الخميس، 9 يوليو 2020

اللغة والاحتلال ..ما الذي ينبغي فعله ؟ ا.د.إبراهيم خليل العلاف


        اللغة والاحتلال ..ما الذي ينبغي فعله ؟

                               ا.د.إبراهيم خليل العلاف
                 أستاذ التاريخ الحديث-جامعة الموصل

    منذ سنوات طويلة قد تصل إلى ال100عام، ونحن نقرأ ونسمع أن اللغة العربية –شأنها شأن أية لغة -  تتراجع، ويضعف دورها ،بل وتصاب بالهرم، والتفكك في حالة وجود مستعمر أجنبي .فهذا المستعمر يهمل اللغة الوطنية، ويشجع الكتابة، والتحدث بلغته التي جاء بها .فضلا عن أن  الأشخاص الذين يرتبطون به، ويعملون معه ،ليس لديهم الغيرة على لغة وطنهم .ولسنا بحاجة لان نأتي بالأمثلة من هنا وهناك، فلنا تجربتنا الخاصة بنا في العراق ،وأقصد ما حل باللغة العربية في الأيام الأخيرة من عهد الحكام العثمانيين ،والسنوات الأولى من الاحتلال البريطاني، والآن وبعد وقوع الاحتلال الأميركي للعراق منذ 9 نيسان 2003 .
    من القضايا المعروفة ،أن اللغة هي من أبرز الأدوات التي يملكها الإنسان للتعبير عن نفسه، والتفاهم مع غيره ،والتفكير فيما يحتاجه من  متطلبات الحياة،وفي مقدمتها الاتصال مع بني جنسه .ويكفي الإشارة إلى أن اللغة ،هما الفارق بين عصور ماقبل التاريخ والعصور التاريخية فمتى عرف الإنسان اللغة عرف التدوين الذي ساعده على التواصل، ونقل الخبرات واللغة . لهذا كله ،فأن اللغة  تتطور مع الإنسان ،والإنسان بدون لغة هو أقرب إلى الحيوان : "وعلم ادم الأسماء كلها " صدق الله العظيم ..أي علمه اللغة أو باكورة اللغة وهي الأسماء.. فهذا شجر، وتلك صخرة ، وهناك واد وبجانبه جبل، ونهر .وهكذا تولد اللغة ،وتبدأ بالحبو ثم تكبر، وتتطور كأي كائن حي وإذا ما طبقنا على اللغة ،النظرية العضوية ،فأننا سنصل إلى مرحلة الشباب ،والرجولة، والكهولة، والشيخوخة، والهرم، والموت فهل تموت اللغة ..اللغة لاتموت إذا كان هناك من يحافظ عليها ،ويجدد شبابها. فاللغة العربية التي سادت في العصور الوسطى، ليست هي نفسها ، كما أصبحت في القرن التاسع عشر، وليست هي مثلها اليوم .. إنها تتطور ،وتتكيف ،وتتجدد في معناها، ومبناها ،وتركيبتها ،ومدلولاتها .
    اللغة العربية اليوم في اسوأ حالاتها ..المذيعون  يقرأون الأخبار، ويقدمون البرامج بلغة ركيكة ..واللافتات والنشرات الدعائية  في الشوارع والأمكنة العامة والخاصة ، قد كتبت بعجمة واضحة ، وبلغة ركيكة ، وباللهجة العامية في كثير من الأحيان ،وكتاب الأعمدة والمقالات ومحرري  الصحف  عموما ، لم يعد يخجلون من الأخطاء النحوية ،والإملائية ،والمطبعية التي تملا صفحات جرائدهم ، ومجلاتهم .وحتى طلبة الدراسات العليا، ومن يقف وراء تصحيح رسائلهم وأطروحاتهم لم يعودوا  منتبهين إلى ما يرد في ما يكتبونه من أخطاء في اللغة. وإذا ما أراد الأساتذة في جلسات المناقشة أن يقولوا شيئا في هذا المجال، ينبري لهم رئيس الجلسة ليقول لهم، ويرجوهم أن يثبتوا ذلك تحريريا ودون أن يأخذوا الكثير من وقت المناقشة !!
    لماذا هذا الإهمال للغة العربية ،ومن وراء ذلك ؟ أليست اللغة هي هوية الأمة ؟
    لاننكر أن ثمة تأكيدات على ضرورة الحفاظ على سلامة اللغة،قد صدرت من جهات أكاديمية وغير أكاديمية ،ووصل الأمر إلى إصدار قوانين ملزمة في ذلك. ولكن الأمر هذا لايكفى . فالاهتمام باللغة، والغيرة عليها، والسعي لضبط الكتابة فيها،ونطقها نطقا صحيحا ، ينبغي أن لايكون في إطار حكومي، بل لابد من يصبح ذلك واجبا وطنيا ،وقوميا .فاللغة العربية لغة القران الكريم وأي خطأ فيها سوف ينعكس على المعنى وإذا ماتغير المعنى ،فأن هناك أمورا ومستحقات كثيرة تترتب على ذلك والأمثلة كثيرة ليس هنا مجال ذكرها فالمعنى غير المغنى والمرحوم غير المرجوم وهكذا ..
    أمامي الآن بيانات ومنشورات وقرارات وقوانين صدرت في العراق في عهد الجنرال جي كارنر والسفير بريمر وغيرهما من قادة الاحتلال، وظهرت باللغتين العربية والانكليزية، وعندما نقارن بين النصين نجد أن النص الانكليزي لاغبار عليه، وقد كتب بلغة سليمة .أما النص العربي فركيك،ومشوه،وبالكاد يستطيع القارئ فهم المعنى. والسبب بسيط وهو أن الذي قام بالترجمة غير عارف بأبسط قواعد اللغة العربية، أو انه غير عربي ،وفي أحسن الأحوال فهو إنسان لانقول أكثر من أن  ثقافته  بسيطة ،ومستواه العلمي متدن .
    نغضب عندما نسمع مذيعة تلحن في اللغة ، ومع هذا تعلو وجهها ابتسامة ..وهي غير عابهة بما فعلت ..قد نسامحها ..ولكن نصاب بخيبة أمل، عندما يتحدث مسؤول كبير في الدولة يفترض أن تكون من أكثر الدول العربية والإسلامية اهتماما باللغة العربية وهو لايعرف ماالذي يفعله حرف الجر أو ماهي وظيفة كان !! لماذا يتحدث المسؤول الأميركي أو الروسي أو التركي بلغته، ودون أن يخطأ خطأ واحدا ؟لماذا تصدر الكتب باللغة الانكليزية وهي خالية من أي خطأ ، في حين تعج كتبنا بالمئات من الأخطاء اللغوية، والنحوية ،والمطبعية ؟!السبب أن الأجنبي يحترم لغته، ويحترم قراءه وسامعيه ونحن ليس كذلك .
     لقد عبر عدد من الباحثين، والكتاب، والصحفيين واللغويين عن فزعهم المخيف ،وقلقهم العميق مما وصلت إليه لغتنا العربية في مرحلتنا الحاضرة .كما أقيمت ندوات ومؤتمرات استهدفت وضع الحلول في كيفية النهوض بوضع اللغة العربية .ولايمكن أن ننسى ما تفعله مجامع اللغة العربية، وما تبذله من جهود ،القصد منها جعل اللغة العربية متوائمة مع عصرها .
     لست من المتشائمين من الوضع السيئ للغة العربية على أيدي أبناءها العاقين، ولكني من المتفائلين الذين يجدون الاعذار ،ويبحثون عن العلاج .وقد سبق لي أن كتبت في جريدة فتى العراق، وهي جريدة محلية تصدر في الموصل مطالبا تلاميذي في الدراسات العليا أن يعودوا من جديد ليقرأوا كتاب الإملاء الفريد. وفي كل محاضراتي اطلب من تلاميذي بأن يكون إلى جانبهم قاموسا أو منجدا يرجعون إليه باستمرار لتقويم لغتهم .
    أنا لاانكر حقيقة ، أن اللغة العربية في الجزائر مثلا استطاعت الصمود في وجه محاولات الفرنسة،والطمس التي مورست ضدها ،وكذلك الحال عندما صمدت اللغة في مصر أمام قوانين كرومر ودنلوب اللذين استهدفاها في حقل التعليم. وحتى في الموصل وقف المعلمون أيام حكم الاتحاديين قبيل الحرب العالمية الأولى ضد محاولات التتريك ،فأكدوا على اللغة العربية ونظموا الأناشيد التي يتغنى بها التلاميذ بأمجاد أمتهم .حدثني احد هؤلاء المعلمين وهو الأستاذ عبد الرحمن صالح رحمه الله، عن مدير مدرسته احمد شكري سنة 1913 وهو يضع غرامة مالية على من يتكلم باللغة العربية من التلاميذ لكن المعلمين العرب وقفوا بوجه هذه المحاولات، وتصدوا لها بالعمل والفعل من خلال إصرارهم على التحدث باللغة العربية، وتلاوة  القران الكريم بصوت عال ، ورفع العلم العربي، وترديد الأناشيد العربية .
     اللغة تعكس وضع الأمة، وقوة الدولة،وقوة بنيانها الاقتصادي،والاجتماعي .فمتى كانت الدولة قوية والأمة قوية ،كانت اللغة قوية ولكي تكون اللغة بوضع أفضل مما هو عليه الآن ،لابد من أن نرتقي بالوضع الاقتصادي والاجتماعي وهذا بحد ذاته يحتاج إلى ثورة ..ثورة تنتفض فيها الأمة على أوضاعها ،وترتقي بأحوال أبناءها سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا. وعندئذ ستتولد الحاجة إلى تحسن اللغة، وتطوير معانيها، والحفاظ على سلامتها . ويقينا أن إحداث الثورة هذه ، ليست مسؤولية الجهات الرسمية، وحسب بل هي مسؤولية المجتمع برمته ..العائلة، والمدرسة ،وأجهزة الإعلام،  والمسجد ،والكنيسة، والبرلمان ،والمجامع اللغوية، ومنظمات المجتمع المدني .
     ولتحسب عملية تلوث اللغة، كتلوث البيئة مضرة بالمجتمع  والإنسان. وكلما عملنا من اجل نظافة البيئة ،فأن نظافة اللغة مهمة كذلك. فلنعمل من اجل لغة جميلة، وسهلة ،وصحيحة،ومعبرة ،وإذا ما نجحنا في ذلك، استطعنا بناء إنسان يعتز بنفسه ،وبهويته وبشخصيته، وبدوره في البناء الحضاري الإنساني .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 ...............أ.د إبراهيم خليل العلاف

                                                            الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 أ....