الدكتور عبد العزيز الدوري علم من أعلام التاريخ وصاحب مدرسة تتميز بالدقة والتركيز على العوامل الاقتصادية في فهم حركة المجتمع
ا.د.ابراهيم
خليل العلاف
استاذ
التاريخ الحديث –العراق
أجاب أحد النقاد قبل سنوات على سؤال يتعلق بأهم ما أنجزه العرب في التاريخ المعاصر وطيلة القرن العشرين قائلا: إنهم قدموا إنجازات في تطوير علم التاريخ من قبل مؤرخين عراقيين مشهورين هما الدكتور عبدالعزيز الدوري، والدكتور صالح أحمد العلي.
والدكتور الدوري مؤرخ متميز ومرب فاضل وإداري وقيادي جامعي من الطراز الأول. رأس جامعة بغداد ردحا من الزمن، فكان له دور فاعل في تطويرها ووضعها في مكان لائق بين جامعات العالم.
الدوري علم من أعلام التاريخ الإسلامي، وصاحب مدرسة تتميز بالدقة والعمق وسعة الموضوع والأهم من ذلك هو تركيزه في دراساته على (العوامل الاقتصادية) في فهم حركة التاريخ والمجتمع.
ولد عبدالعزيز الدوري في بغداد سنة 1908، وبعد أن أكمل دراسته الثانوية، حصل على بعثة علمية في المملكة المتحدة، فسافر إلى لندن ونال شهادة البكالوريوس من جامعتها سنة 1940. واستمر في دراسته وحصل على شهادة الدكتوراه سنة 1942، ولما عاد إلى بغداد عين مدرسا للتاريخ الإسلامي في دار المعلمين العالية (كلية التربية حاليا) في بغداد. وبقي فيها حتى رقي إلى مرتبة أستاذ.
أصبح رئيسا لدائرة التاريخ في جامعة بغداد، فعميدا لكلية الآداب والعلوم من 1949 ـ 1958 ورئيسا لجامعة بغداد 1962 ـ 1966.
ولم تقتصر جهود الدوري العلمية على بلاده، العراق، إنما عمل أستاذا زائرا في جامعة لندن بين سنتي 1955 ـ 1956 وأستاذا زائرا في الجامعة الأميركية في بيروت 1959 ـ 1960 واستقر منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي أستاذا للتاريخ في الجامعة الأردنية بعمان.
للدوري مؤلفات عديدة طبع الكثير منها طبعات كثيرة منها:
العصر العباسي الأول (بغداد 1943)، دراسات في العصور العباسية المتأخرة (بغداد، 1945)، مقدمة في تاريخ صدر الإسلام (بغداد، 1950)، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري (بغداد، 1948)، النظم الإسلامية (بغداد، 1950)، دراسات في علم التاريخ عند العرب ، (بيروت، 1960)، الجذور التاريخية للقومية العربية، (بيروت، 1960)، تفسير التاريخ مع آخرين، (بغداد)، التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي (بيروت، 1984)، الجذور التاريخية للشعوبية، ط1 (بيروت، 1962) وط2 (بيروت، 1980)، ناصر الدين الأسد بين التراث والمعاصرة، (بيروت، 2002)، نشأة علم التاريخ عند العرب (طبعة جديدة، 2005).
كما أن له إسهامات فاعلة في كتابة التاريخ الموسوعي العالمي. ومن ذلك أنه كتب مواد عديدة في موسوعات عالمية منها مثلا (دائرة المعارف الإسلامية) منها مواد (بغداد)، (الانبار)، (أمير)، (ديوان)، (عامل)، وغيرها. كما كلف من قبل منظمة التربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، لتحرير مشروع كتاب عام يتناول (تاريخ الأمة العربية) والمشروع لم يستكمل بعد.
يعتمد منهج الدوري في تدوين التاريخ على الرجوع إلى المصادر الأصلية ومحاكمتها محاكمة منطقية، واستخلاص الحقائق التاريخية منها. لذلك اتسمت كتاباته بالدقة والعمق. واهتم بالتاريخ الاقتصادي منذ بواكير حياته العملية وهو يرى أن موضوع التاريخ، موضوع حي، ولذلك ينتظر أن تختلف الآراء حول مفهومه، وأسلوب كتابته وتفسيره، هذا فضلا عن أنه موضوع يتصل بصورة وثيقة بالاتجاهات الفكرية والتطورات العامة، فيتأثر بها وقد يكون له أثره في بعضها. ويؤكد أن ثمة صلة بين المؤرخ وحقائق التاريخ، فالمؤرخ دون حقائق لا جذور له والحقائق دون مؤرخ مجردة من الحياة والمعنى.
ويقول الدكتور الدوري إن المؤرخين العرب القدامى قدموا تفاسير عديدة للتاريخ العربي وللتاريخ البشري كله، فهناك من رأى أن التاريخ تعبير عن (المشيئة الإلهية) المتمثلة بتوالي الرسالات. وهناك من قال إن التاريخ تعبير عن دور النخبة. وفسر آخرون التاريخ تفسيرا أخلاقيا, وأخيرا جاء عبدالرحمن بن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي ليفسر التاريخ تفسيرا حضاريا اجتماعيا.
ويضيف الدوري إلى ذك قوله إن "التفسير الاقتصادي" لا يعني بالضرورة "التفسير المادي". ومع أنه كان يدرك بأن البعض من المؤرخين ذهبوا في كتاباتهم إلى التركيز على (الوعي القومي) و(النزعة القومية) وحتى هو نفسه اتهم بذلك إلا أنه في نهاية الأمر لا يحبذ الالتزام بـ (فلسفة تاريخية معينة وتطبيقها على التاريخ). فالفلسفات التاريخية، برأيه، رهينة بظروف نشأتها وقد يؤدي تطبيقها إلى قسر التاريخ ليماشيها وإلى إخراجه عن نطاقه، فنحن، يقول الدوري "حين ندرس تاريخنا نريد فهمه وبالتالي تكوين فكرة واضحة عن جذور حاضرنا، وفهم إمكانياتنا وتقدير دورنا في سير البشرية".
إن مثل تلك الدراسة تتطلب، لتكون جدية، توفر عناصر عديدة، منها أن لا تكون دراسة خارجية أي من قبل أناس من خارج المجتمع العربي، وأن ندرس تاريخنا بروح النقد والتفهم في آن واحد، ومعنى هذا أنه لا يريد إضفاء القدسية على هذا التاريخ فهو تاريخ بشر. وأخيرا كان الأستاذ الدوري يؤكد على أن التاريخ العربي عج بالتيارات والاتجاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والنفسية وقد مر بفترات توثب وفترات ركود.
لقد تمتع الدوري بمكانة متميزة، حتى أنه لقب بـ "شيخ المؤرخين العرب". كما نال الكثير من التكريم، وقال عنه المؤرخ البريطاني والمتخصص بتاريخ الشرق الأوسط، برنارد لويس "إنه، أي الدوري، أصبح حجة في موضوعه .. بل هو نفسه قد غدا وثيقة تاريخية".
مؤلفات عديدة عنه
لم يكن الدكتور الدوري بعيدا عن النشاطات الثقافية والسياسية والفكرية العربية، بل كان يشارك فيها باحثا ومناقشا ومحاورا وعرف عنه أنه لا يتعصب لرأي حتى أنه وعد في السنوات الأخيرة ومن خلال مؤتمر عالمي حضره، أنه سيعيد النظر في موقفه من الحركة الشعوبية. وحتى دراساته ذات الطابع القومي فإنها اتسمت بالبعد الإنساني فكان يركز على المنجزات العلمية للعرب على المستوى الإنساني.
لقد كان الدوري في كل كتاباته يؤكد أن تاريخ الأمة العربية كل متصل مترابط، يكون سلسلة حلقات يؤدي بعضها إلى بعض. أما حاضر الأمة فهو نتاج سيرها التاريخي وبداية طريقها إلى المستقبل، ولذا فلا انقطاع في التاريخ ولا ظاهرة تبدو فيه دون جذور وتمهيد. كما أن الاتصال في تاريخ الأمة لا يعني أن التاريخ حركة رتيبة، أو أن الأمة سارت بالخطوات نفسها خلال تاريخها، بل أن فيها فترات تزخر بالحيوية والتوثب وأخرى تتصف بالحركة التدريجية والتطور الهاديء. ولكل أمة فتراتها الثورية، هي في الواقع انطلاق صاخب لقوى تجمعت خلال فترات من الكبت أو من التطور السريع الواسع أو هي تعبير عن غليان داخلي انفجر في ثورة صاخبة، وقد تكون لهذه الفترات آثارها البعيدة في الفترات التي تعقبها أو في فترات تالية. ومن هنا تتباين فترات تاريخ الأمة في مسيرتها عبر العصور، فقد يكون أثر فترة بعيدة أقوى في حاضر الأمة من فترة قريبة من هذا الحاضر.
وحول التطور التاريخي للأمة العربية، يرى الدكتور الدوري أن ثمة عناصر أو عوامل أسهمت في هذا التطور منها:
الحركة الإسلامية، خروج العرب بالفتوح وانتشارهم، تكوين الثقافة العربية، التحولات الاجتماعية والاقتصادية وأثرها في التكوين، مشكلة السلطة والصراع السياسي والفكري، ظهور مفهوم الأمة العربية في الإطار الثقافي كنتيجة لتشابك العناصر المذكورة.
ويؤكد الدوري أن "العروبة والإسلام كانا مصدر الحركة والحيوية في تاريخ المجتمعات العربية الإسلامية".
يظل الأستاذ الدكتور الدوري، بحق، رائدا من رواد التحليل التاريخي ـ الاجتماعي كما يقول الدكتور غانم الرميحي. وحسنا فعل مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عندما أقدم على إصدار الأعمال الكاملة للدكتور الدوري ففي ذلك فائدة كبيرة لحركة التاريخ والمؤرخين.
كما أنه من المناسب الإشارة إلى أن منتدى عبدالحميد شومان في عمان بالأردن قد أقام ندوة موسعة تكريما للأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري سنة 1999 باعتباره "من أبرز الذين وضعوا الأسس الحديثة لإعادة قراءة التاريخ العربي بمنظور جديد". وقام الدكتور إحسان عباس بجمع وتحرير البحوث التي ألقيت في تلك الندوة، ثم أقدمت المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2000) ببيروت على نشرها بعنوان "عبد العزيز الدوري: إنسانا ومؤرخا ومفكرا".
ومن البحوث التي ضمها الكتاب، بحث الراحل د. صالح أحمد العلي الموسوم "الدكتور عبدالعزيز الدوري: سجاياه الأصلية وعمله"، وبحث د. فاروق عمر فوزي الموسوم "محاورة منهجية حول مساهمة الدوري في تفسير التاريخ العربي الإسلامي في ضوء التفاسير التاريخية"، وبحث د. مسعود ضاهر الموسوم "مساهمة الدوري في تطوير الفكرة العربية".
وقد اختتم الدكتور الدوري – في حينه - الاحتفالية التكريمية له بكلمة مهمة وقيمة تعكس رؤاه التاريخية أكد فيها "أن كتابة التاريخ لا يمكن أن تكون خارج سياق تيارات الحاضر وهمومه، وهذا يصدق على التاريخ الإسلامي وكتابة التاريخ الحديث، فتلميذ التاريخ ابن بيئته في الأساس ينطلق من الماضي إلى الحاضر وبالعكس، ويختار موضوعاته ويفسر مشاكله بمفاهيم عصره".
وفي الجمعة 15 ديسمبر/كانون الأول 2000 منحت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم جائزتها التقديرية للثقافة العربية للدورة 2000 للمؤرخ الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الدوري نظرا "لجهوده في دراسة الفكر القومي وجذوره التاريخية ولتأكيده على إبراز علاقات الشعوب العربية بالأمم والشعوب والثقافات الإسلامية، ولاهتمامه بدراسة النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الحضارة العربية والإسلامية". وألقيت في احتفال التكريم الذي تم في بيروت كلمات منها كلمة الدكتور خير الدين حسيب مدير عام مركز دراسات الوحدة العربية قال فيها: "إن الدوري نموذج رائع للعلم الملتزم الذي يخدم المبدأ ولا يستخدمه. العلم الذي ينفع الناس فيمكث في الأرض لا العلم الذي يفيد صاحبه فيمكن أن يذهب جفاء، ويعد الدوري أنموذجا للعالم الذي وهب نفسه لخدمة قيم إنسانية ومثل عليا، فضلا عن أنه جعل العلم باستمرار في خدمة المجتمع".
ولكن لكل أجل كتاب، فلقد انتقل الدوري الإنسان، المؤرخ، المفكر الكبير إلى رحمة ربه بالعاصمة الأردنية عمان حيث كان يعيش، الجمعة 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2010.
*ميدل ايست اون لاين
**الاستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري عندما كان عميدا لكلية الاداب والعلوم -بغداد 1949-1958 وهو يرافق الملك فيصل الثاني ملك العراق الاسبق 1953-1958 اثناء حضوره حفل تخرج كلية الاداب والعلوم 1957
أجاب أحد النقاد قبل سنوات على سؤال يتعلق بأهم ما أنجزه العرب في التاريخ المعاصر وطيلة القرن العشرين قائلا: إنهم قدموا إنجازات في تطوير علم التاريخ من قبل مؤرخين عراقيين مشهورين هما الدكتور عبدالعزيز الدوري، والدكتور صالح أحمد العلي.
والدكتور الدوري مؤرخ متميز ومرب فاضل وإداري وقيادي جامعي من الطراز الأول. رأس جامعة بغداد ردحا من الزمن، فكان له دور فاعل في تطويرها ووضعها في مكان لائق بين جامعات العالم.
الدوري علم من أعلام التاريخ الإسلامي، وصاحب مدرسة تتميز بالدقة والعمق وسعة الموضوع والأهم من ذلك هو تركيزه في دراساته على (العوامل الاقتصادية) في فهم حركة التاريخ والمجتمع.
ولد عبدالعزيز الدوري في بغداد سنة 1908، وبعد أن أكمل دراسته الثانوية، حصل على بعثة علمية في المملكة المتحدة، فسافر إلى لندن ونال شهادة البكالوريوس من جامعتها سنة 1940. واستمر في دراسته وحصل على شهادة الدكتوراه سنة 1942، ولما عاد إلى بغداد عين مدرسا للتاريخ الإسلامي في دار المعلمين العالية (كلية التربية حاليا) في بغداد. وبقي فيها حتى رقي إلى مرتبة أستاذ.
أصبح رئيسا لدائرة التاريخ في جامعة بغداد، فعميدا لكلية الآداب والعلوم من 1949 ـ 1958 ورئيسا لجامعة بغداد 1962 ـ 1966.
ولم تقتصر جهود الدوري العلمية على بلاده، العراق، إنما عمل أستاذا زائرا في جامعة لندن بين سنتي 1955 ـ 1956 وأستاذا زائرا في الجامعة الأميركية في بيروت 1959 ـ 1960 واستقر منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي أستاذا للتاريخ في الجامعة الأردنية بعمان.
للدوري مؤلفات عديدة طبع الكثير منها طبعات كثيرة منها:
العصر العباسي الأول (بغداد 1943)، دراسات في العصور العباسية المتأخرة (بغداد، 1945)، مقدمة في تاريخ صدر الإسلام (بغداد، 1950)، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري (بغداد، 1948)، النظم الإسلامية (بغداد، 1950)، دراسات في علم التاريخ عند العرب ، (بيروت، 1960)، الجذور التاريخية للقومية العربية، (بيروت، 1960)، تفسير التاريخ مع آخرين، (بغداد)، التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الهوية والوعي (بيروت، 1984)، الجذور التاريخية للشعوبية، ط1 (بيروت، 1962) وط2 (بيروت، 1980)، ناصر الدين الأسد بين التراث والمعاصرة، (بيروت، 2002)، نشأة علم التاريخ عند العرب (طبعة جديدة، 2005).
كما أن له إسهامات فاعلة في كتابة التاريخ الموسوعي العالمي. ومن ذلك أنه كتب مواد عديدة في موسوعات عالمية منها مثلا (دائرة المعارف الإسلامية) منها مواد (بغداد)، (الانبار)، (أمير)، (ديوان)، (عامل)، وغيرها. كما كلف من قبل منظمة التربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، لتحرير مشروع كتاب عام يتناول (تاريخ الأمة العربية) والمشروع لم يستكمل بعد.
يعتمد منهج الدوري في تدوين التاريخ على الرجوع إلى المصادر الأصلية ومحاكمتها محاكمة منطقية، واستخلاص الحقائق التاريخية منها. لذلك اتسمت كتاباته بالدقة والعمق. واهتم بالتاريخ الاقتصادي منذ بواكير حياته العملية وهو يرى أن موضوع التاريخ، موضوع حي، ولذلك ينتظر أن تختلف الآراء حول مفهومه، وأسلوب كتابته وتفسيره، هذا فضلا عن أنه موضوع يتصل بصورة وثيقة بالاتجاهات الفكرية والتطورات العامة، فيتأثر بها وقد يكون له أثره في بعضها. ويؤكد أن ثمة صلة بين المؤرخ وحقائق التاريخ، فالمؤرخ دون حقائق لا جذور له والحقائق دون مؤرخ مجردة من الحياة والمعنى.
ويقول الدكتور الدوري إن المؤرخين العرب القدامى قدموا تفاسير عديدة للتاريخ العربي وللتاريخ البشري كله، فهناك من رأى أن التاريخ تعبير عن (المشيئة الإلهية) المتمثلة بتوالي الرسالات. وهناك من قال إن التاريخ تعبير عن دور النخبة. وفسر آخرون التاريخ تفسيرا أخلاقيا, وأخيرا جاء عبدالرحمن بن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي ليفسر التاريخ تفسيرا حضاريا اجتماعيا.
ويضيف الدوري إلى ذك قوله إن "التفسير الاقتصادي" لا يعني بالضرورة "التفسير المادي". ومع أنه كان يدرك بأن البعض من المؤرخين ذهبوا في كتاباتهم إلى التركيز على (الوعي القومي) و(النزعة القومية) وحتى هو نفسه اتهم بذلك إلا أنه في نهاية الأمر لا يحبذ الالتزام بـ (فلسفة تاريخية معينة وتطبيقها على التاريخ). فالفلسفات التاريخية، برأيه، رهينة بظروف نشأتها وقد يؤدي تطبيقها إلى قسر التاريخ ليماشيها وإلى إخراجه عن نطاقه، فنحن، يقول الدوري "حين ندرس تاريخنا نريد فهمه وبالتالي تكوين فكرة واضحة عن جذور حاضرنا، وفهم إمكانياتنا وتقدير دورنا في سير البشرية".
إن مثل تلك الدراسة تتطلب، لتكون جدية، توفر عناصر عديدة، منها أن لا تكون دراسة خارجية أي من قبل أناس من خارج المجتمع العربي، وأن ندرس تاريخنا بروح النقد والتفهم في آن واحد، ومعنى هذا أنه لا يريد إضفاء القدسية على هذا التاريخ فهو تاريخ بشر. وأخيرا كان الأستاذ الدوري يؤكد على أن التاريخ العربي عج بالتيارات والاتجاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والنفسية وقد مر بفترات توثب وفترات ركود.
لقد تمتع الدوري بمكانة متميزة، حتى أنه لقب بـ "شيخ المؤرخين العرب". كما نال الكثير من التكريم، وقال عنه المؤرخ البريطاني والمتخصص بتاريخ الشرق الأوسط، برنارد لويس "إنه، أي الدوري، أصبح حجة في موضوعه .. بل هو نفسه قد غدا وثيقة تاريخية".
مؤلفات عديدة عنه
لم يكن الدكتور الدوري بعيدا عن النشاطات الثقافية والسياسية والفكرية العربية، بل كان يشارك فيها باحثا ومناقشا ومحاورا وعرف عنه أنه لا يتعصب لرأي حتى أنه وعد في السنوات الأخيرة ومن خلال مؤتمر عالمي حضره، أنه سيعيد النظر في موقفه من الحركة الشعوبية. وحتى دراساته ذات الطابع القومي فإنها اتسمت بالبعد الإنساني فكان يركز على المنجزات العلمية للعرب على المستوى الإنساني.
لقد كان الدوري في كل كتاباته يؤكد أن تاريخ الأمة العربية كل متصل مترابط، يكون سلسلة حلقات يؤدي بعضها إلى بعض. أما حاضر الأمة فهو نتاج سيرها التاريخي وبداية طريقها إلى المستقبل، ولذا فلا انقطاع في التاريخ ولا ظاهرة تبدو فيه دون جذور وتمهيد. كما أن الاتصال في تاريخ الأمة لا يعني أن التاريخ حركة رتيبة، أو أن الأمة سارت بالخطوات نفسها خلال تاريخها، بل أن فيها فترات تزخر بالحيوية والتوثب وأخرى تتصف بالحركة التدريجية والتطور الهاديء. ولكل أمة فتراتها الثورية، هي في الواقع انطلاق صاخب لقوى تجمعت خلال فترات من الكبت أو من التطور السريع الواسع أو هي تعبير عن غليان داخلي انفجر في ثورة صاخبة، وقد تكون لهذه الفترات آثارها البعيدة في الفترات التي تعقبها أو في فترات تالية. ومن هنا تتباين فترات تاريخ الأمة في مسيرتها عبر العصور، فقد يكون أثر فترة بعيدة أقوى في حاضر الأمة من فترة قريبة من هذا الحاضر.
وحول التطور التاريخي للأمة العربية، يرى الدكتور الدوري أن ثمة عناصر أو عوامل أسهمت في هذا التطور منها:
الحركة الإسلامية، خروج العرب بالفتوح وانتشارهم، تكوين الثقافة العربية، التحولات الاجتماعية والاقتصادية وأثرها في التكوين، مشكلة السلطة والصراع السياسي والفكري، ظهور مفهوم الأمة العربية في الإطار الثقافي كنتيجة لتشابك العناصر المذكورة.
ويؤكد الدوري أن "العروبة والإسلام كانا مصدر الحركة والحيوية في تاريخ المجتمعات العربية الإسلامية".
يظل الأستاذ الدكتور الدوري، بحق، رائدا من رواد التحليل التاريخي ـ الاجتماعي كما يقول الدكتور غانم الرميحي. وحسنا فعل مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عندما أقدم على إصدار الأعمال الكاملة للدكتور الدوري ففي ذلك فائدة كبيرة لحركة التاريخ والمؤرخين.
كما أنه من المناسب الإشارة إلى أن منتدى عبدالحميد شومان في عمان بالأردن قد أقام ندوة موسعة تكريما للأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري سنة 1999 باعتباره "من أبرز الذين وضعوا الأسس الحديثة لإعادة قراءة التاريخ العربي بمنظور جديد". وقام الدكتور إحسان عباس بجمع وتحرير البحوث التي ألقيت في تلك الندوة، ثم أقدمت المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2000) ببيروت على نشرها بعنوان "عبد العزيز الدوري: إنسانا ومؤرخا ومفكرا".
ومن البحوث التي ضمها الكتاب، بحث الراحل د. صالح أحمد العلي الموسوم "الدكتور عبدالعزيز الدوري: سجاياه الأصلية وعمله"، وبحث د. فاروق عمر فوزي الموسوم "محاورة منهجية حول مساهمة الدوري في تفسير التاريخ العربي الإسلامي في ضوء التفاسير التاريخية"، وبحث د. مسعود ضاهر الموسوم "مساهمة الدوري في تطوير الفكرة العربية".
وقد اختتم الدكتور الدوري – في حينه - الاحتفالية التكريمية له بكلمة مهمة وقيمة تعكس رؤاه التاريخية أكد فيها "أن كتابة التاريخ لا يمكن أن تكون خارج سياق تيارات الحاضر وهمومه، وهذا يصدق على التاريخ الإسلامي وكتابة التاريخ الحديث، فتلميذ التاريخ ابن بيئته في الأساس ينطلق من الماضي إلى الحاضر وبالعكس، ويختار موضوعاته ويفسر مشاكله بمفاهيم عصره".
وفي الجمعة 15 ديسمبر/كانون الأول 2000 منحت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم جائزتها التقديرية للثقافة العربية للدورة 2000 للمؤرخ الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الدوري نظرا "لجهوده في دراسة الفكر القومي وجذوره التاريخية ولتأكيده على إبراز علاقات الشعوب العربية بالأمم والشعوب والثقافات الإسلامية، ولاهتمامه بدراسة النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الحضارة العربية والإسلامية". وألقيت في احتفال التكريم الذي تم في بيروت كلمات منها كلمة الدكتور خير الدين حسيب مدير عام مركز دراسات الوحدة العربية قال فيها: "إن الدوري نموذج رائع للعلم الملتزم الذي يخدم المبدأ ولا يستخدمه. العلم الذي ينفع الناس فيمكث في الأرض لا العلم الذي يفيد صاحبه فيمكن أن يذهب جفاء، ويعد الدوري أنموذجا للعالم الذي وهب نفسه لخدمة قيم إنسانية ومثل عليا، فضلا عن أنه جعل العلم باستمرار في خدمة المجتمع".
ولكن لكل أجل كتاب، فلقد انتقل الدوري الإنسان، المؤرخ، المفكر الكبير إلى رحمة ربه بالعاصمة الأردنية عمان حيث كان يعيش، الجمعة 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2010.
*ميدل ايست اون لاين
**الاستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري عندما كان عميدا لكلية الاداب والعلوم -بغداد 1949-1958 وهو يرافق الملك فيصل الثاني ملك العراق الاسبق 1953-1958 اثناء حضوره حفل تخرج كلية الاداب والعلوم 1957
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق