السبت، 18 يوليو 2020

جامع النبي جرجيس في الموصل ا.د. ابراهيم خليل العلاف










جامع النبي جرجيس في الموصل

ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل

جامع نبي الله جرجيس عليه السلام ، من الجوامع القديمة في الموصل . ويقع في شارع سوق الشعارين في الجانب الايمن من المدينة القديمة الموصل الحبيبة .

وفي الجامع مرقد يقال انه مرقد النبي جرجيس . وقد شيد على المرقد ، مسجد صغير يعود في تاريخه الى سنة 1127 ميلادية اي القرن 12 ميلادي السادس الهجري وثمة تاريخ للجامع وقصص  سأتحدث لكم عنها الان .

واقول لازلت اتذكر وانا طفل صغير في الاربعينات من القرن الماضي حيث يحتفل  الموصليون  فيه ،  بإخراج شعرات النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتوزيع الشوربة على الفقراء ورفع الاعلام الخضراء من قبل افراد من اسرة (شيال العلم ) .

كما لازلت اذكر كلما مررت من امامه وانا في طريقي الى بيتنا القريب منه في محلة رأس الكور ،  أنني كنت  أشاهد ابياتا مكتوبة على بوابة الجامع تقول
:
زر حضرة ملئت نورا وتقديسا .. وأذكر نبي الله جرجيسا
ماجاءه   قاصد   يشكو  ملامته   الا .. ونفس عنه الكرب تنفيسا


زاره الرحالة الاندلسي ابن جبير . وذكره المؤرخون واقام فيه الجليليون مدرسة هي (المدرسة الجرجيسية ) واقدم ذكر لهذه المدرسة كان سنة 1082 هجرية - 1671 ميلادية .

ومما اوردته المصادر التاريخية انه كان نبيا ارسل الى ملك في بلاد الشام ، كان يعبد الاصنام وتروى عنه كرامات وله موقع في ذاكرة الموصليين وقد فجرته عناصر داعش  سنة 2015 عندما سيطرت على الموصل 2014-2017 بحجة وجود قبور فيه وكانت الى جانبه مقبرة كبيرة أزيلت عندما فتح شارع النبي جرجيس مطلع القرن الماضي القرن العشرين  .

دائرة اوقاف الموصل باشرت الان بإعماره من خلال شركة السعد الهندسية التابعة لوزارة الاعمار والاسكان بوركت الجهود الطيبة وان شاء الله نحتفل بعودته وفتحه امام الناس للصلاة.
جامع النبي جرجيس – كما قلت – من الجوامع العريقة في الموصل ، وقد خضع منذ تشييده - وهو مسجد صغير -  الى عدة تطويرات وترميمات ؛ ففي البداية كان عبارة عن ضريح يعرف بمشهد النبي جرجيس عليه السلام ، والضريح كان يقع بين عدد كبير من القبور وعلى مكان مرتفع . وقد ادركت وانا في الاربعينات هذه المقبرة ويذكر شيخنا الاستاذ سعيد الديوه جي رحمه الله في كتابه عن جوامع الموصل ان جامع النبي جرجيس كان في اول امره مسجدا صغيرا يسمى ( مسجد النبي)  وكان هذا في القرن الثالث للهجرة -  التاسع للميلاد  وعلى مر العصور أخذ بالتوسع وصار يعرف بمشهد النبي يونس عليه السلام . وفي القرن الرابع عشر الميلادي اضيفت الى المشهد بعض الاقسام الاخرى واصبح جامعا يعرف بجامع النبي جرجيس ومن المناسب القول ان المحلة التي يقع فيها الجامع لاتزال تسمى (محلة باب النبي ) .

ومصلى جامع النبي جرجيس يشبه مصلى جامع النبي يونس عليهما السلام  .وقد  اضيفت الى المصلى اقسام جديدة في فترات تاريخية مختلفة حتى أخذ شكلا يخالف الشكل المستطيل لمصليات الجوامع .
مصلى جامع النبي جرجيس يتكون من ثلاثة اقسام ، فهناك الجناح الذي تحت القبة ، وفيه المنبر والمحراب الرئيسي ، وهناك مصلى الحنفية ، وهناك مصلى الشافعية وهناك الحضرة ، وهناك مكان شعرات الرسول الكريم ، وهناك القبة ، والاروقة ، والمنارة.  وللجامع ثلاثة ابواب الباب الشرقي الذي يقع في سوق الشعارين والباب الشمالي ويكون بين المقابر التي كانت تحيط بالجمع من الجهة الشمالية ولا يفتح الا ايام الجمع ، والباب الغربي وامامه ساحة تؤدي الى محلة سميت باسمه هي محلة باب النبي وهذا الباب فتحه والي الموصل الحاج حسين باشا الجليلي (1730 – 1746 ) .  وكان فناء الجامع كبيرا ، واكبر مما هو عليه اليوم وهناك محل للوضوء في فناء مستقل عن الجامع يقع في الجانب الشرقي من سوق الشعارين . والجامع كما ادركته كان يقابل مركز شرطة باب النبي . وقد بني محل الوضوء سنة 1952 .
وكان في الجامع فضلا عن المدرسة الجرجيسية التي درس فيها اساتذة كثيرون منهم الشيخ محمود افندي عبد الوهاب المتوفى سنة 1671  والشيخ يوسف النائب المتوفى سنة 1727 ، والشيخ محمود عبد الله المفتي المتوفى سنة 1672 م والشيخ محمد طاهر الفخري المتوفى سنة 1928 والشيخ احمد افندي الديوه جي المتوفى سنة 1944  .. كان هناك (دار القرآن ) بناها اسماعيل اغا الجليلي سنة 1716 وكانت في فناء الجامع ومهمتها تدريس الفقه والعقائد والعلوم الدينية المختلفة وقد ارخت دار القرآن بأبيات من الشعر بحساب الجمل ولاتزال مكتوبة على حجر مثبت في صدر المدرسة ومنها :
يا حجرة فاقت على الروض اذ زهت *  بأربابها ممن حوى الفضل والفخرا
تطوع فيها راجيا عفو ربه * ابو الخير اسماعيل طوبى له البشرى واخيرا البيت :
وحسبك فضلا ان يقول مؤرخ * لقد نلت اسماعيل يوم الجزا أجرا
الذي اريد ان اذكر به اهلي في الموصل ، ان جامع النبي جرجيس انفرد من بين جوامع الموصل بالاحتفاظ بشعرتان من شعرات  لحية النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كانتا عند الحاج محمد سعيد افندي بن السيد اسماعيل افندي في استانبول ، وكان هذا يتولى وظيفة كاتب القسمة في باب المشيخة الاسلامية في استانبول العاصمة العثمانية وقد انتقلت اليه بالسلسة الصحيحة الثابتة المتصلة الى الحضرية النبوية وجاء ذكر ذلك في الوقفية المؤرخة سنة 1269 هجرية أي سنة 1853 ميلادية وبعد وفاته انتقلت الى ولده السيد محمد اشرف افندي والذي اوصى بنقلها الى الموصل وحفظها في حضرة النبي جرجيس عليه السلام وقد اوقف للشعرات ارض تقع بين متوسطة الحدباء ومقام الشيخ فتحي ولم تزل هذه الارض معروفة بوقف الشعرات وقد اشترط الواقف ان يكون لها شيخان من اهل التقوى والعلم ، وان تزار يوم 12 ربيع الاول من كل سنة بعد تلاوة المنقبة النبوية في جامع النبي جرجيس . وفي الحضرة الواح خطية كتب قسم منها السيد عبد الله افندي الفخري سنة 1147  - 1735 ميلادية بأمر من والي الموصل الحاج حسين باشا الجليلي .
هناك مسألة لابد ان اشير اليها وترتبط بالنبي جرجيس وهي ان الموصل شهدت في  منتصف القرن الثامن عشر حركة سلفية نشيطة اتخذت –كما يقول الاستاذ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف في كتابه (الموصل في العهد العثماني ) 1975 – من مقاومة نفوذ المشايخ وتقديس مراقد الاولياء هدفا رئيسيا تسعى الى تحقيقه وكانت اول حركة سلفية شهدها العالم الاسلامي في العصر الحديث ففي العقد الثالث من القرن الثامن عشر جهر الملا احمد بن الكوله (والكوله يعني من المماليك ) بدعوته لأول مرة بانكار نبوءة جرجيس فأثار موجة من الاحتجاجات والتذمر بين الناس والف علي مصطفى الدباغ كتابا ضده بعنوان ( اتحاف الانام بأخبار سيدنا جرجيس عليه السلام ) ووصلت الازمة ذروتها عندما تألب على الملا احمد بن الكوله المشايخ واصحاب الطرق والعامة من الناس وشكوه الى الوالي الحاج حسين باشا الجليلي فأمره بالتوبة والتراجع عن اراءه وتوفي سنة 1759 .
ومن الطريف ان الحاج عثمان بن سليمان الجليلي الف كتابا رد فيه على من خالف الملا احمد بن الكوله وعلى الشيخ خالد النقشبندي وسمى الكتاب ( دين الله الغالب على المنكر المبتدع الكاذب ) وهاجم الدراويش واصحاب التكايا  والطرق الصوفية وهكذا شهدت الموصل حركة فكرية نشيطة ليس الان وقت رواية قصتها .
اخيرا اذكر ان الملا رشيد عبد الله الامام (مواليد 1938 ) رحمة الله عليه وكان يتولى الامامة والخطابة في جامع النبي جرجيس ولاكثر من ثلاثين سنة .
نأمل في ان يعود الينا جامع النبي جرجيس عليه السلام بعد كل هذه السنوات فله في ذاكرة الموصليين مكانة كبيرة وسامية .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 ...............أ.د إبراهيم خليل العلاف

                                                            الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 أ....