"ذكريات امرأة عراقية والتقرير الاخير " رواية نجاة نايف سلطان
ا.د.ابراهيم
خليل العلاف
استاذ
التاريخ الحديث –العراق
ليست "ذكريات امرأة عراقية :التقرير
الاخير " الرواية الاولى للكاتبة والشاعرة والروائية المقتدرة العزيزة الاخت
نجاة نايف سلطان ، والتي صدرت عن دار الوراق مؤخرا واهدتني –مشكورة –نسخة منها هي
الرواية الاولى لها ..بل سبق لها أن اصدرت سنة 2002 روايتها "سلاما ياوفاء
" كما انني عرفتها كاتبة في جريدة الثورة (البغدادية ) مهتمة بالشؤون
التربوية منذ سنة 1987 وقبل ذلك بعشر سنوات كانت دؤوبة على الترجمة اذ اصدرت سنة
1968 بعض القصص عن اللغة الانكليزية ،ونشرتها في مجلة "العاملون في النفط
" ..ولها مجموعة شعرية بعنوان :" نجوى والنهر " نشرت ببغداد سنة
1987 كما اصدرت مجموعة شعرية اخرى بعنوان
" ماقبل العصور " .ولديها تحت
النشر اعمالا اخرى منها " همسات الناي " و"شذى الازهار في اغان
للصغار " .
والكاتبة والشاعرة والروائية نجاة نايف سلطان
من "بلدياتي " كما يقول الاخوة المصريين فهي موصلية تكبرني بسبع
سنين وانا من مواليد سنة 1945 .عملت معلمة
بعد اجتيازها الثانوية العامة والدورة التربوية في السنة الدراسية 1954 -1955
.كانت مدارس الحلة مكان انطلاقتها الاولى وابتدأت في الخامس من شهر تشرين الاول
سنة 1955 ..كانت طموحة فأكملت دراستها في معهد الادارة العامة –جامعة بغداد سنة
1960 ودرست العلاقات الدولية في "جامعة قائد أعظم " في اسلام اباد
بالباكستان وحصلت على بكالوريوس في ادارة الاعمال من كلية الادارة والاقتصاد –جامعة
بغداد سنة 1984 .انتهى بها الامر قبل ان تحيل
نفسها على التقاعد سنة 1984 مشرفة تربوية اولى في تربية الكرخ ببغداد .
اذا هي رحلة طويلة اقصد رحلة حياة طويلة لم
تدعها نجاة نايف سلطان تمر دون ان تسجلها وتوثقها لهذا أزعم بأنني قرأت عبر
روايتها : "التقرير الاخير وذكريات امرأة عراقية " تاريخ العراق المعاصر
روائيا وهاهي تقترب في هذا التوجه من أجواء روائيين كبيرين أرخا للعراق الحديث
والمعاصر هما فؤاد التكرلي ، وعبد الخالق الركابي ..
لقد احسست بأني لاأقرأ تاريخ العراق بقدر ما أعيش
أحداثه وجدانيا ،وتذكرت استاذنا المؤرخ
والفيلسوف البريطاني ايمري نف في كتابه :" المؤرخون وروح الشعر " عندما
يطلب من المؤرخ ان يعيش العصر الذي يكتب عنه وجدانيا لتكون كتابته ذات مصداقية
عالية .
انطلقت نجاة نايف سلطان(هند ) توثق لسيرة حياتها منذ ولادتها في مدينة الموصل
الحدباء في نهاية العقد الثالث من القرن الماضي ، وانتقالها إلى مدن عراقية أخرى
كالحلة وبغداد وغيرهما وما مرت به من أحداث وكانت شاهد عيان عليها ، وقريبة جدا من
رجال صنعوا تاريخ تلك الحقبة التي عاشتها ، وكذلك رحلاتها إلى بلدان عديدة قبل أن تضطر
أبان احتدام العنف الطائفي إلى الهجرة خارج العراق واستقرارها في ولاية يوتا
الأمريكية حالياً .
تميزت روايتها من انها تأسست في بنيانها الدرامي على اسطورة يتداولها الناس في الموصل تتعلق
بسر تماثيل الاشوريين ومنحوتاتهم العظيمة ومنها
:"الثور المجنح " والذي كان مدفونا قبل ان يخرجه رجال الاثار في تل قريب
من اسوار العاصمة الاشورية نينوى واسم هذا التل تل قوينجق ..
نينوى الاثمة التي كفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس
الجوع والخوف بماكانوا يصنعون ..وقوم يونس افرطوا في الترف وبطروا واستخفوا بنعمة
الله وهم ان يدعو عليهم صاحب الحوت يونس
لكنهم تابوا الى الله وهم واقفين عليه فقبل الله توبتهم وكشف عنهم العذاب :" فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا
عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ".
بعد التوبة عاش الناس سعداء واصبحت المدينة
ترفل بالعز والرخاء على مدى سنين ..وسرحت نجاة نايف سلطان وهي تستعيد ايام عز
الموصل وتتمنى ان يكون اسمها هند ومدرسة اللغة العربية في "ثانوية الموصل
للبنات " الست فضيلة اسحاق تقرأ قصيدة الشاعر عمر بن ابي ربيعة :
ليت
هند أنجزتنا ما تعد
وشفت
انفسنا مما نجد
واستبدت
مرة قائلة
انما
العاجز من لايستبد
واخذت تقول مع نفسها :"لقد كنت دائما
اشعر بالغيظ عندما يقولون ان التاريخ يكتبه الاقوياء " ..وهاهي الان تكتب
التاريخ وهي في ادنى درجات الضعف وتعود من غفوتها لتقرر:" يا للغرور ! عفوا
،انا لااكتب تاريخ أي كان ، ولكني ألملم بعض الخيوط لاتحدث عن نفسي امام ذاتي
والاخرين " .
تبدأ مع امها وحولها جاراتها وامامها سماور
الشاي اللامع وفوقه القوري ورائحة الهيل تتصاعد وتحدق بوجه امها ..أم البنات سهى
ووداد ومجد وابوهما ضابط في الجيش العراقي ..كان ضابط تجنيد في تلعفر يوم حدثت
حركة رشيد عالي الكيلاني سنة 1941 وثار الجيش على المستعمرين البريطانيين وعلى
اذنابهم ممن حكم العراق..كانت مشكلة الاب موقفه من الحكومة .. كان يكره الحكومة
ويؤيد كل من يثور عليها لذلك طرد من الجيش بعد فشل حركة 1941 ووجد له مكانا في
دوائر التموين ..عين مأمور مخزن تموين في العمادية وهناك تزوج وهو العربي الموصلي
من فتاة عمادية كردية .ليس هو فقط من فعل هذا فالموصل لها علاقات مع المدن الكردية
الشمالية وقلما تجد اسرة موصلية لم تتناسب او تتصاهر مع الاسر الكردية ومن هنا كان
لنسيج الموصل المتنوع المتشابك نكهة .. وايما نكهة .اصبح الناس يسمون والدها
بسيدارته الفيصلية التي شاعت انذاك وارادها الملك فيصل الاول مؤسس الدولة العراقية
الحديثة ان تكون لباس الرأس لكل العراقيين اصبحوا يسمونه "عبد الله افندي
" أو أبو سهى .
وتمسك الكاتبة بتلابيب ذاكرتها بصور اشد وضوحا هي واخت اصغر
منها تلعب في سطح الدار .كان والدها يعشق الكتب ،ويحدث بناته بسعادة عن حياته في
الجيش وكيف انه تعلم الانضباط ، والنظام ، والصبر والاخلاص للوطن. ويقول ان الجيش العراقي - بحق - مصنع الرجال .اخذت البطلة تشعر
بقيمة الكتاب وما له من اهمية وبغياب الاب صار للاخت الكبرى (سهى ) مكانة في الدار
خاصة وانها تحملت مسؤولية اخواتها فكانت تخيط لهم الملابس الجميلة وتأخذهن الى
بيوت صديقاتها والى "السرجخانة " و" وقيصرية المفتي " .
وحدثت النقلة في حياة البطلة عندما انتهت
اختها من دراستها في ثانوية الموصل واستعدت للذهاب الى بغداد للدراسة في كلياتها
.كانت سهى نقطة مضيئة في حياة عبد الله افندي ..كان يعدها بأكمال دراستها الجامعية
وكان يسمح لها بأرتياد السينما مع صديقاتها ..رأت افلام " دنانير" و" سلامة " و" غرام " و"
انتقام " ..كانت تتمتع بشخصية قوية محببة واسرة ولها ذوق عال ، وجمال مميز
وكلنت تلبس العباءة والبوشية اللباس النسائي الشائع في الموصل ابان الاربعينات من
القرن الماضي .
الشيئ الجميل ان البطلة سمعت من اختها أسماء
الشعراء والكتاب الكبار. كما عرفت بأن اختها معبأة بالروح الوطنية الثائرة مثل
ابيها ..سمعت بقصة مطالبة الاتراك بالموصل وكيف ان المشكلة عرضت على عصبة الامم
وصارت موضع نزاع دولي انتهى سنة 1926 بصيرورة الموصل جزءا لايتجزأ من العراق ..
التحقت سهى بكلية الملكة عالية في بغداد سنة 1948 وعاشت فترات الانفجار والغضب
الشعبي ضد معاهدة بورتسموث الجائرة .كانت رسائلها الى اهلها في الموصل جميلة فيها
الكثير مما يثير الدهشة ..القسم الداخلي –النادي –هذا الاختلاط بين الطالبات
القادمات من كل مدن العراق ..الحديث عن الاساتذة الكبار :عبد العزيز الدوري ، وزكي
مبارك ..حدثت اهلها عن كيف انها كانت تدندن لزميلاتها في القسم الداخلي الاغاني
"احبابنا ياعين " و"حول ياغنان حول " .حدثتهم عن انبثاق اول
اتحاد للطلبة يؤسس في العراق وكيف انها مثلت كليتها في هذا الاتحاد وارسلت لاهلها
صورها الى جانب الوصي على عرش العراق الامير عبد الاله ، والحبيب بورقيبة والامام
البدر ووزير المعارف الشيخ محمد رضا الشبيبي عند زيارتهم للكلية .اشتركت سهى
في وثبة كانون الثاني 1948 وعوقبت من قبل
عميدة الكلية الدكتورة امت السعيد التي همت بتسليمها للشرطة بأعتبارها المحرضة على
التظاهر في كليتها وتضاعفت الكفالة عليها وحزن ابوها وقدمت تعهدا خطيا بالا تقوم
بأعمال شغب ضد الحكومة .وجاء المهندس مؤيد وهو من اسرة بغدادية ليخطبها وكان
استاذا للرياضيات في كليتها وتزوجت وانسحبت الى جو أسري جديد شغلها عن السياسة وان
عجز عن ان يقمع مشاعرها الوطنية والقومية
الجياشة
كان مؤيد يرى بأن الامة بحاجة الى العلم
لاالى الشعارات وكان منظما يتصفح الجرائد يوميا .. يقرأ " الزمان " و"
البلاد" و" بغداد اوبزرفر"
ويضحك على كاريكاتير مستر ومس تامبل وقد
انبهرت (البطلة) به وبسلوكه الغربي عند
مجيئها الى بغداد في العطلة .تقول ان بغداد "تبهرني كثيرا بسعة اسواقها
وشوارعها وسيارات الامانة الانكليزية
الحمراء اللون ذات الطابقين ودور السينما ومكتبة دار العلوية " .
ظلت سهى الاولى في الاسرة والوحيدة بتلك
المكانة الرفيعة ، وان كانت الاسرة ستضم سبع من البنات وثلاثة من الاولاد ..وداد
انهت الدورة التربوية في الموصل وعملت معلمة في مدرسة حمام العليل ومجد الثالثة في
ترتيب الاخوات كانت مجد تكبر البطلة بخمس سنوات
ولم تكن كالبطلة في كره المدرسة
..تقول البطلة انها كانت تسعد كثيرا في سيرها في شارع نينوى بدأ من سوق السرجخانة ."كانت
تحدق في واجهة باتا وتحدق في قبقاب كبير معلق في اعلى " مخزن نايف بهنو"
ثم تتوقف امام مخزن " اي بي سي"
وكان شارع النجفي اي شارع المكتبات يبدو
لها عالما جميلا بواجهات مكتباته الكبيرة واخذت مجد تعلمها اللغة الانكليزية وكانت
تسمح لها ان تجرب قلم الفوراج الخاص برسوم النبات والحيوان كما كانت تطلب منها
الست "فضيلة دنو " .
وتستعيد البطلة ذكرياتها
عن دار اسرتها وكان الى جانب زقاق صغير يؤدي الى نهر دجلة الخالد .."كان دجلة
يسحرنا في طفولتنا ، البنات في محلتنا يتجمعن حول صخرات الشاطئ للتسلية اكثر مما
يظهرن اهتمامهن بغسل الملابس وهن يتضاحكن ويبادلن الحديث ويدعكن الملابس بالخاطور
".كانت سهى ووداد تشاركن بنات الحي بالذهاب الى الشاروق تلك الجزر الصغيرة
التي تظهر في وسط دجلة صيفا وتزرع بالخيار والبطيخ والترعوز .كانت العوائل تتجمع
على الشاطئ والكل يحمل السلال المملوءة بأدوات الشاي والكليجة والخبز عروق " وكنت
ارافق اختي دائما ومن بعيد ينساب صوت ام
كلثوم من راديو نادي الجزيرة في الحديقة القريبة وهي تغني ياظالمني" ..
التحقت بالمدرسة المتوسطة
التي تداوم في بناية المتوسطة الاولى قريبة من مدرستها في بناية الراهبات بكنيسة
الساعة الشهيرة والتي كانت تسمع دقاتها من بعيد ..كانت المديرة الماسير سانت توما"
تأخذني الى مكتبة المدرسة فأنا اخت
المعلمة مجد كيف لا فقرأت "البخيل " و"طبيب رغما عنه "لموليير
وقرأت عنترة والزباء ملكة تدمر وفي قاعة الكنيسة حضرت عروضا لمسرحيات يقدمها
الرهبان مثل مسرحية اهل الكهف ومسرحية يوسف الصديق ...في مدرستي احببت الشعر
واختارتني الست قدرية النجدي مدرسة اللغة العربية لاشارك في مسرحية عنترة العبسي
كانت تدربنا على قراءة القصائد وفي السنة التالية تهيأت مجد للالتحاق بدار
المعلمين العالية ببغداد وهي التي سميت بعد ثورة 1958 كلية التربية .اخذتني مجد
معها الى نادي الدار والى الاسواق والسينمات لاحظت مجدا تناقش زوجها بجرأة وكانت
تقول ان حكومة نوري السعيد تضم الكثيرين من اقاربه ..حدثتني كيف يحول الطلبة
احتفالا قي الكلية بالمولد النبوي الى تظاهرة ضد الحكومة .." .الحياة في
بغداد بهيجة وتختلف كثيرا عنها في الموصل المدرسات في بغداد لطيفات بينما في
الموصل لايردن حتى تحية الطالبات الصباحية .عادت البطلة الى الموصل والتحقت
بالدورة التربوية وتخرجت واصبحت معلمة في مدرسة الفيحاء الابتدائية في الحلة ثم
نسبت الى ثانوية الحلة لتدرس التربية الرياضية .المديرة الست عواشة من اهالي
البصرة لطيفة وطيبة .
في الدار تقاسمت مع مجد
غرفة صغيرة منعزلة عن امها والصغار "
كان لدينا راديو صغير وكرامافون واصبح لدي عدد من الاسطوانات لفريد الاطرش وفيروز
وعبد الحليم حافظ ..كانت مجد تستمع الى اذاعة صوت العرب وتتابع خطب الرئيس جمال
عبد الناصر" .بدأت البطلة ترسل
مقالاتها الى " مجلة الدنيا " الدمشقية وشجعها رئيس التحرير عبد الغني
العطري على مواصلة الكتابة .مجد شجعتها
على الكتابة لكنها ما ان عرفت بأن رئيس التحرير من الحزب القومي السوري حتى غضبت
وهددت البطلة بأن تخبر امها بأن صاحب المجلة يتراسل معها .
كانت مجد قومية في توجهها
وسعيدة لموقف الرئيس عبد الناصر ازاء انسحاب البنك الدولي عن تمويل السد العالي
ومواجهته للعدوان الثلاثي سنة 1956 .وجاءت الثورة في العراق صبيحة الاثنين 14 تموز
1958 وسقطت الملكية وقابلت مجد مع عدد من زميلاتها الزعيم عبد الكريم قاسم ووجه
الزعيم كلمة تحدث فيها عن اهداف الثورة وقوطعت كلمته عدة مرات بالتصفيق الحاد ثم
وزع مرافقه جاسم العزاوي صور الزعيم على البنات موقعة بخطه شخصيا .وقابل وفد
ثانوية الحلة العقيد عبد السلام عارف في وزارة الداخلية كما زار الوفد في حي
الصليخ رشيد عالي الكيلاني ومحمد صديق شنشل من حزب الاستقلال وزير الارشاد بعد
الثورة .
وحدث الصراع بين القوميين
والشيوعيين وانعكس الصراع في داخل بيت البطلة " امي لاتحب الشيوعيين ولكنها
ايضا لاتحب الحديث عن ميشيل عفلق " .وحدثت ثورة الشواف في 8 اذار 1959 وفشلت
وقدم قادتها ومؤيدها للمحاكمة واعدم الطبقجلي ورفعت الحاج سري وعدد من وملاءهما من
الضباط الاحرار، وتأزمت الاوضاع وتعرض الزعيم لمحاولة اغتيال وحدث التطور في حياة
البطلة فلقد تقدم لخطبتها صالح ..كان يعمل ضابطا في القوة الجوية كان يكره الزعيم
"اعترف ان صالحا قد تسلل الى قلبي بهدوء وهو يغرقني بمظاهر حبه وذلك ارضى
غروري " لكن عندما يتحدث في السياسة كنت ابدي له ضجري فينظر الي متعجبا ويقول
: لااصدق ...الست اخت مجد ؟ .
وتعود بها الذكريات الى عقدتها
منذ الطفولة وتصورها وكأنها تسحق تحت أقدام الثور المجنح وتتساءل في اعماقها
:"هل حقا اني قد هربت من مجد ؟ "و"اشعر بأقدام الثور تطبق على
انفاسي ".كانت تحلم بالسياحة والشعر والسينما .استنكرت امها ان ترتدي البطلة
المايوه لتسبح في بحيرة الحبانية مع زوجها وظلت تدمدم وتقول "تخيلته ابن عرب
وصاحب غيرة فكيف يسمح لك بالسباحة في البحيرة ؟ " .تقول البطلة لتعبر عن ما
في دواخلها :" اشعر بفرح في اعماقي لغضب امي وكأني اريد ان انتقم منها لهذا
الخوف الذي يعتريني في حياتي الجديدة ، وانتقم لذلك القهر الذي شعرت به في طفولتي
والسنوات التي سبقت زواجي ودفعني للهرب اليه " .
تقف البطلة عند سنة 1963
وسقوط نظام حكم الزعيم عبد الكريم قاسم وتتابع ما حدث من ملاحقة للشيوعيين وتولي
اناس لايحملون المؤهلات مناصب مهمة وصار الناس يتقبلون ذلك مع انهم لم يستوعبوا ان
يحدث شيئا من هذا القبيل قبل ذلك .انشغلت البطلة بأخبار زوجها وازواج اخواتها
وانتماءاتهم السياسية المختلفة وانعكاس ذلك على اسرتها ووقفت عند التغيير الذي قام
به الرئيس عبد السلام عارف في تشرين 1963 تقول :" بدا كل شيء مملا وبفوضى
مقرفة وكراهية انتشرت في العلاقات الوظيفية والاجتماعية " .
وحدثت نكسة حزيران 1967 وقرار الرئيس عبد الناصر التنحي واستعداده لتحمل
المسؤولية :" كان صوت عبد الناصر وسيظل في خاطري رمزا للكرامة العربية والحلم
العربي المفقود " " كان الناس في اصقاع العالم العربي مستعدين للموت من
اجله لابتهديد من مخابرات ولابقوى امن مظلمة ترغمهم على التصفيق المنافق الكاذب
" .وجاء التغيير في تموز 1968 واصبحت البطلة مديرة لروضة القادسية في بغداد
لكن زوجها صالح لم ٌيقبل في كلية الاركان وشعر بالخيبة . وفي الشهر الاخير من سنة
1971 صدر امر تعيينه قائمقاما في قضاء مندلي اي انه ابعد عن الجيش لكنه اعيد الى
الجيش امرا لمعسكر ابي غريب وتوثقت علاقته بسبب الانتماء الحزبي بكبار المسؤولين
في الدولة وكان صديقه عدنان خير الله طلفاح هو امر كتيبة الدبابات قريبا منه فكانا
يزوران بعضهما كثيرا .. وحدثت حرب اكتوبر –تشرين الاول 1973وجرى ماجرى وجاء صالح
زوج البطلة يبشرها بتعيينها مشرفة تربوية لرياض الاطفال ..قالت لقد شعرتُ بالخجل
لان التعيين لم يعتمد على الكفاءة بل على الولاء والثقة ومن خلال زوجها الحزبي
المتقدم تعرف اسرار الدولة واسرار رموزها الكبار مع ان شقيقتها مجد الشيوعية كانت
لاتكف عن الاستهزاء "بالحزب والدولة " .. وكان صالح زوج بطلة الرواية
غاضبا منها ...كانت بغداد تلك الايام قد رٌوعت بأحداث غريبة عن المجتمع العراقي
وكان الخوف قد تسلل الى النفوس وهنا تتحدث عن " حادثة ابو طبر" الذي كان
يقتل الناس وهم نيام بسكين عريضة حادة
(البلطة ) ..وشاع ان محافظ بغداد قد حصل على قوائم بأسماء الماسونيين العراقيين من
مكان في عرصات الهندية وقيل ذلك افتراء من الحكومة .
يقينا اننا نتعرف على
اسرار لبعض من سياسيي تلك المرحلة لانجدها في اي كتاب تاريخ ..فلان اعدم وفلان طلق
زوجته بأمر من الرئيس وفلان - وكان رئيسا لجهاز المخابرات- قد اعدم ،وفلانة اجبرت على ان تتزوج شقيق زوجها
الذي سقط في حادث طائرة وفلانة المعلمة
كانت جاسوسة في يوم ما لمدير التربية والرئيس تزوج امرأة بعد انفصالها عن زوجها الاول .المهم اضطرت البطلة للانخراط في العمل الحزبي وتعودت على التنظيم
..وجاء تعيين زوجها صالح ملحقا عسكريا في الصومال ثم في الباكستان ليضيف الى حياتها تجربة جديدة ...ونمضي مع "
التقرير الاخير" لنصل الى يوم احالة
البطلة على التقاعد في سنة 1984 .
بعد التقاعد صارت البطلة
ترقب مهرجانات المربد الشعرية .. وباتت تندد بممارسات النظام وتلتمس من زوجها صالح
ان يكف الحديث عن المنجزات بعد ان بدأ مرض السكر وضغط الدم ينخران في صحته وصار
عليها ان ترى في النادي "وجوها نكرة لم يكن يعرفها أحد ...".الحرب مع
ايران باتت على الابواب ..وانشغلت البطلة بكتابة رواية اطلقت عليها اسم "
سلاما ياوفاء " عن احداث وقعت لصديقة طفولة ماتت مبكرا في الموصل وانتهت
الحرب في 8اب 1988 وخرج الناس الى الشوارع فرحين مستبشرين .اما صالح فقد كان يغرق
نفسه في نادي الصيد ببغداد بالشراب وتظل البطلة تدور بعينيها في ارجاء القاعة قاعة
نادي الصيد الكبيرة المليئة بألانفاس والسيكار الكوبي فلا ترى الا قرودا تتقافز ..
تعود فتكتب لشقيقتها
سهى ..كانت رسائل سهى تمدها بالحياة وفي
صباح خريفي حزين من سنة 1989 علمت بأن سهى توفيت .. وبعد خمسة شهور توفي مؤيد ودفن
الى جانب رفيقة حياته ...مات مؤيد الرجل العالم الذي أسس للمايكرويف في العراق
ومثل العراق في خمسة وعشرين مؤتمرا دوليا ..
ابنة البطلة الكبرى سلوى
انهت دراستها في معهد الادارة العامة في جامعة بغداد ورؤى ابنتها الثانية انهت
الاعدادية من ثانوية بغداد ..اما فدى فقدمت الى كلية الفنون الجميلة وتلاحقت
الاحداث، وتم اجتياح الكويت في 2 اب 1990 وكانت البطلة تزور ولدها هاني الذي يعمل في اسبانيا وكان لابد من العودة
"في مطار مدريد كنت اشعر بتعب شديد فقد كنت موزعة المشاعر اننا ذاهبون الى
مصير غامض ..." .
وعادت البطلة الى بغداد وصار عليها ان تواجه –حالها
حال كل العراقيين –ظروف الحصار وتقلب الاسعار وارتفاع سعر الدولار الى ثلاثة
دنانير والوقوف في الطابور "اصبح الراديو الترانسستور بعد انقطاع الكهرباء
،" الهواء الذي اتنفسه .كنت أنعزل في جانب من الغرفة التف بالبطانية واخفي
رأسي لاستمع الى الاخبار طوال الليل الا في اغفاءات قصيرة " .واندلعت الحرب
ضد العراق لاخراجه من الكويت وكان الناس مذهولين بحجم الخسائر التي اصابتهم من
جراء القتل والدمار " .قالت البطلة :" انني انهزم في اعماقي "
ووقعت الانتفاضة في الجنوب ...كانت الحدود مفتوحة وسافرت البطلة الى عمان مع
ابنتيها وزوجها وصارت الساحة الهاشمية في
وسط عمان مكانا لتجمع العراقيين ..الستلايت هنا في عمان متاح بينما كان في العراق
ممنوعا ...مكتبة شومان اذهلت البطلة بمحتوياتها واستذكرت ايامها قبل خمسين عاما
كانت السياسة في العراق قد فرقت ابناء
العائلة الواحدة والخصام كان كثيرا ما يتحول الى تشابك بين الايدي.. هذا يشتم عبد الكريم وذاك يرد ليشتم عبد الناصر
والاحزاب عمقت في العراقيين الثقافة الدموية ..ياترى هل سيكتب المنفيون عن
معاناتهم لتعرف الاجيال ما عانوه ..على مدى سنوات طويلة جفت العلاقة الاسرية في
"بيتنا وتقطعت الاواصر " وسرعان ما علت اصوات المعارضين للنظام ..
عادت
البطلة الى بغداد مع زوجها وابنتيها وصارت تستمع الى الاذاعات المعادية للنظام مثل
" اذاعة العراق الحر " من براغ .. ولم تعد البطلة واسرتها تتحمل الوضع
فقررت مع زوجها السقر الى اسبانيا عند ولدها هاني لكنهم عادوا الى بغداد ثم سافروا
الى الاردن ومن ثم الى مدريد كان هاني قد رزق بأول حفيدة لها انها" ليلى" وعرض عليهم احد الاصدقاء اللجوء ...كانت الدول
تتساهل في منح اللجوء للعراقيين لكن زوجها صالح رفض بشدة "ياالهي كانت مخالب
الثور تمزق ضلوعي ولامهرب منها " اذا عادت البطلة الى عقدتها الاولى في الخوف
من الثور ...الثور المجنح الذي رأته لاول مرة ينتصب على ـأحد بوابات مدينة نينوى ...عادت الى بغداد
وتدهورت صحة زوجها وضعف بصره واخذ صالح يستذكر ايامه في مقهى قريب مع اصدقائه
...كان يحكي لزوجته عن صديقه الشاعر قيس لفته مراد شاعر الناصرية وكيف انه مات
معدما ..قال ان السياسي العراقي حسين جميل يجلس في ذات المقهى وكان يحضر الى
المقهى المحامي فيصل حبيب الخيزران .قالت البطلة انها سألت زوجها عن زوجة فيصل
اليابانية هل مازالت في لندن تكمل طبع كتابها الذي حدثتني يوما عنه "المرأة
في قانون العشائر العراقية "..
قصف
الاميركان بغداد مرة اخرى في شهر تشرين الثاني سنة 1998 ..."يا لهذه الحياة
التي سخرت منا ..أي كذبة كبيرة عشناها نخطط لحياتنا كأننا نملكها حقا وبنينا
بالاماني مستقبلا نتمناه وزيناه بأحلام تبدو الان مستحيلة .الولدان بعيدان عن هذه
الاجواء المليئة بالقتل والدمار ولكن البنات من سيحميهن ؟انهن الان يتعاون في
رعاية الاب ..." "انا لاافعل شيئا لاني نفسي أعاني من ضغط الدم المرتفع والام
المفاصل الشديدة " "لم يعد هناك ثور واحد يثقل على انفاسي .لقد صارت
ثيرانا كثيرة مجنحة وغير مجنحة حولي
!!" ..
لقد
مات زوجها صالح وخسر معركته الاخيرة مع
المرض ودفن في مقبرة الكرخ وهكذا طوت البطلة الصفحة الاخيرة من حياة كانت تضج
بالحيوية وكتبت في تقريرها الاخير :" اغمضت عيني بعد ليل مضنية استعرض الحياة
الحلم التي تداخلت بعمق مع حياتي وكانت هي حياتي " حياتها التي حملت ركام
خمسين سنة من العواصف التي مرت على العراق لكنها بالرغم من ذلك كله مازالت تتنفس
كلماتها وتراقب بصيص ضوء عسى ان ينقلها الى عالم رحب لتقول لزوجها وللناس جميعا
انها هنا نعم ..انها هنا وها هي تكتب " تقريرها الاخير" الذي ختمته ببغداد وبالسنة 1999
وبعد هل ثمة ما يمكن ان يقال سوى ان الروائية والكاتبة المبدعة نجاة نايف
سلطان قد استطاعت ان تأسرنا وعبر 400 صفحة من روايتها لنعيش معها " تاريخ العراق المعاصر" يوما بيوم ، وساعة بساعة، ولحظة بلحظة .تمنياتنا لها بالتألق المستمر
وبالعمر المديد وبالصحة والعافية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق