الخميس، 9 يوليو 2020

التقرير الاستراتيجي الاول لمركز الدراسات التركية -الاقليمية حاليا 2001-2002


        جمهورية العراق

وزارة التعليم العالي والبحث العلمي

        جامعة الموصل
    مركز الدراسات التركية




التقرير الاستراتيجي الأول
لمركز الدراسات التركية - جامعة الموصل
2001 - 2002
تحرير وتقديم
الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاّف
مدير مركز الدراسات التركية




رمضان المبارك 1423 هجرية
تشرين الثاني 2002 ميلادية


                  المحتويات

الصفحات



تقديم



الوضع السياسي الداخلي



الوضع العسكري والأمني



الوضع الاقتصادي والاجتماعي




العلاقات الخارجية




جمهوريات آسيا الوسطى

 





تقديـــم


        تميز السلوك السياسي الخارجي لتركيا تجاه العرب والعراق بعد بدء المنازلة العربية الكبرى لملحمة أم المعارك الخالدة بالتقاطع والتضاد مع مايجب أن تكون عليه العلاقات ، وفي هذا المجال سارعت تركيا الى اتخاذ سلسلة من الاجراءات تجاه العراق  من أبرزها غلق أنبوبي النفط العراقي اللذين ينقلان 60% من مجموع صادرات العراق النفطية الى العالم ، واعلانها الالتزام الصارم بالحظر الاقتصادي على العراق الى حد الاضرار بامدادات العراق من المياه .فضلا عن سعيها لتواجد قوات العدوان على أراضيها وفتح قواعدها الجوية لطائراتها . وغزوها المتكرر لشمال العراق تحت تقديم حجج وذرائع واهية لاتستند الى قواعد القانون الدولي ، ومحاولاتها لتتريك المنطقة وتحالفها الستراتيجي مع الكيان الصهيوني. هذا عن تركيا أما من جانبنا فإننا نحرص  على تغليب عوامل الوئام والتوافق على عوامل الفرقة والضغينة في علاقاتنا مع تركيا ونسعى الى تطوير العلاقات وتشابك المصالح الاقتصادية وتوفير دعائم الاستقرار والتطوير لها مع علمنا بحقيقة النوايا العدوانية في مراكز معروفة بالدولة التركية . والسؤال الآن ينشأ بعد انحراف تركيا الى لعبة قوى العدوان والضلالة وهو : هل حققت تركيا ماكانت تصبـو اليه ؟؟ … يأتي الجواب هنا سريعاً ، ومن الاتراك أنفسهم وبمختلف اتجاهاتهم وصفاتهم السياسية والمعنوية فقد بدأت تركيا تعاني من مشكلات أمنية واقتصادية صعبة . أولها أن الديون الخارجية لها وصلت الى قرابة مائة مليار دولار وأنها أصبحت واحدة من الدول الثمان الاكثر مديونية في العالم .فضلا عن آثار الحصار المفروض على قطرنا على تركيا ذاتها الى حد أن هناك من يقول بأن الحصار على العراق هو حصار على تركيا ذاتها . من جهة أخرى فقد كان لفشل الاتراك في استعمال المادة الخمسين من ميثاق الامم المتحدة أثر كبير في زيادة الاعباء الاقتصادية فقد انخفضت معدلات النمو الاقتصادي وازدادت وتائر التضخم وتأثرت حركة الاستثمارات الاجنبية حيث تقدر بعض المصادر خسارة تركيا جراء الحصار على العراق بما يقارب الستين مليار دولار .
        ومما تجدر الاشارة اليه هنا أن اندفاع تركيا نحو التسلح وتنامي انفاقها العسكري زادا من حدة المشكلات التي واجهها الاقتصاد التركي فقد ارتفع حجم الانفاق العسكري عام 1998 الى مايزيد قليلاً على ثمانية مليارات دولار بحيث أصبحت تركيا تشغل المرتبة السابعة بين أكثر مستوردي الاسلحة . وعموماً فإن استقراء هذه المتغيرات يوحي بأن القابضين على مقدرات الامور في تركيا جادون بالبحث عن دور جديد في ظل مشهد عالم مابعد الحرب الباردة على مستوى التحالفات أو حتى تأصيل انتماءات وكيانات أخرى ناشئة في المنطقة . ونحن نعتقد بأن صلات تركيا مع أقطار الوطن العربي تحتم عليها أن تعيد النظر في كل مفردات علاقاتها مع العرب وأن تراعي مصالحها القومية وارتباطاتها الحقيقية مع جيرانها الاقربين وأن تبعد الاوهام والادوار الحالمة وكمثال على ذلك فإن الميزان التجاري لتركيا مع دول الاتحاد الاوربي ظل طوال الفترة من 1963 حتى الآن في غير صالح تركيا وأدى الى معاناتها جراء علاقاتها مع الاتحاد الاوربي بالمقابل فإن الرسوم لحجم صادرات تركيا الى العراق لولا العدوان والحصار هو أكثر من ستة مليارات لسنة 1996 ، كما أن الاسواق العربية والاسلامية تعد أفضل الاسواق لتصريف المنتوجات التركية . بينما تصل حاجة تركيا من النفط العربي الى 82% وتشير الاحصائيات الحديثة الى أن حجم الصادرات والاستيرادات التركية مع الاقطار العربية ترتفع الى نسبة كبيرة تصل الى 49% مما يدعو تركيا الى الانتباه الى هذا الامر جدياً واعادة النظر في سياستها المعروفة ، وهي سياسة (وداعاً للشرق) . ويتطلب الامر تكثيف العلاقات الاقتصادية مع أقطار الوطن العربي والابتعاد عن أي سياسة تضر بالعرب ولاسيما في مجال المياه والامن والتحالفات .بينهما والانطلاق لمواجهة تحديات القرن الجديد وبناء مستقبل أفضل لهذه العلاقات بعيداً عن تدخل القوى الامبريالية والصهيونية. إن البحوث التي يضمها هذا التقرير يمكن أن تسهم ، دون شك ، في تعميق الهدف الذي نعمل من أجله وهو الاسهام في تطوير العلاقات العربية – التركية ودفعها نحو آفاق أفضل ومن هنا فان العرب والأتراك منذ سنوات منشغلين بوضع الدراسات والكتب و(السيناريوهات) لما ستكون عليه علاقات بعضهم بالبعض الآخر ، وهم يعبرون عتبة القرن الجديد ، القرن الحادي والعشرين وليس من شك في أن عملية استشراف لمدى زمني معين لابد أن تكتنفها صعوبات وترافقها مزالق وسوء في التقدير لأسباب مختلفة تأتي المتغيرات غير المحسوبة في مقدمتها ولكن ملامح المستقبل لابد أن تستند الى مايمكن أن يعد تجارب حياتية تعتمد الماضي أساساً لها وكل من يستشرف المستقبل بحاجة الى استحضارها والاستفادة منها وفي (الكتاب السيناريو) الذي أعدته نخبة من الاختصاصيين الاتراك في وزارة الخارجية وصدر أواخر سنة 1999 بعنوان : تركيا والعالم 2010-2020 م ولانجد في الـ (89) صفحة من القطع الكبير إلا اشارة محدودة لما ينتظر تركيا في القرن المقبل في مجالات العلاقات مع العرب وتتعلق هذه الاشارة بطموحات تركيا المستقبلية لأن تقوم بدور اقتصادي سياسي متقدم في منطقة أوراسيا والتي تشمل الاراضي الممتدة من أوربا الغربية الى غربي الصين وهي منطقة كما يدعي الكثير من المراقبين ستكون الساحة المركزية خلال الالفية القادمة وتدل اتجاهات تقنية الانتاج والاتصال والمعلومات على أن أوربا وآسيا ستشكلان كياناً متكاملاً تترابط أجزاؤه ويعتمد بعضه على البعض وسيحقق كل منهما فائدة كبيرة من انتماءه لهذا الكيان الواحد . وينطلق (اسماعيل جيم) وزير خارجية تركيا الأسبق في تحليله الذي قدم به الدراسة المشار اليها أعلاه من أن جانباً كبيراً من التنمية الاقتصادية خلال القرن المقبل سيجري في آسيا ويؤكد هذا الواقع الجديد ظهور مصادر جديدة للطاقة فيها ومسارات جديدة للاتصالات .                  
   ويعود كتاب (تركيا والعالم) على مسألتين مهمتين عند رسمه لسياسة تركيا القادمة أولهما: (رفع الحظر الدولي عن العراق)  وثانيهما : (تحقيق السلام) في (الشرق الاوسط) هذا فضلاً عن أمر آخر له علاقة بأوضاع تركيا الداخلية وهو (تحقيق الاستقرار والسلام الدائم في جنوب شرقي تركيا) . وستمهد هذه المسائل الثلاثة على حد تعبير واضعي الكتاب الطريق لخلق جو من الثقة والتعاون في المنطقة وسينمو نتيجة لذلك التبادل الاقتصادي والتجاري بصورة ملحوظة وسريعة .
        إن العلاقات العربية التركية تتسم كما يعرف الجميع بكثير من الخصائص والميزات فهي ليست علاقات شكلية وإنما علاقات تخلف ورائها تراثاً كبيراً لايمكن اغفاله بأي حال من الاحوال هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن هذه العلاقات لم تشهد تطوراً منتظماً وخاصة منذ تأسيس الجمهورية التركية سنة 1923 وحتى يومنا هذا فقد اكتنفها الكثير من العقبات ووقفت أمام تطورها عوامل مختلفة ارتبط معظمها بالسلوك السياسي الخارجي التركي تجاه الاقطار العربية ورغبة تركيا المستمرة في أن تكون كما يقول السيد عليوه الاستاذ في جامعة حلوان بالقاهرة في بحث له بعنوان : (العلاقات العربية التركية في ظل الشرق أوسطية) ، (في خدمة المصالح الغربية في المنطقة كاستجابة لموقعها في حلف شمالي الاطلسي وقد أدى ذلك الى ردود فعل عربية أقل ما توصف به هو الحذر والريبة من الجانب التركي) .
    ومما يثير قلق العرب ، هذا التصاعد المتنامي في القدرات العسكرية التركية ، فتركيا، اليوم تملك جيشاً يعد من أضخم الجيوش في المنطقة مالم يكن أضخمها فعلاً ، وجهد تركيا التسليحي والمبالغ الهائلة المخصصة لذلك باتت ظاهرة للعيان ، حيث وصل المبلغ المخصص للتسليح سنة 1998 وحدها قرابة (10) مليارات دولار . هذا فضلاً عن التنوع في مصادر التسلح ، واتساع نطاق العقود التسليحية مع دول كثيرة ، وميل المسؤولين الاتراك لامتلاك قدرات نووية .
        لسنا من الذين يستكثرون على تركيا أن يكون لها دور أقليمي تتطلع أن تتمسك به اعتماداً على مايسميه المسؤولون الاتراك ، حيويتها الاقتصادية ، وقدرتها على تنفيذ المشروعات وبتجارتها الخارجية ، ونموها الاقتصادي والسياسي باعتبارها دول غنية بالموارد والخبرة الطويلة في طرق استغلال هذه الموارد ، لكننا نعتقد بأن ذلك ينبغي أن لايكون على حساب علاقاتها مع أقطار الوطن العربي ، والدور القادم لتركيا يجب أن يبتعد عن دور (الشرطي الاقليمي) الذي تريده الولايات المتحدة منها في (منطقة الشرق الاوسط) هذا الدور الذي حاولت ممارسته في السنوات الماضية ، ونحن لانطمح في أن تدير ظهرها للغرب ولأوربا بالذات ، كما فعلت مع (الشرق) ، وإنما لابد أن تنظر لمصالحها الاقتصادية ، قبل التاريخية والحضارية ، ، مع العرب بعين الاعتبار ، وهذا لايتم إلا من خلال نسج علاقات شاملة مع الاقطار العربية ، والابتعاد كلياً عن كل مايؤذيهم ، ويهدد أمنهم القومي .
        إن السلوك السياسي الخارجي التركي تجاه العرب ، اتسم في الماضي القريب ، بالتقاطع والتضاد مع كل مفردات الجيرة الحسنة ، وينبغي أن لايكون كذلك في القرن القادم ، وإذا ماأراد المسؤولون الاتراك أن يعولوا على مستقبل أفضل للعلاقات مع العرب ، فعليهم اعادة النظر في تلك السياسة والاعتماد على منطق الحوار في الحديث مع العرب ، وعدم الانسياق وراء التوجهات الشريرة والمعادية التي تميز الموقف الامريكي من قضايا العرب المهمة وفي مقدمتها قضية فلسطين ، وقضية الحظر الاقتصادي المفروض على العراق ، وقضية الوجود العسكري الامريكي في منطقة الخليج العربي .
        لاننكر أن بناء مستقبل أفضل للعلاقات العربية – التركية في القرن المقبل ، يمكن أن يكون بعيداً عن المتغيرات الاقليمية والدولية ، لكن مما لايمكن قبوله على الاطلاق ، أن يضع صناع القرار في تركيا ، ضمن تصوراتهم بأن العراق وسوريا يشكلان (مصادر تهديد جديد على حدود تركيا الجنوبية) وإن تركيا ستتبع سياسة دفاعية وأمنية وثيقة التنسيق مع الكيان الصهيوني وإن لتركيا الحق في الدخول الى أراضي العراق بحجة مطاردة عناصر حزب العمال الكردستاني التركي وأن تركيا تفكر في ضرورة تعديل الحدود العراقية – التركية ، لأسباب أمنية وإن المياه سلعة تباع وتشترى كالنفط ؟ وإن من مصلحة تركيا القومية منع الدول العربية من الائتلاف ضدها ، وإن الضرورة تقتضي تجنب كل مامن شأنه أن يؤدي بالعرب الى اتخاذ موقف موحد من تركيا فيما يتعلق بأية قضية من القضايا .
        إن المستقبل الذي ننتظره من علاقات تركيا بالعرب ، ينبغي أن يستند الى أسس وثوابت علمية تأخذ في الحسبان عمق هذه العلاقات وتشابكها ، دينياً وتأريخياً وحضارياً . ويتطلب الامر أن تنأى تركيا بنفسها عن سياسة الاحلاف والتكتلات مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ، وأن ترفع شعار المصالح المتبادلة فلقد تضررت من العدوان والحصار على العراق كثيراً ، وخسرت عشرات المليارات من الدولارات من جراء التزامها بخطط العدوانيين الامريكيين ، وأن تسرع في حل مشكلة المياه مع العراق وسوريا ، وأن تبتعد عن التدخل في شؤون العراق ، وأن تلتزم بموقف موضوعي من قضية الصراع العربي – الصهيوني ، وأن تتخلى عن تحالفاتها الستراتيجية مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة والتي تهدد وجود العرب وأمنهم ، وعندئذ فقط سوف تذوق تركيا طعم الاستقرار الامني والازدهار الاقتصادي الذي سوف يعود على الجميع بالعدل والخير والقوة .
        أخيرا لابد لنا من القول أننا نطمح من خلال هذا التقرير الاستراتيجي السنوي الذي يصدره مركز الدراسات التركية بجامعة الموصل الى رصد أوضاع جارتنا الشمالية تركيا السياسية والأقتصادية والعسكرية والأمنية ، فضلا عن علاقاتها الخارجية ولم نغفل الاشارة الى أوضاع جمهوريات آسيا الوسطى باعتبارها تقع ضمن نطاق اهتمامات المركز . نأمل في أن نكون قد قدمنا خدمة لائقة لمن يعنيهم الأمر من صناع القرار السياسي . وفقنا الله لخدمة عراقنا العزيز . 



                                    
                                                        أ.د. ابراهيم خليل العلاّف
                                         مدير مركز الدراسات التركية - جامعة الموصل    
الوضع السياسي الداخلي 
مقدمة :
    تشكل حركة التطورات السياسية الداخلية في تركيا مرآة عاكسة لحزمة من المتغيرات الاجتماعية والأقتصادية ، فهي سبب ونتيجة في آن واحد ، تظهر بوادرها في حركة المجتمع وأزماته المتعددة ويتناول هذا الجانب من التقرير الاستراتيجي السنوي ، ماهية التطورات السياسية الداخلية في تركيا من خلال دور الحكومة في حركة الأزمات السياسية ، وكيفية تجاوزها ، ومعالجة آثارها ونتائجها ومن قبيل ذلك : الأزمة الاجتماعية ، والعنف السياسي والمشكلة الكردية . وبما أن هذه التطورات تشكل الطرف الرئيس الفاعل في مثلث التطورات الداخلية في تركيا ، وخاصة الأزمة السياسية الحالية ، مما يستوجب التساؤل عن ماهية دور الحكومة في تجاوز هذه الأزمة المستمرة ، وهل تمكنت حكومة ( بولند أجويد BULENT ECEVIT ) الحالية من ايجاد حلول لكل من الصراع بين العلمانية ونخبها السياسية من جهة ، والتيار الاسلامي وممثليه من جهة أخرى . ثم ماهو دورها في القضاء على الفساد ، وما هو دور الجيش كمؤسسة مستقلة وقوة فاعلة ومؤثرة في التفاعلات السياسية الداخلية وقوة ضبط هذه التفاعلات . وضمن الاطار العام المحدد لهذا التقرير ، سيتم تناول الموضوع كما يأتي
أ‌.       العنف السياسي
     حفل المجتمع التركي ، ولايزال بكثير من ظواهر العنف السياسي ، ولعل أبرزها عنف السلطة ضد المنظمات المسماة (( بالارهابية )) ، وعنف هذه الأخيرة ضد الأولى ، وضد نظائرها من منظمات سياسية متعارضة ومتناقضة معها عقائديا وسياسيا . بدأت أحداث العنف السياسي بالتصاعد ، بشكل خاص منذ ستينات القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر ، واتخذت مظاهر العنف السياسي أشكالا عدة ، تبعا للجهة المسؤولة عن هذه الأعمال ، فقد سعت بعض التنظيمات السياسية القومية مثل ( الأكراد والأرمن ) أو العقائدية ( مثل المنظمات اليسارية : كجبهة الحزب الشيوعي  لتحرير الشعب التركي ، والحزب البروليتاري الكردستاني الشيوعي ، ومنظمة طريق الحرية … الخ ، ومن المنظمات الدينية حزب الله التركي ، الى توزيع عملياتها مابين اغتيالات سياسية موجهة ضد رجال السلطة والشخصيات الاجتماعية والسياسية والثقافية البارزة في المجتمع التركي ( كتّاب وصحفيين …الخ ، كما استهدفت مؤسسات مصرفية ( البنوك ، ودوائر الحكومة ( مراكز الشرطة ) سواء في المدن والأرياف . وكانت قد اعتمدت العمل المسلح الوسيلة الوحيدة بغية تحقيق أهدافها الرامية لتغيير المجتمع .
       ولمواجهة ذلك ، سعت السلطة في تركيا من جانبها لمحاربة هذه المنظمات عبر الحملات العسكرية ، أو من خلال اصدارها القوانين العرفية ، والأنكى من ذلك ، تمكنت السلطة السياسية من توظيف العمل المسلح لبعض المنظمات اليمنية مثل ( الذئاب الرمادية ) التابعة لحزب الحركة القومية - بزعامة ألب ارسلان توركش - لمصلحتها ، من خلال توجيه ضربات للمنظمات اليسارية .وبشكل عام ، تتوزع خارطة العنف السياسي في تركيا كالتالي:-
  1. استطاع اليمين المتطرف استقطاب أفراد من الشرطة والقوات المسلحة بشكل علني ، وأسس لهم اتحادات علنية وقانونية ، عكس اليسار المتطرف الذي لم يستطع أن يؤسس مثل هذه الاتحادات ، على الرغم من حصوله على تعاطف بعض اليساريين من ذوي الرتب الصغيرة في القوات المسلحة التركية .
  2. كانت التنظيمات ألمسلحة اليسارية تعمل في اتجاهين : الأول محاربة القوى اليمينية المتطرفة ، والثاني كان موجها ضد مؤسسات الدولة السياسية والأقتصادية . أما الجماعات اليمينية فقد وجهت عملياتها بالدرجة الأولى ضد الأحزاب والتنظيمات اليسارية وقد أدى ذلك الى عدم تعرض الحكومة للجماعات اليمينية بالقسوة نفسها التي جابهت بها للتنظيمات اليسارية .
  3. تعد مرحلة السبعينات فترة الانتعاش لليمين المتطرف الذي غدا أكثر ارتباطا بالسياسات الشعبية ، وكان يحظى بدعم وتأييد بعض القوى الاجتماعية الفاعلة وبالأخص ( أحزاب اليمين المعتدل مثل حزب العدالة بزعامة سليمان ديميريل ، لكن انعكس تأثره سلبا على حالة الاستقرار السياسي التركي .
            وقبل الولوج في تحديد أسباب العنف ، لابد من الاشارة الى أن خارطة العنف السياسي في تركيا قد شهدت العديد من تغيير مراكز القوى فيها ، متأثرة في ذلك ، بطبيعة المتغيرات الدولية والأقليمية التي شهدتها المنطقة منذ تسعينات القرن العشرين ولازالت آثارها مستمرة ، ونتائجها غير مستقرة لينحى العنف في تركيا منحيين أولهما قومي متمثل           بـ ( حزب العمال الكردستاني p k k ) والثاني اسلامي متمثل بـ ( حزب الله                     التركي H izb   ullh .  ) ففي أوائل شهر آب أغسطس 2001 أبعد الجيش التركي خمسة عشر ضابطا بعد أن اتهموا بأقامة علاقات مع حركات كردية وأخرى اسلامية .
      وتعد أسباب العنف السياسي بشكل عام من الكثرة والتنوع لدرجة يصعب حصرها في عدد محدد من الأسباب يمكن الاعتماد عليها ، باعتبارها ممثلة لمجمل ظروف وتفصيلات هذه الظاهرة ، وبالتالي لايمكن الركون اليها في تفسير ظاهرة العنف السياسي ، ومع ذلك ، فأن أسباب العنف في تركيا تنبع من صميم بنية النظام التركي وتوجهاته السياسية والاجتماعية ، ولعل من أبرزها مايأتي :
      أولا : حالة التنافس بين النخب الحاكمة والنخب البديلة
     تبقى معايير ضبط المعادلة في تركيا قائمة بين مثلث العلاقة ( التيار الاسلامي ، التيار العلماني ، والمؤسسة العسكرية ، فهل يطرح التيار الاسلامي مفهوما جديدا متطورا لهذه العلاقة من خلال فهم أكثر (( حداثة )) لمفهوم العلمانية ، وفي المقابل هل يطرح التيار العلماني فهما نوعيا للصيرورة السياسية للتيار الاسلامي ، وبالتالي ، هل سيتم تحديد علاقة جديدة نوعية بين التيار الاسلامي والمؤسسة العسكرية ، وهل ستتغير الضوابط الأساسية لحركة المعادلة المذكورة بسبب التطورات السياسية التي تشهدها أو ستشهدها تركيا في المستقبل القريب ؟؟ .
      ترجع جذور أطراف هذه المعادلة آلي ستينات القرن العشرين ، عندما اتخذت المؤسسة العسكرية مواقفا أكثر مرونة تجاه التيار الاسلامي ، لأسباب فرضتها المعايير الانتخابية للأحزاب العلمانية بدرجة أساسية ، لكن هذه المعايير سرعان ما انقلبت منذ منتصف تسعينات القرن العشرين ، حين حصل ( حزب الرفاه Refah partisi ) ( الاسلامي ) بزعامة ( نجم الدين أربكان (Necim El Din Erbekan  ) ، آنذاك ، على أغلبية في الانتخابات النيابية جعلت ( حزب الطريق القويم Dogru yol Partisi ، ( العلماني ) بزعامة ( تانسو تشيللر             Tansu Ciller  ، يشاركه في تشكيل وزارة ائتلافية يتقاسم فيها الحزبان رئاسة الوزارة ( في سابقة لم يشهدها التاريخ السياسي للنظام التركي ) ، وفي أعقاب أزمة أربكان مع الجيش مابين عامي ( 1996 - 1997 ) ، وقرار المحكمة الدستورية في تركيا بحل حزب الرفاه ، ترجع بشكل أساس الى اتهامه باثارة النزعات الدينية الاسلامية ، تشكل أثر ذلك ( حزب الفضيلة Fazilet Parisi ) بديلا عن الرفاه ، وقد تزعم الحزب ( رجائي كوتان Recai kutan ) ، المدعوم من قبل أربكان ( الذي يعد الأب الروحي للحركة الاسلامية السياسية في تركيا ، وكان من زعماء الحزب البارزين ( رجب طيب أردوغان Recep Tayyip Erdgan  ، ( رئيس بلدية استانبول السابق ) ، والعائد في منتصف التسعينات الى تركيا حيث كان يعمل في الخارج ، وقد انضم الى صفوف حزب الرفاه ، وعدّه المراقبون حينها من صقور الحركة الاسلامية في تركيا ، عندما طالب أثناء وجود الرفاه ، في الحكم بموقف أكثر تماسكا أمام المطالب التعسفية لقيادة الجيش ، التي كانت تسعى الى اجهاض تجربة الرفاه في الحكم بأي ثمن .
    يتمتع  رجب طيب أردوغان ، بشخصية جذابة ، ربما تجعل منه كاريزما ( قيادة ملهمة ) للحركة الاسلامية في تركيا ، حين تمكن من توظيف تأييد العديد من الشخصيات السياسية ذات التوجه الاسلامي ضمن ( حزب الفضيلة ) ، في تكوين تيار معارض لتيار رجائي كوتان، التقليدي ، وهذا هو حال الأحزاب والتيارات السياسية ، حيث تعد أحزاب زعامات شخصية أكثر من كونها أحزاب قواعد شعبية .
       لقد لاحت الفرصة ( لاردوغان ) في أعقاب قرار المحكمة الدستورية في تركيا عند منتصف عام 2001 ، والقاضي بحل حزب الفضيلة الاسلامي ، ليصبح نواب الحزب في المجلس الوطني التركي الكبير ، والبالغ عددهم مائة وعشرون نائبا ، نوابا مستقلين ، مما فسح المجال لظهور حالة الانقسام بينهم ، أيد هؤلاء النواب النهج التقليدي المحافظ بزعامة         ( كوتان ) ، وتشكل أثرها حزب السعادة Saadet Partisi  الاسلامي ، في حين اتجه قسم منهم لتأييد التيار الاصلاحي بزعامة أردوغان ، وفي أعقاب اكتساب قرار المحكمة الدستورية الدرجة القطعية ، تم الاعلان رسميا في الرابع عشر من آب / أغسطس 2001 عن تشكيل        ( حزب العدالة والتنمية KalkInama Adalet Partisi  ، لقد احتل الحزب الترتيب الخامس في المجلس الوطني التركي الكبير من حيث عدد نوابه ، في وقت كانت الخارطة السياسية والحزبية التركية تؤشر وجود ثلاثة وأربعون حزبا سياسيا مسموح لها بالعمل .
    فضلا عن ذلك ، انضمت الى حزب العدالة والتنمية ، شخصيات قيادية لها تجارب وممارسات سياسية - وظيفية وبرلمانية ، مثل ( عبد الله جول Abdula Goil  ) ، ( عبد القادر أكسو Abul kader Iksu ) ، ( عبد اللطيف شانير Abul Lteif Siner ) فالأول عضو برلمان ووزير دولة ، أما الثاني كان يشغل منصب وزير داخلية سابق وعضو برلمان ، والثالث شغل منصب وزير سابق وعضو برلمان ، هذه المناصب المهمة أعطتهم خبرة في شؤون الحكم والادارة .
     جاءت الطروحات الفكرية لحزب العدالة والتنمية من خلال مبادئه التي تم الاعلان عنها من قبل زعيمه ( رجب طيب أردوغان ) عندما حصرها في النقاط الآتية :
1.تقديم العلمانية على أنها عدوة الدين يقول أردوغان ، في هذا الصدد ((سوف نعمل على مجابهة هذا المفهوم الخاطيء وسنعمل على منع استعطاف المتدينين وايذاءهم )).
2. العدالة ، الحرية ، ولقمة العيش ، ثلاث مفاهيم أساسية يبذل الحزب جهودا مكثفة لتلبية هذه الاحتياجات الأساسية التي تفرض نفسها .
3.لايؤمن الحزب بمبدأ (( سطوة الزعيم ))  
4.ان الحقوق والحريات الأساسية مكفولة أو مضمونة .
    يتضح من هذه المباديء ، انها تتبلور في العمل على حل مشكلات تركيا الداخلية ، وتصحيح العلاقات غير المتكافأة مع العالم الخارجي . وفي الوقت عينه ، تعد نقطة تحول جوهرية في توجهات التيار الاسلامي بشكل عام ، خاصة عندما طرح ( أردوغان ) ، تصورا جديدا لفهم الحزب للفكرة العلمانية ، تنسجم مع دعواته الى استعادة هيبة تركيا ، التي تلقى صدى طيبا لدى الاتجاهات القومية التركية ويعدها بعض المراقبين ، مناورة تتسم بالذكاء المبالغ من قبل  أردوغان ، حيث تمكن من اجتياز الفجوة التي تفصل بين القوميين والاسلاميين . ومن جانب آخر ، عبر عن فهم جديد للتيار الاسلامي الاصلاحي حول مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوربي ، عندما عدّ ذلك حالة تفرضها حتمية الارتباطات الشرقية والاسلامية لتركيا ، يمكن القول بأن الحزب يسعى الى ( مسك العصا ، من الوسط) في المراوحة بين الشرق والغرب وقد يعكس ذلك فهما جديدا لتوجهات التيار الاسلامي يجمع بين الانتماء الشرقي والتوجه نحو الحداثة والتطور ، ولعل هذا التوجه يعكس أسباب فوزه بنسبة  (8ر22% ) ، من أصوات عينة عشوائية أجرى عليها أحد مراكز الدراسات في تركيا استطلاعا للرأي حول من يفوز في الانتخابات المقبلة بالقياس الى حزب الطريق القويم ، بزعامة ( تانسو تشيللر ) ، الذي حصل على نسبة (2ر7%) فقط .
     ترجح تلك الاستطلاعات ان يكون حزب العدالة والتنمية ، الأوفر حظا في الانتخابات المبكرة التي ستجري في الثالث من تشرين الثاني ، نوفمبر 2002 ، وهذا ما أكدته دراسة ، ونشرتها صحيفة ( حريات Hurrlyet ) التركية ، وثمة شعور عام لايزال في طور التكهنات من أن ( حزب العدالة والتنمية ) ربما يتقدم على عدد من أحزاب النخب التقليدية والحديثة في الانتخابات المقبلة ، ولعل سبب هذه التكهنات يعود الى عدم تمكن الناخب التركي من حسم خيارته الانتخابية لصالح حزب معين .
      رغم ما يطرحه ( حزب العدالة والتنمية) ، من أفكار ، يحاول من خلالها ، اقناع العسكر بأنه لم يعد يعمل ببرنامج (( اسلامي متشدد )) ، فقد رفع مدع عام محكمة أمن الدولة التركي دعوى في الأول من شهر آب أغسطس 2002 بحق ( حزب العدالة والتنمية ) ، مستندا في دعواه الى خطابين ألقاهما ( أردوغان ) ، عامي ( 1992 - 1993 ) وقال أنه أشاد فيهما بما أسماه (( الاسلام الراديكالي )) وهذه الدعوى ، هي الأولى التي ترفع بحق الحزب ، وحسب قانون الأحزاب السياسية المعتمد حاليا ، فأنه بامكان المدعي العام استخدام هذين الخطابين اثباتا للمطالبة بحظر ( حزب العدالة والتنمية ) بشرط أن تكون الأدلة دامغة .
     ان ماتقدم ، يفرض علينا تساؤلا مهما ، حول ماهية موقف النخبة العلمانية في جهة ، والجيش من جهة ثانية ، والاتحاد الأوربي من جهة ثالثة ، وهل تقف حالة الصراع بين النخب الحاكمة والنخب البديلة في مفترق طرق حاسم ؟؟ .
     من خلال تتبع تاريخ الأزمة بين النخب الحاكمة والنخب البديلة ، يتضح أن تركيا عاشت منذ عقود مضت أزمة بنيوية في تشكيل الاطار العام للنظام السياسي التركي ونخبه السياسية ، ومما تجدر ملاحظته ، ان تركيا تعيد انتاج أزمتها بصورة متجددة كل عقد من الزمن ، ولم تشهد حالة الاستقرار الآ في عهد الرئيس التركي الأسبق ( توركوت أوزال Turkut Ozel  توفي في نيسان 1993) بعد أن حاولت والى حد كبير حسم خيار الهوية ، من خلال مشروعه المعروف بـ (( العثمانية الجديدة )) القائم على الجمع بين التوجهات القومية والدينية  (الاسلامية ) و  (الغربية ) وبشكل متوازن ، ونظرا لما كان يتمتع به أوزال من مزايا شخصية ، فقد غدا مقبولا من قبل كل القوى والنخب السياسية والاجتماعية في تركيا مع تأييد المؤسسة العسكرية لطروحاته حول ايجاد حلول لأزمة الهوية . الآ أن طبيعة المتغيرات التي شهدتها الساحتين الدولية والأقليمية ، واحتمالات تغيير وظيفة تركيا ، كانت قد أحبطت ، مشروع أوزال ، وجعلت الأتراك يعيدون عقارب الساعة باتجاه تجدد أزمتهم البنيوية ، وبدأت ملامحها تأخذ شكلا راديكاليا عند دخول القرن الحادي والعشرين .
     إذا ، هل يعد ( أردوغان ) رديفا ( لأوزال ) ، وهل يعد حزبه رديفا لحزب الوطن الأم، حين شكله أوزال في مطلع ثمانينات القرن العشرين ؟؟ .
    في البداية ، لابد من القاء الأضواء على طبيعة الأزمة بين النخب السياسية التركية ، التي يحددها بعض المحللين : بطبيعة الخلاف حول الانتماء للاتحاد الأوربي خيار الهوية وصراع الأجيال ، هذه الأسباب تتمحور حولها حالة الخلل في بنيوية النظام من جهة ، ومن جهة أخرى ، تجتمع حولها النخب التركية التقليدية والاصلاحية .
      يطرح بعض المراقبين ( رجب طيب أردوغان ) وحزبه ، ضمن النخب الاسلامية الجديدة المعتدلة ، عندما يعده هؤلاء المراقبون بديلا عن النخب الاسلامية التقليدية ، من خلال مفاهيمه عن الحداثة والتطور ، تجعل ليس النخب الاسلامية التقليدية فحسب وانما النخب العلمانية ، سواء كانت في تشكيلات الحكم أو خارجه ، في حالة وخشية ، أن يترجم التذمر الشعبي من حالة الخلل البنيوي للنظام ، الى أصوات لصالح الاسلاميين في الانتخابات المقبلة ، خاصة وأن تيار ( أربكان - كوتان ) سبق له وأن فشل في تقديم حلول للمشكلات اليومية للناخب التركي في انتخابات عام 1999 ، حتى فقدانه الكثير من التأييد الشعبي وخاصة الطبقة الوسطى وأصحاب الحرف الذين يكونوا القاعدة الاجتماعية لحزب الرفاه الاسلامي ، والصورة السياسية في تركيا اليوم تشاهد كما يأتي : -
      1.تيار علماني يعيش حالة صراع بين النخبة التقليدية ( أجويد ) والأصلاحيين أمثال        ( اسماعيل جيم Ismail cem  ) ، و ( كمال درويش Kamal Deruis K ,I`h  ) وهذا التيار مدعوم من قبل المؤسسة العسكرية .
     2. تيار قومي متشدد ، يواجه معارضة المؤسسة العسكرية ، وخاصة في مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوربي .
     3.تيار اسلامي ( وكما هو الحال بالنسبة للتيار الأول ، فأنه يعيش حالة صراع بين أجنحته ( التقليديين ، ( أربكان - كوتان ) ، و ( الاصلاحيين ) ( أردوغان ) ، ويلقى الجناح الأول معارضة بل حتى مطاردة المؤسسة العسكرية ونخبها العلمانية ، في حين يلقى الجناح الثاني ( الاصلاحي ) مرونة أكثر من قبل الجيش والمؤسسة العلمانية .
    تطرح هذه الخارطة النخبوية - السياسية ، مشكلات هذه النخب والبلاد في آن واحد من خلال تتبع حالة من الصراع بين النخبة العلمانية - المركز - والشرائح الاجتماعية ونخبها السياسية والاجتماعية باعتبارها نخبا بديلة ، وأن بقي الصراع محافظا على طبيعته ، من حيث الاختلافات الفكرية وآليات التطبيق ، الآ أن مدته تتفاوت من مرحلة الى أخرى تبعا للظروف الداخلية والخارجية كما أثبتت فشل العلمنة في تحجيم دور الاسلام في المجتمع ، وقد فشلت النخب العلمانية في احتواء النخب الاسلامية ، مما يعني استمرار الصراع بينهما ، ولعل أبرز دليل على ذلك التقرير الذي قدمه ( جهاز المخابرات الوطنية التركية Milllli guvenlik kurumu ( Meet) ) ، في الاسبوع الأخير من شهر كانون الأول / ديسمبر 2001 الى ( مجلس الأمن القومي التركي Nsc  ) حينما دعا حكومة ( بولند أجاويد ) لاتخاذ التدابير العاجلة للتصدي لنشاط القوى الاسلامية في تركيا وهي : حزب الفضيلة ( Fozilet Partisi  )، ( حزب السعادة Saadet Partisi ) ، حزب العدالة والتنمية ، ( حزب الله التركي hizb ullah  ) ، وكان قد ازداد نشاطهم منذ العام 1994 . وفي أعقاب تشكيل حكومة ( أربكان - تشيللر ) ، الائتلافية في العام 1996 ، تغلغل العديد من النشطاء الاسلاميين المؤيدين من قبل النخب الاسلامية ، الى مؤسسات الدولة المختلفة مثل ( الأمن ، التعليم ، القضاء ) وناشد التقرير الحكومة الى اصدار ( 25 ) قانونا جديدا للتضييق على الحركات الاسلامية السياسية في جميع المجالات بما فيها رجال الأعمال المسلمين الذين يمولون الجمعيات والمنظمات الاسلامية بمختلف الميول والاتجاهات .
         كما شملت هذه الاجراءات ، المنظمات اليسارية المتطرفة في مختلف اتجاهاتها السياسية والعقائدية ، ففي شهر شباط ، فبراير 2002 ألقي القبض على مجموعة من أعضائها وأودعوا السجن ، وبعد محاكمتهم نقلوا الى زنزانات تتسع الواحدة لسجين واحد الى ثلاث سجناء بموجب قانون مكافحة الارهاب ، ويقول السجناء (( أن عزلهم عن بعضهم البعض في مجموعات صغيرة سيجعلهم تحت رحمة سجانيهم حيث يمكن تعذيبهم واذلالهم بيسر مما لو كانوا جماعات كبيرة )) و (( يؤكدون بأن أعدادهم الكبيرة في العنابر توفر لهم سلامة أكبر،  وبناء عليه فأنهم مستعدون للموت احتجاجا على نظام سجون حافل بالظلم ، وعلى أثر الاضراب عن الطعام الذي قام به السجناء احتجاجا على نقلهم الى زنزانات منفردة قامت قوات الأمن التركية بسحق تلك الاحتجاجات التي شملت جميع السجون التركية لأجبار السجناء على الانتقال الى تلك الزنزانات ، مما أدى الى اشتباك الطرفين ، وبالتالي وقوع العديد من الضحايا
        حيال ذلك ، تسعى النخب التركية البديلة الى استغلال توجهات الحكومة في مجال قوانين الاصلاح ، وخاصة المتعلقة بحقوق الانسان ، لتطرح نفسها وتياراتها السياسية ، من أجل البحث لها عن دور سياسي - اجتماعي في الطيف التركي ، وذلك قبل حلول موعد الانتخابات التركية في الثالث من شهر تشرين الثاني / نوفمبر 2002 ، كما أن الحكومة ونخبها العلمانية ومؤسستها العسكرية ، سوف تسعى هي الأخرى لاستغلال دعواها في مجال الاصلاح السياسي - القانوني ، لاثبات مصداقية تحركها في الداخل والخارج ، نحو الاصلاح المفروض من قبل الاتحاد الأوربي .
     والسؤال المطروح في هذا الصدد ، هل سينتهي الصراع بين النخب التركية ؟ ، لقد أثبتت تطورات الأحداث ، فشل النخب العلمانية وتياراتها السياسية في تحجيم دور النخب البديلة وخاصة النخب الاسلامية (( الأصلاحية )) ، وخاصة ( حزب العدالة والتنمية ) الذي ربما سوف يستطيع تقديم نموذج ديمقراطي حقيقي للدولة الاسلامية الليبرالية ، ومع ذلك سوف يبقى تيارا نخبويا لايستطيع أن يفي بمتطلبات مشاركة قواعده الاجتماعية .
ثانيا : الافتراق بين الدين والعلمنة :-
     اكتسب الدين في الدولة العثمانية أهمية خاصة بسبب كونه الأيديولوجية الرسمية للدولة ، ومنذ تأسيس الجمهورية عام 1923 ، وتبني العلمانية نهجا عقائديا ، تراجع التيار الديني قسرا الى الصفوف الخلفية في مواجهة التحديث المفروض من قبل النخب العلمانية ، على أسس جديدة للتنظيم والادارة والتوجيه ، لكن ذلك لم يمنع من بقاء التأثيرات الاسلامية حية في نفوس الشعب التركي الذي يشكل المسلمون فيه الأغلبية الساحقة ( 98%) .
     ومع نهاية الحرب العالمية الثانية ، وتوافقا مع المتغيرات التي شهدتها تركيا داخليا وخارجيا فأن الدين أخذ يعبر عنه في ستينات وسبعينات القرن العشرين من خلال التنظيمات السياسية مثل ( حزب النظام الوطني Vatan rejim partisi  ) و ( حزب السلامة الوطني Vatan selame partisi  ) ، وغدت هذه التنظيمات تعبر عن اتجاهات الرأي السائد لدى القطاعات والشرائح الاجتماعية في تركيا ، والتي تتمثل في الجماعات ذات المصالح كالحرفيين وصغار التجار والبرجوازية الصغيرة وبعض الشرائح الاجتماعية من أنصار المباديء والأفكار .
          والملاحظة الجدير بالذكر في هذا الصدد ، أن طبيعة التشكيل الاجتماعي التركي يتكون من سكان المدن والريف ، وأن نسبة سكان الريف تفوق نسبة سكان المدن ( كما سنرى لاحقا)  
كما ان سكان الريف يكونون في العادة بيئية جيدة لانتشار الحركات التي تتخذ من العمليات المسلحة اسلوب عمل لها .
    وبعد انتهاء الحركة الكردية المسلحة التي قادها ( حزب العمال الكردستاني ) ، بسبب من تحول الحركة الى حزب سياسي باسم ( حزب المؤتمر الوطني الكردستاني ) في نيسان 2002 ، يسعى لتحقيق أهدافه بالحوار ، فضلا عن قيام الحكومة التركية باتخاذ العديد من الاجراءات بغية تطبيق ( معايير كوبنهاكن  ) فيما يتعلق بحقوق الانسان ومنح الأكراد حقوقهم الثقافية ، فأن رد الدولة كان قد توجه هذه المرة نحو الحركة الاسلامية ، مما يتناقض مع محاولة الدولة في منح الشعب مدى أوسع للحريات ، وخاصة في مجتمع ، لاتتوفر فيه عناصر الصراع الديني بالمعنى اللفظي ، حيث أغلبية السكان مسلمين ، لكن طبيعة حالة الافتراق هذه ، وجدت بين المسلمين أنفسهم ، مابين مؤيد للتحديث والتغريب واتباع النهج العلماني والمؤسسة العلمانية المدنية والعسكرية ، وبين معارض عقائدي لهذا النهج .
         وبشكل عام ، فأن حالة الافتراق هنا ، تتمثل بالبحث عن هوية ، فتركيا لاتزال تتأرجح بين بعدها الاسلامي المتأهل فيها منذ قرون طويلة وبين المكون العلماني الذي كان مصطفى كمال قد وضع لبناته منذ عشرينات القرن الماضي ، وأصبح الجيش بمثابة الحامي الأول لمثل هذا التوجه .
      حيال ذلك ، بدأ التيار الاسلامي ، حالة المواجهة مع العلمنة وتيارها السياسي ، وذلك من خلال تأسيس الأحزاب والتنظيمات السياسية الرسمية أمثال ( أحزاب الرفاه ، السعادة ، الفضيلة ) . لقد واجهت السلطات العلمانية ضد هذا التوجه بالعديد من الاجراءات ، فمنذ حادثة ( مروة قاوقجي Merve Kavukci ) ( النائبة التركية التي رفضت خلع الحجاب عند أداءها القسم في المجلس الوطني التركي الكبير ( البرلمان ) ، وهزت النظام العلماني أواسط عام 1999 ، سعى ائتلاف ( أجويد ) الى مواصلة الحرب على الاسلاميين ، حيث صاغ برنامجا حكوميا، وصفه المراقبون بأنه مثقل بخطوات الاضطهاد السياسي وتدعمه ((اسرائيل)) والعسكر الأتاتوركي ، فقد شهدت الحياة السياسية التركية مرحلة أخرى ، شهدت مزيدا من أساليب القمع السياسي ، عبر اصدار الحكومة (( قانون الخلق السياسي ))، فقد تمكنت الحكومة من استغلاله بحق الأحزاب السياسية وخصوصا الاسلامية  . خاصة عندما رفضت الحكومة التركية سلسلة نقاط واجراءات ضاغطة على التيار الاسلامي ، تعد امتدادا لما سبق اتخاذه من خطوات على الصعد السياسية والقانونية والتعليمية والتربوية والإدارية   استمرت الاجراءات الحكومية في هذا الصدد ، ففي مطلع شهر كانون الثاني /يناير 2002 تحدثت وسائل الاعلام التركية عن تقرير جديد قدمه  جهاز المخابرات الوطنية الى مجلس الأمن القومي التركي ، وتضمن التقرير نشاط القوى الاسلامية ، وأشار الى استمرار هذه النشاطات ، ودعا حكومة ( أجويد ) الائتلافية لاتخاذ التدابير العاجلة للتصدي لذلك . ولفت التقرير الانتباه لازدياد نشاط القوى الاسلامية في جميع المجالات خلال فترة الحكومات التي شارك فيها .  نجم الدين أربكان ، منذ عام ( 1974 - 1997 ) ، اذ تمكنت التنظيمات الاسلامية من فسح المجال لتغلغل مؤيديها الى مختلف قطاعات ومؤسسات الدولة المتعددة وخاصة ( التعليم ، القضاء ، الأمن ) ، وأكد التقرير على ضرورة استمرار حكومة ( أجويد ) في اجراءاتها ((وانزال ضربة قوية بالاسلاميين ، في جميع المجالات بما في ذلك التعليم والاقتصاد ، وضرورة اصدار (25) قانونا جديدا لتضييق الحصار على الاسلاميين بما في ذلك رجال الأعمال الذين يمولون الجمعيات والمنظمات الاسلامية بمختلف الميول      والاتجاهات  )).
      وآثار التقرير الذي تمت مناقشته في اجتماع ( مجلس الأمن القومي ) وأوصى بدوره الحكومة لاتخاذ التدابير الجدية والصارمة ضد الاسلاميين سلسلة من النقاشات في الأوساط السياسية والاعلامية . كما جلبت الانتباه لعزم واصرار القيادات العسكرية والقوى العلمانية على متابعة الحملة ضد الاسلاميين، وأن تمزيق التيار الاسلامي الى حزبين هما (السعادة ) و ( العدالة والتنمية) لم يكن كافيا للقضاء نهائيا على التيار الاسلامي .
     حيال ذلك ، وجهت اتهامات الى القوى العلمانية والمؤسسة العسكرية ، واتهمتها بالتقاعس في محاربة الاسلاميين والقوى الرجعية عموما .  وأشارت هذه القوى الى استمرار العلاقات السرية والعلنية بين الأحزاب السياسية والحالية وبين بعض الجماعات والقوى الاسلامية المعتدلة ، وعلى حد قول زعماء الأحزاب التي لهم علاقة بهذه القوى وخاصة جماعة ( فتح الله غولين Fatih Allah golin  )الاسلامية ، والتي اتهمتها القوى المذكورة بالعمل على تغيير النظام العلماني القائم في البلاد من خلال توظيف أتباعه في أجهزة الدولة المهمة ( الأمن ، القضاء ، الجيش ) .
      استمرت القوى العلمانية في تعزيز الافتراق بين الدين والعلمنة ، من خلال استمرارها بحملتها ضد الاسلاميين وبلا أي تردد ، ولازالت الدولة بكل قواها تخطط لسد الطريق أمام        ( أردوغان ) في امكانية الحصول على مواقع متقدمة في الانتخابات التشريعية المقبلة في الثالث من شهر نوفمبر / تشرين الثاني القادم ، وذلك ، عبر اثارة المشاكل القضائية له أو من خلال الحملات الاعلامية التي تقوم بها وسائل الاعلام الكبيرة التي تؤثر فيها القوى العلمانية .
      كما شددت الحكومة التركية اجراءاتها ضد التيار الاسلامي ، ليس على مؤسساته التنظيمية الحزبية فحسب ، بل امتد ذلك نحو القطاعات الشعبية ، ففي سياق ردود الأفعال على قرار الحكومة بمنع المحجبات من دخول المدارس الدينية في تركيا ، اعتقلت الشرطة في تركيا في شباط / فبراير 2002 ( مائتان ) طالبة وأولياء أمورهن في مدرسة الأئمة والخطباء في ( سلطان بيلي Sultan beyli  ، في كل من استانبول وفي ( كوزلا gozel  ) وفي ( قاضي كويي Kazi koyu ) سبعة وأربعون طالبة وفي ( زيتنبورنو Zeytin burnu  ) اثنان وخمسون طالبة وفي ( أيوب Eyyup ) خمسون طالبة ، وقد استخدمت الشرطة القوة أثناء الأعتقالات .                    
     وقد تظاهر بعد صلاة الجمعة في مسجد ( سلطان أحمد ) باستانبول حوالي خمسمائة طالب احتجاجا على منع الحجاب في مدارس الأئمة والخطباء وأراد الطلاب المتظاهرون أن يسيروا الى ميدان سلطان أحمد ، ولكن الشرطة لم تسمح لهم ، واعتقلت ( عشرون ) منهم وهرب الآخرون . وفي هذا الصدد ، ندد الاسلاميون بقرار وزير التعليم ( متين بوستانجي اوغلو Metin Bustonci oglu واعتبروه بأنه غصب وحرمان من حق الدراسة وان مدارس الأئمة والخطباء مدارس دينية وليست كمدارس أخرى ، وأن الحكومة التركية تسعى لالغاء عقوبة الإعدام في تركيا للانضمام الى الاتحاد الأوربي ، ولكنها تعاقب الطالبات المتحجبات اللائي تتراوح أعمارهن بين أربعة عشر وستة عشر سنة .
      علق الصحفي الاسلامي التركي ( حسن قرة كايا Hasan kirakiki ) على تلك الأحداث في صحيفة ( وقت Veket  ) قائلا (( أن منع لبس الحجاب بدأ في الدوائر الرسمية ، وسيصل منعه الى الشوارع ان لم نقف ضده بقوة ، وفي نفس المجال كتبت صحيفة ( صباح Sabah  ، أن وزير التعليم التركي قال (( ان لبس الحجاب سيكون مسموحا به في البيت فقط)).   
     فضلا عن هذه الاجراءات ، فأن الشرطة التركية تطوق صباح كل يوم مدارس الأئمة والخطباء منذ الفصل الثاني للعام الدراسي المنصرم لمنع المحجبات من الدخول الى مدارسهن ومنع احتجاج الطلاب والطالبات وأولياء امورهن .
     ان هذه الظاهرة تستحق أن نطلق عليها ( حمى الحجاب ) والتي بدأت منذ حادثة           ( مروة قاوقجي ) في المجلس الوطني التركي الكبير ، حيث تنتاب القوى العلمانية حالة هستيريا بمجرد رؤية غطاء على رأس المرأة ، وتأخذ هذه الحالة أو الظاهرة مبدأ أوسع عندما تحدث في مكان عام أو رسمي ، وتبرير القوى العلمانية في ذلك (( بأن الحجاب حالة تخلف ورجعية )) وكما انه دلالة على معاداة النظام العلماني للدولة ، حتى غدا الحجاب رمزا سياسيا - حضاريا فضلا عن كونه رمزا اسلاميا ، وحالة من الرغبة في تأكيد هوية انتماء تركيا للحضارة الاسلامية .
   خلال هذه الفترة ، جاء التطور الأكثر خطورة - حيال انضمام تركيا للاتحاد الأوربي - من خلال الأعمال المسلحة  لحزب الله التركي ، الاسلامي ، حسبما أوردته ( قناة TRT ) التلفزيونية التركية يوم السادس من تموز / يوليو 2002 بأن الحزب يتصدر قائمة " المنظمات الإرهابية " ، بعد توقف نشاط }  حزب العمال الكردستاني {  مما يعكس تطورا نوعيا في حركة العنف السياسي في تركيا ، حين دخلت الجماعات الاسلامية الى ساحة العمليات المسلحة أثر انسحاب الجماعات القومية الكردية منها ، اثر العملية المسلحة ضد مدير أمن ديار بكر واثنين من منتسبي شرطة المدينة .
     يتضح مما تقدم ، ان حالة الافتراق بين الدين والعلمنة ، ربما اتخذت منحى أكثر عنفا،  حينما اتجهت بعض القوى الاسلامية نحو العنف المسلح لمواجهة القوى العلمانية في وقت كانت أساليب القوى الاسلامية تتمحور حول الأساليب السياسية البرلمانية ، أو القيام ببعض المظاهرات السلمية دون استخدام العنف المسلح ، ولعل الدليل على ذلك ، عندما أفاد مصدر برلماني تركي في العشرين من تموز / يوليو 2002 " من أن حزب السعادة الاسلامي سيرفع مذكرة حجب الثقة ضد حكومة رئيس الوزراء }  بولند أجاويد { وأعلنت وكالة أنباء الأناضول التركية بداية شهر تموز / يوليو 2002 ان زعيم }  حزب السعادة{   } رجائي كوتان{ أعلن في أعقاب اجتماع هيئات حزبه ان حكومة أجاويد فقدت شرعيتها من وجهة النظر السياسية .
     ب: المشكلة الكردية :
        تعد تركيا امتدادا أثنيا للدولة العثمانية التي ضمت أقواما عديدة ، لترث تركيا الجمهورية هذا التركيب القومي المتنوع . وقد اتسمت السنوات الأخيرة من عقد تسعينات القرن العشرين بتنامي أعمال العنف السياسي وخاصة الحركات الكردية المسلحة التي كان يقودها ( حزب العمال الكردستاني ) وكما هو معروف ، فأن هذه المشكلة ، تعد من المشاكل الداخلية الرئيسية التي واجهتها الحكومات التركية المتعاقبة منذ اعلان الجمهورية في التاسع والعشرين من تشرين الأول / اكتوبر 1923 وحتى الوقت الحاضر ، اذ شهدت البدايات الأولى لتأسيس الجمهورية ، قيام ثلاث حركات كردية مسلحة . وكان رد فعل الحكومة التركية سحق تلك الحركات بالقوة ، واتخاذ إجراءات مشددة في مناطق جنوب شرق الأناضول ذات الأغلبية الكردية .
       ورغم خلو العقود اللاحقة لقيام الجمهورية من حركات كردية مسلحة كبرى لكن الوعي الكردي عبر عن نفسه خاصة في سبعينات القرن العشرين ، من خلال الأحزاب والجمعيات الكردية المسلحة وكانت الحلقة الأخيرة قد تمثلت بتأسيس }  حزب العمال الكردستاني {  في السابع والعشرين من تشرين الثاني / نوفمبر 1978 ، واتخذ هذا الحزب منذ آب / أغسطس 1984 وحتى اعتقال زعيمه } أوجلان { في السادس عشر من شباط / فبراير 1999 في }نيروبي{ عاصمة كينيا ، اسلوب الكفاح المسلح عن طريق شن غارات على قوات الأمن التركية والمؤسسات الحكومية في جنوب شرق تركيا بهدف حصول الأكراد على حقوقهم القومية . وكان رد فعل الحكومات التركية المتعاقبة القيام بحركات عسكرية بين آونة وأخرى ضد الحزب بواسطة القوات التركية المرابطة هناك ، حيث تنتشر في المنطقة بصورة دائمية مابين مائة وخمسون الى مائتين ألف جندي نظامي تدعمه الدبابات والمروحيات .
    ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد ، ان التحركات العسكرية للحكومة اتسمت في هذه المرحلة بطابع الشمولية العسكرية الأقليمية ،واتخذت شكل حرب منظمة تجاوزت الحدود الأقليمية الجنوبية لتركيا باتجاه العراق ، وكانت الميزانية السنوية في هذه المناطق ، ولما يطلق عليه الأتراك } مكافحة الإرهاب الكردي{  تقارب ثمانية مليارات دولار أمريكي موزعة مابين رواتب للجيش وشحن أسلحة ومعدات وآليات .
    ان الحكومات التركية ، كانت قد اعتمدت سابقا على حماية حدودها الجنوبية قوات من الجندرمة لكن منذ بداية تسعينات القرن العشرين ، وتزامنا مع العدوان الأمريكي الأطلسي الصهيوني على العراق سنة 1991 ، تغيرت مدخلات الاستراتيجية العسكرية التركية في المنطقة حيال الأكرد ، حيث حلت القوات العسكرية النظامية مع قوات الجندرمة التركية ، كما حدث تغيير نوعي في المجال الجغرافي للعمليات العسكرية التركية وذلك باختراق حدود العراق أكثر من مرة } كما سنرى في فصول لاحقة من هذا التقرير {
   بعد اعتقال }  عبد الله أوجلان  Abdullah ocelen {  واصلت الحكومة التركية نهجها السابق ضد الكرد ، وكل ما يمت اليهم بصلة ، " فقد وصل الى استانبول الكاتب والمفكر - نعوم تشومسكي Naom comeskey   -  يوم الثاني عشر من شهر شباط / فبراير 2002  للمثول أمام محكمة تركية بسبب كتاب أصدره عن }  العلاقات التركية الأمريكية {  ، وخصص هذا الكاتب فصلا من كتابه عن أوضاع الأكراد في تركيا واتهم فيه الحكومة التركية بقمع الأكراد بمساعدة الإدارة الأمريكية " ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل حاولت الحكومة التركية ملاحقة الناشرين الأتراك الذين يقومون بنشر كتب تتحدث عن الأكراد في تركيا ، وفي نيسان / ابريل 2002 وصل الى تركيا الصحفي الأمريكي }  جوناثال راندل Gonnatheal Riendel   { المتخصص في شؤون الأكراد ، للدفاع أمام محكمة تركية عن أحد كتبه الذي تم منعه وقال " إننا نبذل مايمكننا من جهد لتفادي سجن الناشر التركي }  عبد الله كسكين Abudl Kisken {  مدير دار نشر ( أفيستا Ivesta  ) المهدد بالسجن ثلاث سنوات وبغرامة قيمتها ( ثلاثة مليارات ) ليرة تركية - حوالي 2500 يورو ، لنشر كتاب ( جوناثال راندال ) بعنوان ( لقاءاتي في كردستان ) وتمت ترجمته الى اللغات العربية - الكردية - والفارسية . ومن جانب آخر صرح سفير تركيا لدى إيران ( صلاح الدين البار Salah Eldin Elber  ) لوكالة أنباء الأناضول (( ان تركيا طلبت من ايران تسليمها - كمال بابك Kemal  bebek  أحد قيادي حزب العمال الكردستاني - الملغي - الموجود في ايران )) بحسب الروايات الرسمية التركية .
   لقد اتخذت السلطات التركية هذه الاجراءات ، رغم تحدث ( أوجلان ) عن بداية مرحلة جديدة بعد اعتقاله ، تتمثل بنبذ اسلوب الكفاح المسلح والتحدث عن السلام ، ووفقا لذلك ، عقد اجتماعا لمجلس الحزب ، اتخذ فيه قرارا حاسما بإيقاف كافة نشاطاته السياسية التنظيمية والعملية على أراضي الجمهورية التركية ، وفي دول الاتحاد الأوربي ، وأوضح البيان أن هذا القرار يندرج في إطار استراتيجية اعادة الهيكلة والتحول التي بدأ الحزب بتطبيقها منذ بداية عام 2002 بغية التحول الى منظمة سياسية شرعية .
     لكن الحكومة التركية ، شنت في كانون الثاني / يناير 2002 حملة اعتقالا ضد طلبة الجامعات التركية وأهالي تلاميذ المدارس في شرق تركيا وغربها ، لأنهم رفعوا التماسات للمسؤولين المحليين طالبوا فيها بتلقي التعليم بلغتهم الأم ( الكردية ) الى جانب اللغة التركية ، وكانت الحكومة قد اعتبرت ، أن مجرد طلب التعليم بتلك اللغة يعد جريمة وفقا للدستور التركي ، فأنه لايسمح سوى باستخدام اللغة التركية أو لغات أجنبية يحددها القانون في التعليم ، الذي يعد اللغة الكردية لغة أجنبية ولايعدها لغة أم لمجموعة قومية تشكل أكثر من ( 10%) من مجموع السكان ، حيث يتحدثون بها كلغة أصلية .
   وفي الاتجاه المعاكس ، أعلن ( أوجلان ) في آذار ، /مارس 2002 عن قرب حل حزب العمال الكردستاني عندما قال (( أن الفترة التي قضاها وراء القضبان جعلته يدرك أن الأكراد في تركيا ،لم يتطلعوا أبدا الى اقامة دولة مستقلة … وأنه سيقضي وقته في محاولة الوصول الى تسوية سلمية للنزاع بين الأكراد الساعين الى الاستقلال )).
    نقطة التحول الرئيسة في ايقاف النشاطات العسكرية ( لحزب العمال الكردستاني ) جاءت على لسان ( عثمان اوجلان Osman Ocelen  ، شقيق ( عبد الله أوجلان ) عندما أدلى بتصريحات في نيسان / ابريل 2002 لقناة ( ميديا ) الفضائية قال فيه !((ان الحزب سيوقف نشاطه ويتخذ اسما جديدا له كمسعى من الحزب لتفادي نعته بالأرهاب .وأن كل أنشطة الحزب تعتبر منتهية … وسيتم تنظيم أنشطة الحزب تحت راية الحزب الكردستاني للحرية والديمقراطية …)) وكانت مصادر قريبة من حزب العمال الكردستاني قد ذكرت انه تأسس حزب جديد باسم ( حزب المؤتمر الوطني الكردستاني ) يسعى لايجاد حل سياسي للمشكلة الكردية أما وزارة الخارجية الأمريكية ( التي تضع حزب العمال الكردستاني على قائمتها للمنظمات الارهابية فقد قالت ، ان تغيير اسم الحزب ، لن يغير من وضعه ، فضلا عن ذلك ، هنالك مؤشرات بأن الاتحاد الأوربي يضع ( حزب العمال الكردستاني ) على قائمة الجماعات الأرهابية .
       الآ انه منذ منتصف عام 2002 ، حدث تطور جوهري في موقف الحكومة التركية ، تمثل باتخاذ العديد من الاجراءات ، بهدف تحسين موقف الحكومة التركية تجاه القوميات في تركيا وحقوق الانسان فيها ، بغية التواصل مع المقاييس الأوربية في المجالين السياسي والأقتصادي بهدف الانضمام للاتحاد الأوربي فقد اتخذت الحكومة التركية في الثاني والعشرين من حزيران / يونيو 2002 اجراءات عديدة منها : رفع حالة الطواريء في مقاطعتي          ( حكاري وتونيجيلي Tunceli  ) الشرقية والجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية ، وهنالك معارضة شديدة من الأحزاب الثلاثة المكونة لحكومة ( أجاويد ) الأئتلافية وخاصة ( حزب الحركة القومية Milli ) بزعامة نائب رئيس الوزراء ( دولة باغتشلي Devlet Bektasli ) وخاصة فيما يتعلق بالغاء عقوبة الاعدام والسماح بقيام محطة تلفزيونية أو قناة الأكراد وتعلم اللغة الكردية ، باعتبار أن ذلك سوف يهدد وحدة البلاد .
     وفي السياق نفسه ، نقل عن عضو بارز في ( حزب الحركة القومية ) ( مراد سوكمن أوغلو Murad sokmen oglu ) والذي يشغل منصب نائب رئيس البرلمان التركي قوله " ان الحزب قد ينسحب من الأئتلاف الحاكم بسبب خطط لتخفيف القيود على استخدام اللغة الكردية تمهيدا لانضمام تركيا للاتحاد الأوربي "
     وفي تطور حاسم ، حيال اقرار البرلمان التركي للاصلاحات الدستورية ، فان القوميين الأتراك يريدون الغاء الاصلاحات ، اذ أفادت وكالة أنباء الأناضول " ان نائب رئيس الوزراء التركي القومي المتشدد - دولة باغتشلي - يريد اللجوء الى المحكمة الدستورية لألغاء الاصلاحات الديمقراطية التي أقرها البرلمان التركي … ويعارض - باغتشلي - بشدة اثنين من الاصلاحات : الغاء عقوبة الاعدام في زمن السلم ، والسماح بالتعليم الخاص باللغة الكردية وكذلك بث برامج بالكردية معتبرين ان ذلك يهدد وحدة تركيا " . وتعزيزا لهذه التوجهات ، فقد شهدت استانبول في مطلع آب / أغسطس الجاري تظاهرات احتجاج على مصادقة البرلمان التركي على قانون الغاء حكم الاعدام ، حمل خلالها المتظاهرون صورا لشهداء تركيا وضحايا العنف السياسي .
     ورغم الاصلاحات فأن الأكراد يشكّون في نية الحكومة في تحسين سجل حقوق الانسان في تركيا ، لكن الحكومة التركية اتخذت العديد من الاجراءات في صدد تطبيق الاصلاحات الدستورية في مجال حقوق الانسان ،ومن هذه الاجراءات على سبيل المثال لا الحصر ، فقد وضعت أمام مكتب حاكم مدينة ( تونجيلي ) في جنوب شرق تركيا … صندوق يحمل لافتة صغيرة كتب عليها شكاوى ورغبات حقوق الانسان ، ومن الجدير بالملاحظة ، ان قلة من سكان المدينة البالغ تعدادهم ( خمسة وعشرون ألف ) نسمة ، يغامرون بالوصول اليها …" ، وفي هذا الصدد يقول ( حسين ايجون Husen Econ ) المحامي الناشط في مجال حقوق الانسان " ان وضع الصندوق خطوة ايجابية ، لم نشهد مثلها من قبل ثم تساءل " هل سيجري فعلا علاج الشكوى التي يتقدم بها أي فرد … " . ويرى العديد من المراقبين ان هنالك أزمة ثقة قانونية - سياسية بين الأكراد والسلطات الحكومية ، بسبب ذكريات طويلة وأليمة من الصراع ، ويتساءل العديد منهم : هل ستتغير الأمور سريعا ؟ .
    تقول اللجنة المكلفة بدراسة محتوى الصندوق أن قلّة فقط من سكان ( تونجيلي ) مارسوا حقهم في الشكوى ، ويقول ( ياسر جيجيك Eiser cecek  ) الناشط في مجلس تنسيق حقوق الانسان الأقليمي -  "لايوجد مايستحق الاهتمام وحتى الآن … عدد قليل من الطلبات فحسب وطلب البعض السماح لهم بالعودة لمئات القرى التي اخليت أبان النزاع "
    الآ أن الحال يبدو مختلفا في ديار بكر ، وتعد من أكبر المدن الكردية في تركيا ، حيث لاتزال تخضع لقانون الطوارئ وظهرت آثار ذلك ليس على المستوى السياسي والأمني فحسب وانما انعكس ذلك على مستوى الاداء الاقتصادي للمنطقة بشكل عام ومدينة ديار بكر بشكل خاص والتي كانت ساحة عمليات عسكرية بين مقاتلي ( حزب العمال الكردستاني ) ، وقوات الجيش التركي ، فقد شهدت المدينة تفشي البطالة والتي تفاقمت بسبب مشاكل الاستثمارات غير الملائمة ، وضعف البنية الأساسية . وترى الشركات الأجنبية أن قانون الطوارئ عائق أمام الاستثمارات في المنطقة .
         ورغم تقليص القيود على الانتقادات بعد الهدوء الملحوظ في المعارك بين القوات التركية ، ومقاتلي حزب العمال الكردستاني ، فأن جمعية حقوق الانسان التركية ترى بأن انتهاك حقوق الانسان في مناطق عديدة من جنوب شرق تركيا مازال يمثل مشكلة ، وفي هذا الصدد ، يقول ( عثمان بايدمير Osman  Bidemer  )، نائب رئيس جمعية حقوق الانسان في ديار بكر (( ليس هناك تراجع يذكر في حوادث التعذيب ، أظهرت بياناتنا تراجعا بنسبة (25% ) قي نيسان / ابريل وأيار / مايس 2002 الآ أن أرقام حزيران / يونيو ألغت ذلك ، وضرب ( بايدمير ) مثلا على ذلك ، بامكانية اعتقال امرأة يشتبه في انتمائها لحزب كردي ، متشدد في الآونة الأخيرة وأن المنظمة سجلت تفاصيل مخيفة لما لقيته من سوء معاملة أثناء استجوابها . ومهما يكن من أمر ، فقد سجلت التطورات السياسية الداخلية الأخيرة والمتلاحقة تراجعا في العمليات المسلحة للأكراد ، ولربما كان لقرارات الحكومة واجراءاتها المتعلقة بالاعتراف بالحقوق القومية للأكراد والسماح لهم بالتعبير عن أنفسهم بلغتهم القومية أثر في ذلك .
جـ: الأوضاع الاجتماعية :
      تعد تركيا الحديثة ، وريثة للنظام العثماني ذو الطابع الاسلامي الذي استمر لحقبة تربو على الـ    ( 600 عام ) ، وقد حمل الأتراك الهوية والحضارة الاسلامية ، لكنهم بعد حركة الاصلاحات والتنظيمات أصبحوا على تماس مباشر مع الحضارة الأوربية ، وكانت بعد ذلك ، مصدر تأثير مباشر على حركة الأتراك وغيرهم من شعوب الدولة العثمانية ، واستمرت حالة التأثر الثقافي التركي حتى بعد زوال الدولة العثمانية وقيام تركيا الجمهورية عام 1923 ، وحدث تطور نوعي في حركة الأتراك نحو أوربا وبدأت النخب العلمانية في تركيا تعلن عن هوية انتماء أوربية - تحديثية في مختلف المجالات السياسية والأقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وهذا يدفعنا لطرح تساؤل : عن مدى انعكاس ذلك على مجمل الأوضاع الاجتماعية في تركيا ؟
بدءا تتشكل التركيبة الاجتماعية لسكان تركيا من خليط سكاني قومي - ديني ، وضمن هذا الاطار فأن الاهتمام بدراسة تكوين السكان وتركيبهم الاجتماعي وخصائصهم لايكشف عن القيمة الحقيقية للأعداد البشرية فحسب بل يساعد على اكتشاف ظواهر سكانية واجتماعية وسياسية وهو مايؤدي الى معرفة القوى الاجتماعية الفاعلة ودورها في التأثير على مجمل السكان (( باعتبار أن العملية السياسية هي نتاج تفاعل العناصر الاجتماعية في تنازعها على القدرة السياسية )) ، والتعاون بين مختلف العناصر الاجتماعية سوف يدفعها الى الضغط على السلطتين التشريعية والتنفيذية لغرض حملها أو اجبارها على اصدار القوانين والقرارات لصالح المجموعات السكانية الفاعلة والمؤثرة في العملية السياسية وصيرورتها بالشكل الذي يخدم مصالحها أو يحقق أهدافها السياسية والاجتماعية ومهما كانت درجة التماسك القومي والاجتماعي في المجتمع فأن المصالح السياسية تبقى مصالح فئوية .
  لقد أضحت ملامح البنية الاجتماعية في تركيا تتجلى في صورتها ، عندما حافظت قوى الاقطاع على البنية التقليدية لمجتمع الريف ( ملاكين والفلاحين ) ، في حين أن النجاحات المتلاحقة للبرجوازية كانت قد أنجزت التحولات المطلوبة في بنية المجتمع التركي المدني ، والى ذلك يذهب ( ايريكو أوزبودن E . ozbudun  ) " عندما يعد عملية التحديث الاجتماعي السياسي في تركيا ، بأنها قد ظهرت واضحة في السلوك الانتخابي التركي ، وعندما أظهرت تناسبا طرديا بين التحديث الاجتماعي ومستوى المؤسسة العسكرية " ، والى أبعد من ذلك ، يذهب ( ريتشارد سكوت Richard scott  ) الى القول " أنه منذ أواسط الستينات لم يعد القرويون ينظرون الى استانبول باعتبارها مجتمع من الناس ذهب الكفار بأخلاقهم وأفسدوهم ، فقد بدأوا يدركون قيمة التربية العلمانية ومظاهر التمدن الحديث ويفهمون فوائدها " .
       شرع منذ ذلك التاريخ ، مئات الآلاف منهم للنزوح من الريف الى المدينة ، والتي غدت عاجزة عن استيعاب تلك الأعداد الأمر الذي أدى الى تشكيل أحياء فقيرة قرب المدن الكبرى عرفت بـ ( مدن الصفيح ) ونتج عن ذلك اضطراب في الهيكل الاجتماعي التركي خاصة في أنقرة واستانبول ، وبالتالي الى ارتفاع عدد العاطلين عن العمل ، كما اتسم سوق العمل بالبطالة وأسهم ذلك في زيادة المتاعب الاجتماعية للبلاد بسبب عدم تمكن العمال الزراعيين النازحين وسكان المدن من الانتاج في الهيكل الأقتصادي والاجتماعي التركي ، أثر ذلك شهدت البلاد توسعا في نطاق التظاهرات والاضطرابات جراء الوضع الاجتماعي المتردي الذي كان قد هدد حياة مئات الآلاف من العمال بهدف تحسين أوضاعهم الأقتصادية والاجتماعية ، اذ شهدت تركيا قيام العديد من الاضطرابات منذ عقد الستينات وحتى التسعينات لكن الحكومات التركية لم تستطيع تلبية طلبات المتظاهرين نتيجة تزايد تفاقم الأزمة الأقتصادية منذ أوائل عام 2001وحتى الآن مما دفع العمال والفلاحين النازحين من الريف لتشكيل بؤرة لأفكار " اسلامية راديكالية " ، أدت بالتالي الى حالة من الصراع بين القيم والتقاليد الاسلامية من جهة والقيم الأوربية التي دخلت المجتمع التركي من جهة أخرى ، مما يعني فشل عملية التنميط الاجتماعي التي اتبعتها النخب العلمانية وبشر بها العديد من الكتّاب أمثال ( سكوت داوزبودن ) .
    حيال ذلك ، وعلى أثر تفاقم الأزمة الاقتصادية منذ شباط 2001 ، بشكل لم يسبق له مثيل، اجتاحت المجتمع التركي موجة من برامج الألعاب المتلفزة ذات الأرباح الضخمة ، والقائمة على التلصص وعرض الذات ، ولقيت تلك البرامج اقبالا متزايدا من المشاهدين ومن المرشحين المستعدين للقيام بكل مايطلب منهم كسبا للمال السهل المنال ، علما بأنه يشترك في ذلك الترشيح شباب من كلا الجنسين ، وطلبة الجامعات ، وحاصلي الشهادات العليا ، وتهدف قسم من تلك البرامج اظهار لحياة ملايين البائسين اليومية تحت نظر أصحاب الامتيازات البعيدين كل البعد عن ذلك الواقع الاجتماعي ولامبالاة النخبة الحاكمة تجاه الفروقات الاجتماعية المتعاظمة ، فنتج عن ردود فعل معاكسة لدى فئات عديدة في المجتمع التركي تجسدت في بعض الأحيان على شكل معارضة علنية للنظام السياسي التركي سواء كان ذلك في الريف أو المدن ، بعد أن تحولت الأزمة الأقتصادية - الاجتماعية الى لعبة كأنها تخوض مغامرة في بلاد مجهولة أو كأنها تطلع بمهمة مستحيلة مملوءة بالأفكار .
     وتكشف البرامج التلفزيونية لألعاب التسلية ، عمق الأزمة الاجتماعية في تركيا ، فقد أثار برنامج (( هناك من يراقبنا )) النقاش العنيف حول اقتحام البرنامج للمشهد السمعي - البصري لمدى التناقضات وأحوال التوتر التي تعيشها الشبيبة اليوم . فأية تصورات حملها هذا البرنامج وكيف يمكن قياس تأثيره في المشاهدين في بلد لم يتجاوز أكثر من نصف سكانه (خمسة وستون ) مليونا عمر الخامسة والعشرين .
     وفي هذا الصدد ، يرى ( نيكولا مونسو Nicolas Monnceau  ) " بأن مفهوم المؤزاييك الثقافي - الموروث من السلطة العثمانية ، قد بدأ منذ مدة يبرز في النقاش السياسي الاجتماعي وقد أعاد تشكيل مجموعة المرشحين المختارين ، اثارة مسألة التنوع هذه وطابعها التمثيلي من خلال وسائل الاعلام … كما عكس أقتصار التنوع الانساني التركي على الفئة الاجتماعية الأكثر تغربا … ورسمت برامج الألعاب الأزمة التلفزيونية عن الشبيبة صورة غير متوازنة ومثالية خصوصا بالنسبة الى غالبية المشاهدين من اصول أناضولية "
      ان هذه الصورة تجعل شرق البلاد الفقير والتقليدي يتأمل غرب البلاد الثري والحديث وتعكس صورة للحداثة الغريبة تتركز فيها الأحلام والتهويمات كما الاحباطات التي يعاينها شعب لايجد فيها أي فائدة تذكر . وبدل أن يستنكر الفروقات الاجتماعية المتعاظمة يعزز هذا البرنامج القطيعة الاجتماعية بين المستفيدين من مكاسب الحداثة والمبعدين عنها ، وعكس مجمل ذلك تأثير نظام القيم الأخلاقية والدينية في بلد اسلامي تقليدي مثل تركيا .
      لقد عكست الأوضاع الاجتماعية في تركيا عند مطلع القرن الحادي والعشرين حالة الانفصام الاجتماعي وبدا الشباب التركي لامباليا حيال مايواجهه من مشكلات ، مما عكس حالة من الفردية والنزوع نحو الثراء السريع ، مما يعني أن مرجعية هؤلاء الشباب وخاصة في المدن الكبرى تعبر عن ضياع الجذور التقليدية بفعل تأثير وسائل الاعلام من جهة ، ومن جهة أخرى ، فقد جسدوا في شكل من الأشكال تأثيرات " مرحلة أوزال " ، فقد ترعرعوا في جو من الاصلاحات السياسية وأدت توجهاتها الليبرالية والانفتاحية الى تغيير عميق في العقلية التركية . فمديح مجتمع الاستهلاك أو السعي الى السعادة الفردية كما يعبر عنها مرشحوا البرنامج ، كلها براهين على تقديس المال الذي تحول قيمة في حد ذاتها تحت تأثير الليبرالية الأقتصادية مضافة الى أمركة أنماط الحياة .
    يتضح من ذلك ، أن الأوضاع الاجتماعية في تركيا عكست أزمة اجتماعية تعيشها البلاد ، بسبب من الانقطاع بين أقلية حديثة من أصحاب الامتيازات ( نخب اجتماعية وسياسية علمانية) ، وأغلبية تقليدية ، وكان من محصلتها النهائية ، حالة من الضياع الأخلاقي وأزمة الهوية الثقافية التي يعانيها الشباب اليوم الممزق بين ميراث ثقافي تركي - اسلامي عريق ، وبين السعي الى حداثة غريبة قدمتها جمهورية ( أتاتورك ) العلمانية ، على أنها نموذج يحصد المجتمع ، يوما بعد يوم ، نتائجه.
د: الأزمة السياسية الراهنة :
        شهدت تركيا ، ومنذ الربع الأول لعام 2002 ، أزمةسياسية ، أظهرت طغيان حالة من الارتباك والغموض على الساحة السياسية التركية ، مما يعكس ظواهر عديدة كان قد شهدها ولايزال المجتمع التركي ، تمثلت بحالة التشتت التي تسود بين أوساط النخبة التركية السياسية والعسكرية ، لأن تركيا ومنذ ثمانية عقود مضت لم تستطع لحد الآن ان تحسم توجهاتها السياسية والفكرية .
       وقبل قراءة الخارطة السياسية والحزبية في تركيا ، لابد من الاشارة ، الى أن تركيا ومنذ الانقلاب العسكري الأول على ( عدنان مندريس Ednan mendres  ) عام 1960 جاءت بمثابة اعلان صريح بأن الحياة السياسية في تركيا لن تشهد الاستقرار ، ولن تنجو من تدخلات القوى غير السياسية في شؤونها الداخلية ، ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن لم تكمل سوى حكومتين اثنين فقط مدة أربع سنوات في الحكم من بين خمسة وثلاثون حكومة تعاقبت على تركيا .
     ان متابعة توزيع القوى السياسية في تركيا توضح أن عدد الأحزاب السياسية بلغ أكثر من ثلاثة وأربعين حزبا سياسيا ، تتنوع اتجاهاتها ، ومشاربها الفكرية ، وبشكل عام ، تبرز ثلاثة اتجاهات رئيسة ، فهناك ( الأحزاب العلمانية مثل ( حزب اليسار الديمقراطي Demokratik sol partisi  بزعامة رئيس الوزراء الحالي ( بولند أجويد Bulent Ecevid ) و        ( حزب الطريق الصحيح dogru yol partisi  ) بزعامة ( تانسو تشيللر Tantsu Ciler ) و         ( حزب الوطن الأم Ana vatan partisi  ) بزعامة ( مسعود يلماظ Mesud yilmaz ) الشريك الثالث في ائتلاف أجويد الحكومي ، وهنالك ( التوجهات القومية ) ويأتي في المقدمة منها         ( حزب الحركة القومية ، بزعامة ( دولت باغتشلي ) الشريك الثاني الرئيس في ائتلاف أجويد ، أما ( التيار الاسلامي ) فقد مثله في البداية ( حزب الفضيلة ) بزعامة ( رجائي كوتان ، ثم حدث انشقاق داخل الحزب ، وظهر في الرابع عشر من شهر آب أغسطس 2001 ( حزب العدالة والتنمية ) بزعامة ( رجب طيب أردوغان ) والملاحظة الجديرة بالاعتبار في هذا الصدد ، ان لكل من هذه الاتجاهات الحزبية ، نظرته من طبيعة توجهات تركيا نحو الانضمام للاتحاد الأوربي ، الذي يتهم تركيا بعدم تطبيقها لبرنامج وطني للاصلاحات السياسية والديمقراطية .
      ويظهر ذلك واضحا من خلال برامج الأحزاب السياسية في تركيا ، فالأحزاب العلمانية ، والمدعومة من قبل المؤسسة العسكرية ، تسعى بخطى حثيثة نحو تحقيق الاصلاحات - السياسية والدستورية وفق معايير ( كوبنهاكن ) ، وهذا التوجه يلامس مشاعر الكثيرين من شرائح المجتمع التركي وخاصة الشباب الذين يرون مافي الغرب من حرية شخصية واسعة يتمتع بها الفرد ، وتقدما في شتى مناحي الحياة .في حين أن الأحزاب القومية تقف بالضد من هذه الاصلاحات وخاصة فيما يتعلق : بالغاء عقوبة الاعدام ، ومنح الأكراد حقوقا ثقافية ، ولعل سبب الرفض يعود الى توجهات قومية متطرفة ، وبالتالي ، وحسب وجهة نظرها ، فأن اقرار مثل هذه الاصلاحات قد يهدد وحدة البلاد . أما التيار الاسلامي فأن مواقفه تتراوح مابين توجهات ( حزب السعادة Saadet partisi ) من جهة ، و ( حزب العدالة والتنمية ) من جهة أخرى ، فالأول : يعد الأكثر تشددا في عدم ارتماء تركيا بأحضان اوربا ، وبذلك فأنه يعكس وجهة النظر التقليدية ( لنجم الدين أربكان ) بضرورة العودة الى التراث الاسلامي الشرقي ، واقامة علاقات مع الدول الاسلامية عبر بديل آخر هو(السوق الاسلامية         المشتركة ) ،
     أما الثاني : فأن توجهاته تتضح من خلال أهداف الحزب العليا التي ((تتبلور في اصلاح مشاكل الداخل وتصحيح العلاقات غير المتكافئة مع العالم الخارجي … والعمل على استعادة هيبة تركيا )) ، ورغم ان زعيم الحزب ( أردوغان ) ، يعده بعض المراقبين من صقور الحركة الاسلامية ، الا ان مقولاته تتسم بقدر من " المصداقية والواقعية "، اذ انه ربما كان الشخص الوحيد الذي تكاد القوى السياسية تجمع على مكانته بين القيادات الحزبية في تركيا ، فقد تمكن من اجتياز الفجوة التي تفصل بين القوميين والاسلاميين ، حيث أنه يكشف عن تبلور رؤية جديدة لدى قطاع مهم من القيادات الاسلامية المعاصرة ، بما يتجاوز العداء التقليدي للطروحات القومية .
     بدأت ملامح الأزمة السياسية تظهر واضحة بين قطبي السلطة التنفيذية ( رئاسة الجمهورية ) و ( رئاسة الوزارة ) في بداية شهر شباط / فبراير 2001 ، وذلك خلال الاجتماع الشهري ( لمجلس الأمن القومي التركي ) ، فقد أفادت معلومات متسربة عن الاجتماع ، أن رئيس الجمهورية ( أحمد نجدت سيزر Ahmet necdet sezar  ) وجه أربعة اتهامات الى حكومة أجويد : الأول ، اتخاذها موقفا سلبيا من قضايا الفساد المالي ، والثاني ، عرقلة المراقبة المالية ، والثالث ، عدم ابداء الاحترام الكافي للقانون والدستور ، والرابع ، القيام بأعمال منافية للقوانين والحقوق .
     ومما يظهر حالة الارتباك السياسي في تركيا ، ان الأحزاب التركية على اختلاف توجهاتها الفكرية ، لم تستطع في الكثير من الأحيان اتخاذ موقف واضح يعكس حقيقة حركتها في تجاوز معوقات الانضمام للاتحاد الأوربي ، ففي أعقاب الأزمة السياسية بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في عام 2001 ، بدأت تركيا تشهد في الربع الأول من العام نفسه أزمة مالية واقتصادية ، ( كما سنرى لاحقا ) ، مما دفع أحزاب المعارضة في البرلمان الى التحذير من انعكاس الأزمة المالية على الحياة السياسية ، فقد أعلن ( حزب السعادة ) الاسلامي على لسان رئيس كتلته البرلمانية ( بولند أرنج Bullent Irnes  (  : " عن استعداده غير المشروط لدعم صدور القوانين الأقتصادية التي طلب وزير الدولة للشؤون الأقتصادية - كمال درويش Kemal Dervs  - سرعة اقرارها في البرلمان لضمان الحصول على قروض خارجية عاجلة من المؤسسات المالية الدولية … من أجل اجتياز الأزمة وتحقيق الاستقرار والأمن لخمسة وستون مليون تركي "
   أحدث موقف حزب السعادة ، هزة سياسية في أنقرة ، اذ سارع ( حزب الحركة القومية ) الشريك الثاني في الائتلاف الحكومي للتأكيد على لسان نائب زعيم الحزب " اسماعيل كوشة Ismail kuse "  " عن "استعدادهم المطلق لبذل كل مافي وسعهم من أجل صدور القوانين الاقتصادية … وكذلك مشاريع القوانين الخاصة بالتوافق مع قوانين الاتحاد الأوربي كضرورة ملحة لمرحلة عضوية تركيا في الاتحاد الأوربي ". ومما يذكر أن تصريحات ( كوشة ) جاءت متضاربة مع التصريحات التي أدلى بها زعيم الحزب ( باغتشلي ) عندما طالب (كمال درويش ) : " بضرورة التروي وعدم الاستعجال ، محذرا من أن أية محاولة تستهدف القوانين التركية يجب النظر اليها بعين الحذر ، مؤكدا في الوقت ذاته أن من مصلحة تركيا القيام بعملية تعديل القوانين بتعقل بما يتلائم مع الحالة التركية " ، وخاصة فيما يتعلق باتفاقية العضوية في الاتحاد الأوربي ، عندما أكد قائلا " أننا سوف ننظر في الاتفاقية … وأن الانضمام للاتحاد الأوربي سياسة الدولة وليست سياسة حزب معين " .
         لقد أوضح تضارب التصريحات واختلافها من وقت لآخر بين زعماء الأحزاب السياسية التركية بأن مواقف تلك الأحزاب تنبع من اهتمامها بمصالحها الخاصة ، وهو الأمر الذي ظهر جليا عندما هاجم ( رضوان بوداق  Rezvan Budak) النائب عن ( حزب اليسار الديمقراطي ، في البرلمان ، زعيم الحزب ورئيس الوزراء أجويد وقال : " ان الحكومة الحالية فقدت مصداقيتها لدى أبناء الشعب التركي ، وأنه من الضروري البدء في اجراء تعديلات جذرية " .
      ترافقت الأزمة السياسية مع تساؤلات الدبلوماسيين الغربيين العاملين في تركيا ، حول امكانية ثبات الحكومة الائتلافية الثلاثية واحتمالات البقاء التي لاتزال متاحة أمامها - وكانت تلك التساؤلات قد طرحت في مطلع عام 2001 ، وفي هذا الصدد شدد أحد الدبلوماسيين الأوربيين في تركيا على أن " الاستقرار السياسي هو موضوع قلقنا الأساسي لأن كل شيء بات ممكنا " وهذه التوجهات الأوربية حيال انتماء تركيا للاتحاد الأوربي يمكن النظر اليها من خلال المعادلة التالية :
                  اصلاح سياسي = اصلاح اقتصادي
                  اصلاح اقتصادي = استقرار سياسي
     والملاحظة الجديرة بالاعتبار في هذا الصدد ، ان المؤسسة العسكرية التركية ، باعتبارها ضابط لحركة المجتمع ، ومن موقع المحافظة على مصالحها الاقتصادية والسياسية ، وقفت بحزم في مواجهة الزعماء السياسيين بغية اقرار " البرنامج الوطني " للاصلاحات السياسية والاقتصادية ، علما أن الجيش كان قد أعلن معارضته الصريحة لمنح تلك الحقوق الى الأكراد.
    في الربع الأول من عام 2002 ، ومع قرب اقرار الاصلاحات السياسية والدستورية ، بدأت السياسية التركية ، تشهد بدايات أزمة سياسية جديدة ترافقت مع تدهور الحالة الصحية لرئيس الوزراء وزعيم الائتلاف الثلاثي الحاكم ( بولند أجويد ) ( كما سنرى لاحقا ) ، وقد تميزت هذه الأزمة عن سابقتها انها تزامنت مع موجة واسعة من الاستقالات في صفوف          ( حزب اليسار الديمقراطي ) برئاسة ( بولند أجويد ) زعيم الائتلاف ، ولعل من أكثر الاستقالات تأثيرا في مجموعة الحزب البرلمانية والتي بلغ مجموعها النهائي حوال سبعة وأربعون نائبا من حزب اليسار الديمقراطي بينهم سبعة وزراء حتى منتصف شهر تموز / يوليو 2002 . ويعلق ( يوسف الشريف ) على ذلك قائلا : " أن مرض رئيس الوزراء مكن شركاؤه القوميين في الحكم ، وبدت تركيا وكأنها تدير ظهرها للاتحاد الأوربي … وبدأ القوميون يدسون انوفهم في اصلاحات وزير الاقتصاد - كمال درويش - متهيمينة ببيع تركيا بالتقسيط الى الغرب … وفي وقت يصعب فيه فصل الاقتصاد عن السياسة تحرك نائب رئيس الوزراء - حسام الدين أوزكان (Husam Alden Ozkin  ) وتبعه وزير الخارجية ( اسماعيل جيم Ismail Cem ) وعدد من نواب ووزراء الحكومة فاستقالوا بالجملة ليضعوا الحكومة في وضع حرج تستجدي فيه ثقة البرلمان فيها ، وذلك بحجة انه قد آن الأوان للتغيير ووضع حد لسيطرة القوميين على السلطة " .
      لقد أبرزت هذه الأزمة حالة الخلاف داخل صفوف ( حزب اليسار الديمقراطي ) حول امكانية زعيمه الحالي ( أجويد ) الاستمرار في منصبه الحزبي من عدمه بسبب المشاكل الصحية التي يعاني منها ، فقد طرحت هذه الأزمة امكانية البحث عن قيادات جديدة لزعامة الحزب في مواجهة ( اجويد ) وزوجته ، اللذان يسيطران على حزب اليسار الديمقراطي .
    هذه الأزمة ، دفعت شركاء الائتلاف ( مسعود يلماظ ) زعيم حزب ( الوطن الأم ) (ودولت باغتشلي ) زعيم ( حزب الحركة القومية ) الى المطالبة بتشكيل حكومة جديدة ، وضرورة اجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة قبل نيسان / ابريل 2004.
        لقد عكست الأزمة السياسية ، ماهية الحل المطلوب للمعوقات السياسية التي تواجهها تركيا في مسألة انضمامها للاتحاد الأوربي ، والذي يتطلب اعتراف النخبة الحاكمة بمختلف مشاربها الفكرية بضرورة اصلاح شامل ( سياسيا واقتصاديا ) قائم على مصالحة عميقة مع الذات وخطة دقيقة لاعادة هيكلة المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية بما ينسجم وشخصية تركيا الوطنية ، ويعني هذا ، ان تركيا لايمكن أن تتجاوز أزمتها السياسية قبل ان تعالج ملفات الفساد الاقتصادي والمافيات التي لاتعبأ الآ بمصالحها ومكاسبها الخاصة المشروعة وغير المشروعة ، وقبل ان تعالج تركيا ملفات حقوق الانسان والحريات المدنية ومنها الأقليات ، ومسألة الديمقراطية ، والمسألة الدينية التي لاتزال رهينة التشنج العلماني الشكلي المجرد من مضمون الحداثة وقيمها الأخرى .
       وفي هذا الصدد ، فأن مسألة الانضمام للاتحاد الأوربي ، يجب أن توظف في خدمة مصالح الشعب التركي ، لا أن تستغل لخدمة المصالح العاجلة لجماعات رجال الأعمال والمال الذين تغريهم مكاسب العولمة ، والتبعية للشركات المتعددة الجنسية ، والانتماء الشكلي للغرب.
وعلى هذا الأساس ، فان أغلب المراقبين يعدون ذهاب ، بولند أجويد ، خطوة ضرورية ، على أن يخلفه رجل قوي قادر على فرض الانضباط ، واحلال الاستقرار السياسي ، لبعث الأمن والثقة في المستثمرين والعمل من أجل انعاش سياسي واقتصادي في البلاد .
      لمواجهة ذلك ، أعلن كل من ( كمال درويش ) و ( اسماعيل جم ) أنهما سيسعيان بشدة لأنشاء كتلة معارضة تمهيدا للانتخابات المبكرة في الثالث من تشرين الثاني / نوفمبر 2002 كي تحول دون فوز الاسلاميين المتوقع ، وقال ( درويش ) في لقاء صحفي عقب لقاءه ( جم) " أنهما سينسقان خطواتهما للتأكد من ضمان أغلبية تؤمن بالاصلاحات وأفكار جديدة ستكون قادرة على تأمين انتخاب سلطة تحظى بقاعدة عريضة في تركيا " ، ويشار الى ان درويش وجيم شكلا ماعرف باسم " فريق الأحلام " لضمان انضمام تركيا الى الاتحاد الأوربي وتحقيق نهضة اقتصادية .
      ومن جانب آخر ، يرى المراقبون ان آمال كل من ( درويش وجيم ) في الوصول الى السلطة قد تذهب هباء في ظل الوضع السياسي الراهن خاصة ان اليمينيين واليساريين في تركيا ينتمون الى أحزاب مختلفة ، مما سهل على ( حزب العدالة والتنمية ) الذي يدعم المشروع الاسلامي الحصول على المرتبة الأولى في الاستطلاع بنحو 20% من الأصوات خاصة بعد أن واجه ( كمال درويش ) مشاكل عدة في امكانية توحيد اليسار بالاضافة الى مشاكله مع الحزب الجديد حزب تركيا الجديدة Yeni Turkiue Partisi ) بزعامة ( جيم ) . فقد تفجرت الأزمة بين حلفاء الأمس بشكل أكثر عمقا ففي أعقاب مناقشة البرلمان التركي للاصلاحات الديمقراطية ، والتي صادق عليها البرلمان بواقع ( مائتان وستة وخمسون ) نائبا لصالح اجراء الاصلاحات الديمقراطية ، مقابل معارضة ( مائة واثنان وستون ) نائبا وامتناع عضو واحد عن التصويت .
     الملاحظة الجديرة بالانتباه في هذا الصدد ، ان مشهد الأزمة السياسية الحالية والمستمرة بدرجة أو بأخرى منذ عام 2001 ، جعلت المؤسسة العسكرية هذه المرة تنظر من بعيد دون محاولتها التدخل للمحافظة على مكاسبها الأقتصادية ، وكأننا نشهد ولادة تكتل اقتصادي في تركيا يزاحم القوى التقليدية على التدخل من بعيد وبصورة غير مباشرة في تحديد مصير الحكومة ، وهذا الموقف يختلف عن موقف المؤسسة العسكرية في أزمة عام ( 2001 ) ، نظرا لاختلاف الملابسات والمعطيات المتوقعة للأزمة السياسية .
     لقد شكلت الأزمة السياسية التي لازالت تركيا تعيش معطياتها حتى كتابة هذه السطور، تعد نتيجة منطقية للأزمة الاقتصادية التي بدأت تركيا تشهدها منذ عام (2001 ) حيث كان وزير الاقتصاد المستقيل ( كمال درويش ) متفائل جدا بسياسيته الاصلاحية ، ولكن لم يحقق ماكان يتمناه ، فقد بلغ العجز في الموازنة النقدية لعام (2001) ( 93ر22) مليار دولار بزيادة قدرها (4ر2) مليار دولار عن عام 2000 ، كما أن الايرادات بلغت (6ر41 ) مليار دولار أي أقل بحدود 30% عن العام (2001) حين بلغت النفقات (5ر64 ) مليار دولار عام 2001 ، أي أن الايرادات غطت مانسبته ( 5ر64%) فقط من النفقات … في حين أن الايرادات في عام (2000) غطت نحو 72% من النفقات ، وطبقا لشهادات رجال الأعمال ، فأن سوء سياسة الحكومة قد أدى الى زيادة التضخم واستمرار سعر صرف الليرة مقابل الدولار ، عندما بلغ سعر صرفها مليونا ونصف المليون ليرة مقابل دولار .
       هذه النتائج ، الغير مشجعة ، أدت الى زعزعة الاقتصاد ومصداقية الحكومة ، وبات الدبلوماسيين الأوربيين العاملين في أنقرة يتوقعون تأجيلا اضافيا لبدء عملية انضمام تركيا الى الاتحاد الأوربي … في الوقت الذي كانت فيه الحكومة تطلق خطة واسعة للاصلاحات الاقتصادية بعد توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض بقيمة أربعة مليارات دولار على مدى ثلاث سنوات .
      كان من نتائج ذلك ، أن انحرفت خطة صندوق النقد الدولي عن مسارها في أعقاب اندلاع الأزمة بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية ( والتي سبقت الاشارة اليها ) حول مكافحة الفساد ، مما عكس رد فعل عنيف على الأسواق ، واضطرت الحكومة من أجل احتواء الأزمة النقدية الى التخلي عن المحور الأساسي لخطة مكافحة التضخم وهو اعتماد نظام أسعار صرف ثابت أزاء الليرة التركية .
     أزاء ذلك ، شرّع رجال الأعمال الأتراك بالضغط على الحكومة من اجل الاسراع في عملية استصدار القوانين التي طالب بها وزير الدولة للشؤون الاقتصادية المستقيل ( كمال درويش ) ودعا رئيس اتحاد رجال الأعمال الأتراك Tusida ) ( رفيق بايورRefek Biur ) الحكومة الى نبذ ماسماه بالألاعيب السياسية على تحقيق صدور القوانين العاجلة قبل الخامس عشر من شهر نيسان / ابريل 2001 وأعرب عن دعمه المطلق لكل المساعي التي يبذلها (درويش ) مؤكدا انها ضرورية ومنطقية .
     بينما أعلن توركر أوزيلهان Tukbar Ozelhain  ) رئيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين الأتراك ، أن الدعم المالي المنتظر الحصول عليه من صندوق النقد الدولي خلال شهر نيسان / ابريل 2001 لن يتجاوز بأي حال من الأحوال ( 2ر6) مليار دولار . وقال       ( اوزيلهان ) الذي شارك مع وفود من أعضاء الجمعية في اجتماعات مجلس العمل الأمريكي - التركي الذي عقد في واشنطن مطلع عام 2001 " ان من العبث توقع تقديم صندوق النقد قرضا لتركيا الآ بعد قيام البرلمان باجراء التغييرات القانونية المطلوبة " .
       لقد ظهرت آثار الأزمة السياسية التي تعيشها تركيا منذ نيسان / ابريل 2002 على الاقتصاد ، مما أثار الفزع في سوق الأسهم في تركيا ، كما تسري مخاوف من امكانية عرقلة برنامج الاصلاح الاقتصادي الذي انفقت الحكومة في سبيله المليارات من الدولارات ، حيث حصلت على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة أربعة مليارات دولار خلال ثلاث سنوات.
       ان الأزمتين ، السياسية والاقتصادية التي تشهدها تركيا منذ العام الماضي (2001 ) ، قد انعكستا على الأزمة الحضارية أو بعبارة أدق المعوقات الحضارية ، والتي تعد من أهم المعوقات حيال انضمام تركيا للاتحاد الأوربي . ومن هنا يمكن القول بأن قلب تركيا شرقي لكن رأسها غربي ، ولهذا فأن أزمتها المتواصلة قد تتلخص في أزمة الهوية ، جناح في آسيا وآخر في أوربا ، الآ أنها تحاول باستمرار الطيران بجناح واحد صوب اوربا ، مما خلق حالة من الجدل حول الهوية ، والذي مازال مستمرا منذ ثمانية عقود مضت ، عندما اعتقد أتاتورك أنه بمجرد تغيير أحرف الكتابة واعتناق العلمانية دينا رسميا ، سوف يؤهل تركيا للانضمام بركب المدنية الغربية الأوربية
    يقول الدكتور محمد السعيد ادريس ( الخبير في مركز الدراسات الاستراتيجية في الأهرام):                                
" على الرغم من كل الجهود التي بذلت خلال السنوات الماضية من أجل تتريك تركيا أو انهاء كل الأرث الشرقي والاسلامي والسعي الدؤوب للحصول على عضوية الاتحاد الأوربي حتى الآن مازالت هناك مشكلة هوية تقسم المجتمع التركي ، بدليل أن الشارع التركي الآن يتجه نحو دعم الاسلاميين ودعم الأحزاب الاسلامية ، ورغم كل تدخل المؤسسة العسكرية لقمع التيار الاسلامي ، مازالت الهوية الاسلامية هي الغالبة على الانسان التركي ، ولذلك اعتقد أن هناك أزمة بنيوية داخل المجتمع التركي لايمكن أبدا بقرارات سياسية تحويرها أو تحويلها ولكن هي جزء من الضمير الداخلي المكون للشخصية الوطنية … وتركيا هي جسر بين حضارتين … الحضارة الغربية والحضارة الاسلامية ، واذا لم تستطع ان تقوم بدور الجسر الثقافي ، فسوف تظل تعاني من مشكلة الهوية بمعنى ان من الصعب فرض الهوية الاسلامية كاملة على تركيا ونسيان ان لها جذر أوربي ، وفي الوقت نفسه من الصعب جعل تركيا دولة أوربية كاملة ، ولكن يجب أن يكون هناك نوع من التوازن والاستقرار الداخلي في ادارة امور الدولة وفي بنية النظم السياسية الحاكمة والآ سوف تظل الأزمة الراهنة ممتدة رغم كل الطموحات في أن دخول تركيا الى الاتحاد الأوربي سوف يحل المشاكل التركية )) .
      ويعد هذا التحليل الواقعي لأهمية الموقع الجغرافي الحضاري ، لتركيا ، اجابة حول العديد من الدعوات الأوربية التي تطالب بعدم انضمام تركيا للاتحاد الأوربي ، باعتبار أن الأخيرة هو عبارة عن ( منظمة مسيحية أوربية ) ، حتى أنه يشكل عائق أساسي في عدم قبولها في الجماعة الأوربية ، لأن الأوربيين ينظرون اليها على أنها بلد آسيوي ، بل يذهب البعض أبعد من ذلك عندما يعد أن الموطن الطبيعي للأتراك هو سهوب آسيا الوسطى .
      وفي هذا الصدد ، وردت الكثير من الآراء على لسان مفكرين وساسة أوربيين ، عكست حالة الاختلاف الحضاري والثقافي بين أوربا وتركيا ، ومن الأمثلة على ذلك ، اللقاء الذي عقدته الأحزاب الديمقراطية المسيحية في دول الاتحاد الأوربي في الرابع من آذار / مارس 1977 ، حيث كان محطة حاسمة في قطع أي محاولة ، حول انضمام تركيا الى الاتحاد الأوربي من عدمه . لقد حضر الاجتماع سبعة من رؤساء الأحزاب الديمقراطية المسيحية التي شاركت فيه ، وقد حضره رؤساء حكومات كل من بلجيكا وألمانيا واسبانيا ولوكسمبورغ وايرلندا ونائب حكومة النمسا ، فضلا عن مشاركة رئيس اللجنة الأوربية ورئيس البرلمان الأوربي آنذاك ، مما يجعل آرائهم انعكاسا للموقف الأوربي .
    ان مايضفي على ذلك الاجتماع أهمية مضاعفة ، وخاصة ماورد على لسان ( الرئيس العام للأحزاب الديمقراطية المسيحية - ويلفريد ماتينز W. Martenez  ) عندما قال : " نحن نؤيد تعاونا مكثفا جدا مع تركيا ، ولكن مشروع أوربا هو مشروع حضاري " وكذلك فعل (ليوتيند يمانز Lewtend Yamanz  ) رئيس وزراء بلجيكا السابق عندما قال : " يوجد اختلاف حضاري بين تركيا وأوربا " وهذه النظرة تتفق مع ماذكره وزير الخارجية الألماني السابق                   ( كلاوس كينكن K. Gekan ) عندما قال : " أن الاتحاد الأوربي هو ناد لدول أوربية تشترك في أساس ثقافي مسيحي يهودي "
    وفي الجانب الآخر ، يقول الصحفي التركي ( ايلهان سلجوق A. salgok  ) " ان التفكير في تركيا خارج أوربا يسقط 200 سنة من تاريخها ، بحيث ، ان هذه المقاربة لايمكنها أن تحيا ، وأن مجالات الجذب خارج أوربا ضعيفة جدا ، سواء اردنا أم لم نرد ، ولمصلحة تاريخنا فأن مجال الجذب بالنسبة الى تركيا سيكون أوربا " .
      تبلورت منذ أواسط التسعينات ، في تركيا رؤية مستقبلية حول الانضمام للاتحاد الأوربي والذي يشكل هدفا رئيسا للقيادة السياسية ومعظم عناصر النخبة وكذلك الأوساط العلمانية . وعلى سبيل المثال ، أكد الرئيس التركي الأسبق ( سليمان ديميريل ) في حزيران / يونيو 1995 " ان العضوية في الاتحاد الأوربي ذات معنى خاص بالنسبة لتركيا التي تولي مكانة متميزة لأوربا في علاقاتها الأقتصادية والسياسية والثقافية ، وهي علاقات ذات جذور تاريخية ، وهذه العضوية لن تضفي فحسب أبعادا جديدة على هذه العلاقات الراسخة ولكنها ستدعم أيضا جهود الدولة التركية الحديثة في تجسيد وتحقيق قيم الحضارة المعاصرة …، ولهذا فان تركيا مصرة على الانضمام بشكل سليم الى العضوية الكاملة في الاتحاد الأوربي ، وتبذل جهودها لتجاوز مشكلاتها الأقتصادية والسياسية ولاينبغي لأحد أن تضلله مشكلاتنا العابرة فنحن نؤمن بأن بلادنا تملك القوة الأقتصادية الكافية لتحقيق الاندماج مع الاتحاد الأوربي )).
    ورغم هذه المحاولات التي قامت بها النخبة التركية منذ ثمانية عقود مضت ، لغرض تحقيق مشروعها الحضاري  من خلال التحاقها بالغرب وخاصة الاتحاد الأوربي الآ ان الموقف الأوربي يشوبه الالتباس حيال التوجه التركي وقد تفاقم الوضع بصورة استثنائية في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر 2001 حين تعرضتمراكز القرار السياسي والأقتصادي والأمني الأميركي لسلسلة من التفجيرات ، والتي اتسمت بالعداء العلني للمسلمين في الغرب عامة وفي أوربا خاصة وفي هذا الصدد ، يرى الباحث الدكتور محمد السعيد ادريس " ان الواقعية سوف تفرض نفسها عاجلا أم آجلا ، بمعنى أن العداء الغربي المستحكم لكل ماهو اسلامي وعلى الرغم من كل جهود الدول العربية والدول الاسلامية في الدعوة الى مايسمى بـ " حوار الحضارات " فأن الحضارة الغربية مازالت على استعلائها ومازالت تنظر الى الآخر بنوع من الدونية ، مازالت دعوة صراع الحضارات قائمة ، واعتقد أن مسألة التسامح الديني وغيرها من الدعوات يجب ان تكون مرتكزة بعوامل قوة ، أنا لاأتصور أبدا ان الغرب سوف يقبل بالتسامح مع الحضارة الاسلامية اذا لم يكن مضطرا الى مثل هذا التسامح ، واذا لم يحترم بعوامل معينة عوامل قوة وتفوق اسلامي ، الشعب التركي يواجه الأمرين في وجوده داخل الدول الأوربية والنزعة العنصرية تتزايد ضد المهاجرين "
     في مواجهة ذلك ، يحاول الأتراك طرح " انموذج معين للديمقراطية الاسلامية المعتدلة " في مواجهة النخبة العلمانية الحاكمة ، وضغط المؤسسة العسكرية التي تحكم العملية السياسية منذ ثمانية عقود مضت ، من جهة ، ومحاولتهم ابراز نموذجهم السياسي القائم على التوازن مابين التيارات الاسلامية والتيارات العلمانية من جهة أخرى .
    ان حالة التوازن هذه ، تطرح انموذج ( حزب العدالة والتنمية ) بزعامة ( رجب طيب أردوغان ) ، فهو يعبر عن الأهداف العليا للحزب بقوله " بأنها تتبلور في اصلاح مشاكل الداخل وتصحيح العلاقات غير المتكافئة مع العالم الخارجي . اذ أنه ربما كان الشخص الوحيد الذي تكاد القوى السياسية تجمع على مكانته السياسية ، فان تشديد أردوغان على استعادة هيبة تركيا تلقى صدى طيبا لدى الاتجاهات القومية التركية ، وهي مناورة تتسم بالذكاء البالغ حيث تمكن من اجتياز الفجوة التي تفصل بين القوميين والاسلاميين ، وربما يتجه العسكر التركي الى احتواء الحزب كتجمع مدني يعبر عن مصالح النخبة العسكرية ، وبذلك يسقط حجج اللجان الأوربية التي تتابع تطورات الأوضاع السياسية في تركيا التي رأت في وجود مجلس الأمن القومي التركي الذي يحتل العسكر نصف مقاعده ما يتنافى مع الديمقراطية الآ أن ماتجدر ملاحظته أن المحكمة الدستورية قد أصدرت قرارها بمنع ( أردوغان ) من الترشيح للانتخابات التشريعية القادمة في 3 تشرين الثاني مما تقدم ، يتضح ان سقوط الحكومة أو استمرارها ليس وليد تناقضات وحسابات داخلية فحسب ، بل هي محصلة لتطابق مصالح داخلية وخارجية قد تصب في نهاية المطاف في صالح الشعب التركي .
هـ: مرض اجويد وتأثيره على الأزمة السياسية
   تشهد تركيا ، ومنذ أوائل أيار / مايو 2002 ، أزمة سياسية أثر مرض رئيس الوزراء (بولند أجويد ) والبالغ من العمر 77 عاما ، والذي يعاني من مشاكل في العمود الفقري والرعاش والوهن العضلي وكسر في أحد أضلاعه فضلا عن بعض الاضطرابات المعوية الأمر الذي أدى الى غياب السلطة في البلاد لفترة ، ورغم تعدد أسباب الأزمة واختلافها ، فان مرض رئيس الوزراء يشكل العامل الرئيس في تفعيل الأزمة فقد كشفت وسائل الاعلام في الخامس من شهر أيار / مايو 2002 ولأول مرة ان رئيس الوزراء التركي ( أجويد ) كان قد دخل مستشفى ( باشكند Baskent ) التي نقل اليها يوم السبت الموافق الرابع من أيار / مايو 2002 للمعالجة من التهاب معوي بسيط حسبما أفاد الأطباء المعالجون . وبعد أقل من اسبوعين  ، عاد ثانية الى المستشفى المذكور وقد صرح مدير المستشفى البروفسور ( محمد هابرال Mohhemed Hapral ) للصحفيين قائلا " ان اجويد يعاني من كسر في أحد ضلوعه اليسرى بالاضافة الى معاناته من التهاب في الساق بعد تعرضه للسقوط )). وعند نهاية شهر أيار / مايو 2002 أكدت الصحف التركية أن بولند أجويد يعاني من مرض ( باركنسون ) وأوردت احتمال اصابته بمرض الرعاش والوهن العضلي وقالت الصحف التركية في مطلع شهر حزيران / يوليو 2002 ، ان رئيس الوزراء أجويد يعاني من مشاكل صحية أخطر من المصرح بها اعلاميا وكان قد تغيب عن اجتماع مهم للقيادتين المدنية والعسكرية بسبب تردي حالته الصحية  / حيث أوردت الصحف ووكالات الأنباء ، ان رئيس الوزراء ( أجويد ) يحكم بلاده من المستشفى حيث عقدت قمة ضمت زعماء الأحزاب الثلاثة المكونة للائتلاف الحكومي في المجلس الوطني التركي الكبير ( البرلمان ) ، فقد حضر القمة كل من ( دولت باغتشلي ) زعيم ( حزب الحركة القومية ) الشريك الثاني والرئيسي في الائتلاف و ( مسعود يلماظ ) زعيم حزب الوطن الأم الشريك الثالث في ائتلاف أجويد الحكومي ، وكان الغرض الرئيس من الاجتماع ، النظر في ملف تركيا للانضمام الى الاتحاد الأوربي .
      لقد انعكست الحالة الصحية المتردية لرئيس الوزراء التركي ( بولند أجويد ) على أداء الحكومة التركية وبالتالي على الائتلاف ، ففي مطلع شهر حزيران / يونيو 2002 اجتمع مجلس الوزراء التركي لأول مرة منذ ستة أسابيع بسبب المشاكل الصحية التي يعاني منها (أجويد) وترأس الاجتماع نائب رئيس مجلس الوزراء ( دولت باغتشلي ) . وكان قد أكد في وقت سابق بأنه يدعم بقاء ( أجويد ) في منصبه ، وانتقد مايتردد من اشاعات عن احتمال استقالته بسبب اعتلال صحته ، خاصة بعد ازدياد ، المطالبات باستقلاله بعدم حضوره اجتماعا لمجلس الأمن القومي يوم الخميس 30من شهر أيار / مايو 2002 .
   اختلفت الآراء بشأن أسباب الأزمة الحالية التي تعصف بالبلاد ، ومهما يكن من أمر ذلك ، فأن هنالك رؤيتان لأسباب الأزمة الوزارية والسياسية ، تنطلق الأولى من الدوافع والأسباب التي أدت ومن ثم صاحبت الأزمة الحالية والتي بدأت مع مرض ( أجويد ) ورفضه للتخلي عن منصبه ، والذي أدى بالوزراء البارزين في حزب اليسار الديمقراطي ، مثل اسماعيل جم وزير الخارجية ، وكمال درويش وزير الشؤون الأقتصادية ، وحسام الدين أوزكان نائب زعيم الحزب الى تقديم استقالتهم من الحزب . وأعقبها استقالة خمسة وزراء آخرين وتسعة وخمسين نائبا من حزبه . ونتج عن ذلك فقدان حكومة ( أجويد ) الائتلافية للأكثرية في المجلس الوطني التركي الكبير ، اذ كان يتراوح عدد أعضاء ذلك الحزب في أوائل صيف 2002 ، مائة وثمانية وعشرين نائبا مقابل مائة وسبعة وعشرين نائبا يمثلون ( حزب الحركة القومية ) وفي الوقت نفسه ، مارس زعيم الحزب الأخير ( دولت باغتشلي ) بعض الضغوط على ( أجويد ) بهدف اجراء انتخابات تشريعية مبكرة في البلاد ، لاسيما أن تلك الحكومة ، شهدت انقساما حادا بشأن قرار الاصلاحات السياسية المطلوبة من أجل بدء الحوار مع الاتحاد الأوربي لانضمام تركيا اليه ، وتستند هذه الاصلاحات على معايير ( كوبنهاكن ) والمتعلقة باحترام حقوق الانسان والديمقراطية وخصوصا الغاء عقوبة الاعدام ، ومنح  الكرد حقوقهم الثقافية .
       وتنطلق رؤية وتحليلات أصحاب ربط الأزمة التركية الحالية بالتطورات السياسية الراهنة في تركيا من أن الأزمة ترجع الى سببين :أولهما ، غياب عملية الحراك السياسي داخل حزب اليسار الديمقراطي ( الحاكم ) مما دفع بأولئك الوزراء الى الاستقالة ومحاولتهم تأسيس حزب سياسي جديد يستند على نفس المبادئ السياسية لحزب اليسار الديمقراطي ، وهي مبادئ أقرب على الاشتراكية الديمقراطية ويتمثل السبب الثاني : بوجود انقسام حقيقي داخل الائتلاف الحكومي بين المطالبين بالاسراع بتطبيق الاجراءات السياسية المطلوبة للانضمام للاتحاد الأوربي وبين الرافضين لهذه الاجراءات لأسباب سياسية وثقافية . ففي داخل الأئتلاف هنالك ( حزب الحركة القومي ) الذي يرفض بشكل قاطع الانضمام الى ذلك الاتحاد ، ويسعى لاستعادة المجد الطوراني من خلال انفتاح تركيا على مايطلق عليه ( العالم التركي ) والذي يشمل جمهوريات آسيا الوسطى التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي ( سابقا ) والتي تضم أقليات تركية وبأعداد كبيرة ، وبالتالي فأن هذا الحزب يفضل الاتجاه شرقا وليس غربا . فضلا عن ذلك ، أنه يطرح مخاطر ثقافية تتعلق بمشكلة الهوية عند الحديث عن الانضمام الى الاتحاد الأوربي . وفيما يتعلق بالحقوق الثقافية للأكراد فأن هذا الحزب يرفض منحه تلك الحقوق على اعتبار أنه لاتوجد أقلية كردية في تركيا ، وانما يطلق على هؤلاء " بأتراك الجبال "
ينظر أصحاب الرؤية الثانية لتلك الأزمة ، بتحليل أكثر شمولية ، على اعتبار أنها ، انعكاس لخلل بنيوي أصاب النظام السياسي التركي برمته ، وأدى ذلك ، الى أن أصبح هذا النظام يعيد انتاج أزمته منذ مايقرب من العشر سنوات بصورة دورية ، مما جعله يدور في حلقة مفرغة من الأزمات الحكومية ، وانهيار الائتلافات الحاكمة ، ثم اجراء الانتخابات العامة التي تأتي بمجلس وطني لايحقق السيطرة ولا النسبية بين الأحزاب ، وأن ذلك الخلل البنيوي مرتبط بأزمة الهوية التي تعاني منها تركيا ، خاصة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية عقد التسعينات وحتى الوقت الحاضر ، وأن أصحاب هذا الرأي ، يرون أن هذا الخلل سيستمر وبالتالي تستمر الأزمات السياسية الدورية حتى تحسم تركيا خيار الهوية ، وهذا ليس بالشئ السهل لأنه يحتاج الى أجيال من جهة والى عقد اجتماعي جديد  بين أطراف النخبة السياسية التركية من جهة أخرى .وأن أصحاب هذا الرأي هم الاسلاميون فضلا عن حزب الحركة القومية ، الذي سبقت الاشارة اليه . وهؤلاء يبحثون عن هوية جديدة منذ أن حظر قادة الجيش حراس الدستور الذي وضعه أتاتورك نشاط حزبهم ( الرفاه ) أو زعيمه ( نجم الدين أربكان ) سنة 1997 وهم الآن بقيادة تيارين : الأول تقليدي يمثله ( حزب السعادة ) بزعامة ( رجائي كوتان ) والثاني تحديثي يمثله ( حزب العدالة والتنمية ) بزعامة ( رجب طيب أردوغان ) ، ويعد الحزب الأخير ، كما تشير استطلاعات الرأي أن نسبة التأييد له تفوق نسبة (10%) من أصوات الناخبين للدخول الى المجلس الوطني الكبير .
      ويلتقى ( حزب العدالة والتنمية ) و ( حزب الحركة القومية ) على قاعدة الخوف على القيم الدينية والهوية من جراء الانضمام الى ذلك الاتحاد وعلى النقيض من ذلك يقف ( حزب الوطن الأم ) بزعامة ( مسعود يلماظ ) و ( حزب الطريق الصحيح ) بزعامة ( تانسو      تشيللر ) المتحمسان للانضمام للاتحاد الأوربي ، اذ صرح ( يلماظ ) في السادس عشر من تموز / يوليو " بأنه سيعمل جاهدا على دعوة  ( المجلس الوطني التركي الكبير ) للاجتماع في دورة استثنائية من أجل بحث الاصلاحات الضرورية لانضمام تركيا لذلك الاتحاد " .
     والجدير بالاشارة ان هذين الحزبين فقدا شعبيتهما بسبب تفشي الفساد والانتهازية في صفوفهما .  ونظرا للحالة التي وصلت اليها البلاد من جراء مرض ( أجويد ) ومانتج عنها من أزمة سياسية طاحنة ، والتي أدت الى انقسامات داخل الأحزاب السياسية المؤتلفة لابل  ونظرا لانقسام داخل ( حزب اليسار الديمقراطي ) - أكبر الأحزاب الائتلافية - ، وعلى الرغم من اصرار  ( أجويد ) على عدم تقديم موعد الانتخابات التشريعية والتي من المقرر اجراءها في نيسان / ابريل 2004 ، لكن تراجع حزبه الى الموقع الرابع بتسعة وستون مقعدا بعد  ( حزب الوطن الأم ) تسعة وسبعون مقعدا في المجلس الوطني التركي الكبير ، وبسبب استمرار توعك صحته فانه وافق أخيرا على تقديم موعد تلك الانتخابات في الثالث من تشرين الثاني / نوفمبر 2002 ، علما بأنه مقتنع تماما بأن حزبه سوف لن يفوز في الانتخابات المقبلة. وتشير استطلاعات الرأي ، أنه لو أجريت الانتخابات التشريعية حاليا ، فان حزب العدالة والتنمية سيفوز بالأغلبية في المجلس الوطني الكبير وسيحصل على 30%  أو يزيد من الأصوات وهذا يعني أكثر من 250 مقعد وأغلبيته تؤهله للأنفراد بالسلطة ، الأمر الذي يثير حنق المؤسسة العسكرية التركية التي تعد حامية للنظام العلماني الحالي في البلاد . وثمة رأي آخر يرشح حزب تركيا الجديدة والمشكل مؤخرا بزعامة (اسماعيل جيم ) ، لكن ذلك يحتاج الى فترة لاقناع الجمهور ببرنامجه الانتخابي .
الانتخابات التشريعية في تركيا(3 من تشرين الثاني 2002 )
        جرت الانتخابات التشريعية في تركيا في الثالث من تشرين الثاني 2002 باشتراك (18 ) حزبا في هذه الانتخابات وكما هو موضح في الجدول رقم (1) ، وقد جرت هذه الانتخابات في أعقاب أزمة اقتصادية عاشتها البلاد منذ بداية شباط 2001 واستمرت طوال عام 2002 ، وانعكست في ولادة أزمة سياسية تفاعلت مع مرض رئيس الوزراء التركي بولند أجويد مما سبب أزمة سياسية بين الأحزاب المشاركة في الأئتلاف الحكومي . اذ طالب حزب الحركة القومية برئاسة ( دولت بهجلي )بتقديم موعد الانتخابات فضلا عن استقالة عدد من وزراء حزب اليسار الديمقراطي من الوزارة وعدد من نواب الحزب من البرلمان في حين رفض رئيس الوزراء بولند أجويد تقديم استقالته وتقديم موعد الانتخابات وأصر على الاحتفاظ
بمنصبه واجراء الانتخابات في موعدها المقرر عام 2004.
        لقد جاءت نتائج الانتخابات متطابقة مع استطلاعات الرأي العام التي رجحت فوز حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري في هذه الانتخابات ، اذ حصل الأول بزعامة رجب طيب أردوغان على ( 263 ) مقعدا من مجموع مقاعد البرلمان البالغة ( 550 ) مقعد ، بعد حصوله على نسبة ( 29/34 % ) من اصوات الناخبين في حين حصل الثاني بزعامة دنيز بايكال على ( 178 ) مقعدا بعد حصوله على نسبة (39/19%) من أصوات الناخبين ، فيما فشلت بقية الأحزاب الرئيسية في تخطي نسبة الـ 10% التي تؤهلها دخول البرلمان وكما هو موضح في الجدول رقم (2)
        ويذكر أن رئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان قد منع من ترشيح نفسه في هذه الانتخابات بسبب الحكم الصادر عليه عام 1998 بالسجن لمدة 3 أشهر لأدانته بتهمة "التحريض على الحقد الديني " ، كما طالب مدعي محكمة أمن الدولة في تشرين الأول 2002 بحظر الحزب الآ أن مثل هذا القرار لن يتخذ قبل بضعة أشهر .
برنامج حزب العدالة والتنمية :
        طرح الحزب أثناء حملته الانتخابية برنامجه السياسي الذي أكد التزام الحزب بالنظام العلماني للدولة وعدم تحديه لهذا النظام في حال وصوله للسلطة مؤكدا بأن الحزب لن يدخل في مواجهة مع المؤسسات الدستورية للدولة ورافضا وصفه بالحزب الاسلامي من خلال تأكيده بأن الحزب هو مظلة تجمع جميع فئات المجتمع التركي المتدين منها وغير المتدين . وقد أوضح الحزب خلال هذه الحملة بأنه أعاد صياغة موقفه ليصبح في صف يمين الوسط المؤيد للعلمانية وتوجه تركيا التقليدي نحو الغرب ومؤيدا لحلف شمال الأطلسي وصندوق النقد الدولي ولأنضمام تركيا الى الاتحاد الأوربي . كما ركز الحزب أثناء الحملة على توفير فرص عمل جديدة وتوفير خدمات عامة أفضل للبلاد التي تعاني من أزمة اقتصادية التي أرجع أسبابها الى توالي الحكومات الفاسدة على السلطة .
نتائج الانتخابات وصداها :
        وعلى أثر اعلان نتائج الانتخابات سارع رئيس الحزب رجب طيب أردوغان الى التأكيد بأن حزبه على استعداد " للقيام بواجبه " وتولي حكم تركيا مبينا بأن الحزب في حالة تمكنه من تشكيل الحكومة بمفرده وعندئذ سيكون مستعدا  للجلوس مع صندوق النقد الدولي لمناقشة برنامج الانقاذ الأقتصادي الذي يدعمه الصندوق بقروض يصل حجمها الى ( 16 ) مليار دولار . كما أوضح أردوغان استعداد حزبه لتحمل مسؤولية بناء الارادة السياسية في الاسراع في عملية الانضمام الى الاتحاد الأوربي .
        وفي محاولة لتخفيف مخاوف العديد من المؤسسات التركية من أن الحزب يخفي برنامجا اسلاميا وسيعمل على ازالة القوانين العلمانية في تركيا أعلن رجب طيب أردوغان زعيم الحزب بالقول " سندع الشعب يطبق المبادئ العلمانية في تركيا ليس فقط الحديث عنها،سنطبق العلمانية طبقا لما هو منصوص عليه في الدستور "
        ان نتائج هذه الانتخابات قد لاتمثل نهاية للأزمة السياسية التي تعيشها تركيا حاليا بل قد تعمقها وتثير قلقا للمؤسسة العسكرية والقادة العلمانيين ، كما أنها قد تحمل بذور أزمة ممكنة مع الجيش رغم أن الحزب " لم يكف عن التأكيد مرارا على أنه ليس حزبا اسلاميا وأنه يحترم القواعد العلمانية للدولة " في ضوء اعلان المؤسسة العسكرية ممثلة برئيس الأركان العامة الجنرال ( حلمي أوزكوك ) في 29 تشرين أول 2002 عن أنه سيبقى عازما على " مكافحة الارهاب والعنصرية والتعصب الديني " ، كما أوضح رئيس الأركان أنه " يحترم ارادة الشعب الذي منح الفوز في الانتخابات الى حزب اسلامي معتدل " مؤكدا " أن النتائج تعكس ارادة الشعب وأنا أحترمها .
        أما صدى نتائج هذه الانتخابات على المستوى الدولي فقد تمثل في موقف كل من الولايات المتحدة واليونان والاتحاد الأوربي ، حيث أكد مساعد وزير الخارجية الأمريكي (مارك غروسمان ) في الرابع من تشرين الثاني 2002 رغبة بلاده في مواصلة تعاونها مع تركيا وعن أمله في مواصلة الاتحاد الأوربي تشجيع تركيا على بقاءها مرتبطة بالغرب من خلال تمديد موعد لبدء مفاوضات انضمام تركيا الى الاتحاد الأوربي موضحا في اعلانه هذا حق الأتراك في اختيار قادتهم .
        أما اليونان فقد عبّرت هي الأخرى عن رغبتها في التعاون والتحاور مع الحكومة التي سيؤلفها حزب العدالة والتنمية ، حيث أعلن وزير الدفاع اليوناني ( يانوس بابانتونيو ) في الرابع من تشرين الثاني 2002 عن أمل بلاده في اقامة علاقات ايجابية مع الحكومة المقبلة في تركيا مؤكدا أن بلاده ستدعم المسيرة الأوربية لتركيا ، مبينا أن فوز هذا الحزب يفتح فصلا جديدا على الساحة السياسية التركية ولمواصلة التعاون والحوار والبحث عن حلول للقضايا المشتركة بين البلدين 0
        أما بشأن موقف الاتحاد الأوربي من نتائج الانتخابات فقد توضح من خلال البيان الذي أصدرته المفوضية الأوربية الذي أعلن عن استعداد الاتحاد الأوربي للتعاون مع الاسلاميين وتمسكه باستمرار الاصلاحات التي بدأتها تركيا 0 كما أشار البيان الى أن المفوضية الأوربية تنتظر في تركيا تأكيد التزامها بشأن الاصلاحات حتى تحترم معايير الانضمام الى الاتحاد الأوربي 0
        وفيما يتعلق بالموقف العربي من نتائج الانتخابات ، فيمكننا القول أن العرب في مختلف أقطارهم ، وعلى مستوى الحكومات والشعب ، رحبوا بمجيء حزب العدالة والتنمية الى السلطة في جارتهم تركيا خاصة بعد أن سمعوا الكثير من تصريحات قادة الحزب ومواقفهم الايجابية وخاصو تجاه قضيتي فلسطين والتهديدات الأميركية بالعدوان على العراق ويعلق أحد المراقبين وهو خورشيد دلي في مقالته الموسومة : " الانتخابات التركية 00 انقلاب سياسي وسط تحديات محلية وأقليمية ودولية " المنشورة يوم 19 من تشرين الثاني 2002 ( ان مايهم العرب هو قدرة الحكومة الجديدة ، أولا على التخلص من ارث العلاقة العسكرية القومية مع ( اسرائيل ) والتي أخذت بالعلاقات التركية - العربية وثانيا في موقف هذه الحكومة من التهديد الأميركي بشن عدوان على العراق وقد عبر أردوغان ورئيس الوزراء الجديد ( عبد الله جول ) ووزير خارجيته ( يشار ياكيش ) عن استنكارهم لسياسة شارون في فلسطين وايمانهم بضرورة الاعتراف بحق الفلسطينيين  في تقرير المصير وكذلك معارضتهم لزج تركيا في أية حرب عدوانية أميركية ضد العراق  .
        وأخيرا يمكن الخروج بجملة من الملاحظات حول هذه الانتخابات وأهمها :
1.كثرة عدد الأحزاب المتنافسة فيها حيث وصل عددها الى (18) حزب توزعت اتجاهاتها بين أقصى اليمين الى أقصى اليسار .
2.فشل الأحزاب الرئيسة في الحصول على نسبة الـ 10% من الأصوات التي تؤهلها لدخول البرلمان ، في مقابل نجاح حزبين فقط في دخول البرلمان وهما حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري وهذه هي المرة الأولى التي يتمكن فيها حزبان فقط من دخول البرلمان منذ انتخابات عام 1958 ، كما أنها المرة الثانية التي يتمكن فيها حزب واحد عن تشكيل الحكومة بمفرده في تركيا منذ تشكيل توركوت أوزال الحكومة بمفرده ممثلا بحزب الوطن الأم بعد انتخابات عام 1983 . قدم الحزب أعضاء الوزارة بعد قيام رئيس الجمهورية بتكليف الحزب بتشكيل الوزارة التي أسندت الى نائب رئيس الحزب عبد الله جول الذي نجح في تقديم أعضاء وزارته الى رئيس الجمهورية في الثامن عشر من تشرين الثاني 2002 0
3.أدى فشل الأحزاب الرئيسة في هذه الانتخابات الى تقديم رؤساء هذه الأحزاب الى تقديم استقالتهم من رئاسة هذه الأحزاب . اذ قدم بولند أجويد استقالته من زعامة حزب اليسار الديمقراطي ، كما قدم دولت بهجلي استقالته من زعامة حزب الحركة القومي ، كما قدم مسعود يلماز رئيس حزب الوطن الأم استقالته من رئاسة الحزب ، فضلا عن تقديم تانسو جيللر زعيمة حزب الطريق القويم استقالتها من رئاسة الحزب 0
جدول رقم (1)
في انتخابات 3 تشرين الثاني 2 – 2002
ت
الحزب
اتجاهه السياسي
1.
الحزب الشيوعي التركي
يسار
2.
حزب اليسار الديمقراطي
يسار وسط
3.
حزب الشعب الديمقراطي
يسار وسط
4.
حزب السعادة
اسلامي
5.
حزب الحرية والتضامن
يسار
6.
حزب الوحدة الكبرى
قومي متشدد
7.
حزب الوطن الأم
يمين الوسط
8.
حزب تركيا المستقلة
قومي متشدد
9.
حزب العدالة والتنمية
اسلامي معتدل
10.
الحزب اللبرالي الديمقراطي
وسط
11.
حزب الوطن
يمين الوسط
12.
حزب الأمة
يمين الوسط
13.
حزب الحركة القومية
قومي متشدد
14.
حزب تركيا الجديدة
يسار الوسط
15.
حزب الشعب الجمهوري
يسار الوسط
16.
حزب الطريق الصيح
يمين الوسط
18.
حزب الشغيلة
يسار متطرف
19.

الحزب الفتي

يمين ( شعبوي )


جدول رقم (2)
نتائج الأنتخابات البرلمانية 3شرين الثاني – 2002

ت

الحزب
نسبة الأصوات%
عدد المقاعد
1.
حزب العدالة والتنمية
29/34%
363
2.
حزب الشعب الجمهوري
39/19%
178
3.
حزب الطريق الصحيح
5/9%
----
4.
حزب الحركة القومية
3/8%
----
5.
حزب الوطن الأم
1/5%
----
6.
حزب السعادة
5/2%
----
7.
حزب اليسار الديمقراطي
2/1%
----
8.
المستقلين

09

المجموع

550

تشكيلة الحكومة التركية الجديدة
               
   ت
اسم الوزير
المنصب
1.
عبد الله جول
رئيسا للوزراء
2.
عبد اللطيف شينر
نائب رئيس الوزراء
3.
4.
5.
6.
شاهين أرتوغرول باتشينباير
محمد علي آيدن بشير
اطلاع علي باباجان
كورسات توزمن 
وزراء دولة

7.
يشار ياكيش
وزيرا للخارجية
8.
علي كوشكون
وزيرا للصناعة والتجارة
9.
 عبد القادر أكسو
وزيرا للداخلية
10.
سامي غوتشلو
وزيرا للزراعة
11.
زكي أرغيزن
وزيرا للأسكان
12.
كمال أو ناتيكان
وزيرا للمالية
13.
رجب أكدا
وزيرا للصحة
14.
وجدي غونول
وزيرا للدفاع
15.
جميل تشيتشيك
وزيرا للعدل
16.
بينالي يلدرم
وزيرا للاتصالات
17.
عثمان بيبي
وزيرا للغابات
18.
حلمي غولر
وزيرا للطاقة
19.
أركان مومجو
وزيرا للتربية
20.
مراد باشغيلو
وزيرا للعمل
21.
غوردال أكسيت
وزيرة للسياحة
22.
حسن تشيليك
وزيرا للثقافة
23.
أمداد سوتلوغو
وزيرا للبيئة
24.
علي بابا جان
وزيرا للأقتصاد




 
  

     





        

 










  
       

                                                             
          
               
                                 
                   
              
           
                              


         
         
                     
  







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 ...............أ.د إبراهيم خليل العلاف

                                                            الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 أ....