الثلاثاء، 10 فبراير 2015

التاريخ وأزمته في مصر

أزمـة تشـفير التاريـخ  
◀ أحمد عبدالعظيم

يبدو أن تاريخنا المعاصر قد سقط فى براثن التشفير ووجهات النظر، وأصبح من المحرمات التى لا يجوز الاقتراب منها، فصدرت أبحاث ودراسات، مجرد اجتهادات تتخذ من قصاصات الصحف والمذكرات والكتب المترجمة مصادر لها، وغابت الوثيقة وهى الأهم، حيث إنه لا يوجد تاريخ بلا وثيقة.
ولذلك لا نجد فى الجامعات مصادر موثقة تغطى الحقب الأخيرة فى مستوى الكتب والمراجع التى تتناول تاريخنا الحديث، مثل تاريخ الحركة الوطنية للمؤرخ الراحل عبد الرحمن الرافعى.
فى البداية ينبهنا د. عبد المنعم الجميعى، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة الفيوم، إلى أن هناك سؤالا مهما يفرض نفسه، وهو: متى يبدأ التاريخ الحديث أصلا ؟
المؤرخون كانت لهم وجهات نظر مختلفة فى تحديد نقطة انطلاقه، وكلها مردود عليها. بعضهم حدد عام 1517 الذى فتح فيه العثمانيون مصر كبداية للتاريخ الحديث، باعتبار أنهم قضوا على حكم المماليك، وآخرون اعتبروه يبدأ بفترة الحملة الفرنسية، لأنها أيقظت الشعور الوطنى والوعى بمدى التخلف الحضارى لدينا، ولكن كيف يبدأ تاريخ أمة فى ظل الاحتلال؟
كما أن البعض أكد أن التاريخ الحديث لمصر يبدأ بعصر محمد على باشا بما أدخله من حداثة، وذلك غير مقبول لكونه أجنبيا مغامرا لم يلتفت إلى الشعب المصرى.
أما فيما يتعلق بتاريخنا المعاصر، فكل محاولات كتابته باءت بالفشل لتعنت السلطة وقتها. فقد اقترح د. محمد أنيس إنشاء مركز لتاريخ مصر المعاصر، ولكن المسئولين أصروا على تجاهل مرحلة ما قبل ثورة يوليو، ورفضوا الرسائل الجامعية عن حزب الوفد، ولم يُسمح بنشر مذكرات سعد زغلول إلا فى تسعينيات القرن الماضى.
وشكل محمد حسنين هيكل لجنة برئاسته لتاريخ مصر بجريدة الأهرام باشرت أعمالها وحضر الرئيس السادات إحدى جلساتها، وأصر على أن تاريخنا المعاصر لابد أن يبدأ من نكسة عام 1967 فاعتذر هيكل عن رئاستها، فأسند السادات المهمة لنائبه حسنى مبارك وانتهى الأمر.
وهناك محاولة أخيرة أراد أحد ابناء مبارك إتمامها من خلال شخص والده، وبدأ بجمع الوثائق ولكنها لقيت مصير سابقتها، كما أن وثائق عبد الناصر رغم مرور أكثر من 50 عاما على انتهاء عهده لم يفرج عنها للباحثين حتى وقتنا الحاضر .
بين التاريخ و السياسة
وانطلاقا من مقولة أن التاريخ يبدأ عندما تنتهى السياسة، التى تعرقل أية محاولة لصياغة تاريخ حقيقى لا يشوبه الزيف، يكشف د .عاصم الدسوقى، رئيس قسم الدراسات التاريخية بمعهد البحوث والدراسات العربية، أنه لا يمكن أن يُسمح بالاطلاع على وثائق أى حاكم مادام على قيد الحياة، أو ملف قضية لا تزال مفتوحة، لأن المسألة ترتبط بالواقع السياسى والعلاقات الخارجية.
فمثلا لا تزال وثائق نكسة 1967 محظورة فى أرشيف وزارة الخارجية البريطانية ولن يفرج عنها إلا بعد 75عاما، وأيضا أثناء عملى كأستاذ زائر بجامعة شيكاغو كما يقول-وجدت وثائق ممنوعة،وقد تم فك الحظر عن بعض الوثائق فى الولايات المتحدة الأمريكية كنوع من الحرب الدعائية بين الخصوم السياسيين، والوثائق أحيانا يشوبها الزيف لأغراض سياسية، كالوثائق التى نشرت عن هتلر فى إحدى الصحف الألمانية.
ووسط كل هذه المعوقات الطريق ليس مظلما تماما أمام الباحثين، فالتاريخ الاقتصادى يمكنه أن يزيل الغموض عن خفايا السياسة شريطة اتباع مناهج البحث العلمى فى هذا المجال، القائمة على الإحصاء و تحليل الأرقام وتحقيق الوقائع وتفسيرها والربط بين الجزئيات بإجراء المقارنة بين ما نشر فى المذكرات الشخصية للسياسيين والعسكريين والصحف والتقارير الدبلوماسية والوثائق الأجنبية والكتب المترجمة، شريطة تجنب الصياغة اليقينية، لأنه من الصعب التوصل لليقين فى العلوم الإنسانية، وليس من حق الباحث أن يصدر أحكاما فهى ليست وظيفته بل عليه أن يجتهد فى إيجاد الأدلة العقلية ثم يترك الحكم للقارئ.
السينما مصدرا للتاريخ
عندما أراد الباحثون التحقق من بعض الوقائع فى حرب أكتوبر عام1973 التى بدورها تخضع للحظر، لجأوا إلى الوثائق الإسرائيلية ومقارنتها بما نشر عندنا، وذلك على حد قول د. أيمن أحمد محمود، أستاذ التاريخ الحديث بآداب السويس، ويضيف أن الوثائق المتاحة، بدءا من عهد محمد على حتى قبل ثورة يوليو بسنوات، انتقائية ودراستها غير محايدة، لأن الملك فؤاد الأول أسند مهمة كتابة تاريخ أسرته لمؤرخين أجانب اعتمدوا على مترجمين أتراك فى ترجمة وثائق عثمانية ووثائق مصرية أخرى أهملت تاريخ العهد العثمانى مقابل تمجيد محمد على وخلفائه .
وهناك اتجاه لدى مؤرخى الغرب نحو الاستعانة بالسينما كمصدر للكتابة التاريخية، حيث قام أحد الباحثين بدراسة الأفلام السينمائية عندما أراد التأريخ لطبقة الأفندية. وحتى مركز تاريخ مصر المعاصر، الذى أنشئ فى حقبة الستينيات من القرن الماضى لإعادة كتابة تاريخنا، لم ينجح فى الحصول على الوثائق أو مضابط مجلس الشعب لأنها تتطلب تصاريح من جهات رسمية، فاكتفى بتكليف لجنة علمية تختار موضوعات للباحثين من خارج المركز وتشرف على تنفيذها، وهى مستقاة من المصادر المتاحة.
الأرشيف القومى
د. أيمن فؤاد سيد، أستاذ التاريخ الإسلامى بجامعة الأزهر ورئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، يؤكد أن الجمعية ليست لديها صلاحيات تجيز لها الاطلاع على الوثائق وتقوم بعقد الندوات وتستضيف الأساتذة المتخصصين والسفراء لإلقاء المحاضرات عن القضايا التاريخية المعاصرة، مثل قضية طابا وأخيرا أزمة سد النهضة، وتقوم بإصدار المجلة التاريخية المصرية وتتضمن أبحاثا ومقالات تتناول التاريخ الحديث والمعاصر، واقترح إنشاء مركز للأرشيف القومى على غرار المراكز المنتشرة فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية يتولى جمع الوثائق المتناثرة فى القصور الرئاسية وغيرها لإتاحتها أمام الدارسين ووضع قوانين ملزمة تسمح بالاطلاع على الوثائق بعد مضى 25 عاما على إصدارها إلا إذا كانت تمس الأمن القومى.
الحياد المستحيل
وترى د. لطيفة سالم، أستاذة التاريخ المعاصر بجامعة بنها، أن الحديث عن إتاحة مصادر التاريخ المعاصر يجب أن يقترن بفتح باب المناقشة حول الحياد وتأثيره على مدى صدق الباحث الذى غالبا ما يكون منتميا لحزب أو جماعة أو مرجعية فكرية محددة.
فإذا توافرت كل مصادر التاريخ فى غياب عنصر النزاهة، يخرج البحث عن مساره الطبيعى وهدفه الأسمى، وهو إضاءة الطريق أمام الرأى العام. والأمر ليس سيئا فهناك دراسات جادة و موثقة ولكن تشوبها أغراض فى بعض الرؤى، وأخرى لم تسلم من الزلل، والتقسيمات المرحلية للتاريخ منذ فترة تشهد تحولا كل عشرين عاما، والمعاصرة لفظ فضفاض لا يستطيع أحد الامساك بطرف نهايته.
وإن كانت ترى أن بداية المعاصرة نجدها واضحة فى التغييرات التى أحدثتها ثورة يوليو 1952. وبالنسبة لقضية الوثائق فهى أيضا تخضع للأنظمة السياسية وأحيانا لسلوكيات بعض المسئولين. فقد كنا نحصل بسهولة على الوثائق المختلفة، وخطابات عبد الناصر من القصور الرئاسية منذ عهد عبد الناصر، إلى أن جاء مبارك ورجاله ومن بينهم زكريا عزمى، رئيس ديوان رئيس الجمهورية، الذى منع الاطلاع على الوثائق، لدرجة أن إحدى الدارسات للماجستير قوبلت بالرفض عندما أرادت رؤية النياشين والأوسمة التى نالتها الشخصيات العامة قبل ثورة يوليو.
وعن تجربتها الخاصة فى كتابة تاريخ الملك فاروق قالت د. لطيفة سالم إنها اطلعت على مصادر كثيرة لمحاولة تأكيد وقائع وأحداث مفصلية فى فترة حكمه، ورسم صورة صحيحة عن شخصية فاروق وما أصابها من تحولات، باتباع المنهج النقدى فى وقت تطورت فيه الكتابة التاريخية وتعددت اتجاهاتها فى المجال الأكاديمى، وظهور طبقة جديدة من المؤرخين منهم د. فؤاد شكرى ود. محمد أنيس ود. راشد النبراوى، ورغم ما قيل عن د. عبد العظيم رمضان فإن له كتبا مهمة، كتاريخ الجيش المصرى وبين الوفد والعرش وتاريخ الحركة الوطنية.

رابط دائم: 



 
 
 

 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حركة الشواف المسلحة في الموصل 8 من آذار 1959 وتداعياتها

  حركة الشواف المسلحة  في الموصل  8 من آذار 1959 وتداعياتها  أ.د. إبراهيم خليل العلاف أستاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل ليس القصد ...