عبد الباري عطوان يكتب عن مقابلة طارق عزيز مع علي الدباغ *
*******************************************
تابعت مثل الكثيرين غيري مقابلة السيد طارق عزيز وزير الخارجية العراقي المخضرم التي اجراها السيد علي الدباغ المتحدث باسم حكومة ‘العراق الجديد’ سابقا، معه داخل سجنه، وبثتها قناة ‘العربية’ على حلقتين 20-4-2013لعلي اجد فيها معلومات ووقائع واسرارا تاريخية جديدة، لكن الحصيلة كانت مخيبة للآمال، آمالي انا على وجه الخصوص.
السيد الدباغ الذي اتهم باستخدام نفوذه، وصفته الحكومية للوصول الى الرجل في سجنه، وهو المحكوم بالاعدام في محكمة تفتقر كليا للحد الادنى من الاستقلالية وقيم العدالة، كان يتحدث مع الرجل كخصم، وليس كباحث او موثق لوقائع تاريخية مثلما قال في مقدمة الحلقة الاولى. ولم يكن محاورا موضوعيا، واراد ان يجرّم حكم الرئيس العراقي صدام حسين.
السيد عزيز الذي بدا رجلا متواضعا مستسلما لقدره، اظهر وفاء لقائده غير معهود لدى الكثيرين هذه الايام، خاصة في عراق اليوم، ولم يقل عنه كلمة سيئة واحدة، ولو كان انتهازيا ناكرا للجميل لما ظل خلف القضبان حتى هذه اللحظة.
تحدث بموضوعية عن بناء العراق في المجالات كافة، العسكرية والعلمية والاجتماعية، في فترة الثمانينات وقبلها، بحيث اصبح بلدا قويا مهابا وقوة اقليمية عظمى، وحصل على جائزة اليونسكو بسبب القاعدة العلمية التي ترسخت على صورة جامعات ومعاهد حديثة تحتوي على اجهزة غير موجودة الا في الغرب، واستطاع ان ‘يجتث’ الأمية من جذورها.
امتعض وجه السيد الدباغ والسيد عزيز يتحدث عن هذه الانجازات، بينما كان يحاول انتزاع اعتراف من ضيفه بوجود اسلحة الدمار الشامل العراقية، وهي الأكذوبة التي استخدمت لتدمير العراق وقتل مليون من ابنائه وتيتيم اربعة ملايين طفل وتمزيق وحدته الوطنية والترابية على اسس طائفية.
امتعض وجه السيد الدباغ اكثر عندما اكد السيد عزيز ان رئيسه كان ضد اسرائيل ويريد هزيمتها كإنسان عربي مسلم، وقال انه ايضا يشاطره الكراهية نفسها، واكد اي السيد عزيز، ان التعايش مع اسرائيل مرفوض، وانه يجب مواجهتها عسكريا.
السيد عزيز اكد طوال المقابلة انه كإنسان وطني عراقي رفض ان يغادر العراق أثناء الحصار او اثناء الحرب، وقال بكل ثقة ‘انا عراقي مصيري مع العراق’.
‘ ‘ ‘
لم يتردد في الاعتراف بان صدام حسين اخطأ في احتلال الكويت، ولكنه شرح في الوقت نفسه الدوافع التي دفعته الى اتخاذ هذه الخطوة مثل سرقة النفط العراقي، واغراق الأسواق بفائض كبير مما ادى الى انخفاض الاسعار الى ما تحت العشرة دولارات للبرميل.
لم يتذلل السيد عزيز، ولم يطلب الرحمة والعفو، رغــــم انه تــــأذى من السجن، وما اجمل مقولته عندما قال وهو السجين ‘لا تسوى الحياة ان يتنازل الانسان عن كرامته ووطنيته.. سأظل عراقـــيا الى آخر العمر’.
"نادرا ما نسمع مثل هذه المفردات والجمل هذه الايام في اجزاء كثيرة من عالمنا العربي، مع استثناءات محدودة جدا.. نادرا ما نسمع رجلا يقول امام واحد كان مسؤولا يمثل حكومة انبثقت من رحم الاحتلال، ويكنّ كراهية وثأرا للنظام السابق ‘كان صدام حسين اسدا وهو يتقدم الى حبل المشنقة’، وان القاضي الذي حكم بإعدامه كان ينطلق من احقاده، على عكس القاضي الكردي الذي سبقه ( القاضي الاستاذ رزكار محمد أمين ) الذي انسحب ..."
المحاور السيد الدباغ اراد من خــــلال اسئلته، التي لم تعدّ بطريقة مهنية، ولم تكشف عن اي بحث معمق في المرحلة التــــي اراد محاكمـــتها من خلال لقائه مع الرجل، وكانت اسئلة عفوية اقرب الى الارتجالية، ان يدفع السيد عزيز الى القبول بالتعايش مع اسرائيل، بطريقة او بأخرى، وان يدين اطلاق صواريخ سكود باتجاه فلسطين المحتلة، ولكن الرجل، رغم تقدمه في السن، كان متمسكا برأيه ووطنيته ولم يتردد في القول ‘بان هناك دورا صهيونيا يستهدف العراق كدولة وكيان’.
السيد عزيز الذي كان يمثل وجه العراق الحضاري المشرق، وسفيره الكفؤ في العالم الخارجي، كان يمثل التعايش بين قطع الفسيفساء العراقية الجميلة، ولم ينخرط مطلقا بأعمال القتل والتعذيب التي مارستها اجهزة المخابرات العراقية، وبعض قادتها الذين ولغوا في الدم وشوّهوا صورة العراق.
‘ ‘ ‘
لم اقابل طارق عزيز في حياتي، ولكن من قابلوه يقدّمون صورة لرجل كان يحب العراق بكل مكوناته، ولــــم يؤذ بعوضة في حياته، واكد على ذلك في تلك المقابلة، او حلقتــها الاولى على وجه التحديد، واعتقاله ومن ثم بقاؤه خلف القضــــبان طوال هذه السنين، وهو الرجل المسن المريض، هو بسبب وفائه، وخوفا من كنز الاسرار الذي يملكه، ويمكن ان يدين امريكا ونفاقها وكراهية حكوماتها للعرب والمسلمين.
كنت انتظر ان اسمع كلمة واحدة منه ضد رئيسه، او ندما ولو بسيطا لخدمة بلده العراق ورئيسه في حينها، ولكنه كان رجلا صلبا متمسكا بقيمه ومعتقداته، لا يتردد ان يدين ‘العراق الجديد’ الذي وعدنا الرئيس جورج بوش الابن ان يكون نموذجا في الديمقراطية والرخاء والتعايش، عندما قال وبكل ادب ‘اتمنى لو لم ينحدر العراق الى ما انحدر اليه حاليا’.. وامام منّ، امام احدى الشخصيات التي عملت لسنوات لتجميل وجهه، وليّ عنق الحقيقة البشعة على الارض.
كلمات طارق عزيز التي قال فيها ‘لا تسوى الحياة ان يتنازل الانسان عن كرامته ووطنيته.. وسأظل عراقيا الى آخر العمر’، هي اجمل ما جاء في هذه المقابلة، ويجب ان تدرّس لاطفال عراق اليوم.........."
*******************************************
تابعت مثل الكثيرين غيري مقابلة السيد طارق عزيز وزير الخارجية العراقي المخضرم التي اجراها السيد علي الدباغ المتحدث باسم حكومة ‘العراق الجديد’ سابقا، معه داخل سجنه، وبثتها قناة ‘العربية’ على حلقتين 20-4-2013لعلي اجد فيها معلومات ووقائع واسرارا تاريخية جديدة، لكن الحصيلة كانت مخيبة للآمال، آمالي انا على وجه الخصوص.
السيد الدباغ الذي اتهم باستخدام نفوذه، وصفته الحكومية للوصول الى الرجل في سجنه، وهو المحكوم بالاعدام في محكمة تفتقر كليا للحد الادنى من الاستقلالية وقيم العدالة، كان يتحدث مع الرجل كخصم، وليس كباحث او موثق لوقائع تاريخية مثلما قال في مقدمة الحلقة الاولى. ولم يكن محاورا موضوعيا، واراد ان يجرّم حكم الرئيس العراقي صدام حسين.
السيد عزيز الذي بدا رجلا متواضعا مستسلما لقدره، اظهر وفاء لقائده غير معهود لدى الكثيرين هذه الايام، خاصة في عراق اليوم، ولم يقل عنه كلمة سيئة واحدة، ولو كان انتهازيا ناكرا للجميل لما ظل خلف القضبان حتى هذه اللحظة.
تحدث بموضوعية عن بناء العراق في المجالات كافة، العسكرية والعلمية والاجتماعية، في فترة الثمانينات وقبلها، بحيث اصبح بلدا قويا مهابا وقوة اقليمية عظمى، وحصل على جائزة اليونسكو بسبب القاعدة العلمية التي ترسخت على صورة جامعات ومعاهد حديثة تحتوي على اجهزة غير موجودة الا في الغرب، واستطاع ان ‘يجتث’ الأمية من جذورها.
امتعض وجه السيد الدباغ والسيد عزيز يتحدث عن هذه الانجازات، بينما كان يحاول انتزاع اعتراف من ضيفه بوجود اسلحة الدمار الشامل العراقية، وهي الأكذوبة التي استخدمت لتدمير العراق وقتل مليون من ابنائه وتيتيم اربعة ملايين طفل وتمزيق وحدته الوطنية والترابية على اسس طائفية.
امتعض وجه السيد الدباغ اكثر عندما اكد السيد عزيز ان رئيسه كان ضد اسرائيل ويريد هزيمتها كإنسان عربي مسلم، وقال انه ايضا يشاطره الكراهية نفسها، واكد اي السيد عزيز، ان التعايش مع اسرائيل مرفوض، وانه يجب مواجهتها عسكريا.
السيد عزيز اكد طوال المقابلة انه كإنسان وطني عراقي رفض ان يغادر العراق أثناء الحصار او اثناء الحرب، وقال بكل ثقة ‘انا عراقي مصيري مع العراق’.
‘ ‘ ‘
لم يتردد في الاعتراف بان صدام حسين اخطأ في احتلال الكويت، ولكنه شرح في الوقت نفسه الدوافع التي دفعته الى اتخاذ هذه الخطوة مثل سرقة النفط العراقي، واغراق الأسواق بفائض كبير مما ادى الى انخفاض الاسعار الى ما تحت العشرة دولارات للبرميل.
لم يتذلل السيد عزيز، ولم يطلب الرحمة والعفو، رغــــم انه تــــأذى من السجن، وما اجمل مقولته عندما قال وهو السجين ‘لا تسوى الحياة ان يتنازل الانسان عن كرامته ووطنيته.. سأظل عراقـــيا الى آخر العمر’.
"نادرا ما نسمع مثل هذه المفردات والجمل هذه الايام في اجزاء كثيرة من عالمنا العربي، مع استثناءات محدودة جدا.. نادرا ما نسمع رجلا يقول امام واحد كان مسؤولا يمثل حكومة انبثقت من رحم الاحتلال، ويكنّ كراهية وثأرا للنظام السابق ‘كان صدام حسين اسدا وهو يتقدم الى حبل المشنقة’، وان القاضي الذي حكم بإعدامه كان ينطلق من احقاده، على عكس القاضي الكردي الذي سبقه ( القاضي الاستاذ رزكار محمد أمين ) الذي انسحب ..."
المحاور السيد الدباغ اراد من خــــلال اسئلته، التي لم تعدّ بطريقة مهنية، ولم تكشف عن اي بحث معمق في المرحلة التــــي اراد محاكمـــتها من خلال لقائه مع الرجل، وكانت اسئلة عفوية اقرب الى الارتجالية، ان يدفع السيد عزيز الى القبول بالتعايش مع اسرائيل، بطريقة او بأخرى، وان يدين اطلاق صواريخ سكود باتجاه فلسطين المحتلة، ولكن الرجل، رغم تقدمه في السن، كان متمسكا برأيه ووطنيته ولم يتردد في القول ‘بان هناك دورا صهيونيا يستهدف العراق كدولة وكيان’.
السيد عزيز الذي كان يمثل وجه العراق الحضاري المشرق، وسفيره الكفؤ في العالم الخارجي، كان يمثل التعايش بين قطع الفسيفساء العراقية الجميلة، ولم ينخرط مطلقا بأعمال القتل والتعذيب التي مارستها اجهزة المخابرات العراقية، وبعض قادتها الذين ولغوا في الدم وشوّهوا صورة العراق.
‘ ‘ ‘
لم اقابل طارق عزيز في حياتي، ولكن من قابلوه يقدّمون صورة لرجل كان يحب العراق بكل مكوناته، ولــــم يؤذ بعوضة في حياته، واكد على ذلك في تلك المقابلة، او حلقتــها الاولى على وجه التحديد، واعتقاله ومن ثم بقاؤه خلف القضــــبان طوال هذه السنين، وهو الرجل المسن المريض، هو بسبب وفائه، وخوفا من كنز الاسرار الذي يملكه، ويمكن ان يدين امريكا ونفاقها وكراهية حكوماتها للعرب والمسلمين.
كنت انتظر ان اسمع كلمة واحدة منه ضد رئيسه، او ندما ولو بسيطا لخدمة بلده العراق ورئيسه في حينها، ولكنه كان رجلا صلبا متمسكا بقيمه ومعتقداته، لا يتردد ان يدين ‘العراق الجديد’ الذي وعدنا الرئيس جورج بوش الابن ان يكون نموذجا في الديمقراطية والرخاء والتعايش، عندما قال وبكل ادب ‘اتمنى لو لم ينحدر العراق الى ما انحدر اليه حاليا’.. وامام منّ، امام احدى الشخصيات التي عملت لسنوات لتجميل وجهه، وليّ عنق الحقيقة البشعة على الارض.
كلمات طارق عزيز التي قال فيها ‘لا تسوى الحياة ان يتنازل الانسان عن كرامته ووطنيته.. وسأظل عراقيا الى آخر العمر’، هي اجمل ما جاء في هذه المقابلة، ويجب ان تدرّس لاطفال عراق اليوم.........."
* https://www.facebook.com/alifabaa
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق