليست مسألة سوء إدارة، بدليل أنّ كل المجلات الثقافية الأخرى، المستقلة حقاً أو زعماً، توقّفت على الرغم من أنّها اتّهمتنا بسوء الإدارة. فماذا فعل أصحابُها الشاطرون؟ أنفقوا ما حصّلوه من هذا المموّل أو ذاك على بضعة أعداد خلال أعوام قليلة، ثم توقّفوا عن الإصدار!
■ ■ ■
على نحو أوضح نسأل أسئلة متّصلة بما سبق: هل من مستقبل للمجلة الثقافيّة الورقية (وربما للكتاب الورقي أيضاً ـ لكنّ هذا موضوع آخر)؟ هل تستطيع المجلة الثقافية الورقية أن تصدر مستقلّة، مناضلةً، حرّة، مشاكسة، غاضبة، ثمّ تمرَّ بلا عقاب إلى ممالك الاستبداد وجمهوريات القتل؟ هل تستطيع أن تنافس المَلاحقَ الثقافية التي باتت تصدر مع كل جريدة تقريباً (وكلّها مموّلٌ أو مدعومٌ من خارجها)، أو تنافسَ مجلّاتِ وزارات «الثقافة» والإعلام العربية التي كرّست ملايين الدولارات لاستقطاب الأسماء الكبيرة من كتّاب ورسّامين ومخرجين، ولترويج تاريخها القُطري «العريق» في سيرورة الحضارة البشرية؟ هل تستطيع جذب المواطن العربي بعيداً عن التلفزيون والفايسبوك والتويتر والفقهاء ورجال الدين، فضلاً عن المشعوذين والدجّالين وقارئي البخت والمتنبئين بأحوال العام الجديد؟ وإذا لم يكن للمجلة المستقلة من حليف في أوساط الناس، فكيف ستصمد، وكيف ستواجه، وكيف ستزداد انتشاراً، وكيف ستتطوّر مادةً وتصميماً ورؤيةً استشرافيّةً؟
■ ■ ■
أنقول، إذنْ، وداعاً؟
بل نقول إلى اللقاء. إلى اللقاء في صيغة قد تكون إلكترونية، تتحايلُ على الرقابات، وتنتشر على نحو أعظم، إلى أن نبلغ الزمن الذي نستطيع فيه أن نعيد إصدارها على نحو ورقيّ أيضاً حفاظاً على تاريخها و«تضامناً» مع كثيرين لا يفقهون لغة الكومبيوتر وأخواته. أما على المستوى الشخصي، فسأعمل في هذه الأثناء على إنجاز المعجم العربي الضخم، وعلى كتابة المزيد من الروايات الموجّهة إلى الأطفال والناشئة (الفئة الأخيرة هي الأكثر غبناً في الوطن العربي). وستكون «الآداب»، حين تصدر في عهدها الثالث، كما يريدها محبوها، وكما أرادها مؤسّسها ومراسلوها وقرّاؤها الأوفياء: صوتاً صادحاً للعدالة والحرية، يَجمع ـ إلى أصالة الانتماء ـ كفاءةَ الوصول إلى أوسع فئات الناس.
* افتتاحية الكاتب وناشر «الآداب» في العدد الأخير من المجلة (خريف 2012 ــ السنة 60)
http://www.al-akhbar.com/node/175997
من منا لايتذكر مجلة الاداب (البيروتية ) وصاحبها ومؤسسها وراعيها الاستاذ سهيل ادريس ...كانت تحتضن المبدعين من الشعراء والادباء والمثقفين . كتبت مقالا عن الاستاذ سهيل ادريس والمزاوجة بين التراث والمعاصرة متوفر على النت .اليوم قرأت كلمة العدد الاخير وفيه يعلن ناشرها توقفها عن اصدار نسختها الورقية واصدار نسخة الكترونية ويعلل السبب بقلة القراء ............وأسفاه لبدء اندثار وموت هذه المجلة العتيدة ...التي ربت اجيالا من المثقفين على الايمان بالنهضة والحرية والتقدم والتحديث والتنوير وادناه نص المقال الافتتاحي للعدد الاخير الذي كتبه الاستاذ سماح سهيل ادريس :
..............................................................................
مع هذا العدد، تطوي مجلة «الآداب» عامها الستين (1953ـــ 2012). وقد تولى د. سهيل رئاسة تحريرها بين عامي 1953 و1991، وتولّيتُ تلك المهمة منذ ذلك الحين. ولعلي لا أذيع سرّاً إذا قلت إنّ فكرة تعليق إصدار المجلة، على نحو نهائي أو موقت، لم تغادر ذهني منذ أعوام طويلة، لكنّ والدي كان يحثّني على الصبر، ويدعوني إلى التفاؤل بمستقبل القراءة ومستقبل المجلّة. وما بين عام 1991 واليوم، صدرت مجلات كثيرة بتمويل الأنظمة، أو الأحزاب، أو المنظمات غير الحكومية، أو نتيجة لتبييض أموال كما يشاع؛ فتوقّفتْ كلها تقريباً باستثناء ما أصدرته الأنظمة. لكنني، بعد أعوام قليلة من رئاسة تحرير «الآداب»، غدوتُ أكثر تصميماً على الاستمرار؛ بل انقلبت الأمور رأساً على عقب أحياناً: فصار سهيل «يتفهم» الحاجة إلى حجب المجلة، فيما كنتُ أصرُ شخصياً على الاستمرار فيها.
شيئاً فشيئاً، تحولت «الآداب» من مشروع سهيل إدريس الشخصي لبناء منبر تحرري إبداعي عربي، إلى مشروعي الشخصي أيضاً، فكرّست لها جل أوقاتي. وكان ذلك طبعاً على حساب تدريبي المهني (في النقد الأدبي)، وعلى حساب أدب الأطفال والأحداث الذي شغفتُ به منذ سنة 2003، والأهم: على حساب المعجم العربي ـ العربي، الذي كنتُ قد شاركتُ سهيلًا ود. صبحي الصالح إعدادَه منذ عام 1985 قبل أن أنفرد في العمل عليه بعد عام 1995. ومع ذلك، فإنني لم أشعر بأنني كنتُ «أضحّي» معظم ذلك الوقت؛ على العكس: فـ «الآداب» هي التي علّمتني كيف أكتب، وكيف أقرأ، وكيف أحرّر المواد وأخلّصها من زوائدها وترهّلاتها؛ وهي التي عرّفتني عن قرب إلى المئات من مثقفي الوطن العربي وشبابه وناشطيه؛ والأهم أنها علّمتني ـ وبتشجيع دائم وحثيث من معلّمي الأول سهيل إدريس ـ كيف أضع الكلمة في خط الدفاع الأول عن قضايا العرب العادلة، وعلى رأسها: فلسطين، والتحرر الوطني والاجتماعي، والوحدة العربية، وحرية الفكر والتعبير.
في مجلة «الآداب» صببتُ كل كياني. وكانت «دار الآداب»، وما زالت، ورائي في كل خطوة أخطوها في المجلة؛ فالمجلة ليست ابنة الدار فحسب، وإنما هي أمُّها أيضاً (تأسّست الدار بعد ثلاث سنوات على صدور المجلة). واتّخذنا جميعاً القرار، سنةً بعد سنة، بمواصلة إصدارها، وبمدّها بما توافر لدينا من مال وجهد ووقت، حتى ونحن نشهدُ بأمّ أعيننا توقّف المجلات الثقافية العربية المستقلة الأخرى أو تعثّرها.
كذلك اتّخذنا قراراً آخر: هو رفض كل تمويل خارج «دار الآداب». كان منطقنا يقول انْ لا معنى لإصدار مجلة ثقافيّة تقدمية معادية للأنظمة العربية، ومشكّكة في أجندات المنظمات غير الحكومية (الـ «أن. جي. أوز»)، بأموال هذه المنظمات أو تلك الأنظمة؛ ولا ثقافة حقيقية يمكن أن تنتج من تمويل يعبقُ برائحة النفط أو الاستبداد أو الأجندات الخارجية «البريئة». فالتمويل هو أحد أهم العوامل التي تحدّد خيارات الكتابة والنشر، من حيث استراتيجيات الإقصاء والاستيعاب والتركيز:
ـ فهو من العوامل التي تحدّد إنْ كان علينا أن نغض الطرف عن جرائم الأنظمة ورجعيّتها (بذريعة «الأولويات الأمنية والقومية»)، أم أن نطالب بتغييرها وإسقاطها؛
ـ وهو من العوامل التي تحدّد إنْ كان علينا أن نواصل الحديث عن تحرير فلسطين «من النهر الى البحر» أمْ ننكفئ إلى شعاري «العدالة الانتقالية» و«حلّ الدولتين»؛
ـ وهو من العوامل التي تحدّد إنْ كان «تحرير المرأة» و«محو الأمية» و«تشجيع المطالعة» و«حريّة الخيار الجنسي» بنوداً من ضمن مشروع عربي تحرري تقدمي شامل، أم هي محضُ بنود قائمة بذاتها ولذاتها في مشاريع الـ «أن. جي. أوز».
ويوماً بعد يوم، صرنا نتفرج على الخسائر المادية تتزايد، فنبتسم بمازوشية. ثم ننظر إلى الأقطار العربية وهي تَمنع أعدادَنا، فنتيقّن من أننا على الطريق المستقيم، إذ ما معنى ثقافة لا تُغضب الحاكم العربي، ورجال استخباراته، ومشايخه، و«مثقّفيه»؟ ووصلنا إلى زمن توقّفنا فيه عن إحصاء خسائر المجلة، بل كدنا نصل إلى معادلة تكاد تكون عبثيّة: خسائر أكثر = حريّة أكبر. وهي معادلة جسّدناها عمليّاً في إجراء قد يبدو جنونيّاً من الناحية التجارية، ألا وهو حجب «الآداب»، وبقرار ذاتي من رئيس تحريرها، من دخول سوريا، أكبر سوق لقرّاء هذه المجلة، بعد اندلاع الأحداث الأخيرة، كي نفسح المجال أمام الجميع ليكتبوا ما شاؤوا، ومن دون أن نسمح لأنفسنا بأي «مسايرة» لمقص الرقيب.
■ ■ ■
اليوم تقرّر مجلة «الآداب» أن تحتجب عن قرّائها موقتاً، وهي التي لم تحتجب من قبل على امتداد ستين عاماً. ولن نعود إلى إصدارها قبل أن نتيقّن من أنّ الصيغة الجديدة ستكون قادرة على الاستمرار سنوات طويلة أخرى، لكنْ، ومنعاً لأي تأويل، مغرض أو غير ذلك، يهمّني أن أوضح ما يأتي: المال ليس وراء قرارنا الجديد. المجلة كانت خاسرة على نحو شبه متواصل، وهي قلما ربحت أو غطّت كلفة إنتاجها طوال أكثر من ثلاثة أرباع عمرها. (وما يزيد من خسائرها منذ سنوات طويلة وجود «مقاولين» يبتاعونها بأزهد الأثمان ثم يبيعونها اشتراكات مؤسّساتيةً إلى الجامعات والمعاهد!). ولهذا، فإنّ هذه الافتتاحيّة ليست دعوةً إلى «الإنقاذ»، ولا إلى المزيد من الاشتراكات. إنها عرض للواقع كما هو فحسب.
إنّ «دار الآداب» المموّل الأول والأخير والوحيد لمجلة «الآداب»، ورقاً وطباعةً وأجور تحرير وتأليف وترجمة وبريد وشحن وتخزين واتصالات وموقع إلكتروني... قادرة على أن تواصل إصدارها ستين عاماً قادمة. فهي دار ناجحة، بل متفوّقة بكل المعايير، على ما يشهد القاصي والداني. وهي ابنة بارّة بأمها التي أنجبتها، وأمّ وفية لابنتها التي رعتها. المشكلة أنّ عدد قرّاء مجلة «الآداب»، وعدد قرّاء باقي المجلات الثقافية الورقية المستقلة، يسير في منحى تراجعي منذ سنوات، مع بعض الاستثناءات في هذا البلد أو ذاك، ولإصدارات محدودة من هذه المجلة أو تلك في كل الأحوال. وهذا ما يستدعي طرح الأسئلة الآتية:
ما معنى إصدار مجلة حين يتراجع القرّاء؟ وهل الإصرار على إصدارها بطولة واجبة، أمْ إضاعة لجهد كان يمكن أن يُصرف في مواضع أخرى قد لا تقل أهميّةً ومردوداً ثقافياً ونهضوياً وانتشارياً؟ وما معنى أن تواجه مجلة ورقية حكم الاستبداد والقمع والتخلّف حين لا يستطيع المواطنون الخاضعون له الحصول عليها ـ ولو عبر الاشتراك المباشر أحياناً (في بعض البلدان فتحوا ظروف المجلة وصادروا الأعداد رغم أنها مرسلة إلى مشتركين)؟
هذه أسئلة جوهريّة، لا تخص «الآداب» وحدها، بل تطولُ كل منبر ثقافي مستقل يرفض أن يبيع نفسه لسلطة المال. وكما أنّ المسألة ليست مسألة مادية، فهي أيضاً ليست مسألة سوء إدارة، بدليل أنّ كل المجلات الثقافية الأخرى، المستقلة حقاً أو زعماً، توقّفت على الرغم من أنّها اتّهمتنا بسوء الإدارة. فماذا فعل أصحابُها الشاطرون؟ أنفقوا ما حصّلوه من هذا المموّل أو ذاك على بضعة أعداد خلال أعوام قليلة، ثم توقّفوا عن الإصدار!
■ ■ ■
على نحو أوضح نسأل أسئلة متّصلة بما سبق: هل من مستقبل للمجلة الثقافيّة الورقية (وربما للكتاب الورقي أيضاً ـ لكنّ هذا موضوع آخر)؟ هل تستطيع المجلة الثقافية الورقية أن تصدر مستقلّة، مناضلةً، حرّة، مشاكسة، غاضبة، ثمّ تمرَّ بلا عقاب إلى ممالك الاستبداد وجمهوريات القتل؟ هل تستطيع أن تنافس المَلاحقَ الثقافية التي باتت تصدر مع كل جريدة تقريباً (وكلّها مموّلٌ أو مدعومٌ من خارجها)، أو تنافسَ مجلّاتِ وزارات «الثقافة» والإعلام العربية التي كرّست ملايين الدولارات لاستقطاب الأسماء الكبيرة من كتّاب ورسّامين ومخرجين، ولترويج تاريخها القُطري «العريق» في سيرورة الحضارة البشرية؟ هل تستطيع جذب المواطن العربي بعيداً عن التلفزيون والفايسبوك والتويتر والفقهاء ورجال الدين، فضلاً عن المشعوذين والدجّالين وقارئي البخت والمتنبئين بأحوال العام الجديد؟ وإذا لم يكن للمجلة المستقلة من حليف في أوساط الناس، فكيف ستصمد، وكيف ستواجه، وكيف ستزداد انتشاراً، وكيف ستتطوّر مادةً وتصميماً ورؤيةً استشرافيّةً؟
■ ■ ■
أنقول، إذنْ، وداعاً؟
بل نقول إلى اللقاء. إلى اللقاء في صيغة قد تكون إلكترونية، تتحايلُ على الرقابات، وتنتشر على نحو أعظم، إلى أن نبلغ الزمن الذي نستطيع فيه أن نعيد إصدارها على نحو ورقيّ أيضاً حفاظاً على تاريخها و«تضامناً» مع كثيرين لا يفقهون لغة الكومبيوتر وأخواته. أما على المستوى الشخصي، فسأعمل في هذه الأثناء على إنجاز المعجم العربي الضخم، وعلى كتابة المزيد من الروايات الموجّهة إلى الأطفال والناشئة (الفئة الأخيرة هي الأكثر غبناً في الوطن العربي). وستكون «الآداب»، حين تصدر في عهدها الثالث، كما يريدها محبوها، وكما أرادها مؤسّسها ومراسلوها وقرّاؤها الأوفياء: صوتاً صادحاً للعدالة والحرية، يَجمع ـ إلى أصالة الانتماء ـ كفاءةَ الوصول إلى أوسع فئات الناس.
* افتتاحية الكاتب وناشر «الآداب» في العدد الأخير من المجلة (خريف 2012 ــ السنة 60)
http://www.al-akhbar.com/node/175997
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق