الاستاذ محمد شعبان صوان
متخصص بالتاريخ العثماني
-التعريف بأفكار إيفانوف الرئيسة: الدولة العثمانية قامت بانقلاب اجتماعي أخلاقي عملي .(ص 313 -322) كان متقدماً على جواره في زمنه (ص 327) ومنحها إعجاب معاصريها من المثقفين والشعوب إلى نهاية القرن السادس عشر ثم حققت التوازن الاجتماعي على حساب وعودها السابقة ودخلت في دوامة الاضطهاد والدم.
مفهوم الشعبوية العثمانية متكرر الذكر في مقدمة هذا الكتاب والتي قيد بها الدكتور مسعود ضاهر طرح المؤرخ إيفانوف : تقرن الشعبوية في مقدمة الدكتور مسعود ضاهر عادة بالانطباع السلبي حيث أن سلوك العثمانيين الذي نبع من النظم القبلية التي تستند إلى الشريعة الإسلامية وتأخذ بالحسبان الموروث الحضاري للطوائف غير الإسلامية مما أعطى السلطنة العثمانية في بداية نشأتها بعداً اجتماعياً فريداً وأوجد تعاطفاً مع العثمانيين في الأقطار المجاورة لهم لاسيما البلاد العربية بسبب الانتماء للإسلام وعد العثمانيين حماة لها من مخاطر الغزو الأوروبي وهو ما أوجد ما يسميه الدكتور بالشعبوية العثمانية، لم يكن هذا السلوك البدئي قابلاً للتطبيق حينما تحولت الدولة إلى امبراطورية مترامية الأطراف تضم مراكز حضرية وحرفاً متطورة وثقافة واسعة حيث لم يكن من الممكن تطبيق إيديولوجيا ذات ركائز فلاحية وقبلية في مناطق السيطرة الجديدة، وتحولت الشعارات منذ البداية (وهي هنا في نظر المقدم القرن السادس عشر) من الأفكار المثالية عن المساواة والحرية وإغاثة الملهوف إلى واقع سلطوي استبدادي نهبي دموي إلى نهاية الدولة، وليست العبرة بالتعاطف من جانب جماهير العرب والأوروبيين مع الدولة العثمانية بل باستحالة تحويل شعاراتها إلى واقع وبرفضها تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية فضلاً عن عدم سيرها في الطريق الذي سلكه الأوروبيون المستنيرون بعدها، وإن التعاطف اليوم مع هذه الإيديولوجيا هو الخطر الماحق على نهضة بلادنا لأنه طريق غير علمي لا تحصد الجماهير منه سوى الخيبة والمرارة لأنه يتحول في كل مرة إلى ملك استبدادي باسم القراءة الفلاحية لمبادئ الإسلام، وهو ما يعني الغوغائية التي تعتمد الخرافات والأساطير وتتملق الرأي العام بتحريف الحقائق وتفسيرها بعيداً عن الواقع لتخدير الناس واستغلالهم، والاستغلال هنا هو الذي أنتج تسهيل دخول العثمانيين البلاد العربية ومد فترة حكمهم لها باسم الدين، تبعاً لساطع الحصري (ص 28)، في الوقت الذي لم تجن فيه الجماهير من حروب العثمانيين الطبقية سوى الخيبة والمرارة بعيداً عن مصالحها الحقيقية.
ولكن نظرية إيفانوف هي أن وجود التعاطف مع العثمانيين في الأقطار المجاورة لاسيما في الأقطار العربية وجد لأسباب عملية وهي الانتماء للإسلام وعد العثمانيين حماة له ووجود مخاطر الغزو الأوروبي في المغرب والمشرق، أما الإعجاب بالعثمانيين من جانب الشعوب وبعض القيادات الأوروبية فنتيجة للسياسات العثمانية التي راعت الفلاحين وصغار المنتجين وكانت تطوراً أخلاقياً عما حولها في زمنها، ولهذا فهو لا ينعتها بالشعبوية في تلك المراحل وهو وصف أسهب الدكتور مسعود في استعماله خلافاً لإيفانوف الذي يؤكد أن المثاليات العثمانية لم تكن مجرد سفسطة كلامية بل أساس للعمل (ص 313).
-تجديد مرفوض: إن مقولة إيفانوف المتواضعة قياساً بما تم بعدها من كشوفات جذرية، حاولت ألا تخرج عن الإيديولوجيا الماركسية اللينينية الرسمية في الاتحاد السوفييتي، ومع ذلك أربكت الأوساط الماركسية التقليدية فسعت للالتفاف عليها وإلغاء مفعولها .
ومن ذلك أن الدكتور مسعود ضاهر حاول مستنداً إلى مقولات الماركسية "العلمية" إلغاء كل الإيجابيات التي أتى بها ( إيفانوف ) فركز مقدمته لا على موضوع الكتاب بل على نقيض ما فصله إيفانوف لإلغاء ما أسهب به واستهلك صفحات الكتاب في شرحه، فأسهب الدكتور في محل الاختصار (حيث لم يكتب إيفانوف سوى صفحتين في السلبيات) في الكتاب، واختصر في محل الإسهاب (حيث كتب إيفانوف أكثر من 250 صفحة في الإيجابيات)، ونفى مسعود عملياً ما أثبته ابتداء عن وجود واقع إيجابي في مرحلة التأسيس الممتدة من التاريخ العثماني الطويل، حين تساءل ابتداء ماذا فعل العثمانيون بعدما تحولت دولتهم إلى سلطنة مترامية الأطراف؟ وكأنهم كانوا يتحركون في فراغ قبل لحظة البدء هذه (القرن 16) والتي كشفت برأيه زيف دعاويهم ووعودهم، وكأنه لم يكن لهم سياسة قبلها (منذ القرن 14)، وإن كان لهم بعض الإيجابيات فهي عابرة لا يتناسب الحديث السريع والمختزل عنها، وادعاء التوازن بذكر الإيجابيات والسلبيات، مع الهجوم الشديد عليها رغم إسهاب المؤلف إيفانوف في شرح إيجابيات مرحلتها الأولى الطويلة (نصف عمر الدولة كله) وكونها اكتشافه الرئيس الذي لم يسبق إليه على صعيد الاستشراق السوفييتي فكان لا بد من الالتفاف عليه وإلغائه، رغم مسايرته للفكر الماركسي الرسمي، فزعم الدكتور مسعود أن البريق العثماني لم يكن سوى ضجيج إعلامي غير قابل للتحقيق وقد تمنعت السلطة عن تحقيقه لأنه لم يكن لديها مصلحة في الوفاء بوعودها التي كانت خدعة استندت إليها السلطة في الحكم وضللت الجماهير بعيداً عن مصالحها الحقيقية واستهلكتها في حروب عبثية لتثبيت المكاسب الطبقية للطبقة الحاكمة وأن ذلك كان "منذ البداية" حين تحولت الشعارات الطنانة إلى إيديولوجيا سلطوية وممارسة قمعية، دون أن يشرح لنا الدكتور كيف امتدت الأحلام تلك المدة الطويلة منذ بداية السلطنة إلى الاستيلاء على تونس حيث بدأ حينذاك الواقع المغاير للأحلام، ولماذا جعل نقطة البداية في القرن السادس عشر مع أن البداية الحقيقية كانت في القرن الرابع عشر ومع أن المقدم نفسه ذكر أن القرن الواقع بين منتصف القرن 15 ومنتصف القرن 16 هو الفترة الأكثر أهمية في حياة الدولة العثمانية ولكنه لم يعتبر إلا بما حدث منذ القرن 16 (ص 20 و 33) وزحزح الاعتبار بالأحداث أكثر من مرة، وكأنه لم يكن هناك واقع مادي قبل القرن السادس عشر كان إيفانوف قد أسهب وأطنب في شرحه ولكن الدكتور اختزل الموضوع الرئيس للكتاب ليسهب ويطنب في إلغاء مفعوله، ويزايد في شرحه على آراء إيفانوف فيلغي أهمية إعجاب العرب والمسلمين وقطاعات أوروبية عاصرت الدولة العثمانية، وهو ما كرس له إيفانوف الكتاب، ويقول إن العبرة ليست في ذلك الإعجاب، وكأنه أتى من فراغ وأحلام يقظة وأوهام خيالية لا من واقع استمر ثلاثة قرون على الأقل كما يقول إيفانوف، بل العبرة في كون الشعبوية العثمانية مقولة غير علمية وغير قابلة للتحول إلى فهم صحيح للتطور التاريخي (الذي لا بد أن يفضي إلى ظهور الطبقة البورجوازية التي ترث المرحلة الإقطاعية وتحل محلها الرأسمالية)، وهو التطور الذي اهتدت إليه أوروبا (التي يتخيلها أو يريدنا أن نتخيل مثاليتها نتيجة ظهور العقدة الرئيسة فيها وهي الطبقة البورجوازية) وكان من الواجب اتباعه حين أوقفت الحروب الصليبية والتفتت إلى بناء النموذج الليبرالي الإنساني الديمقراطي الحر والمستند إلى المؤسسات وحقوق الإنسان ولكن رفضت الدولة العثمانية تحقيقه في أوج مجدها وقوتها ومن باب أولى أن تعجز عن ذلك في زمن تراجعها مما يجعل الإعجاب بماضيها وما سبقها أيضاً (ما يسمى بالشعبوية الدينية) مجرد وهم سحقته تطورات التاريخ البشري وتحولاته الكبرى ولم تجن الجماهير من الحلم به سوى الخيبة والمرارة، ولا يكتفي بردوده على إيفانوف بل يستعين بمؤرخة سوفييتية ترفض آراء زميلها ومستنداته وإن كانت تثني على جهوده العلمية ولكنها تعيد سرد الأفكار التقليدية وتغطي الأمر بالمطالبة بمزيد من البحث.
-هدف المناقشة: بالطبع كان من الممكن إهمال كل تلك الأفكار لاسيما بعدما قامت "التحولات الكبرى في تاريخ البشرية" "بسحق" التجربة السوفييتية التي أسبغت على نفسها صفة "العلمية" ونظرت بفوقية إلى ما عداها، وكانت التحولات التي طرأت بعد مدة وجيزة من كتابة هذا الكتاب ومقدمته قد جعلت الحنين لهذه التجربة مجرد ضرب من "الأوهام"، تماماً كما وصفت التجربة العثمانية في هذا النقد "العلمي" الذي يتبين أنه مجرد إيديولوجيا خيالية وليست واقعاً حتمياً، بل إنه لم يعد هناك من يحلم بهذا "العلم" المزعوم، ولكن الرد على هذا الطرح يبين كيف كان، حتى في وقته، تجاوزاً على الحقائق العلمية المعروفة آنذاك في الوقت الذي يزعم أنه امتلك ناصية القوانين العلمية النهائية، ولكن استمر البحث في الأمر إلى اليوم ومازال البحث يكشف زيف التعميمات الغربية والماركسية التي سادت دهراً طويلاً، وذلك كي تتعلم الأجيال ألا تنبهر بأي طرح يأتي من هنا وهناك حتى لو تسربل بصفات العلمية ما لم يكن مصاحباً بالدليل الموثوق بلا انبهار.
وفي الوقت الذي يتهكمون فيه على الأعمال والمؤلفات الموسوعية الموثقة (ككتاب الدكتور عبد العزيز محمد الشناوي الشهير : الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها) يستندون في رؤاهم على أعمال قديمة إما عفى الزمن على آرائها التي تغيرت بعد فتح الوثائق والسجلات التاريخية التي دفعت المعادين للدولة العثمانية إلى تغيير وجهات نظرهم . كما يعترف بعض المستشرقين كجب وبوون وبعض الأكاديميين العرب المعاصرين ومع هذا نستمر نحن في جلد ذواتنا استناداً إلى تعميمات قديمة، أو بانتقاء ما يناسب الرؤية الإيديولوجية وطرح ما يخالفها، ولعل تناقض استشهاد المؤلف والمقدم بمرجع واحد هو ساطع الحصري ينبئ عن اختلاف أطروحتيهما، فبينما يستشهد الدكتور مسعود ، بساطع الحصري في إدانة استخدام العثمانيين للدين في ثبيت سلطتهم (ص 28)، يستشهد به إيفانوف في تأكيد أن العرب لم يشعروا بالغربة من الحكم العثماني الذي عدوه استمراراً للخلافة الإسلامية (ص 315)، وسياقا الاستشهادين مختلفان تماماً، أحدهما سلبي، والآخر إيجابي.
-طوباوية استنكار الطبقية: التركيز على صفة الطبقية في النظم العثمانية وكأن المجتمع العثماني هو المجتمع الوحيد الذي انقسم إلى طبقات، وكأن التجارب الماركسية والليبرالية التي يمدحها الكاتب لم تعرف الطبقية رغم أنها تلت التجربة العثمانية ومع ذلك لم تتمكن من القضاء على الطبقية، والغريب أن التاريخ يحدثنا أن معظم شعوب الدولة العثمانية بما فيها غير المسلمين لاسيما الأرمن ويونانيو الأناضول فضلاً عن الشعوب المسلمة، فضلت الاستمرار في حظيرتها إلى لحظتها الأخيرة بعد ستة قرون، وفي هذا يقول المؤرخ ( دونالد كواترت) المتخصص في التاريخ العثماني: "ليس من الصواب القول بأن التيارات القومية التركية والعربية والأرمنية والكردية، كانت وراء تضعضع الدولة العثمانية وانهيارها بعد سنة 1914، صحيح أن بعض الأرمن كانوا يدعون إلى إنشاء وطن قومي للشعب الأرمني، لكن أغلبيتهم الساحقة استمرت في رغبتها في البقاء داخل الحظيرة العثمانية، ثم إن قلة قليلة من الأكراد كانت تدعو إلى الاستقلال الذاتي، ونستطيع القول أيضاً إن غالبية العرب كانت تود البقاء ضمن الكيان العثماني بالرغم من تعالي أصوات بعض القادة والمفكرين العرب بضرورة إلغاء المركزية ومنح الأقاليم شيئاً من الاستقلال الذاتي، على حين قام آخرون بالدعوة لإحياء الهوية الثقافية العربية، خلاصة القول إن معظم الرعايا العثمانيين في سنة 1914 لم يكونوا يطمحون إلى الانفصال عن الإمبراطورية بل ظلوا محافظين على هويتهم في إطار المجتمع العثماني" ، "ويبدو أن هناك شبه إجماع على أن معظم العرب لم يكونوا راضين عن النهاية التي آلت إليها الدولة العثمانية ولم يشاركوا طوعاً في القضاء عليها".
ويقول المؤرخ ( نيكولاس دومانيس ) إن معظم اليونانيين والأرمن في الأناضول كانوا في وضع سيؤدي إلى خسارة كبرى لو تدهورت العلاقات الاجتماعية بين الطوائف، ولهذا لم يكن هؤلاء مرحبين بالأفكار القومية الانفصالية، في حين أن الشعوب السوفييتية لم تطق الاستمرار في حظيرة الاتحاد السوفييتي أكثر من سبعين عاماً كما أن شعوب العالم الثالث بذلت الغالي والنفيس منذ لحظات الاستعمار الغربي الأولى للتخلص منه وأصبحت ذكريات الجلاء والاستقلال أعياداً قومية في كل العالم الثالث، ولكن كل هذا لا يهم القراءة الإيديولوجية ما دامت الطبقة البورجوازية لم تظهر في الدولة العثمانية.
-المبالغة في تصوير سلطة السلطان (ص 31 و32) بما لا يؤيده البحث التاريخي الذي يؤكد أن سلطة السلطان العثماني كانت محدودة، وفي هذا السياق يقول المؤرخ (شارل عيساوي) واصفاً الحكم العثماني عند بداية القرن التاسع عشر: "كانت سلطة السلطان العثماني محصورة في منطقة صغيرة حول استانبول رغم ضخامة الدولة التي كانت بقيتها تُحكم بواسطة باشاوات وأعيان وزعماء قبليين مستقلين استقلالاً ذاتياً" ،كما يشير المؤرخ دونالد كواترت إلى مبالغة بعض الباحثين في تقدير الدور الذي قامت به السلطة المركزية العثمانية في إدارة الدولة مؤكدا أن قوة السلطان لم تكن مستمدة من الجيش وحده بل "من تواصل السلالة الحاكمة مع القوى السياسية والشعبية أيضاً"، مقدماً أمثلة تاريخية للاستقلال الذاتي الذي تمتعت به قوى محلية إلى درجة أن "أصبحت لا تقيم وزناً لأوامر وتعليمات الباب العالي" وذلك في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
أما في القرن الثامن عشر فإن السلطة المركزية "لم تعد بيد السلطان أو كبير وزرائه (الصدر الأعظم) بل أصبحت قائمة على التراضي والمساومة بين مختلف القوى من جهة والسلطان من جهة أخرى"، وقبل ذلك كان "القرار السياسي في الحقبة 1550-1650 أصبح إلى حد بعيد خارج إرادة السلطان" و "أن عناصر جديدة أخذت تشاطر السلطان الحكم لا بل تنوب عنه أحياناً" .
ويقول المؤرخ السوفييتي ( فلاديمير لوتسكي) الذي وصف بأنه أكبر اختصاصي سوفييتي في مجال تاريخ البلاد العربية الحديث والمعاصر: "بينما كانت الإمبراطورية العثمانية تبدو في الظاهر دولة مركزية، كانت في الواقع دولة لامركزية".
ويقول المؤرخ المعاصر ( زين نور الدين زين) إن البلدان العربية "لم تكن تحكم إداريا وبصورة مباشرة من القسطنطينية" مستدلاً على ذلك بدراسة الملفات الرسمية وقوائم تقدير الواردات الخاصة بسوريا والعراق ومصر، كما أشار إلى أن الأمراء الإقطاعيين والزعماء المحليين في البلاد العربية مُنحوا "استقلالاً داخلياً يكاد أن يكون استقلالاً ناجزاً"،وأكد ( الدكتور محمد أنيس) هذه الحقائق مشيراً إلى أن المركزية لم تكن مباشرة ولا شاملة وذلك في حديثه عن خصائص الحكم العثماني للشرق العربي حتى نهاية القرن الثامن عشر.
كما تحدث مجموعة من المؤرخين عن تحديد سلطة السلطان العثماني بالشرع الإسلامي الذي يحكم جميع المسلمين ويؤلف قاعدة البناء السياسي والاجتماعي للدولة ويخضع له الجميع وهو من ضمنهم، ولهذا يستنتج برنارد لويس أن السلطان "لم يكن مستبداً حقيقياً"، ويؤكد (كارابل) الناحية نفسها وهي أنه رغم سلطات السلطان الواسعة "كان هو نفسه مقيداً وخاضعاً للشرع الإسلامي كأي واحد من المسلمين، وكغيره ممن سبقه من الحكام، راعى السلطان العلماء والقضاة واحترمهم".
ويشير المؤرخ (كورتن ) إلى أن اتساع المناطق التي سيطر عليها العثمانيون، أضعف روابطهم مع المقاطعات البعيدة التي اتجهت إلى الحكم الذاتي، فلم تكن منطقة الجزائر مثلاً خاضعة عن قرب لسلطة اسطنبول، ومع خضوع المناطق الأقرب لمراقبة أكبر، فإن سلطة السلطان الفعلية أو البيروقراطية المركزية التي تصدر الأوامر وتفرضها، "كانت محدودة"، وكان هناك مصادر مستقلة عن السلطان لإصدار الأوامر مثل العسكر والعلماء، والأعيان الذين تخطوا سيطرته.
ويقول الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى إن السلطان العثماني لم يكن حاكماً مطلقاً بالمعنى المعروف، ورغم تمتعه بالسلطتين التشريعية والتنفيذية ، فقد كانت فرماناته تأتي في المرتبة الرابعة بعد القرآن الكريم والسنة الشريفة والمذاهب الفقهية الأربعة، ومن ثم كانت مراسيمه "تكميلية"، ورغم وجوده على قمة نظام الحكم، فقد كان عليه الحصول على فتوى شيخ الإسلام بانسجامه مع الشريعة "وكثيراً ما أفضى رفض المفتي إلى إرغام السلطان على العدول عن مشروعاته...وكان تصريح المفتي بأن السلطان لا يحترم الشريعة وأنه غير صالح للحكم كفيلاً بالتمهيد لخلعه...
ومما يؤكد أن السلطان العثماني لم يكن يتمتع بالسلطة الطاغية المتواترة في كثير من الكتابات أن ملامح هامة من الحياة العثمانية كانت مستقلة في الواقع عن السلطة المركزية...ذلك أن السلاطين الأول كانوا يتجهون إلى ترك كل الشئون المحلية والمالية والإصلاحات العامة والبوليس في أيدي الحكام المحليين والإدارة المحلية-وبالتالي فقد كانت كل المدن تتمتع بمزايا وصلاحيات محلية واسعة"، وقد كان ولاء الأمة العثمانية لآل عثمان لأسباب دينية من الملامح البارزة في التاريخ العثماني ولم يجرؤ أي ثائر على أن يستبدل بهم أسرة حاكمة أخرى "وهو أمر لم تنعم به أي أسرة حاكمة في أوروبا".
وإذا كان حضرة الدكتور يقصر المركزية الشديدة حتى نهاية زمن السلطان سليمان القانوني (بعد زمن الشعبوية الأولى) ثم يجعل الاستبداد موزعاً بين السلطان والولاة (ص 32) فإننا نجد في التاريخ ما يخالف ذلك وفقاً للفقرة السابقة، وكذلك عند دخول مصر و"بعد هزيمة المماليك، احتفظت سوريا ومصر بقدر كبير من الحكم الذاتي الداخلي ....فقد وُضع هذان البلدان التابعان سابقاً للدولة المملوكية تحت إشراف دائم من جانب القادة العسكريين المماليك الذين انحازوا إلى جانب السلطان سليم الأول" إلى أن أدى تمرد الولاة إلى "إلغاء الحكم الذاتي" في عهد السلطان سليمان القانوني ثم عادت الأمور إلى تفويض الولاة فيما بعد، وإذا كان السلطان نفسه غير مطلق الصلاحية كما تبين سابقاً فمن الإجحاف وصف الولاة بالسلاطين مطلقي الصلاحية في ولاياتهم أو بالتمرد المستمر، وفي ذلك يقول جب وبوون إنه رغم سلطات الوالي فإنه "كان يحد من قدرته على الإشراف الفعال عدد من الإدارات المختلفة يبدو من الواضح أنها قد وضعت للحيلولة دون ممارسة أي شكل من أشكال الإدارة المباشرة" ثم يذكران المناصب المالية والقضائية والإدارية التي كانت تحد من سلطة الباشا الوالي وتتصل مباشرة مع العاصمة، وكل ذلك كان قيوداً بسيطة إذا قورنت بالقيود على سلطاته العسكرية، وهو مرجع اطلع عليه المقدم ولكنه لا يتناسب مع السرد الإيديولوجي، وسيتبين لنا لاحقاً قيمة عمليات التمرد الداخلي في جدول الدولة العثمانية وتفضيلها مواجهة الخارج على الصراع الداخلي، وعموماً يقول المؤرخ ألبرت حوراني:" إن تاريخ الولايات الناطقة بالعربية في الإمبراطورية يبدو –على قدر ما أمكنت دراسته- شبيهاً بالمناطق الأوروبية والأناضول. ويبدو أن السكان قد ازداد عددهم في المرحلة التي تلت الغزو العثماني مباشرة، وذلك بسبب استتباب الأمن والرخاء العام في الإمبراطورية، ولكن بعد ذلك ستحافظ على مستوى ثابت أو أقل بقليل. كانت المدن العربية الكبرى هي الأكبر في الإمبراطورية بعد استنبول. وقد زاد عدد سكان القاهرة حتى قارب مائتي ألف نسمة في منتصف القرن السادس عشر وثلاثمائة ألف عند نهاية القرن السابع عشر، وكانت حلب في الوقت ذاته تعد مائة ألف نسمة. وربما كانت دمشق وتونس أصغر ولكنها تقارب هذا الحجم نفسه.
ولم تستعد بغداد موقعها أبداً بعد انهيار نظام الري في جنوب العراق، والغزو المغولي وحركة التجارة في المحيط الهندي من الخليج إلى البحر الأحمر. وقد كانت أقل سكاناً من المدن السورية الكبرى. لقد كانت الجزائر إلى حد كبير من صنع عثماني كنقطة قوية ضد الإسبان، وكان فيها ما بين خمسين ألف إلى مائة ألف ساكن في نهاية القرن السابع عشر".
وعن صورة أخرى للولاة تختلف عما يعرضه التاريخ الإيديولوجي من تمرد مستمر يقول حوراني: "وقد حذا الولاة العثمانيون والقادة العسكريون حذو السلطان في استنبول فبادروا إلى الأشغال العامة الكبيرة في مراكز المدن وخصوصاً في القرن السادس عشر فبنيت المساجد والمدارس ومعها أبنية تجارية يخصص ريعها لصيانتها، وعلى سبيل المثال مؤسسة "دكاكين زادة محمد باشا في حلب" التي كان فيها ثلاث "قيصريات" وأربعة خانات وأربعة أسواق مخصصة لصيانة الجامع الكبير. والتكية في دمشق وهي مجمع من مسجد ومدرسة ونزل للحجاج بناها سليمان القانوني، وفي وقت متأخر بنى مجمع على يد العسكري الشهير رضوان بك في القاهرة.
"لم تعد أسوار معظم المدن الكبيرة ذات فائدة وذلك لسببين أولهما استتباب النظام الذي حافظ عليه العثمانيون في الأرياف المجاورة وثانيهما تطور المدفعية ما جعلها غير مجدية في الدفاع".
ولو صدقنا بفكرة تحول الشعبوية إلى نظام سلطوي ذي نزوع جامح للاستبداد المطلق (وهو مبالغة خيالية) فعلينا أن نسأل: أين هي الإيديولوجيا التي لم تتحول من مثاليات إلى سلطة مطلقة؟ وأين هي التجربة السياسية التي لم تختلف عند التحول من الثورة إلى الدولة؟ علينا بعد ذلك أن نقارن التحول العثماني بتحول الإيديولوجيات التي يمتدحها الكاتب سواء الماركسية أم الليبرالية، والأحلام الفلاحية عن العدالة والمساواة والتخفيف من الضرائب ورفع الظلم والتعديات والتحكم بالحرية الشخصية للفلاحين (ص 32) لم تكن مجرد أحلام خيالية بل واقع عاشته الدولة وهو ما أنتج تأييدها والتعاطف معها في الأقطار المجاورة كما يعترف الكاتب (ص26) ولكن العجيب أن يجعله مجرد وهم وخيال لتغطية مصالح طبقية وكل مسبباته التي استشعرها الناس لا تمت لمصالحهم بصلة، وذلك مادام هذا الوهم المزعوم لم يطبق في مرحلة الإمبراطورية مترامية الأطراف واقتصر على المرحلة الشعبوية الأولى التي انتهت منذ توسع الدولة في القرن السادس عشر وهو طرح يناقض طرح إيفانوف الذي يمتد بالإيجابيات إلى ما بعد هذا التاريخ.
ثم على فرض التصديق بفكرة التحول: هل كان هذا التحول نتيجة خدعة مدبرة ومؤامرة أم نتيجة تغير ظروف عاشتها كل الإيديولوجيات البشرية؟ وأيهما أولى بالحديث عن ممارسته الخداع: النموذج السوفييتي الذي خان مؤسسوه أنفسهم مثله الأعلى ما أدى إلى انهياره السريع جداً أم نموذج استمر وطال لمدة ستة قرون ثم تم تحطيمه بقوة أعدائه في حين فضلت شعوبه الاستمرار في ظله؟.
يقول (زاكري كارابل) إن قدوم العثمانيين في القرن الخامس عشر أدى إلى إضفاء الحيوية على العالم الإسلامي ، أما البلاد الأخرى المفتوحة فإن توقها للحكم العثماني كما سيأتي أبلغ رد على من ادعى استنزافها ، وعن فرية الظلم عموماً وظلم الفلاحين خاصة فإن كتب المؤرخين تعج بما يدحضها، ففي حديثه عن خصائص الحكم العثماني في العصر الأول (من الفتح في القرن 16 إلى القرن 19) في البلاد العربية يقول الدكتور محمد أنيس إن " نظام الحكم العثماني في الشرق الأوسط بصفة عامة كان عملياً للغاية ولم يكن ظالماً أو عنيفاً... وكانت القاعدة أن كل إيالة تعيش على دخلها الخاص وتدفع إلى خزانة الدولة قدراً معقولاً جداً من الجزية ولذلك لم يكن التشريع الضرائبي العثماني مرهقاً لرعايا الدولة. فالسلاطين العثمانيون أدركوا أن الضرائب البسيطة وأساليب الإدارة البسيطة في صالح كل من الحكام والمحكومين ".
وعند حديثه عن المساوئ التي ارتكبها الحكم العثماني كالنزاع بين الأحزاب وتعدي الهيئات المحلية على الحكومة المركزية قال مستدركاً: "ولكن رغم هذا فإن الإدارة العثمانية المالية كانت أمينة إلى حد معقول، كما أن الفلاحين لم يعانوا ما عانوه من حكم دول قبل وبعد العثمانيين "، وعند حديثه عن بقية المساوئ كالمحسوبية والرشوة وبيع الوظائف قال إن مجتمعات الشرق الأدنى كانت على شفا الانهيار قبل دخول العثمانيين مباشرة " إلا أن دخول العثمانيين أخّر هذا الانهيار، فقد سار العثمانيون على نظام ضرائبي مخفف فأنقذوا الفلاحين والتجار وبسطوا حالة من الأمن والاستقرار تمتع بها الشرق الأدنى حتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر " ، ويقول برنارد لويس إنه في البلاد العربية "جلب الحكم العثماني السلام والأمن بعد الكابوس العنيف للحكم المملوكي الأخير" .
ويذهب المؤرخ السوفييتي صاحب الكتاب الأصلي محل هذا المقال ( نيقولاي إيفانوف ) إلى ما هو أبعد من ذلك بالقول إن سمعة العثمانيين كانت "في الأوج عند مطالع القرن السادس عشر، ففي الشرق كما في الغرب على حد سواء ازداد الإعجاب بالعثمانيين ولاسيما في الأوساط الشعبية المضطَهَدة والمستغَلة"، وينقل عن المؤرخ الروسي (كريمسكي) من بداية القرن العشرين قوله إنه في البلقان والمجر وأوروبا الغربية وروسيا "برزت مجموعات كبيرة من الناس، كانت بأفكارها ومشاعرها، وبدرجات متفاوتة، لا تخاف غزوات العثمانيين وفتوحاتهم بل تدعو إليها صراحة"، وأما في العالم العربي "فقد وقف الفلاحون إلى جانب العثمانيين".
ومع أن هذا التعاطف الشعبي استند إلى المبالغة في تصور الكمال لدى المجتمع العثماني فإنه "في الواقع، لم تكن النظم العثمانية الاجتماعية الطوباوية (أي المثالية) مجرد سفسطة كلامية، بل كانت أساساً للعمل"، وعلى أساس الشعارات العثمانية التي تمكنت "وبقدرة سحرية من استقطاب مشاعر الفلاحين وجماهير سكان المدن...بنيت على قاعدتها النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للباب العالي بخاصة قراءة فلاحية فريدة من نوعها للمبادئ الأساسية للإسلام وأفكاره عن المساواة، والأخوة بين الجميع، والعدالة الاجتماعية، والوفاق، والعمل كمصدر وحيد لتلبية الحاجات المادية للإنسان، وإدانة مظاهر الترف والإثراء، وضرورة التواضع في العيش والابتعاد عن الإسراف، وتحاشي استغلال الإنسان للإنسان"، ويؤرخ ذلك إلى مطلع القرن السابع عشر بل يذهب باستمرار الشعور بالإيجابيات إلى القرن التاسع عشر وهو أبعد من تواريخ نهاية الأوهام التي وضعها مقدم الكتاب، ويسهب إيفانوف في الإيجابيات التي طبقها العثمانيون "بعد انتصارهم" حين تحولت مثلهم إلى ثورة اجتماعية طالت العرب والفلاحين بما يظهر التناقض بين طرحي المؤلف والمقدم .
ويؤيد كلام برنارد لويس ما قاله إيفانوف ويتحدث عن الهجرة بصفتها اقتراعاً بالأقدام وكانت وجهتها الدولة العثمانية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أي من الغرب إلى الشرق وليس العكس الذي يحدث في أيامنا، ولم يكن اللاجئون المسلمون واليهود هم وحدهم المستفيدين، بل استفاد المسيحيون من أصحاب الانشقاقات الدينية والسياسية، ولم يكن كل أولئك أيضاً هم المستفيدين الوحيدين من الحكم العثماني "إذ أن الفلاحين في المناطق التي غزيت قد تمتعوا، بدورهم، بتحسن كبير في أوضاعهم، فقد جلبت الحكومة الامبراطورية العثمانية الوحدة والأمن مكان الصراع والفوضى، كما ترتبت على الغزو نتائج اجتماعية واقتصادية هامة"، ويقول إن الإمبراطورية العثمانية كانت ذات سحر قوي إضافة إلى كونها عدواً خطراً "فقد كان المستاءون والطموحون ينجذبون إليها بالفرص التي تتاح إليهم في ظل التسامح العثماني، وكان الفلاحون المسحوقون (في أوروبا) يتطلعون بأمل إلى أعداء أسيادهم" وحتى القرن التاسع عشر"كان الأوروبيون الذين يزورون البلقان يعلقون على أوضاع فلاحي البلقان الحسنة وعلى رضاهم عن هذه الأوضاع، وكانوا يجدونها أفضل من الأوضاع السائدة في بعض أنحاء أوروبا المسيحية، وكان الفرق أوضح بكثير في القرنين الخامس عشر والسادس عشر"...ويقارن بين الحكم العثماني والحكم الأوروبي بقوله: "وعندما انتهى الحكم العثماني في أوروبا، كانت الأمم المسيحية التي حكمها العثمانيون عدة قرون لا تزال هناك، بلغاتها وثقافاتها ودياناتها وحتى إلى حد ما بمؤسساتها، كل هذه الأمور بقيت سليمة وجاهزة لاستئناف وجودها الوطني المستقل، أما إسبانيا وصقلية فليس فيهما مسلمون أو ناطقون باللغة العربية" ، ويستنتج كواترت من تتبع الحالة الاقتصادية في البلقان عشية انفصال بلاده عن الدولة العثمانية وتردي أحوال هذه البلاد بعد انفصالها، أننا لا نستطيع أن نعزي ظهور الحركات الانفصالية في البلقان إلى تردي أحواله الاقتصادية في ظل العثمانيين .
ويؤكد ( أندري كلو) ما سبق بالقول إن "دهاء العثمانيين كان يتمثل في حكمهم الناس بالعدل والاعتدال"، وإن أقنان أوروبا لم يكونوا يخفون أحياناً ترحيبهم برايات النبي (عليه الصلاة والسلام)، لأن "حال الفلاح في الإمبراطورية العثمانية أحسن من حال سكان الأرياف في أوروبا، ويشهد على ذلك أولئك الغلاظ الشداد في بلاد النصارى الذين يهربون إلى دار الإسلام بعد إحراق الدور والضيعات ، انتقاماً من ظلم سيدهم، وتشهد على ذلك حفاوة الأهالي عند اقتراب جند السلطان".
وفي المجر كان القرويون في بؤس شديد دفع كثيراً منهم لانتظار الأتراك وعدهم محررين، وإن الاحتلال التركي يسّر على السكان في البلقان وبلغاريا ما كانوا يلاقونه من جبروت الإقطاعيين البلغار والصرب وظلم الهيئات الدينية ، وفي تقديمه لكتاب كلو عن السلطان سليمان القانوني يقول الأستاذ البشير بن سلامة إن السلطنة العثمانية اشتهرت بالنزوع إلى العدل وكان شعار السلاطين هو:"لا دولة بدون جيش، ولا جيش بدون مال، ولا مال بدون رعايا راضين، ولا رعايا بدون عدل، إذ بدون عدل لا وجود للدولة" فكان العدل قضية عملية محورية ترتبط بسيادة الدولة وليست مجرد شعار نظري.
ويؤكد ( بيري أندرسون) أن الدولة العثمانية لم تحاول فرض الإسلام على المسيحيين في البلقان، وأن الفلاحين البلقانيين "وجدوا أنفسهم فجأة وقد تحرروا من الخضوع المهين والاستغلال الأرستقراطي في ظل حكامهم المسيحيين، وانتقلوا إلى وضع اجتماعي كان في معظم النواحي أكثر راحة وحرية منه في أي مكان في أوروبا الشرقية آنذاك"، وأن الحكم العثماني قضى على طبقة النبلاء المحلية وأزال لعنة الحروب الأرستقراطية المتواصلة في الريف .
ويقول المؤرخ العربي الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى إن الحكم العثماني كان أحسن من سابقه (البيزنطي) بالنسبة إلى اليونانيين، وإن العثمانيين كانوا أفضل من الطغاة البيزنطيين "إذ أنهم بوجه عام كانوا جادين وأمناء ومستقيمين، في الوقت الذي كانت فيه حيويتهم في معالجة شئون الدولة أعجوبة العالم، فالحكومة العثمانية كانت قوية ومستقيمة، كما كانت سياستها المالية، من حيث جباية الضرائب، معقولة في الوقت الذي ساد فيه الأمن والنظام، بالإضافة إلى أن القانون الإسلامي كان يطبق بدون تحيز إلى حد كبير، ومن المسلّم به أن الإمبراطورية العثمانية كانت طيلة القرن الذي تلا سقوط القسطنطينية تحظى بحكم أفضل مما كانت ترزح تحته معظم أوروبا المسيحية، كما أنها كانت أكثر من أوروبا رخاء، على حين أن رعاياها –مسلمين ومسيحيين- كانوا يتمتعون بقسط من الحرية الشخصية ومن نتاج كدهم يفوق ذلك الذي كان ينعم به رعايا الدول الغربية، والفضل في ذلك يرجع إلى حد ما إلى كون الأغلبية العظمى من موظفي الدولة من أصل مسيحي" ، ويقول أيضاً إن شعوب الدولة العثمانية كانت حتى القرن السادس عشر أسعد حالاً مما كانت عليه قبل الحكم العثماني "فكانت تتمتع بقسط أوفر من الأمن والعدالة وبنظام ضريبي أخف وطأة...فقد تمتع أهل الذمة في ظل الدولة العثمانية بحرياتهم الدينية واعترف محمد الفاتح للمسيحيين واليهود والأرمن بتشكيل طوائف دينية لا تتدخل الدولة في شئونها تعرف باسم الملل...ولكل منها حق استعمال لغتها الخاصة وإنشاء معاهدها الدينية والتعليمية، وتحصيل الضرائب وتسليمها للخزانة المركزية وعقد المحاكم الخاصة إلا فيما يتعلق بالجرائم الكبرى وأمن الدولة، فإلى جانب المسلمين كانت الدولة تشتمل على يونانيين أرثوذكس وأرمن جريجوريين ويهود-وجميعهم كانوا يعيشون حياة آمنة في نطاق الإمبراطورية العثمانية بالصورة التي أثارت دهشة الأجانب" وبعد الحديث عن بعض القيود التي فرضت على أهل الذمة استدرك بالقول إنهم "كانوا أسعد حالاً من الأقليات الدينية في غربي أوروبا..ومما يدل على تسامح العثمانيين هجرة كثير من اليهود السفارديم من إسبانيا والبرتغال إلى داخل الإمبراطورية العثمانية (كان عدد اليهود في حيهم بالآستانة سنة 1590 بعد قرن من بدء الهجرة من الأندلس حوالي عشرين ألفاً وفقاً لبروكلمان).
كما هاجر كثير من الفلاحين من ألمانيا والنمسا والمجر إلى داخل الدولة لأسباب اقتصادية أكثر منها سياسية" وعندما كانوا يتعرضون لظلم أو قسوة غير قانونيين فقد كان ذلك بسبب فترات الفوضى والفساد نتيجة ضعف الدولة وليس نتيجة نظم منهجية أقرها العثمانيون .
ولكننا بكل أسف نرى صورة مغايرة في التاريخ للوضع العثماني لا تتفق مع هذه المنهجية الأقدر من غيرها، لأن وضع غير المسلمين لم يكن محكوماً بالصراع المزعوم، وفي ذلك يتساءل دونالد كواترت هل كان المجتمع الإسلامي في طوره العثماني الحديث "مقسماً إلى طوائف دينية أو ملل منعزلة بعضها عن بعض ودون أي تواصل اجتماعي ويعيشون في جو من الكراهية المتبادلة حيث كان المسلمون يكرهون النصارى والنصارى يكرهون اليهود، واليهود يكرهون النصارى الذين كانوا بدورهم يكرهون المسلمين" ؟ وهل كانت الصراعات القومية الدموية التي اندلعت في آخر سنوات الدولة العثمانية "وليدة أحقاد تاريخية قديمة" بين الأتراك والأرمن والأكراد والعرب واليونانيين؟ يكذّب المؤرخ كواترت التصور المشوه السابق ويقول إن هذه الصورة تجافي الحقيقة تماماً، وإنه بالرغم من الكثير من الأفكار المغلوطة عن التعايش بين الأقوام والطوائف المختلفة في الدولة العثمانية، فقد كانت العلاقات بينها جيدة نسبياً وإن هذه الأقليات كانت متمتعة بحقوق عثمانية وحماية أكثر من مثيلاتها في الممالك الأوروبية الأخرى كفرنسا وإمبراطورية الهابسبورغ، وقد كانت الدولة العثمانية تعترف باستقلال ذاتي للطوائف غير الإسلامية داخل أراضيها، فكانت تتعامل مع هذه الطوائف بواسطة زعمائها وممثليها كما كانت لكل طائفة محاكمها الخاصة التي تفصل بين المتخاصمين وفق قوانينها الدينية الداخلية، ولم تكن الخدمة العسكرية مطلوبة من غير المسلمين، ولكن كل ذلك لا يعني وجود أسوار عالية فصلت بين الطوائف كما حدث في الزمن الأمريكي، وكان الكثير من الناس يعيشون في أحياء سكنية مختلطة، وكانت الطوائف "تعيش في وئام وتتعاون في شتى الأمور" ،بل إن العثمانيين غير المسلمين كانوا يلجئون أحياناً إلى الشرع الإسلامي لإنصافهم بدلاً من قوانينهم الخاصة وذلك بسبب أحكامه التي توزع الإرث على جميع أفراد الأسرة وتحريمه تزويج الفتاة دون موافقتها .
يقول المؤرخ الأمريكي (زاكري كارابل) :" إن هيئة الإدارة البيروقراطية العثمانية بدورها لم تمارس التمييز بناء على الدين أو العرق...كان ثمة خليط عجيب من التتار، والصرب، واليونان، والعرب، والبربر، والأقباط، والأرمن، واليهود، ومن المسلمين السنة والشيعة، والدروز، والنوبيين، والسلاف، والهنغار، والكرج الجورجيين، وبالطبع من الترك، يؤلفون جميعاً مهرجاناً من اللغات والعادات والطقوس. حتى إن البلاط العثماني في اسطنبول والعديد من المدراء الإقليميين استعانوا أيضاً بالبنادقة والجنويين والفلورنسيين والرومان فضلاً عن التجار والتراجمة من فرنسا والنمسا وإسبانيا وإنكلترا، والواقع أنه فيما يخص الدولة العثمانية لم يكن هناك أي شيء تركي خالص، إلا في الآونة التي تمسكت فيها الطبقة الحاكمة بمبدأ التتريك في خاتمة القرن التاسع عشر...إن الإمبراطورية لم يكن لها إدارة متعددة الثقافات فحسب بل وسلطان متعدد الثقافات أيضاً" .
ويقول ألبرت حوراني:" وقد أدت السياسة المالية العثمانية وازدياد التجارة مع أوروبا إلى تعاظم أهمية المسيحيين واليهود في حياة المدن، وكان اليهود ذوي نفوذ كمقرضين وصرافين للحكومة المركزية أو لحكام الولايات، والملتزمين بالضرائب وعلى صعيد آخر كحرفيين وبائعين للمعادن الثمينة، وكان التجار اليهود ذوي أهمية في تجارة بغداد، وفي تونس والجزائر كان اليهود وكثير منهم ذوو أصل إسباني مسيطرين على عملية التبادل مع البلدان الواقعة إلى الشمال وإلى الغرب من البحر المتوسط، وكانت العائلات اليونانية التي تعيش في حي "الفنار" في استنبول تسيطر على معظم التجارة بالحبوب والفراء مع البحر الأسود. ولعب الأرمن وراً هاماً في تجارة الحرير مع إيران. وفي حلب وأماكن أخرى كان يعيش فيها التجار الأوروبيون عمل المسيحيون كوسطاء لهم وساعدوهم في شراء البضائع للتصدير، وفي توزيع ما يجلب منها من أوروبا. وكان للمسيحيين السوريين دور هام في التجارة بين دمياط والساحل السوري، وعمل الأقباط المسيحيون محاسبين ومدراء لدى كبار الموظفين وملتزمي جمع الضرائب في مصر" .
ونخلص من ذلك إلى وجود هوة واسعة بين السرد الإيديولوجي الذي يصب التاريخ في قالبه قسراً والسرد التاريخي الملتزم بالوقائع الحقيقية.
- ومن الصفات الفريدة التي تحلى بها الحكم العثماني ما رواه السفير النمساوي في بلاط السلطان سليمان جيسلان دي بوسبك الذي بُهر برعاية العثمانيين للمواهب واهتمامهم باجتذابها وتنميتها حتى أصبح كل إنسان يعتمد على مجهوده ويفخر بأنه وصل إلى المعالي بقدراته الذاتية رغم تواضع أصله مما حرم عديم الشرف والجاهل والكسول والعاطل من تبوء المناصب الرفيعة، " وهذا هو السر وراء نجاح العثمانيين في كل عمل أقدموا عليه، فتحولوا إلى جنس ساد العالم كله، واتسعت رقعة أراضيهم إلى هذا الحد" ، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا، كما يصفها، تعتمد الأحساب والأنساب في تقويم البشر، وكانت تهتم برعاية مواهب الحيوانات أكثر من مواهب الرجال، وتفصيل ذلك يطلعنا على سر من أسرار قوتنا السابقة وضعفنا الحالي: لقد خدم أوجير جيسلين دي بوسبيك سفيراً لإمبراطورية الهابسبورغ النمساوية في الدولة العثمانية بين سنتي 1554-1562،أي في عصرها الذهبي زمن السلطان سليمان القانوني،وكتب في سنة 1581 كتاباً عن سنوات تجربته فصل فيه انطباعاته عن الدولة العثمانية و"مدح النخبة المدنية والعسكرية العثمانية باعتبارها نخبة تُختار على أساس الكفاءة" كما يقول المؤرخ الأمريكي زكاري لوكمان، ومما قاله بوسبيك في هذا المجال:" لا يدين أي رجل بمكانته إلى أي شيء سوى جدارته الشخصية وشجاعته، ما من أحد يتميز عن الآخرين بفعل ميلاده، ويسبغ الشرف على كل إنسان وفقاً لطبيعة واجباته والمناصب التي شغلها...وعلى ذلك كان الشرف والوظائف والمناصب الإدارية عند الأتراك (العثمانيين) مكافآت على القدرة والجدارة، ولا يحصل غير الشرفاء، والكسولون، والمسترخون أبداً على تميز، وإنما يبقون مغمورين ومحتقرين، لهذا نجح الأتراك (العثمانيون) في كل شيء حاولوا عمله وأصبحوا عرقاً سائداً ويوسعون يومياً حدود حكمهم" ، ويعقب المؤرخ( لوكمان إن بوسبيك) يلاحظ بالمقابل باشمئزاز ملحوظ أن "طريقتنا مختلفة تماماً، ليس هناك مكان للجدارة، وإنما يعتمد كل شيء على الميلاد، فاعتباراته وحدها هي التي تفتح الطريق إلى موقع رسمي عال" .
ويقارن في مكان آخر بين اهتمام العثمانيين بالإنسان واهتمام الأوروبيين بالحيوان، فيقول "إن الأتراك يُسرّون إذا هم ظفروا برجل فريد المواهب فكأنهم كسبوا تحفة ثمينة وتجدهم لا يبخلون بأوقات عملهم ولا بجهدهم للأخذ بيده، خاصة إذا رأوا أن له استعدادات كبيرة في فن الحرب. أما نحن فمختلفون كثير الاختلاف عن الأتراك لأننا إذا وجدنا كلباً أو بازاً أو حصاناً، نُسرّ بذلك ولا نألو جهداً في الوصول به إلى منتهى الكمال، ولكن إذا صادف أن وجدنا رجلاً له استعدادات فائقة فإننا لا نكلف أنفسنا عناء استكمال قدراته، ولا نفكر في وجوب تربيته، فنحن نجد متعة فائقة عندما يقدم لنا حصان أجلّ الخدمات وكذلك باز أو كلب روّضا الترويض اللائق بينما يحصل الأتراك على خدمات أفضل بكثير من إنسان ربي تربية كاملة مادام أن طبيعة الإنسان هي أجلّ بالاعتبار من طبائع الحيوانات" .
ومصير الشعوب إلى اللحظات العثمانية الأخيرة يوثق أفضلية وضعها في الدولة الذي لم يكن العزوف عنه بعد ذلك نتيجة أي انهيار اقتصادي وذلك خلافاً لدعوى الاستنزاف، ويفند كواترت وجود دافع يتعلق بتردي الأحوال الاقتصادية في الولايات البلقانية العثمانية لدى الحركات الانفصالية ،والتي كانت تحركها عوامل خارجية روسية وأوروبية يهمها إثارة الاضطرابات للعثمانيين كما في الحالة الأرمنية ،ويؤكد هذا المؤرخ أن بلاد البلقان كانت تنعم بازدهار اقتصادي عشية انفصالها عن الدولة العثمانية وما لبثت بعد استقلالها أن ساءت أوضاعها المعيشية بطريقة أصبحت معها في حالة أسوأ مما قبل استقلالها
استنزاف عثماني أم عدوان غربي؟ ثم إن الادعاء بأن الاستنزاف استمر في مرحلة الضعف في الحروب الداخلية وحملات التأديب وقمع العصيان يلفت الأنظار بشكل مخل عن الدور الغربي في العدوان ويصور بشكل غير واقعي صورة دولة لا هم لها سوى قمع مواطنيها الساخطين ولو كان الأمر كما يزعم أنها طورت أساليب القمع السابقة عليها لما استمر الحكم العثماني أربعة قرون وفي أماكن أخرى ستة قرون في حين أن دولاً كبرى مارست القمع في مناطق أصغر ولم تستطع الاستمرار أكثر من قرن وثلث في حالات استثنائية كما حصل مع الاستعمار الفرنسي في الجزائر رغم كل تجهيزاته القمعية الحديثة، بل إننا نجد في البحث التاريخي الجديد صورة مناقضة لفكرة الاستنزاف ومؤكدة للدور المقاوم للدولة العثمانية، وفي هذا يقول كواترت:"إن هذه الإمبراطورية بقيت تكافح للمحافظة على نفوذها حتى أيامها الأخيرة في الوقت الذي كانت الإمبريالية الأوروبية في ذروة تسلطها وحين كانت الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية تسيطران على معظم مناطق المعمورة، وفي أواخر القرن التاسع عشر لم يكن هناك سوى قلة قليلة من الدول المستقلة خارج القارة الأوروبية، ولعل أهمها، الدولة العثمانية والصين واليابان، وبصفتها دولاً مستقلة كانت آنذاك محط آمال الشعوب الآسيوية المستعمَرة في كفاحها ضد الإمبريالية الأوروبية[1]، كما يلاحظ المؤرخ جستن مكارثي أنه في القرن التاسع عشر "في الوقت الذي كانت فيه الإمبراطورية العثمانية تكافح لإصلاح ذاتها والحفاظ على وجودها دولة حديثة، اضطرت في البداية إلى أن تستنزف مواردها المحدودة لتحمي شعبها من القتل على يد أعدائها ثم إلى أن تحاول أن تقدم الرعاية للاجئين الذين تدفقوا إلى الإمبراطورية عندما انتصر هؤلاء الأعداء...لم يكن للدولة العثمانية "فسحة للتنفس" لترتيب بيتها من الداخل، كانت هناك حاجة إلى الوقت لبناء دولة وجيش حديثين. كانت هناك حاجة إلى الوقت لخلق الاقتصاد الصناعي الذي كان أساس الدولة القوية. لم يتح أعداء العثمانيين، خصوصاً روسيا، لهم هذا الوقت" واضطروا الدولة لخوض حروب متتالية في الأعوام التالية كالحرب مع روسيا (1806-1812) والحرب الثانية مع روسيا أيضاً (1828-1829) والحرب مع محمد علي باشا التي أججتها أوروبا ومنعت التفاهم بين طرفيها[2] (1832-1833) و(1839-1840) وحرب القرم مع روسيا (1853-1856) والحرب الرابعة مع روسيا كذلك (1877-1878) والحرب مع اليونان (1897) وحروب البلقان (1911-1913) والحرب الكبرى الأولى (1914-1918) وحرب الاستقلال (1919-1923) ، إضافة إلى حوادث العصيان المسلح الكبرى في مصر عام (1804) والانتفاضة الصربية (1815-1817) والثورة اليونانية (1821-1830) والثورة في جزيرة كريت (1866-1868) والثورة في بلغاريا (1875) و(1876) والتمرد الأرمني (1896-1897)، وهلكت الجيوش العثمانية التي كانت في طور التدريب وأُجبرت على خوض الحروب وهي غير مهيأة، وأُنفقت الموارد المالية اللازمة للتحديث على هزائم أدت إلى خسارة الأرض والدخل، فكان الضعف هو سبب خسائر العثمانيين التي أبقتهم أضعف من القدرة على النهوض[3].
ويؤكد المؤرخ (جيرمي سولت) ما سبق بقوله إنه "منذ بدايات القرن التاسع عشر كان الغرب الإمبريالي هو الذي يقرر الحدود؛ وفي الغالب كان المسلمون هم الذين يموتون في آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان وأفريقيا، وكان السلطان العثماني يحاول جاهداً الاحتفاظ بما عنده، ولم يكن في وضع يسمح له بفرض الحدود على أي كان....(و) على مدى قرن من الزمان تقريباً كان السلام العثماني الطويل يتمزق بثورات إثنية دينية قومية، مدعومة في الغالب بقوى أجنبية وكثيراً ما تنتهي بحرب" وكانت دماء المسلمين هي التي "سفحت بغزارة"[4] وكانت الدوافع الغربية للغزو والاجتياح والاحتلال والعقوبات الجماعية والغارات والتخريب والتدمير والتمرد والضراوة والتهويل الاستغلال الاقتصادي ودعم الحكام الطغاة والمرتشين والمحرَضين والتلاعب بهم هي الحاجات الاستراتيجية والطمع التجاري[5]، المنطق الإمبريالي المتعجرف منذ الحملة الفرنسية على مصر 1798 :"نحن نهاجم وأنتم المهجوم عليكم. نحن نجتاح وأنتم من يتعرض للاجتياح. نحن نحتل وأنتم من تحتل بلادكم. نحن نهدد وأنتم ترتعبون. نحن نحاضر وأنتم الذين تستمعون. نحن نقتل وأنتم القتلى....."[6] بتبريرات بلاغية متشابهة عبر العصور: "المدنية والنظام في القرن التاسع عشر؛ المدنية والحرية والديمقراطية في القرن العشرين...كانت المدنية والقيم الغربية والديمقراطية هي الأقنعة، في حين كانت القوة البهيمية هي الوجه الحقيقي"[7].
ثم يتم إغفال كل هذا الدور الاستعماري الغربي، وتدان الدولة العثمانية، برأي إيديولوجي مسبق يريد صب الوقائع في قالبه قسراً، باستنزاف شعوبها رغم أنها كانت تدافع عنها، بل يحصل الغرب على شهادة النجاح في الليبرالية وحقوق الإنسان والحرية حيث تحول إلى الإمبريالية "اليوم"، ثم إن علينا استقصاء حالات العصيان التي حملت أكثر مما تحتمل حين صورت كحركات ثورية قومية استقلالية في الوقت الذي "جاء القادة المحليون (في الأقاليم العربية) من فئات مختلفة، فمنهم كبار الأسر المملوكية، ومنهم شيوخ القبائل، ومنهم وجهاء المدن. وكان دافعهم هو الطموح، وليس شعوراً معيناً بالاستياء من أسلوب العثمانيين في إدارة الأمور...(و) مع أن ظهور مثل هؤلاء القادة المحليين لم يكن قاصراً على الأقاليم العربية-إذ ظهر أمثالهم في دول البلقان وفي الأناضول التركية- فإن الأراضي العربية كانت أقل أهمية لإسطنبول من جميع النواحي؛ فالعثمانيون اعتمدوا على عائدات الأراضي العربية وقواتها أقل مما اعتمدوا على عائدات البلقان والأناضول وقواتهما. إضافة إلى هذا فإن الأقاليم العربية أبعد كثيراً عن إسطنبول من البلقان والأناضول، ولم تكن الحكومة المركزية على استعداد لأن تكرس قواتها ومواردها للقضاء على حركات التمرد الصغيرة. واهتمت إسطنبول بالتحديات التي أثارتها فيينا وموسكو أكثر ما اهتمت بالمشكلات التي أثارها القادة المحليون في دمشق والقاهرة. (و) بحلول القرن الثامن عشر كانت التهديدات التي تتعرض لها الإمبراطورية العثمانية من جيرانها الأوروبيين أكبر كثيراً من أي تهديد من الممكن أن توجهه لها الأراضي العربية ... وهكذا لم يكن لتهديدات وجهاء بغداد أو دمشق أي وزن أو أهمية إذا قورنت بتهديدات من هذا الحجم (في النمسا وروسيا) ...(و) لم يمثل القادة المحليون حركة عربية بأي شكل من الأشكال، وكثير منهم لم ينتموا للعرق العربي، بل إن كثيرين منهم لم يتحدثوا العربية أصلاً. ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كان المتمردون على السيادة العثمانية أفراداً طموحين يسعون لتحقيق مصالح شخصية دون اهتمام كبير بالشعوب العربية التي يحكمونها" كما يقول المؤرخ البريطاني يوجين روجان (2009)[8]، ويقول المؤرخ الفرنسي روبير مانتران (1969): "ظلت الفترة العثمانية من تاريخ مصر، تعامل كما لو كانت أحد الأقارب الفقراء لهذا التاريخ. وحين نتصفح المؤلفات التي تناولت هذه الحقبة، فإننا نلاحظ أن تناول حقبة كهذه بلغت ثلاثة قرون من تاريخ مصر، قد اقتصر – حتى عهد قريب- على عدة فصول هزيلة، كما أنه كان يتم من زاوية لا تقدم إلا كل ما يثبط الهمم، ويعود هذا إلى حقيقة أننا ظللنا نعتمد أساساً ولفترة طويلة على يوميات أو حوليات لم تكن تقدم عن التاريخ الحقيقي لمصر إلا بعضاً من الأخبار البالغة السطحية كما يعود بالمثل إلى أن مؤرخي الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر –وخاصة ابتداء من جوزيف فون هامر (Joseph Von Hammer)- قد اقتصر تناولهم لتلك الحقبة على أحداثها العارضة فكانوا يلحون بشدة في بعض الأحيان على الاضطرابات والاغتيالات وحوادث العصيان والتمرد .. إلخ الأمر الذي جعل العثمانيين يبدون في أسوأ مظاهرهم مما ساهم في اتهامهم بأنهم قد أغرقوا مصر في فوضى سياسية واضطراب مالي، وبأنهم جروا إليها الخراب الاقتصادي منذ مجيئهم وحتى قدوم حملة بونابرت" .
ويرد على هذه المزاعم بمقال جاء فيه: "إن السيطرة التي كانت تمارسها حكومة إستانبول على مصر لم تكن شديدة الوطأة كما لم تكن بالغة التعسف والجور. ومما لا شك فيه أننا نستطيع أن نتبين قيام الكثير من الاضطرابات، مثال ذلك اضطرابات أعوام 977، 1004، 1005، 1012، 1017، 1027. إلخ، لكنها في الواقع ليست اضطرابات تمرد أو حركات عصيان شعبية، ولكنها اضطرابات كانت تقوم بها الإنكشارية وبقية الأوجاقات، إما بسبب عدم حصولهم على رواتبهم وإما بسبب صدامهم مع المماليك. ولذا فيمكن القول بأنها كانت مجرد "مشاجرات شوارع" أكثر مما كانت ثورات حقيقية. وبعد ذلك، وخاصة في القرن الثامن عشر كان السبب الحقيقي للتوتر بين القاهرة وإستانبول ناتجاً عن أن إستانبول بدأت تستعيض تدريجياً عن النظام القديم للأوجاقات، بجيش من نمط جديد يتألف من متطوعين. فالسبب إذن هو مصاريف هذه الفرق العسكرية الجديدة أكثر مما هو بذخ الباشوات أو مطالب الباب العالي...."[9].
ويؤكد جب وبوون على وضع السلبيات في حجمها إذ يذكران أن سوريا تمتعت بحياة اجتماعية واقتصادية مزدهرة إلى حد كبير في ظل الإدارة العثمانية وبرغم الاضطرابات العسكرية وانتهاب الباشوات ومحصلي الضرائب والعرب (البدو)، وبرغم الأوبئة والمجاعات التي تمتلئ بها حوليات حلب ودمشق، فإن هنالك القليل مما يرجح أن التنظيم الداخلي للبلاد حتى حوالي 1750 كان يئن تحت وطأة أي ضربة جسيمة"[10].
وبهذا نلاحظ الفرق الشاسع بين التاريخ عندما تكتبه الإيديولوجيا ، ونفس التاريخ عندما تسجله الوقائع، ويجب ملاحظة أن من يكتب بالإنصاف ليس من الضروري أن يكون متعاطفاً مع العثمانيين كما ألمح حضرة المقدم (ص 18-19)، فكثير من هؤلاء المؤرخين من الغرب والشرق، وليسوا مسلمين ولا أتراكاً، وكتبوا بعد انتفاء أي مصلحة يمكن الحصول عليها، بل إن هناك من بدأ معاديا للدولة العثمانية ، ولكنه غيّر أفكاره بعد دراسة معمقة، وقد صرح بهذا الأمر (هاملتون جب وهارولد بوون ) وغيرهما، وإذا كان حال الدولة العثمانية يتجه للأسوأ بمرور الزمن فهذا لا يعني أن الشعار كان مجرد تضليل، بل كان دليلاً عملياً لمدة طويلة ظهر فيها كثير من الإيجابيات ولم تكن مجرد إيديولوجيا مثالية أو كتابات دينية أو صور خيالية أو خديعة إعلامية ولكن حين كانت الإيجابيات تتراجع فذلك نتيجة ظاهرة طبيعية هي ضعف بنيان الدولة بعد التقدم في العمر وليس بسبب الخداع أو استحالة التطبيق، ولهذا نرى أن الإيجابيات لم تتوقف في القرن السادس عشر كما تزعم الرؤية الإيديولوجية، هذا إلى جانب أن السخط الحقيقي في بلادنا كان ضد الغرب الحقوقي التنويري الديمقراطي والاستعماري في نفس الوقت، وهذا هو الخطر الذي واجهته الأمة حين اعتدى عليها بشعارات لا يمكن تصديقها وليس ما فعله المدافعون عنها حتى اللحظة الأخيرة، فكم من الوقت استطاع الغرب بكل آلته القمعية أن يبقى في بلادنا مقارنة بدولة العثمانيين "المتخلفة"؟
________________________________________
[1] -دونالد كواترت، ص 46.
[2] -د. جوزف حجار، أوروبا ومصير الشرق العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1976، ترجمة:بطرس الحلاق وماجد نعمه، ص 133.
-بيتر مانسفيلد، تاريخ الشرق الأوسط، النايا للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2011، ترجمة: أدهم مطر، ص 93.
[3] -جستن مكارثي، الطرد والإبادة مصير المسلمين العثمانيين (1821-1922 م)، قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، 2005، ترجمة:فريد الغزي، ص 23-28.
[4] -د. جيرمي سولت، ص 47 و78 و15.
[5] -نفس المرجع، ص 449.
[6] -نفس المرجع، ص 450.
[7] -نفس المرجع، ص 13 و449.
[8] -يوجين روجان، ص 65-67.
[9] -روبير مونتران، العلاقات بين القاهرة وإستانبول أثناء الحكم العثماني لمصر من القرن 16 حتى القرن 18، بحث مقدم إلى ندوة ألفية القاهرة - إبريل 1969، مجلة المجلة، ترجمة: زهير الشايب، ص 58.
[10] -هاملتون جب وهارولد بوون
*http://www.muarrikhcentre.com/arabic/pages/topics/nz_rat-fi-alqra621629-almarksi629-lltarix-alythmani-640-alxhlq629-alxams629-279.php#.Wfju7I8Jtiu
**http://www.muarrikhcentre.com/arabic/pages/topics/nz_rat-fi-alqra621629-almarksi629-lltarix-alythmani-640-alxhlq629-althalth629-2-119.php#.Wfju148jTIU
**http://www.muarrikhcentre.com/arabic/pages/topics/nz_rat-fi-alqra621629-almarksi629-ltarixna-alxhdith-2-85-92.php#.WfjuMY8jTIU
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق