المورفولوجيا المحورة لشجرة ( الصبير ) في جدارية تتويج الملك زمري لم .......................دراسة
بقلم :أ.د.هاني محي الدين الحجحمد
قسم التربية الفنية /كلية الفنون الجميلة- جامعة بغداد- العراق
مقدمة :
من المعروف أن الدراسات الفلسفية الحديثة قد صبت اهتمامها بشكل كبير على أحد فروع علم الجمال المعاصر ، والذي يطلق عليه مصطلح ( مورفولوجيا الجمال ) ..والذي يعني بدراسة أشكال الفن في مختلف المجالات من أجل تحليلها ومقارنتها من حيث المكونات والتركيب واستنباط تصنيف للأنماط والمنوعات الرئيسية . ومن بين الدراسات الجمالية التي برزت ، هي ( مورفولوجيا الأشكال ) التي تعني بدراسة بنية الأشياء أو أشكالها( 3: ص 593 ) .
وبات واضحا ومما هو متميز أيضا في عهود موغلة في تاريخ الفن القديم ، الإبداعات التي قدمها الفنانون العراقيون القدماء ، والتي شكل بعض منها مورفولوجيا جمالية رائعة لإشكال الكائنات الطبيعية( الحية وغير الحية ) ، وذلك بتحوير وتركيب هذه الأشكال الى مفردات ورموز ووحدات زخرفية كان لها أغراضها( الدينية_الطقوسية ) أو ( الدنيوية_السياسية ) والتي أصبحت معروفة للجميع . وكان من بين ماهو غير معروف لدى المختصين والباحثين هو نوع الشجرة التي حورت تحويرا مورفولوجيا رائعا عن الشجرة الأصل والتي اتخذت موقعين مهمين ورئيسيين على جانبي الجزء المركزي( لجداريه تنصيب الملك زمري لم ) في ماري في العصر البابلي القديم( 1594_2003 ق.م ).
تظهر أهمية البحث في الكشف عن نوع هذه الشجرة التي طالما شغلت عقول الباحثين في التعرف على أصولها الطبيعية ، والتعرف على الهدف من وضعها في هذين الموقعين المتميزين بجوار( النخلة العراقية الباسقة ) رمز العراق القديم والحديث .
كما تطرق الباحث الى مصطلح المورفولوجيا Morphology ، ووضع له تعريفا جماليا يفيد في مجال الفنون التشكيلية . اذ يعرفها على انها : هي التحوير والتركيب البنيوي والجمالي و للأشكال .
عينة البحث : جدارية الملك زمري لم في قصر ماري
تعد هذه الجدارية من أبرز الأعمال الفنية التي تركها لنا الفنان البابلي القديم على جدران الساحة الداخلية (106) من البيئة الوسيطة(*1) في قصر ماري والتي اتخذت موقعا على اليمين من مدخل القاعة (64) ( قاعة العرش الكبرى ) التي يتم فيها الطقوس الدينية لتتويج الملك ( اللوح 1) . وتناولت موضوعا مهما يجمع بين المضامين الدينية والدنيوية في آن واحد ، ويعبر عن مفهوم الملوكية الرافدينية القديمة وعلاقتها بالمفاهيم الدينية المتضمنة استلام شارات السلطة من قبل الآلهة .
يعود تاريخ تنفيذ الجدارية الى عام ( 1760 ق.م من القرن 18 ق.م ) من زمن الملك زمري لم الذي يدور حوله الموضوع الرئيسي للجدارية ، أثناء تتويجه ملكا على مدينة ماري ( 1 : ص 334 ) .
عملت الجدارية كواجهة اعلامية لزوار القصر أثناء دخولهم الى قاعة العرش وتهيئة الجانب الفكري والعقائدي لما يحدث فيها من طقوس دينية وطرد للأرواح الشريرة عن الملك أثناء تتويجه وأستلامه لشارات السلطة والملكية عبر أحتفالات الزواج المقدس المتعارف عليها عند الرافدينيين القدماء .
تتصف الجدارية بأنها ذات خصائص اسلوبية مميزة من الفن الجداري البابلي وتتضح من خلال التأليف الفني العالي المستوى من العناصر والمفردات البيئوية الموزعة توزيعا متناظرا حول الموضوع المركزي من الجدارية ، وتشكل ( الشجرة المحورة )( موضوعة البحث الرئيسية التي يروم الباحث الكشف عن أصلها الطبيعي ) من المفردات البارزة التي ظهرت في التكوين الفني للجدارية ، واتخذت موقعين متميزين على جانبي الموضوع المركزي ، حيث تمثل بقية المفردات الطبيعية والمحورة ( التي وضعت بجوار الشجرة ) عوامل مساندة للهدف المذكور .
يتألف التكوين الفني للجدارية من عدة أجزاء ، ويتكون الموضوع الرئيسي من عدة أقسام وعلى النحو الآتي :
1_ القسم المركزي : وهو بهيئة مربع ، يمثل غرفة الطقس التي يتم فيها مراسيم التتويج ، محاط باطار خارجي مكون من ستة أشرطة ملونة ومقسم الى نصفين .
أ_ النصف الأعلى :
يمثل مشهد تتويج الملك مرتديا ردائه الخاص بهذه المناسبة يستلم ( الحلقة والصولجان_ شارات السلطة ) من الألهة عشتار، وهي متنكبة اسلحتها القتالية ( القوس والنبال اضافة الى السيف المقوس _ الألة الطقوسية ) معتمرة تاجها الالهي المقرن ، تتقدم لتمنح الملك ( الحلقة والصولجان ) ، ويبدو تحت قدمها الأيمن ( الأسد _ التابع الحيواني الحامي لها ) . كما يبدو خلفها وخلف الملك آلهة ثانوية مرافقة يليها اله ملتحي آخر .
ب_ النصف الأسفل :
ويظهر في الجزء الأسفل من القسم المركزي ، يفصله عن النصف الأعلى ستة شرائط متصلة بالشرائط التي تحيط بالقسم كله . بداخله آلهتين متقابلتين من النوع ( ألهات النهر) يظهر بيد كل واحد منهما اناء يتدفق منه الماء بهيئة جدولين تتخذ أربعة جداول بوسطها ( نبتة_سنبلة ) ، ومن الملاحظ في هذه الجداول ظهور أسماك سابحة بعكس اتجاه مجرى الجداول متجهة نحو ( الاناء_المنبع )(*2) .
2_ الأجزاء المحيطة بالقسم المركزي :
من المفردات التي تثير المشاهد ، ظهور شجرتين متناظرتين على يمين ويسار القسم المركزي ( اعتقد البابليون على انها أشجار مقدسة_ رمزية )( وهي موضوعة البحث ) . بالاضافة الى ظهور كائنات مركبة وبشكل متناظر على جانبي القسم المركزي موزعة على ثلاثة أشرطة تمثل كائنات مجنحة ( أسطورية ) مع كائن مركب آخر( غير واضح الرأس ) يرفع احدى أطرافه الأمامية على (زخرفة الجبل)(*3) . كما يلاحظ وجود نخلتين متناظرتين على جانبي القسم المركزي يتسلق عليهما شخصان يلتقطان التمر ، يلي النخلتين آلهتين ثانويتين تقتربان في هيئتهما من الآلهات المرافقة ( المذكورة سابقا ) . ومما يثير الانتباه أيضا ظهور طائر كبير ( يفرد جناحيه للطيران ) يحاول الانطلاق من النخلة اليمنى من الجداريه .
وتظهر أيضا حاشية من الزخارف ( الحلزونية والمقوسة ودوائر صغيرة )مربوطة بخطوط مستقيمة تتخذ في هيئتها اطار عام مستطيل يحيط بجميع جوانب الجدارية .
والآن .. وبعد هذا الوصف ، لابد من وقفة تأملية شاملة للمفردات التي استلهمت من البيئة الطبيعية الرافدينية بأشكالها المتنوعة والتي ظهرت على النحو الآتي :
1_ أشكال آدمية : الملك _ شخصان متسلقان
2_ أشكال الهية :الالهة عشتار _ الهة ثانوية مرافقة
3_ أشكال طبيعية : الماء _ زخرفة الجبل المحورة
4_ أشكال نباتية : سنبلتين _ نخلتين _ شجرتين رمزيتين(موضوعة البحث)
5_ أشكال حيوانية : أسد _ أسماك _ طائر
6_ أشكال أسطورية : كائنات مركبة
وحسبنا أن نؤكد على أستلهامات ( للأشكال النباتية ) من البيئة ، والتي تتمثل في كون النخله تمثل عنوانا لأرض الرافدين ورمزا سومريا وأكديا وبابليا وأشوريا قديما وهي الشجره المقدسة و( شجره الحياة ) لديهم ، وتعد رمزا لعطاء الأرض والثروه الزراعية أضافه ( للسنبلة ) التي تمثل بعض هذه الاعتبارات . وبالتالي فكل ذلك من مؤثرات البيئة الطبيعية ( النباتية ) على مفهوم الرمزية في فكر الفنان والعراقيين القدماء .
أما الشجره ( المحورة ) موضوعه البحث ، والتي لم يتطرق إلى أصلها الطبيعي أحد من الباحثين والمختصين الذين تناولوا موضوع الجداريه ، مكتفين في وصفها بأنها ( شجره محوره أو شجره الحياة)(*4) أو ( مؤسلبه )(*5) ، قام برسمها الفنان البابلي على جانبي الجزء المركزي من الجداريه أضافه لشجره النخيل الواضحة المعالم .
ألا أن الباحث حرص على أن يقدم تحليلا عن نوع هذه الشجره التي طالما أبتعد المختصون عن ذكره ، والذي يتلخص ذكره بالأتي :
أن الجداريه وهي تصور مشهدا لتتويج الملك زمري لم وأستلامه لشارات السلطه من الالهه عشتار بأحتفال ديني طقوسي بما يسمى ( بأحتفال الزواج المقدس ) هي من العادات والتقاليد الرافدينيه القديمة التي تقام في مثل هذه المناسبات الرسمية المهمة . وهذا ما يؤيده ( سيتون لويد ) في إشارته لتفسير أحد الباحثين حول موضوع الجداريه بأنه يمثل ( أحتفال طقوسي قد أقيم في غرفه الطقس والغرفه المؤديه لها بمعبد من النوع الذي صار يدخل اليه في العصور الاشوريه . بين تماثيل الأواني الفوارة وأشجار النخيل)( 7:ص196 ).
وهذا يعني أن البابليين القدماء كانوا يؤدون أحتفالهم الطقوسي هذا بترديد الترانيم الدينية والتعاويذ السحرية لطرد الأرواح الشريرة وحماية الملك من خصومه وأعدائه ، وتهيئته روحيا للأنتصار عليهم ، وكان يتم ذلك بانهاء هذه الطقوس والمراسيم داخل غرفة الطقس( الممثله بالقسم المركزي من الجدارية كما ذكرنا سابقا ) . وقد وضع الفنان هذه الشجرة والمخلوقات المركبة والآلهة الآخرى اضافة لشجرة النخيل بمواقعها المتناظرة على جانبي( مشهد التتويج ) وذلك للأغراض المذكورة أعلاه .
ونتيجة للتقارب من ناحية الشكل بين هذه الشجرة المحورة( اللوح 2 أ ) وبين الهيئة العامة للأعضاء التكاثرية لشجرة الصبير(*6) . ( اللوح 2 ب ) ، فان الباحث يرى أن هذه الشجرة هي من نوع( شجرة الصبير)المعروفة لدى المربيين( بشجرة الصبار أو ابرة آدم ) وللتأكد من ذلك تم مراجعة المراجع والمصادر التي تناولت زراعة النباتات من هذا النوع في العصر البابلي القديم والذي يقابله العصر الآشوري القديم ، للتعرف على الاستعمالات العديدة لها ، منها الطبية )(*7) ، ومنها السحرية الطقوسية واستخدمت في مثل هذه المناسبات والحالات التي يفك بها سحر خصوم الرجل . كما توصل الباحث الى النص المسماري الذي يدعم اجتهاده هذا حول استعمال براعم الصبير في عمليات السحر لطرد خصوم الرجل وأعدائه ، اذ يذكر النص المترجم من اللوح المسماري الآتي :
-اللوح المسماري رقم 243 ط أ 89 ، 1 ( ك 6261 ) .
-الترجمة ( اذا سيطر على الرجل خصومه بواسطة السحر ، فيجب أن يفك هذا السحر من الرجل : الأزورد والصبير وزهرة الربيع ( الاقحوان ومثله) ( 2 :الفقرة 16 ، ص 20 ) .
(انتهى النص)
الازورد : حجر أزرق اللون .
زهرة الربيع : البيبون ( نبتة موسمية – قصيرة ) تعني ( الاقحوان ) .
الصبير : شجرة قصيرة ولكن أعضائها التكاثريه طولها بطول شجره النخيل ، كما هو واضح في اللوح (2 أ ) و( اللوح 2 ب ) .
ولما كان العراقيون القدماء يجعلون لاعضاء الخصوبه ( التكاثريه ) عند المرأه والرجل قدسيه خاصه ، وهو ما نجده في التماثيل الالهه الأم في ( عصور ما قبل التأريخ ) وتماثيل بعض الالهه الاخرى في (العصور التاليه ) أو رسوم بعض ابطالهم الاسطوريين مثل ( كلكامش) وبعض ملوكهم فقد كانت الاعضاء التكاثريه لهذه الشجره ( الصبير ) تنحو هذا المنحى من التقديس في هذا العمل أضافه للأستعمالات السحريه ( لأغراض طرد الشر والارواح الشريره لخصوم الملك ) وأستخدمت هنا مكملة في عملها لأستخدامات الأشكال الأسطورية ( من الكائنات الأسطورية ) والألهة الثانوية المرافقه والتي وضعت أيضا على جانبي الجزء المركزي .
وبهذا النص وبفعل التقارب من ناحيه الشكل بين الشجره المرسومه في مشهد التتويج والصوره الفوتوغرافيه للأعضاء التكاثريه للصبير ، فأن هذه الشجره ( المحوره ) أو ( المؤسلبه ) هي شجره ( صبير ) للتبريرات الوارده سابقا .
الهوامش :
*1) البيئة الوسيطة : يراجع ص من البحث .
*2) بعض الأسماك العراقية ( كالقطان والشلق ) تحاول الصعود إلى اعالي ( دجله والفرات) للتكاثر لوضع البيض في أواخر موسم الشتاء (6 : ص 409 ) . فهل يا ترى قد عرف العراقيون القدماء سر أتجاه هذه الأسماك نحو الجداول العليا للنهرين ( الصافيه من الأملاح والشوائب ) ونحو الينابيع التي يكثر فيها الأوكسجين وتقل فيها الأسماك الكبيرة كي تنمو بسلام في مناىء عنها .
*3) زخرفة الجبل : وهي بهيئة حراشف السمكة ( وحراشف السمكة هي رمز الجبل عند العراقيين القدماء ) وهي رموز محورة مورفولوجيا عن طبيعة تكوين أشكال صخور الجبل والذي يشكل مصدرا للينابيع المتدفقة ، فضلا عن شكل الأسماك التي تحاول الوصول الى تلك الينابيع للتكاثر . والتي استخدمت بشكل كثيف في المشاهد الفنية لأعمال النحت البارز الأشوري في زمن الملك سنحاريب ( 705 _ 681 ق. م )
*4) للتحقق يراجع ( 1:ص 334 )
*5) للتحقق يراجع ( 7 :ص196 )
كما لم يتطرق لنوعها كلا من ( أنطون مورتكارت ) في كتابه ( 8 :ص235 – 237 ) والباحثه اليابانية ( يوكو توما بيشي ) في مقالتها ( 4:ص 84– 93 ).
*6) أثناء زيارة الباحث للمشاتل العامة لمشاهدة هذه الشجرة موقعيا ، واستفساره عن نمو أعضائها التكاثرية من قبل المختصين ( المهندسين الزراعيين والمربيين لحقول النباتات ) فقد كان جوابهم ان هذه الأعضاء تظهر وتنمو من وسط الشجرة الأم ( الصبير ) كل ( 10 _ 14 ) سنة تقريبا ، بأرتفاع 7م حتى تنتهي بغصن واحد فتتوقف عن النمو .
*7) للأطلاع ، يراجع ( 2 : ص1_ ص23 ) .
المصادر :أ.د.هاني محي الدين الحجحمد
1) بارو ،اندري : سومر فنونها وحضارتها ، ترجمة عيسى سلمان وسليم طه التكريتي ، بغداد ، 1978 .
2) البدري ،عبد اللطيف : من الطب الآشوري ، مطبعة المجمع العلمي العراقي ، بغداد 1396 هـ _1976 م .
3) البعلبكي ، منير : المورد (قاموس انكليزي _ عربي) ، ط 2 ، دار العلم للملايين بيروت ، 1961 .
4) تومابيشي ، يوكو : الرسوم الجدارية وأساليب التلوين في عمارة القصر البابلي في ماري مجلة سومر 5 ج 1 ، ج 2 ، مج 41 ، عدد خاص ببحوث بابل في الندوتين العالميتين الثانية والثالثة ، مديرية مطبعة الجامعة ، الموصل 1985 .
5) الخطاط ، سلمان ابراهيم وصاحب ، زهير : تأريخ الفن القديم في بلاد وادي الرافدين مطبعة التعليم العالي ، بغداد 1987 .
6) سوسه ، احمد : تأريخ حضارة وادي الرافدين في ضوء مشاريع الري الزراعية والمكتشفات الآثارية والمصادر التأريخية ، ج1 ، دار الحرية للطباعة ، بغداد 1983 .
7) لويد ، سيتون : آثار بلاد الرافدين من العصر الحجري القديم حتى الاحتلال الفارسي ترجمة سامي سعيد الاحمد ، دار الرشيد للنشر ، 1980 .
مورتكارت ، انطون : الفن في العراق القديم ، ترجمة وتعليق عيسى سلمان وسليم طه التكريتي ، مطبعة الأديب البغدادية ، بغداد ، 1975 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق