ذكريات (59)
آثارنا المنهوبة
بقلم : الاستاذ سامي مهدي
شهدت عدة متاحف كبرى في العالم ، ورأيت فيها ما رأيت من آثار العراق المنهوبة التي استأثرت بها ، وتقاعس أهلونا في المطالبة بها واستردادها ، ومنها المتحف البريطاني في لندن حيث جدارية صيد الأسود ، ومتحف اللوفر في باريس حيث مسلة حمورابي ، ومتحف برغامون في برلين حيث بوابة عشتار .
حين نقلت 1977 إلى العمل مستشاراً صحفياً ومديراً للمركز الثقافي العراقي في باريس زرت متحف اللوفر مراراً ، بمفردي أو بصحبة آخرين ، ورأيت في المتحف أكثر من صالة تكتظ بالآثار العراقية ، وكنت في كل مرة أزور فيها المتحف أزور هذه الآثار ، وأقف أمام مسلة حمورابي وتماثيل غوديا المتعددة باعتزاز ، وأتطلع في وجوه بقية الزوار ، وأهم ، أو أكاد ، أن أقول لمن حولي من الأجانب : هذه آثارنا !
كنت أتألم ، وأكثر ما كان يؤلمني أن الإسم الذي يتصدر هذه الصالات هو اسم العراق التاريخي ، ميزوبوتاميا ، وليس اسمه الحالي . وذات يوم من أيام عام 1978 زرت المتحف فخطر لي في أثناء الزيارة خاطر نفذته في اليوم التالي ، فقمت بتوجيه كتاب إلى إدارة المتحف طالبت فيه أن يوضع اسم العراق في صدر الصالات المعنية وليس اسم العراق التاريخي وحده . ذلك لأن كثيراً من زوار المتحف لا يعرفون أن ميزوبوتاميا هي العراق ، والعراق هو ميزوبوتاميا .
أعترف أنني لم أستشر أحداً حين وجهت هذا الكتاب ، فما استشرت السفير ، ولا وزارة الثقافة والإعلام ، ولا أية جهة ، وهذا أمر كان يحسن أن أفعله ، ولكنني خشيت أن أستشير أحداً فيطلب مني ألا أفعل . بعد نحو أسبوعين جاءني جواب من المتحف ، وهو جواب لئيم على طريقة السياسيين الفرنسيين حين يستلئمون ، وفحوى الجواب أن العراق لا يشمل كل أراضي ميزوبوتاميا بل هو جزء منها ، وهناك جزء في سورية وآخر في تركيا ، فأحبط مسعاي .
ذكرني بهذا منشور قرأته قبل أيام عن عمليات صيانة تجري في متحف البرغامون في برلين لبوابة عشتار والجدران المجاورة لها . والغريب أن صاحب المنشور كتب تعليقاً سوغ فيه للمتحف أن يحتفظ بهذا الأثر العظيم بذريعة أنه تراث إنساني ، وأنه أجدر منا في حفظه وصيانته وعرضه وبذلك أباح للصوص الآثار لصوصيتهم ، من حيث يدري أو لا يدري !
إن آثار العراق هي ملك الشعب العراقي ، والعراق أحق بها من غيره ، لأنها رموز هويته الحضارية ، وهي ليست ملكاً لأحد حتى يهبها لمن يشاء على وفق مزاجه . والمعروف أن الدول العريقة تبذل جهوداً وأموالاً كبيرة وتعقد اتفاقيات من أجل استعادة آثارها من متاحف الدول التي استحوذت عليها . هذا ما تفعله مصر واليونان مثلاً . وأظن أن هناك قرارات دولية بشأن إعادة الممتلكات الثقافية المستحوذ عليها ، وفي مقدمتها الاثار ، إلى أهلها . ومنظمة اليونسكو هي المعنية بهذا الأمر على المستوى الدولي .
وحسب علمي أن متحف اللوفر كان يملك نسختين من مسلة حمورابي ، إحداهما سليمة والأخرى متضررة ، وحين طالب العراق فرنسا بإعادة المسلة أعادت إليه النسخة المتضررة بعد صيانتها ، وظل اللوفر محتفظاً بالنسخة السليمة .
إنني أتساءل إذا كان هناك من يتحدث بهذا المنطق الإنساني المصطنع ، فكيف سنتمكن من استعادة آثارنا التي نهبت تحت سمع المحتلين الأمريكيين وبصرهم ؟!
آثارنا المنهوبة
بقلم : الاستاذ سامي مهدي
شهدت عدة متاحف كبرى في العالم ، ورأيت فيها ما رأيت من آثار العراق المنهوبة التي استأثرت بها ، وتقاعس أهلونا في المطالبة بها واستردادها ، ومنها المتحف البريطاني في لندن حيث جدارية صيد الأسود ، ومتحف اللوفر في باريس حيث مسلة حمورابي ، ومتحف برغامون في برلين حيث بوابة عشتار .
حين نقلت 1977 إلى العمل مستشاراً صحفياً ومديراً للمركز الثقافي العراقي في باريس زرت متحف اللوفر مراراً ، بمفردي أو بصحبة آخرين ، ورأيت في المتحف أكثر من صالة تكتظ بالآثار العراقية ، وكنت في كل مرة أزور فيها المتحف أزور هذه الآثار ، وأقف أمام مسلة حمورابي وتماثيل غوديا المتعددة باعتزاز ، وأتطلع في وجوه بقية الزوار ، وأهم ، أو أكاد ، أن أقول لمن حولي من الأجانب : هذه آثارنا !
كنت أتألم ، وأكثر ما كان يؤلمني أن الإسم الذي يتصدر هذه الصالات هو اسم العراق التاريخي ، ميزوبوتاميا ، وليس اسمه الحالي . وذات يوم من أيام عام 1978 زرت المتحف فخطر لي في أثناء الزيارة خاطر نفذته في اليوم التالي ، فقمت بتوجيه كتاب إلى إدارة المتحف طالبت فيه أن يوضع اسم العراق في صدر الصالات المعنية وليس اسم العراق التاريخي وحده . ذلك لأن كثيراً من زوار المتحف لا يعرفون أن ميزوبوتاميا هي العراق ، والعراق هو ميزوبوتاميا .
أعترف أنني لم أستشر أحداً حين وجهت هذا الكتاب ، فما استشرت السفير ، ولا وزارة الثقافة والإعلام ، ولا أية جهة ، وهذا أمر كان يحسن أن أفعله ، ولكنني خشيت أن أستشير أحداً فيطلب مني ألا أفعل . بعد نحو أسبوعين جاءني جواب من المتحف ، وهو جواب لئيم على طريقة السياسيين الفرنسيين حين يستلئمون ، وفحوى الجواب أن العراق لا يشمل كل أراضي ميزوبوتاميا بل هو جزء منها ، وهناك جزء في سورية وآخر في تركيا ، فأحبط مسعاي .
ذكرني بهذا منشور قرأته قبل أيام عن عمليات صيانة تجري في متحف البرغامون في برلين لبوابة عشتار والجدران المجاورة لها . والغريب أن صاحب المنشور كتب تعليقاً سوغ فيه للمتحف أن يحتفظ بهذا الأثر العظيم بذريعة أنه تراث إنساني ، وأنه أجدر منا في حفظه وصيانته وعرضه وبذلك أباح للصوص الآثار لصوصيتهم ، من حيث يدري أو لا يدري !
إن آثار العراق هي ملك الشعب العراقي ، والعراق أحق بها من غيره ، لأنها رموز هويته الحضارية ، وهي ليست ملكاً لأحد حتى يهبها لمن يشاء على وفق مزاجه . والمعروف أن الدول العريقة تبذل جهوداً وأموالاً كبيرة وتعقد اتفاقيات من أجل استعادة آثارها من متاحف الدول التي استحوذت عليها . هذا ما تفعله مصر واليونان مثلاً . وأظن أن هناك قرارات دولية بشأن إعادة الممتلكات الثقافية المستحوذ عليها ، وفي مقدمتها الاثار ، إلى أهلها . ومنظمة اليونسكو هي المعنية بهذا الأمر على المستوى الدولي .
وحسب علمي أن متحف اللوفر كان يملك نسختين من مسلة حمورابي ، إحداهما سليمة والأخرى متضررة ، وحين طالب العراق فرنسا بإعادة المسلة أعادت إليه النسخة المتضررة بعد صيانتها ، وظل اللوفر محتفظاً بالنسخة السليمة .
إنني أتساءل إذا كان هناك من يتحدث بهذا المنطق الإنساني المصطنع ، فكيف سنتمكن من استعادة آثارنا التي نهبت تحت سمع المحتلين الأمريكيين وبصرهم ؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق