أوجاع الغربة والحنين في ديوان ما قبل العصور
بقلم : القاص أنور عبد العزيز
" ما قبل العصور " .. ديوان شعري للشاعرة والروائية المغتربة نجاة نايف سلطان، وسبق أن صدرت لها مجموعة شعرية بعنوان " نجوى والنهر" سنة 1988 ثم رواية " سلاماً يا وفاء " سنة 2002، ولها تحت الطبع " همسات الناي " و" شذى الأزهار في أغاني الصغار " وكذا رواية " زرقاء اليمامة " و" مخالب الثور المجنح " ….
ما قبل العصور مجموعة في 24 قصيدة تدور غالبيتها وتنهل من ويلات الغربة وأحزانها ومواجعها …وهذه الغالبية أستذكارات وأسترجاعات الشاعرة لأزمنة وطنها العراق ومدينتها الموصل والنهر الجميل الحبيب دجلة .. أستذكارات الأرض والأسماء حتى ما كان من زمن الطفولة البعيدة، مع أستذكارات مواقف الفرح والسرور مع مضاداتهما الكئيبة والحزينة رغم البعد الزمني …
أن أكثر ما يتردد في روح الشاعرة ، وقلمها ، وهواجسها ،وأحزانها هو ما صار بعيداً عنها من أحلام النهر وصبوات الشباب وملامح صديقات المدرسة وألفة الأسرة في بدايات تكوينها وحميميتها وما يرتبط بذلك من عشق المأثورات الشعبية والقناعات بما تسببه للإنسان من خير أو شر مع سياحة لكل ما يطرّز مدينتها من جماليات الآثار والمراقد والمساجد والمآذن والقيصريات والخانات والقناطر والأسواق القديمة وحتى المقابر .. مع وقفات أطول وأكثر حميمية لجامع النبي يونس الذي يبدو أنه وفي أكثر من قصيدة ومعه النهر أو الشط دجلة قد حفر عميقاً في ذهن الشاعرة وعقلها وروحها مما جعل له الأولوية عند كل أستذكار لملامح مدينتها القديمة وبخصوصية سنواتها في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، فحتى الأهداء جاء مؤكداً لروحية الشاعرة بهذا الحب العميق إلى أبي المهنّد الصادق الحقيقة والحلم .. فقد مشينا معاً في دروب الحياة، فما كانت كل الأحلام وردية، ولا كل الحقائق مرة، وما صعودنا معاً إلى ربوة النبي يونس عليه السلام ، وآثار نينوى والثور المجنح ثم تستذكر في قرانا، حيث كان الله من قبل العصور، عرفت أمي مزاراً، توضع الأقفال في شباكه، وعلى الجدران حناء النذور، كان داراً وفناءً، حوله الشمس، ودنيانا تدور، كان قبراً فوق تل، أنما كان خلف التل ممنوع العبور، إنْ رأت أمي مناماً، أو يكن أثقلها همّ أبي، أيقظتني من منامي، جمعت لي بعض زادٍ، لملمت لي كتبي، أخذتني في زيارات النبي، كنت لا أعرف غير اللهو في ذاك الفضاء، وأنا أرقب أمي، تمسك الشباك في خوف، وفي شفتيها تمتمة الدعاء، أنت من تدعين يا أمي، أما كنت تقولين بأن الله حيّ، أنه سكن السماء، فتقول في غضب تعالي قبل أن يأتي أبوك والمساء … وهذه القصيدة طويلة بمقاطع قصيرة أشبه ما تكون بمبرقات تستمر لأكثر من 200 سونيتة أو مقطع قصير تتناول في مجملها التراث الآثاري للموصل وبعض تقاليد الموصل القديمة وأحلام الشاعرة الطفولية وتطلعاتها وانغمارها في الجو الروحاني ورصدها لتناقضات الحياة والناس وبوعيها المبكر ثم بوعيها المؤجل لسنين قادمات، وبهذا الوعي المؤجل الأخير ترتسم ملامح وانطباعات ومقولات من فلسفة الوجود والحياة عموماً .. أي أننا نلاحظ ونتأمل نوعين أو لونين من الأستذكارات الطفولية البريئة منها، وتلك الناضجة في فهم ما مرت به من أدوار حياتية في بيئة أهلها ومدينتها ووطنها عموماً .. وهذه الأخيرة أتسمت بنضج إنساني فهم أو حاول أن يفهم مسببات صراعات البشر مع أدانات جريئة لروح الشر والكراهية والطغيان وبشمولية لما مرت به مدينتها ووطنها ودنيا العرب وأرض البشر مهما تعددت ملامحهم وتسمياتهم في كل صقع ومكان فقد بدالها أن حماقات البشر وانتهاكاتهم وكراهيتهم للعدل والرحمة والتعاون والتآلف تكاد تكون واحدة في زمننا المعاصر في وقت كان فيه الماضي الرحيم أحلى حاضنة لصفات الخير والمحبة والحنان …
الماضي المتعافي
الشاعرة نجاة نايف سلطان تمنح عناوين قصائدها حيوية وجمالية، وهي لتقريب ملامح ما ستقوله، فهي ترفق العنوان بأهداء أو عبارة توضيحية لتقرب المشهد الشعري من عقل ونظر وروح قارئها، فهي حريصة على أن توصل لقارئها صورة قريبة من الكمال ليشاركها القارئ في متعة أستذكاراتها . رغم طبيعة الحزن والأوجاع الكامنة في هذه الأستذكارات الأليمة والتي ستوحي لقارئها أن خسارة الشاعرة لذلك الماضي المتعافي كانت كبيرة ولكل ما حل بعده من بشاعات كارثية … وكأمثلة لذلك من قصيدة " آه يا دجلة " عفواً يأتي الأهداء إلى أبي المهنّد الصادق عندما كنا نرقب معاً فيضان دجلة سنة 1988 .. وفي قصيدة " لو أذوّب مهجتي " إلى مهند في عيد ميلاده في الغربة .. وفي غداً سألني في رسالته مم تتألمين ؟ وفي مزاد كم أحسست بالغنى وبأني أملك الدنيا وأملكه عندما كنت أغوص في مياهه العذبة، فعذراً لصديقي دجلة وعذراً لصالات المزاد التي تبيع قطعاً فنية صغيرة بأسعار خيالية .. وفي أهدي محبّتي إلى الأطفال الشهداء في مدرسة بلاط الشهداء .. وأنت المهنّد إلى نجمة أضاءت في حياتي .. إلى معن كيف يرحل في رحيل أحد الطغاة شاوشيسكو وفيها تقول ليس للطاغوت، أن يُعدم في صمت ويرحل، كيف يرحل قبل أن تفقأ عيناه، يُعرّى ثم يُسأل، كيف يرحل .. وتستمر القصيدة في ست وثلاثين ومضة تعبر عن قسوة حثالات الطغاة وجرائمهم البشعة بحق الناس في حياتهم التي وهبها لهم الله على هذه الأرض ..
وفي أبكيت من ألم ؟ حدثتني عن مهند وأنه بكى في غربته .. أبدّل الأسماء الأهداء إلى أبنتي فداء .. أمّاه لو أبدّل الأسماء، لأخوتي، لوالدي ، شاء ولم يشأ، فلا رولا قبيلة، ولا أنا فداء، وخالتي قولي لها، سميتها علياء، ووالدي أكرمْ به، تحرسه السماء، مهند، أشتاق لو أضمه، لو جاءني، سميته الضياء … وتستمر القصيدة لتبلغ ثلاثاً وخمسين ومضة تشبه أن تكون إشارات مبرقة .. وفي حكاية نقرأ معها هذا الأهداء أو التوضيح هذه الكلمات أصر الرقيب على حذفها من مجموعتي الأولى " نجوى والنهر " وهي مؤرخة بسنة 1986
تحكي جمان، عن خالة، كانت تحبها، من زمان، تهوي الصغار، وتحب همهمة الكبار، ستظل يوماً في انتظار حلم النهار، وترى جمان، تزهو كزهر الأقحوان، وترى جمان، في القلب، تملأه حنان وغداً تقول، وتظل تسأل في ذهول من قال غائبة جمان ؟ وهذا الأهداء إلى الشقيقة وهبية في قصيدة خيمة حب ومن بداياتها غابة خضراء في عينيك أم لون القصب، زخة أمطار وبركان لهب .. ومنها من رأى الحب ربيعاً آخر، ظل يسقينا ويهدينا عجب .. وفي قصيدة لا تسألي كتبت تقول حدثيني بالتفصيل كيف أنتم ؟ لا تسألي، ما كل ما يحيط بي، يضمه كتاب، مدينتي ممسوخة، كقطة تنشب في صغارها أنياب، إذا غفت، تحلم بالثورة والسباب، وأن صحت تنهش في لحومها الكلاب، ويقتل بقسوة سؤالها الجواب، مدينتي سراب، مدينتي سراب، لا تسألي، ما كل ما نعرفه يقال، ما كل ما نعيشه خيال، ما كل ما أخرسنا، ومزق في صدرنا السؤال، يا صديقتي، يقال، الليل في مدينتي يرفض أن يعقبه النهار .. والقصيدة بعد هذا هي أيضاً من المطوّلات ومؤرخة في سنة 1993 .. ثم هي تهدي قصيدتها
وعادت المهاجرة إلى الشقيقة المرحومة أم هيثم ما بين لندن والنجف، أنا ما أنحنيت، فقامتي كالسنديان، غدر الزمان خبرته، موت ولكن لا هوان، سأظل أسخر من جبان، ظل يطأطيء رأسه، وأنا بتابوت هنا، ما زلت سيدة تطاع، وسوف أختار المكان، ما بين لندن والنجف، الليل أطبق، والصديق، جبن فما عاد، أخا عاد … هذه القصيدة أيضاً مطولة وفيها ذكر لبغداد وحيّ المنصور الذي سكنته الفقيدة أم هيثم .. وفيها أيضاً ذكر لمشاركة الفقيدة في أنتفاضة سنة 1948 ولساحة الجسر وباب المعظم ولعلعة الرصاص وصخب المظاهرات المنادية بحرية العراق ومع إمرأة العباءة سعدية في العباءة أو الكفن .. والقصيدة مؤرخة بسنة 1989 .. وإلى خضرة الفلسطينية التي كنت قد ألتقيتها في أسلام آباد وكنت مندهشة وهي تقول أنها ستزور الأرض المحتلة فلسطين حيث ما زال أهلها ففي لمّا توارى تقول لا تغضبي، إني سأختصر الزيارة، فعلى دروب الحيّ ينتشر الظلام، ويموت في صمت خياره، وهناك يغتال الكرام، فلا يبقى لمفخرة قرارا، فرعوننا يئد البراعم، فالروابي تصحرت، لا زهرة تعطي، ولا أثمارا …
ومن سيف الهند المهداة إلى ليث أبن الشقيقة الأعلى في أول الليل، أو في نصفه الثاني، ينادي الصوت يا أهلي، فأصحوحتي يلقاني .. وتستذكر الشاعرة
ونحن معها تلك القصيدة التي كانت من أناشيد وقفة الصباح في المدارس الأبتدائية ولسنين طويلة خلت عليكِ مني السلام يا أرض أجدادي والقصيدة بعنوان أرض الأجداد وتبدو الشاعرة متعارضة متقاطعة في حالة نفسية مرت بها مع تلك الأرض التي لم تحفظ لها الوفاء والمحبة
يا أرض أنتِ سقيتني سُمّاً، فغادرني هواك، قطّعت لي كبدي، وأطلقت الأراذل في حماك، يا أرض أنتِ ولدتني وخذلتني، والآن أبحث، لا جدوى، بطون الأرض عن رحم سواك .. ومع كل هذا التضاد مع أرض الوطن والذي سبّبته معاناة الغربة والضياع، فقد جاءت القصيدة عتاباً ليس غير لأرض ضيعت عشق الشاعرة وحبها العميق لكل وطنها، فهذا الديوان جاء في أغلبه مكرّساً لهذا الحب العميق وأن ما قالته لم يكن غير حالة نفسية عابرة فرضتها قسوة ظروف الهجرة والمَهاجر والمنافي …
و هدية مهداة إلى ليلى مهنّد صادق أنا لا أهدي كتاباً، أنني أهديك قلباً أنني أخطو على الأرض بقيد، ورؤى الآمال في عينيك رحباً، لملميني، فحروفي هي نجواي، وقد مزقتها، إرباً فإرباً، آه من عينيك يا ليلى، فقد ضيعتني شرقاً وغرباً، وسنة القصيدة هي 2002 .. الشاعرة كما بدأت ديوانها بوطنها ومدينتها الأثيرة وعشق النهر والشط دجلة الحبيب إلى روحها، فقد أنهت ديوانها وفي قصيدة حلم نيسان وبتمهيد ذكرت فيه وحده ذلك الشاطيء المنسي من شواطيء دجلة في مدينتي الموصل ببيوته القديمة المطلة عليه تعبق بغبار الأزمنة الجميلة الساكنة في الروح ومياهه الصافية الرقراقة المتلألئة بأشعة شمس الصباح المطلة من خلف منارة
النبي يونس عليه السلام وهي تنساب فوق حصى ملّون ما يزال في أحلامي هناك في الجانب الثاني ومنها تنهمر الذكريات العذبة
رعاك الله يا حلماً، بكل الحب تلقاني، وأغفو كي ألاقيك، وما غيرك أغفاني، تمر كومض البرق تنعشني، وتمحو كل أحزاني …
بعد هذا لا بد من الإشارة إلى شاعرية عناوين القصائد ودلالاتها ومؤشراتها .. العناوين التي منحها العديد من النقّاد والأدباء أهمية كبيرة باعتبارها المفتتح والمؤشر لما سيأتي بعدها من كلام واقعي واضح أو من المرموزات التي تحمل المدلولات أو تنبه عليها .. العنوان إذا شيء حيوي مهم في الأبداع الأدبي شعراً أو قصة أو رواية لذا فقد أولته الشاعرة نجاة نايف سلطان ما يستحقه من مختارات العناوين ليكون فاعلاً مثيراً في المتلقي هو وما ينتظره القارئ بعد تمثّل العنوان في عقله وقدراته القرائية، وفي مستويات هذا التأثير أختلف النقّاد فمنهم من أعطاه حجمه الطبيعي في التأثير، وبالغ البعض حد التطرّف إذ جعل من العنوان الجوهر الظاهر أو المخفي في خلق النص، ومنهم من جعل العنوان هو النص كله مختصراً في كلمة أو كلمتين أو جملة قصيرة .. كثيرون كتبوا ونظّروا لمسألة العنوان .. وأكثر من أهتم بحكاية العنوان هو القّاص محمود عبد الوهاب إذ سمّاه ثريا النص والثريا وكما هو معروف النجم المرتفع المضئ والهادي، ومنهم القّاص مهدي عيسى الصقر الذي عالج في كتابه أوجاع الكتابة قضية العنوان، وأيضاً الناقد الدكتور محمد صابر عبيد وآخرون ممن يعنيهم التنظير لمسألة ما تزال تتراوح بين هذا الرأي وذاك دون أن تستقر على حال واحدة واتفاق نهائي، وكما يحصل في عديد من الآراء عندما تتعلق بما يتصل بالجوانب الظاهرة الواقعية للعنوان أو برمزياته وموحياته غير المباشرة، ومثل هذا الاختلاف أمر مقبول طالما أن النصوص .. وبمختلف تجنيسها طابعها أدبي إنساني ومما لا تقبل الفرضيات العلمية الصارمة التي مكانها المختبرات والتجارب ونتائج هذه التجارب سلباً أو إيجاباً، أما نقّاد الأدب فهم أحرار في آرائهم وقناعاتهم وكل حسب اجتهاده …
وممن أشار ونبّه أيضاً إلى أهمية عناوين النصوص علي جواد الطاهر
وعبد الإله أحمد وعبد الجبار عباس وعبد الجبار البصري وفاضل ثامر وعبد الله إبراهيم وعبد الواحد لؤلؤة وحاتم الصكر وبشرى البستاني وشكيب كاظم وغيرهم .. وعربياً بخصوصّية منظّري المغرب العربي، ومن هؤلاء من كان متأثراً بإفراط وحد المبالغة بطروحات النقاد الغربيين حول عناوين النصوص بل وفي مجمل العملية النقدية .. يحدث كل ذلك بوعي نقدي وأيضاً مع غياب ذلك الوعي في حالات كثيرة …
من عناوين الشاعرة التي أتسّم بعضها بكشف واقعي صريح أو برومانسية حالمة أو بشكل تجريدي أرفض، من قبل العصور، آه يا دجلة عفواً، أن قيدي صار بعضي، من يملك الجواب، غدا، ثمل، الكهف، كيف يرحل، أعطني خبزاً، لو أبدأ الأسماء، وأبقانا هنا، حكاية، كأس سموم، خيمة حب، وعادت المهاجرة، يا أرض أجدادي، هدية، أحباط، خسارة، كان وكان، ما أسمك ؟، بداية الفناء، غصن الزيتون، عمّ أدافع، خسارة .. وغيرها مما هو شبيه بهذه التلوينات .
*جريدة الزمان الدولية العدد 4197 التاريخ 12»5»2012
AZP09
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق