ضرورة تجديد وظائف التعليم العالي في الوطن العربي!!
أ.د. إبراهيم خليل العلاف
مركز الدراسات الإقليمية-جامعة الموصل
شهد وطننا العربي منذ أواخر القرن الثامن عشر، تحديات كبيرة، لعل من أبرزها الغزو الفرنسي لمصر سنة 1798 ،وكان من نتائج ذلك خلق مناخ ملائم لانتشار أفكار وقيم وعادات (الآخر) أي الغرب، وحدوث الصراع بين (القديم) و(الجديد) في ضوء ماسمي آنذاك بحركتي (التحديث) Modernization و (التغريب) Westernization .وتشبه هاتان الحركتان ما عرف قبل سنوات بحركة (العولمة) أو(الكوننة) أو( الكوكبة) Globalization ،هذا المصطلح الذي يصف ما يحدث في العالم اليوم من تضاؤل سريع في المسافات الفاصلة بين المجتمعات الإنسانية سواء ما يتعلق بانتقال السلع أم الأشخاص أم رؤوس الأموال والاستثمارات أم المعلومات أم الأفكار أم القيم والعادات.
ومما نلحظه أن الغرب، منذ أواخر القرن الثامن عشر، وحتى الوقت الحاضر، لم يتوقف لحظة واحدة عن طرق أبواب الوطن العربي ابتداءً من غزو فرنسا لمصر سنة 1798 وانتهاء بما يسمى اليوم بـ (الانفتاح ) و(محاولات الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي) . ويشير أحد الباحثين إلى أن سياسات الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، تدفع الحكومات في مختلف أنحاء العالم للأخذ ببرامج الإصلاح والتغيير ومنها: السعي باتجاه تكريس مفهوم (الخصخصة) Privatization ، والعمل على تحرير التجارة الدولية من خلال فتح أبواب الاقتصاد، أكثر من أي وقت مضى، أمام تدفق السلع والخدمات ورؤوس الأموال الآتية من الغرب، ويضيف أن الخصخصة التي تؤخذ عادة بمعنى تغيير نظام الملكية من ملكية عامة إلى ملكية خاصة، تعنى في التطبيق العلمي، نقل الملكية من (الدولة العربية) إلى الشركات المتعددة الجنسية والعملاقة .
ومما يجلب الانتباه في هذا المجال أن الغرب، يعمل حاليا على خلق وسيط جديد ليكون مسؤولاً عن إتمام ما يعرف ب( حركة الإصلاح والمشاركة السياسية والبناء الديمقراطي ) في هذا الجزء المهم من العالم ، لكي يحل محل أوربا و الولايات المتحدة الأمريكية وتحت تسميات جديدة منها مثلا:(السوق الشرق أوسطية) أو ( النظام الشرق أوسطي الجديد).
ومثلما فعل نابليون بونابرت، عندما دخل القاهرة أكثر من مائتي عام، حين أدعى انه جاء مدفوعا فقط بالرغبة في نشر مبادئ التنوير والحرية والمساواة. ومثلما فعل الجنرال ستانلي مود الذي دخل بغداد في مطلع القرن العشرين وقال انه جاء (محررا) و(منقذا) للعراق من العثمانيين وساعيا من اجل التقدم ، يجئ الأميركيون بعد ذلك ليقولوا أنهم يأتون إلى المنطقة بـ ( التنمية الاقتصادية) (والحرية ) (وحقوق الإنسان ) و(السلام)، ولعل ماجاء في كتاب الرئيس الإسرائيلي الحالي (شيمون بيريز) الموسوم: "الشرق الأوسط الجديد" يعبر عن هذه الأفكار اصدق تعبير. يقول شيمون بيريز:"ان التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي معيار نجاح إشاعة الديمقراطية في الشرق الأوسط :إن 60% ستين في المائة من الموارد النفطية العالمية تتركز هنا . ويتميز الشرق الأوسط بإمكانات سوق هائلة ، وان بناءه يؤلف تحديا كبيرا ،وبخاصة يفتح فرصا لا نهاية في المنطقة. إن الديمقراطية سوف تضع حداً للخطر الذي يهدد سلام المنطقة والعالم... (يقصد الحركات الإسلامية) أن الحركة ضد التحديث تنبع من الهوة بين أخلاقيات الغرب وآماله الاقتصادية من جهة، والواقع الفعلي من جهة أخرى" . ويضيف إلى ذلك قوله:" لقد بدأت العلاقات بين الأمم تأخذ، على أعقاب نهاية القرن العشرين، بعدا نوعيا جديدا فهناك تزايد في أهمية التقدم العلمي ، والاتصالات السريعة، وطرق جمع المعلومات ، والتعليم العالي، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المتطورة، وتعزيز البيئة السليمة التي تخلق الثروة، وحسن النية، تلك هي عناصر القوة المعاصرة.... زد على ذلك انه لايسعنا أن ننسى الصعوبة المتناهية ابدً للاحتفاظ بجيش عرمرم...."".
ويقف في نهاية كتابه ليطرح نفسه ممثلاً عن الغرب ومدافعا عن مصالحه قائلا:" إن استطالة أمد الصراع العربي- الإسرائيلي أدى إلى استمرار بؤس الملايين، وتحول الكثيرين ، انطلاقا من الشعور بالإحباط إلى الغيبيات رافضين الدولة الحديثة، غارقين في الأصولية الدينية، وهذه هي العوامل التي تهدد الآن استقرار وسلم المنطقة، وتندر المصالح العالمية بالخطر!!"( .وفي كلمته أمام برلمان غانا السبت 11 تموز –يوليو الجاري 2009 ابلغ الرئيس الأميركي باراك اوباما القادة الأفارقة، ومن خلالهم قادة الدول النامية، بأن التنمية المطلوبة تعتمد اعتمادا كليا على الحكم الراشد وأضاف :""أن هذا هو العنصر المفقود في أماكن كثيرة للغاية ومنذ وقت طويل للغاية .""وقال اوباما أن المساعدات الغربية يتعين أن يرافقها الحكم الراشد .ولا يختلف هذا الكلام عن ما كان يردده الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش وطاقم إدارته السابق.
وهكذا ويعد انقضاء 200مئتي عام من التجارب في (التقدم الاقتصادي) و(الاستقلال الاقتصادي) و(الاغتراب الحضاري والثقافي) وصلنا إلى نقطة، يقول الدكتور جلال احمد أمين ،لم يعد فيها من الصعب أن نتكهن بما يمكن أن تسفر عنه هذه "الحقبة الجديدة "من " التغريب " الذي يسعى الغرب إلى الإمساك بزمامه . إن الثمن الباهظ حقا الذي سوف يدفعه العرب هو مزيد من التشويه لهويتهم ،والمزيد من الاستغلال .والمزيد من التفاوت في الدخول ،والمزيد من التبعية للغرب ،وهذا يلقى على عاتق المربين وأساتذة الجامعات والمثقفين،قبل المسؤولين الرسميين ،مسؤولية كبيرة ليس في العمل من اجل الوقوف عند معالجة تأثيرات العولمة في مستويات الاستهلاك، ومعدلات النمو،ومستوى الأيدي العاملة ،وتوزيع الدخل ،وأنماط الاستهلاك البيئة ،وإنما للحفاظ على الهوية الوطنية والقومية. " إن الهدف الرئيسي للنظام الرأسمالي الأميركي هو تغيير النسيج الحضاري والاجتماعي للشعوب ، وعرقلة عملية النهضة الذاتية ، وتتفق معظم الدراسات والبحوث التي كتبت عن العولمة مع وجهة النظر هذه ،خاصة بعد أن اتضح البعد ألتدميري للعولمة في اقتصاد دول كثيرة . ويضع الأستاذ الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة المعاصرة في جامعة القاهرة ،العولمة في إطار فلسفي وتاريخي عندما يصل إلى نتيجة مفادها : " أن أشكال الاستعمار الجديد،بدأت في الظهور باسم الشركات متعددة الجنسية ، واتفاقية تعريف التجارة الخارجية ،واقتصاد السوق، والعالم ذي القطب الواحد، وثورة الاتصالات وشيوع فكرة ان العالم أصبح قرية كونية واحدة وصغيرة .كما تظهر العولمة في إحكام الحصار حول مناطق الاستقلال السياسي والاقتصادي والحضاري... وتهميش دور مصر و ...إحكام الحصار الاقتصادي حول آسيا ،كما حدث في انخفاض العملات الأسيوية المحلية."".وإذا كانت العولمة هذه تربط بالقوى الاقتصادية الفاعلة وهي الدول الصناعية الكبرى ، فأن للعولمة ركائز ومقومات أبرزها الخصخصة ، والشركات العملاقة متعددة الجنسية ، والمصارف الكبيرة ، وحرية التجارة ، والأسواق المالية ،والاهم من ذلك كله السعي لفرض الأفكار الرأسمالية وقيمها على الدول والشعوب وأبرزها نشر أفكار ( صراع الحضارات ) و (نهاية التاريخ ) وانتهاءه بسيادة نموذج الحياة الغربية ، ويجيى ذلك بعد سلسلة من المتغيرات الكبرى وأهمها : تفكك الاتحاد السوفيتي السابق ،وبروز الولايات المتحدة كقوة عالمية أحادية ، وشيوع أفكار الحرية، ومقاومة الأنظمة الشمولية، ونشر مفاهيم حقوق الإنسان، والسيادة المرنة ،والتدخل الدولي في تقرير مصير الدول وحتى الإقدام على احتلالها بحجج وذرائع مختلفة، والدعوة إلى حماية الأقليات ، وتنمية ما يسمى بالفكر المدني وحقوق الملكية الفكرية وما شاكل .)وللعولمة أهداف كثيرة أبرزها الهيمنة على اقتصاديات العالم والتحكم في مراكز صنع القرار السياسي العالمي ، وفرض السيطرة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية الغربية على الشعوب وتفكيك شخصيتها الوطنية والقومية وتجزئتها وجعل الدول التي لا تدور في فلكها دولا مستهلكة ، ضعيفة ،مسلوبة الإرادة ، وليست العولمة إذا قدرا لا مفر منه ، أو مخرجا جيدا من الواقع المظلم الذي تعيشه الشعوب، حيث الفقر والبطالة والمرض والتخلف بكل أنواعه مثلما يحاول بعض الكتاب الغربيين الإيحاء به، بل هي نزعة للهيمنة على الدول والشعوب، ومحاولة لاختراق الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، خاصة في الجنوب والشرق والسعي لهدمها وإحلال نظم وهياكل ومفاهيم جديدة تقوم على الفلسفة الذرائعية .
لذلك لابد من مواجهتها وذلك بالتركيز على الخصائص الوطنية والهوية القومية وتأكيد قيم المواطنة والحكم الراشد والتوجه نحو التنمية ووقف حالات الاستبداد والتسلط وانتهاك حقوق الإنسان واحترام حقوقه ومساعدته على التحرر من الأفكار البالية وتعليمه وتثقيفه وإشراكه في صنع القرار والابتعاد عن تهميش مثقفيه والبدء بحركة مخلصة وجادة ومنظمة تستهدف إصلاح البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. ويقينا أن التعليم العالي والجامعات ومراكز البحوث من أبرز ميادين المواجهة والمقاومة .
كما هو معروف فأن الجامعات في عالمنا المتغير ، والذي وقفنا قبل قليل عند ابرز ملامحه وتطوراته، وخاصة بعد انتشار وذيوع بعد ظاهرة العولمة، لم تعد ميدانا للتدريس فحسب، بل اتسمت مهامها لتكون قواعد للبحث العلمي،ولتطوير المعرفة، والتخطيط للمستقبل باتجاه خلق القاعدة العلمية الرصينة للمجتمع بالشكل الذي يساعده على مواجهة التحديات لذلك أصبح من الضروري أن تقوم الجامعة، بدور بارز ورئيس، وان تتوطد علاقتها بالمجتمع ومؤسساته على كافة الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. ويقوم الأستاذ الجامعي بمهام متعددة لعل في مقدمتها سعيه المستمر في نقل إحداث التطورات العلمية في اختصاصه إلى الطلبة وغيرهم . عن طريق التدريس والبحث والعمل في المختبرات والمصانع التابعة لمؤسسات الدولة والمجتمع .
وبقدر ما يتعلق الأمر بسياسة التعليم العالي في وطننا العربي، فان من الحقائق التاريخية المعروفة، إن عمر المؤسسات الجامعية العربية ليس طويلاً بالقياس إلى ماهو معروف عن المؤسسات الجامعية في العالم المتقدم . فعلى سبيل المثال، بدا التعليم الجامعي في العراق ومصر 1908. أما تاريخ التعليم العالي في منطقة الخليج العربي، فانه يرجع إلى السبعينات من القرن العشرين. وكذلك الحال في بعض الجامعات في المغرب العربي، حيث أن الجامعة التونسية مثلاً تأسست سنة 1960 في حين أن جامعة طرابلس في ليبيا تأسست في 1974، هذا إذا ما استثنينا الجامعات التقليدية التي ترجع جذورها إلى عصور ازدهار الحضارة العربية والإسلامية كالجامعة المستنصرية في العراق وجامعة الأزهر في مصر وجامعة الزيتونة في تونس وجامعة القيروان في المغرب..
وثمة حقيقة ،لابد من ملاحظتها، وهي أن النقلة النوعية في عدد، الجامعات العربية جرت في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، مما ساعد على ذلك جملة من التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية التي شهدها الوطن العربي آنذاك. وفي مقدمتها : تعاظم الوعي القومي العربي، وتنامي الحركات الوطنية، ونشوء كيانات سياسية عربية مستقلة، وتبلور الأفكار والديمقراطية، واعتبار التعليم العالي من مظاهر استكمال الاستقلال الوطني .
كان عدد الجامعات قبل الحرب العالمية الأولى بضعة جامعات، وفي المدة ما بين 1953-1959 أصبح (22) جامعة، أما في أواخر سنة 1997 فقد بلغ عدد مؤسسات التعليم العالي في الوطن العربي(175) جامعة، و(137) كلية جامعية و(473) كلية مجتمع.
وهناك حقيقة لابد من أخذها بنظر الاعتبار، وهي أن جميع الدلائل تشير إلى أن التعليم العالي العربي (الرسمي والأهلي)، سوف يشهد خلال السنوات القليلة القادمة تطوراً كبيراً وبوتائر متصاعدة لعوامل ثلاثة هي:
1_ استمرار تدفق أعداد من خريجي المدارس الثانوية (وصل عددهم سنة 1996 أكثر من 7 مليوناً)
2_ استمرار تبني الدول العربية لسياسة الباب المفتوح في القبول بالجامعات.
3_ السماح للقطاع الأهلي (الخاص) بولوج ميدان تأسيس وإدارة وتمويل مؤسسات تعليمية عالية.
وتشير بعض الدراسات إلى أن 60% من البلدان العربية سمحت للقطاع الأهلي بإدارة وتمويل مؤسسات التعليم العالي. فلقد بلغ نصيب القطاع الأهلي في سنة 1997 مانسبته 34% من مجموع عدد الكليات الجامعية و 27% من الجامعات و22% من مجموع المعاهد الفنية.
كما حققت استشارات البلدان العربية في التعليم العالي أرقاما قياسية في سنة 1996، إذ بلغت (6,9) مليار دولار أمريكي مقابل (4) مليار دولار في سنة 1990 أي بزيادة سنوية قدرها 15% ويعادل هذا الرقم مايقارب 1,8% من مجمل الدخل القومي العربي.
وشهدت الجامعات تطورا في أهدافها العلمية والتربوية، وازداد عدد المتخرجين في التعليم العالي بصورة مطردة. فقد أصبح عددهم في منتصف التسعينات من القرن الماضي ، قرابة ثلاثة ملايين متخرج بعد أن كان عددهم قبل الحرب العالمية الثانية لايزيد كثيرا عن عشرة آلاف متخرج. وازداد عدد الأساتذة ، وحدث تطور في النظرة إلى التعليم العالي من حيث انه عملية إنتاجية وليس خدمية.
ولكن هذا كله لم يمنع من تعرض سياسة التعليم العالي في الوطن العربي وخاصة في السنين القليلة المنصرمة إلى نقد شديد. وشخصت الكتابات والوثائق التي نشرت ، النواقص والسلبيات التي يعاني منها التعليم العالي وفي مقدمة ذلك:
1_ إن الجامعات لاتزال تخرج سنويا الأعداد الكبيرة من الطلبة الذين لايمكن للمجتمع الإفادة منم مؤهلاتهم فائدة ملموسة في المشاريع والخدمات.
2_ إن الجامعات ما تزال تمارس دورا تقليديا يقتصر على نقل العلم والمعرفة وإعداد الكوادر ، لكنها لم تقم بدورها في تغيير الأسس الاقتصادية والفكرية للمجتمع العربي .
3_ عجز الجامعات العربية عن مواكبة التطورات العلمية والاجتماعية والاقتصادية المعاصرة ، وذلك لجمود مناهجها ،واحتشاد صفوفها بالطلبة، وتخلف الأجهزة الإدارية والتدريبية فيها، وخضوعها للسلطات السياسية ،وتدني مستوى الرواتب والحوافز المالية للعاملين فيها .
يقول الدكتور ادوارد سعيد: إن بعض الجامعات في بلدان الوطن العربي لاتزال تدار، بشكل عام، تبعا لنسق ماموروث عن أو مفروض مباشرة من قبل قوة مستعمرة سابقا) .
أما الدكتور انطوان زحلان فيكشف عن غياب الأبحاث المتقدمة التي تقوم بها الجامعات العربية ، فضلا عن النطاق المحدود للنشاط العلمي بصورة عامة). ويشير تقرير اليونسكو لسنة 1997 إلى أن أعداد العلماء العرب، بالنسبة لعدد السكان لايتجاوز الـ (10%) من نسب الدول الصناعية. كما أن الإنفاق على (البحث والتطوير) لايتجاوز 3_5 في الألف من الدخل القومي، بينما تصل النسبة الى حوالي 20_30 في الألف في حالة الدول الصناعية المتقدمة.
ويرى الدكتور أسامة عبد الرحمن أن الجامعات العربية لم تحقق بعد الحد الأدنى من رسالتها وهو إعداد المتخصصين لمواجهة احتمالات التنمية، ويقول أن الجامعات العربية لاتزال إلى حد كبير رهينة الدور التقليدي وتكاد تعيش في عزلة عن المجتمع ومؤسساته الأخرى.فهي لاتمارس الدور النشط والفعال الذي تمارسه الجامعات في الدول المتقدمة من الخروج ببعض البرامج الى خارج أسوارها ومد خدماتها إلى المجتمع مباشرة، وربما كان مرد تلك العزلة، النظرة التقليدية إلى العملية التعليمية من جهة، والفجوة الكبيرة بين الجامعات ومؤسسات الدولة والمجتمع من جهة ثانية، وانعدام قنوات الاتصال مع الجامعات المتقدمة في العالم ومايجري من تطور وتقدم علمي متسارع من جهة ثالثة .
ويناقش الدكتور عبد الهادي الدرة واقع التعليم العالي من حيث غياب برامج خدمة المجتمع وانفصال معارف الخريجين ومهاراتهم عن حاجات المجتمع والسوق .
ويتطرق الدكتور الياس زين إلى ظاهرة هجرة العقول Drain Brain فيقول أن 70% من طلبة البعثات العرب لايعودون إلى بلادهم بعد إكمال دراساتهم خارج الوطن العربي وأسباب ذلك معروفة منها مايرجع الى عوامل سياسية واجتماعية، ومنها مايرجع إلى عجز الجامعات العربية عن تأمين بيئة علمية ونفسية ملائمة لأبنائها من العلماء، ناهيك عن عدم توفر مستلزمات البحث .
ويأخذ الدكتور عبد المالك التميمي على الجامعات أنها تفتقر فلسفة تعليمية وتربوية محددة ، وأنها غير مستقلة، ولا تتاح لها الفرص الكاملة لممارسة حرية البحث وحرية النقد. ويعتقد الدكتور صبحي القاسم أن هناك ضعفا في مواكبة مؤسسات التعليم العالي للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية في العالم، وتكييف مخرجاتها مع تلك المتغيرات ، واستمرار ضيق قاعدة التخصصات العلمية المتاحة للطلبة وتدني مؤشرات التعليم العالي من حيث كفاية الموارد المخصصة لعمل مؤسساته واتساع الفجوة مع مرور الوقت بين ماتخصصه الدولة لمؤسسات التعليم العالي، وتضم حجم مسؤولية هذه المؤسسات من ناحية، وضمان الحد الادنى لنوعية أداء تلك المؤسسات.
في ضوء تسارع توجه العالم نحو العولمة ، وازدياد مخاطرها على الشخصية الوطنية والقومية ، وانتشار وسائل الاتصال والمعلوماتية، فضلا عن تعاظم المسؤولية الملقاة على عاتق التعليم العالي في الوطن العربي من حيث وضع حلول ناجعة للقضايا والمشكلات العلمية والإنمائية التي يواجهها المجتمع العربي سواء على الصعيد الوطني أو القومي، فان أي تصور مستقبلي لتجديد وظائف التعليم العالي والبحث العلمي لابد أن يؤخذ بالحسبان طبيعة التحديات التي يواجهها العرب في هذا القرن . فالاتجاهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية المعاصرة تدفع بالمسؤولين عن وضع سياسة وإستراتيجية التعليم العالي العربي إلى الاهتمام الجاد والمخلص بمعالجة كل العيوب والنواقص التي يعاني منها التعليم العالي وخاصة في مجال الاستعداد ، لان يصبح أكثر قدرة على تلبية متطلبات المجتمع، واحتياجات السوق وقبل ذلك تحقيق أهداف الأمة، ويتطلب الأمر ما يلي :
1_ إعادة النظر في هياكل وبرامج ومؤسسات التعليم العالي وعلى وفق فلسفة واضحة تعكس إستراتيجية عربية تعزز الشخصية العربية وتجعلها قادرة على مواجهة تيارات العولمة، وبما يؤدي كذلك إلى تحسين الإمكانات والمستلزمات للتدريس والبحث، وتفعيل التعاون العربي في مجال التعليم العالي ،والوقوف بوجه التنافس غير المشروع الذي تحركه النوازع الإقليمية . ويعد مشروع (جامعة العرب للدراسات العليا) الذي أقر قبل سنوات، بمثابة المحك الأول لقدرة العرب على التعاون في ميدان التعليم العالي .
2_ السعي باستمرار للربط بين خطة تطوير التعليم العالي والجامعي، وبين خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وتحقيق التوازن بين التوسع التعليمي والتربوي،والحاجات الاقتصادية والاجتماعية. ولاشك أن أهم عامل من عوامل هذا الربط، هو أن تتبنى الجامعات. سياسة قبول مستندة إلى حاجات المجتمع من مختلف التخصصات. ولابد عندئذ من (تنويع التعليم العالي) و( إحداث توازن بين التخصصات العلمية والتقنية والتطبيقية من جهة والتخصصات الإنسانية والاجتماعية والإدارية من جهة أخرى). وقد قوى في السنوات الأخيرة (اتجاه علمي) يقوم على الربط بين التعليم العالي والجامعي بمواقع العمل والإنتاج فنشأت مثلا أنواع من (كليات المجتمع) ذات مفهوم حديث تقدم خدماتها التعليمية إلى المنطقة الجغرافية، ويستند إلى (مبدأ الدراسة والعمل معا) .
3_ إشاعة فكرة (الجامعة المفتوحة) وذلك لأهميتها للمجتمع العربي في المرحلة الراهنة، وخاصة وان الجامعات التقليدية لاتزال محدودة الإمكانات، ولا يمكن إن تزيد من استيعابها لألوف من الطلبة المؤهلين والراغبين في التعليم العالي. وقد بدأت فكرة الجامعة المفتوحة تأخذ طريقها في بعض الدول العربية وتلقى هذه الفكرة تأييدا ودعما من اتحاد الجامعات العربية.
4_ الاهتمام بحركة البحث العلمي وتطوير مراكز علمية ومؤسسات متقدمة لاستيعاب العلماء والمفكرين والخبراء والأساتذة الذين يقودون عملية البحث العلمي على المستوى الدقيق والعالي والمتقدم.
5_ البحث في صيغ إجراء تقييم علمي وميداني مستمر للأوضاع التعليمية في الجامعات العربية، سواء من حيث مدخلاتها وعائداتها في التنمية أو من حيث كفاءتها ورصانتها العلمية والبحثية والتدريسية.
6_ إفساح المجال لإنشاء جامعات وكليات أهلية في البلدان العربية التي لم تشهد مثل هذه المؤسسات ، والتوسع في إنشائها في البلدان التي شهدت تأسيس هذه المؤسسات، بغية تخفيف الضغط على الجامعات القائمة وخلق المنافسة بين التعليم العالي (الرسمي) و التعليم العالي (الأهلي) بهدف تطوير النمطين ، لابد من إبراز فكرة (التعاون) و(التكامل) بين القطاعين الأهلي و الرسمي في مجال ترصين نظام التعليم العالي مع ملاحظة ان التعليم العالي في الوطن العربي ينبغي ان يظل تحت إشراف الدولة ضمانا لتحقيق المصالح الوطنية والقومية العليا، وحرصا على المبدأ الرئيس للتعليم، وهو خلق جيل يؤمن بالله والوطن والأمة، ويسعى إلى تحقيق الأهداف السامية في الحرية، والتقدم ،واحترام الإنسان، وضمان حقوقه، ورفاهيته، وبناء المجتمع المتطور القوي القادر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
أ.د. إبراهيم خليل العلاف
مركز الدراسات الإقليمية-جامعة الموصل
شهد وطننا العربي منذ أواخر القرن الثامن عشر، تحديات كبيرة، لعل من أبرزها الغزو الفرنسي لمصر سنة 1798 ،وكان من نتائج ذلك خلق مناخ ملائم لانتشار أفكار وقيم وعادات (الآخر) أي الغرب، وحدوث الصراع بين (القديم) و(الجديد) في ضوء ماسمي آنذاك بحركتي (التحديث) Modernization و (التغريب) Westernization .وتشبه هاتان الحركتان ما عرف قبل سنوات بحركة (العولمة) أو(الكوننة) أو( الكوكبة) Globalization ،هذا المصطلح الذي يصف ما يحدث في العالم اليوم من تضاؤل سريع في المسافات الفاصلة بين المجتمعات الإنسانية سواء ما يتعلق بانتقال السلع أم الأشخاص أم رؤوس الأموال والاستثمارات أم المعلومات أم الأفكار أم القيم والعادات.
ومما نلحظه أن الغرب، منذ أواخر القرن الثامن عشر، وحتى الوقت الحاضر، لم يتوقف لحظة واحدة عن طرق أبواب الوطن العربي ابتداءً من غزو فرنسا لمصر سنة 1798 وانتهاء بما يسمى اليوم بـ (الانفتاح ) و(محاولات الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي) . ويشير أحد الباحثين إلى أن سياسات الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، تدفع الحكومات في مختلف أنحاء العالم للأخذ ببرامج الإصلاح والتغيير ومنها: السعي باتجاه تكريس مفهوم (الخصخصة) Privatization ، والعمل على تحرير التجارة الدولية من خلال فتح أبواب الاقتصاد، أكثر من أي وقت مضى، أمام تدفق السلع والخدمات ورؤوس الأموال الآتية من الغرب، ويضيف أن الخصخصة التي تؤخذ عادة بمعنى تغيير نظام الملكية من ملكية عامة إلى ملكية خاصة، تعنى في التطبيق العلمي، نقل الملكية من (الدولة العربية) إلى الشركات المتعددة الجنسية والعملاقة .
ومما يجلب الانتباه في هذا المجال أن الغرب، يعمل حاليا على خلق وسيط جديد ليكون مسؤولاً عن إتمام ما يعرف ب( حركة الإصلاح والمشاركة السياسية والبناء الديمقراطي ) في هذا الجزء المهم من العالم ، لكي يحل محل أوربا و الولايات المتحدة الأمريكية وتحت تسميات جديدة منها مثلا:(السوق الشرق أوسطية) أو ( النظام الشرق أوسطي الجديد).
ومثلما فعل نابليون بونابرت، عندما دخل القاهرة أكثر من مائتي عام، حين أدعى انه جاء مدفوعا فقط بالرغبة في نشر مبادئ التنوير والحرية والمساواة. ومثلما فعل الجنرال ستانلي مود الذي دخل بغداد في مطلع القرن العشرين وقال انه جاء (محررا) و(منقذا) للعراق من العثمانيين وساعيا من اجل التقدم ، يجئ الأميركيون بعد ذلك ليقولوا أنهم يأتون إلى المنطقة بـ ( التنمية الاقتصادية) (والحرية ) (وحقوق الإنسان ) و(السلام)، ولعل ماجاء في كتاب الرئيس الإسرائيلي الحالي (شيمون بيريز) الموسوم: "الشرق الأوسط الجديد" يعبر عن هذه الأفكار اصدق تعبير. يقول شيمون بيريز:"ان التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي معيار نجاح إشاعة الديمقراطية في الشرق الأوسط :إن 60% ستين في المائة من الموارد النفطية العالمية تتركز هنا . ويتميز الشرق الأوسط بإمكانات سوق هائلة ، وان بناءه يؤلف تحديا كبيرا ،وبخاصة يفتح فرصا لا نهاية في المنطقة. إن الديمقراطية سوف تضع حداً للخطر الذي يهدد سلام المنطقة والعالم... (يقصد الحركات الإسلامية) أن الحركة ضد التحديث تنبع من الهوة بين أخلاقيات الغرب وآماله الاقتصادية من جهة، والواقع الفعلي من جهة أخرى" . ويضيف إلى ذلك قوله:" لقد بدأت العلاقات بين الأمم تأخذ، على أعقاب نهاية القرن العشرين، بعدا نوعيا جديدا فهناك تزايد في أهمية التقدم العلمي ، والاتصالات السريعة، وطرق جمع المعلومات ، والتعليم العالي، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المتطورة، وتعزيز البيئة السليمة التي تخلق الثروة، وحسن النية، تلك هي عناصر القوة المعاصرة.... زد على ذلك انه لايسعنا أن ننسى الصعوبة المتناهية ابدً للاحتفاظ بجيش عرمرم...."".
ويقف في نهاية كتابه ليطرح نفسه ممثلاً عن الغرب ومدافعا عن مصالحه قائلا:" إن استطالة أمد الصراع العربي- الإسرائيلي أدى إلى استمرار بؤس الملايين، وتحول الكثيرين ، انطلاقا من الشعور بالإحباط إلى الغيبيات رافضين الدولة الحديثة، غارقين في الأصولية الدينية، وهذه هي العوامل التي تهدد الآن استقرار وسلم المنطقة، وتندر المصالح العالمية بالخطر!!"( .وفي كلمته أمام برلمان غانا السبت 11 تموز –يوليو الجاري 2009 ابلغ الرئيس الأميركي باراك اوباما القادة الأفارقة، ومن خلالهم قادة الدول النامية، بأن التنمية المطلوبة تعتمد اعتمادا كليا على الحكم الراشد وأضاف :""أن هذا هو العنصر المفقود في أماكن كثيرة للغاية ومنذ وقت طويل للغاية .""وقال اوباما أن المساعدات الغربية يتعين أن يرافقها الحكم الراشد .ولا يختلف هذا الكلام عن ما كان يردده الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش وطاقم إدارته السابق.
وهكذا ويعد انقضاء 200مئتي عام من التجارب في (التقدم الاقتصادي) و(الاستقلال الاقتصادي) و(الاغتراب الحضاري والثقافي) وصلنا إلى نقطة، يقول الدكتور جلال احمد أمين ،لم يعد فيها من الصعب أن نتكهن بما يمكن أن تسفر عنه هذه "الحقبة الجديدة "من " التغريب " الذي يسعى الغرب إلى الإمساك بزمامه . إن الثمن الباهظ حقا الذي سوف يدفعه العرب هو مزيد من التشويه لهويتهم ،والمزيد من الاستغلال .والمزيد من التفاوت في الدخول ،والمزيد من التبعية للغرب ،وهذا يلقى على عاتق المربين وأساتذة الجامعات والمثقفين،قبل المسؤولين الرسميين ،مسؤولية كبيرة ليس في العمل من اجل الوقوف عند معالجة تأثيرات العولمة في مستويات الاستهلاك، ومعدلات النمو،ومستوى الأيدي العاملة ،وتوزيع الدخل ،وأنماط الاستهلاك البيئة ،وإنما للحفاظ على الهوية الوطنية والقومية. " إن الهدف الرئيسي للنظام الرأسمالي الأميركي هو تغيير النسيج الحضاري والاجتماعي للشعوب ، وعرقلة عملية النهضة الذاتية ، وتتفق معظم الدراسات والبحوث التي كتبت عن العولمة مع وجهة النظر هذه ،خاصة بعد أن اتضح البعد ألتدميري للعولمة في اقتصاد دول كثيرة . ويضع الأستاذ الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة المعاصرة في جامعة القاهرة ،العولمة في إطار فلسفي وتاريخي عندما يصل إلى نتيجة مفادها : " أن أشكال الاستعمار الجديد،بدأت في الظهور باسم الشركات متعددة الجنسية ، واتفاقية تعريف التجارة الخارجية ،واقتصاد السوق، والعالم ذي القطب الواحد، وثورة الاتصالات وشيوع فكرة ان العالم أصبح قرية كونية واحدة وصغيرة .كما تظهر العولمة في إحكام الحصار حول مناطق الاستقلال السياسي والاقتصادي والحضاري... وتهميش دور مصر و ...إحكام الحصار الاقتصادي حول آسيا ،كما حدث في انخفاض العملات الأسيوية المحلية."".وإذا كانت العولمة هذه تربط بالقوى الاقتصادية الفاعلة وهي الدول الصناعية الكبرى ، فأن للعولمة ركائز ومقومات أبرزها الخصخصة ، والشركات العملاقة متعددة الجنسية ، والمصارف الكبيرة ، وحرية التجارة ، والأسواق المالية ،والاهم من ذلك كله السعي لفرض الأفكار الرأسمالية وقيمها على الدول والشعوب وأبرزها نشر أفكار ( صراع الحضارات ) و (نهاية التاريخ ) وانتهاءه بسيادة نموذج الحياة الغربية ، ويجيى ذلك بعد سلسلة من المتغيرات الكبرى وأهمها : تفكك الاتحاد السوفيتي السابق ،وبروز الولايات المتحدة كقوة عالمية أحادية ، وشيوع أفكار الحرية، ومقاومة الأنظمة الشمولية، ونشر مفاهيم حقوق الإنسان، والسيادة المرنة ،والتدخل الدولي في تقرير مصير الدول وحتى الإقدام على احتلالها بحجج وذرائع مختلفة، والدعوة إلى حماية الأقليات ، وتنمية ما يسمى بالفكر المدني وحقوق الملكية الفكرية وما شاكل .)وللعولمة أهداف كثيرة أبرزها الهيمنة على اقتصاديات العالم والتحكم في مراكز صنع القرار السياسي العالمي ، وفرض السيطرة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية الغربية على الشعوب وتفكيك شخصيتها الوطنية والقومية وتجزئتها وجعل الدول التي لا تدور في فلكها دولا مستهلكة ، ضعيفة ،مسلوبة الإرادة ، وليست العولمة إذا قدرا لا مفر منه ، أو مخرجا جيدا من الواقع المظلم الذي تعيشه الشعوب، حيث الفقر والبطالة والمرض والتخلف بكل أنواعه مثلما يحاول بعض الكتاب الغربيين الإيحاء به، بل هي نزعة للهيمنة على الدول والشعوب، ومحاولة لاختراق الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، خاصة في الجنوب والشرق والسعي لهدمها وإحلال نظم وهياكل ومفاهيم جديدة تقوم على الفلسفة الذرائعية .
لذلك لابد من مواجهتها وذلك بالتركيز على الخصائص الوطنية والهوية القومية وتأكيد قيم المواطنة والحكم الراشد والتوجه نحو التنمية ووقف حالات الاستبداد والتسلط وانتهاك حقوق الإنسان واحترام حقوقه ومساعدته على التحرر من الأفكار البالية وتعليمه وتثقيفه وإشراكه في صنع القرار والابتعاد عن تهميش مثقفيه والبدء بحركة مخلصة وجادة ومنظمة تستهدف إصلاح البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. ويقينا أن التعليم العالي والجامعات ومراكز البحوث من أبرز ميادين المواجهة والمقاومة .
كما هو معروف فأن الجامعات في عالمنا المتغير ، والذي وقفنا قبل قليل عند ابرز ملامحه وتطوراته، وخاصة بعد انتشار وذيوع بعد ظاهرة العولمة، لم تعد ميدانا للتدريس فحسب، بل اتسمت مهامها لتكون قواعد للبحث العلمي،ولتطوير المعرفة، والتخطيط للمستقبل باتجاه خلق القاعدة العلمية الرصينة للمجتمع بالشكل الذي يساعده على مواجهة التحديات لذلك أصبح من الضروري أن تقوم الجامعة، بدور بارز ورئيس، وان تتوطد علاقتها بالمجتمع ومؤسساته على كافة الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. ويقوم الأستاذ الجامعي بمهام متعددة لعل في مقدمتها سعيه المستمر في نقل إحداث التطورات العلمية في اختصاصه إلى الطلبة وغيرهم . عن طريق التدريس والبحث والعمل في المختبرات والمصانع التابعة لمؤسسات الدولة والمجتمع .
وبقدر ما يتعلق الأمر بسياسة التعليم العالي في وطننا العربي، فان من الحقائق التاريخية المعروفة، إن عمر المؤسسات الجامعية العربية ليس طويلاً بالقياس إلى ماهو معروف عن المؤسسات الجامعية في العالم المتقدم . فعلى سبيل المثال، بدا التعليم الجامعي في العراق ومصر 1908. أما تاريخ التعليم العالي في منطقة الخليج العربي، فانه يرجع إلى السبعينات من القرن العشرين. وكذلك الحال في بعض الجامعات في المغرب العربي، حيث أن الجامعة التونسية مثلاً تأسست سنة 1960 في حين أن جامعة طرابلس في ليبيا تأسست في 1974، هذا إذا ما استثنينا الجامعات التقليدية التي ترجع جذورها إلى عصور ازدهار الحضارة العربية والإسلامية كالجامعة المستنصرية في العراق وجامعة الأزهر في مصر وجامعة الزيتونة في تونس وجامعة القيروان في المغرب..
وثمة حقيقة ،لابد من ملاحظتها، وهي أن النقلة النوعية في عدد، الجامعات العربية جرت في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، مما ساعد على ذلك جملة من التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية التي شهدها الوطن العربي آنذاك. وفي مقدمتها : تعاظم الوعي القومي العربي، وتنامي الحركات الوطنية، ونشوء كيانات سياسية عربية مستقلة، وتبلور الأفكار والديمقراطية، واعتبار التعليم العالي من مظاهر استكمال الاستقلال الوطني .
كان عدد الجامعات قبل الحرب العالمية الأولى بضعة جامعات، وفي المدة ما بين 1953-1959 أصبح (22) جامعة، أما في أواخر سنة 1997 فقد بلغ عدد مؤسسات التعليم العالي في الوطن العربي(175) جامعة، و(137) كلية جامعية و(473) كلية مجتمع.
وهناك حقيقة لابد من أخذها بنظر الاعتبار، وهي أن جميع الدلائل تشير إلى أن التعليم العالي العربي (الرسمي والأهلي)، سوف يشهد خلال السنوات القليلة القادمة تطوراً كبيراً وبوتائر متصاعدة لعوامل ثلاثة هي:
1_ استمرار تدفق أعداد من خريجي المدارس الثانوية (وصل عددهم سنة 1996 أكثر من 7 مليوناً)
2_ استمرار تبني الدول العربية لسياسة الباب المفتوح في القبول بالجامعات.
3_ السماح للقطاع الأهلي (الخاص) بولوج ميدان تأسيس وإدارة وتمويل مؤسسات تعليمية عالية.
وتشير بعض الدراسات إلى أن 60% من البلدان العربية سمحت للقطاع الأهلي بإدارة وتمويل مؤسسات التعليم العالي. فلقد بلغ نصيب القطاع الأهلي في سنة 1997 مانسبته 34% من مجموع عدد الكليات الجامعية و 27% من الجامعات و22% من مجموع المعاهد الفنية.
كما حققت استشارات البلدان العربية في التعليم العالي أرقاما قياسية في سنة 1996، إذ بلغت (6,9) مليار دولار أمريكي مقابل (4) مليار دولار في سنة 1990 أي بزيادة سنوية قدرها 15% ويعادل هذا الرقم مايقارب 1,8% من مجمل الدخل القومي العربي.
وشهدت الجامعات تطورا في أهدافها العلمية والتربوية، وازداد عدد المتخرجين في التعليم العالي بصورة مطردة. فقد أصبح عددهم في منتصف التسعينات من القرن الماضي ، قرابة ثلاثة ملايين متخرج بعد أن كان عددهم قبل الحرب العالمية الثانية لايزيد كثيرا عن عشرة آلاف متخرج. وازداد عدد الأساتذة ، وحدث تطور في النظرة إلى التعليم العالي من حيث انه عملية إنتاجية وليس خدمية.
ولكن هذا كله لم يمنع من تعرض سياسة التعليم العالي في الوطن العربي وخاصة في السنين القليلة المنصرمة إلى نقد شديد. وشخصت الكتابات والوثائق التي نشرت ، النواقص والسلبيات التي يعاني منها التعليم العالي وفي مقدمة ذلك:
1_ إن الجامعات لاتزال تخرج سنويا الأعداد الكبيرة من الطلبة الذين لايمكن للمجتمع الإفادة منم مؤهلاتهم فائدة ملموسة في المشاريع والخدمات.
2_ إن الجامعات ما تزال تمارس دورا تقليديا يقتصر على نقل العلم والمعرفة وإعداد الكوادر ، لكنها لم تقم بدورها في تغيير الأسس الاقتصادية والفكرية للمجتمع العربي .
3_ عجز الجامعات العربية عن مواكبة التطورات العلمية والاجتماعية والاقتصادية المعاصرة ، وذلك لجمود مناهجها ،واحتشاد صفوفها بالطلبة، وتخلف الأجهزة الإدارية والتدريبية فيها، وخضوعها للسلطات السياسية ،وتدني مستوى الرواتب والحوافز المالية للعاملين فيها .
يقول الدكتور ادوارد سعيد: إن بعض الجامعات في بلدان الوطن العربي لاتزال تدار، بشكل عام، تبعا لنسق ماموروث عن أو مفروض مباشرة من قبل قوة مستعمرة سابقا) .
أما الدكتور انطوان زحلان فيكشف عن غياب الأبحاث المتقدمة التي تقوم بها الجامعات العربية ، فضلا عن النطاق المحدود للنشاط العلمي بصورة عامة). ويشير تقرير اليونسكو لسنة 1997 إلى أن أعداد العلماء العرب، بالنسبة لعدد السكان لايتجاوز الـ (10%) من نسب الدول الصناعية. كما أن الإنفاق على (البحث والتطوير) لايتجاوز 3_5 في الألف من الدخل القومي، بينما تصل النسبة الى حوالي 20_30 في الألف في حالة الدول الصناعية المتقدمة.
ويرى الدكتور أسامة عبد الرحمن أن الجامعات العربية لم تحقق بعد الحد الأدنى من رسالتها وهو إعداد المتخصصين لمواجهة احتمالات التنمية، ويقول أن الجامعات العربية لاتزال إلى حد كبير رهينة الدور التقليدي وتكاد تعيش في عزلة عن المجتمع ومؤسساته الأخرى.فهي لاتمارس الدور النشط والفعال الذي تمارسه الجامعات في الدول المتقدمة من الخروج ببعض البرامج الى خارج أسوارها ومد خدماتها إلى المجتمع مباشرة، وربما كان مرد تلك العزلة، النظرة التقليدية إلى العملية التعليمية من جهة، والفجوة الكبيرة بين الجامعات ومؤسسات الدولة والمجتمع من جهة ثانية، وانعدام قنوات الاتصال مع الجامعات المتقدمة في العالم ومايجري من تطور وتقدم علمي متسارع من جهة ثالثة .
ويناقش الدكتور عبد الهادي الدرة واقع التعليم العالي من حيث غياب برامج خدمة المجتمع وانفصال معارف الخريجين ومهاراتهم عن حاجات المجتمع والسوق .
ويتطرق الدكتور الياس زين إلى ظاهرة هجرة العقول Drain Brain فيقول أن 70% من طلبة البعثات العرب لايعودون إلى بلادهم بعد إكمال دراساتهم خارج الوطن العربي وأسباب ذلك معروفة منها مايرجع الى عوامل سياسية واجتماعية، ومنها مايرجع إلى عجز الجامعات العربية عن تأمين بيئة علمية ونفسية ملائمة لأبنائها من العلماء، ناهيك عن عدم توفر مستلزمات البحث .
ويأخذ الدكتور عبد المالك التميمي على الجامعات أنها تفتقر فلسفة تعليمية وتربوية محددة ، وأنها غير مستقلة، ولا تتاح لها الفرص الكاملة لممارسة حرية البحث وحرية النقد. ويعتقد الدكتور صبحي القاسم أن هناك ضعفا في مواكبة مؤسسات التعليم العالي للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية في العالم، وتكييف مخرجاتها مع تلك المتغيرات ، واستمرار ضيق قاعدة التخصصات العلمية المتاحة للطلبة وتدني مؤشرات التعليم العالي من حيث كفاية الموارد المخصصة لعمل مؤسساته واتساع الفجوة مع مرور الوقت بين ماتخصصه الدولة لمؤسسات التعليم العالي، وتضم حجم مسؤولية هذه المؤسسات من ناحية، وضمان الحد الادنى لنوعية أداء تلك المؤسسات.
في ضوء تسارع توجه العالم نحو العولمة ، وازدياد مخاطرها على الشخصية الوطنية والقومية ، وانتشار وسائل الاتصال والمعلوماتية، فضلا عن تعاظم المسؤولية الملقاة على عاتق التعليم العالي في الوطن العربي من حيث وضع حلول ناجعة للقضايا والمشكلات العلمية والإنمائية التي يواجهها المجتمع العربي سواء على الصعيد الوطني أو القومي، فان أي تصور مستقبلي لتجديد وظائف التعليم العالي والبحث العلمي لابد أن يؤخذ بالحسبان طبيعة التحديات التي يواجهها العرب في هذا القرن . فالاتجاهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية المعاصرة تدفع بالمسؤولين عن وضع سياسة وإستراتيجية التعليم العالي العربي إلى الاهتمام الجاد والمخلص بمعالجة كل العيوب والنواقص التي يعاني منها التعليم العالي وخاصة في مجال الاستعداد ، لان يصبح أكثر قدرة على تلبية متطلبات المجتمع، واحتياجات السوق وقبل ذلك تحقيق أهداف الأمة، ويتطلب الأمر ما يلي :
1_ إعادة النظر في هياكل وبرامج ومؤسسات التعليم العالي وعلى وفق فلسفة واضحة تعكس إستراتيجية عربية تعزز الشخصية العربية وتجعلها قادرة على مواجهة تيارات العولمة، وبما يؤدي كذلك إلى تحسين الإمكانات والمستلزمات للتدريس والبحث، وتفعيل التعاون العربي في مجال التعليم العالي ،والوقوف بوجه التنافس غير المشروع الذي تحركه النوازع الإقليمية . ويعد مشروع (جامعة العرب للدراسات العليا) الذي أقر قبل سنوات، بمثابة المحك الأول لقدرة العرب على التعاون في ميدان التعليم العالي .
2_ السعي باستمرار للربط بين خطة تطوير التعليم العالي والجامعي، وبين خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وتحقيق التوازن بين التوسع التعليمي والتربوي،والحاجات الاقتصادية والاجتماعية. ولاشك أن أهم عامل من عوامل هذا الربط، هو أن تتبنى الجامعات. سياسة قبول مستندة إلى حاجات المجتمع من مختلف التخصصات. ولابد عندئذ من (تنويع التعليم العالي) و( إحداث توازن بين التخصصات العلمية والتقنية والتطبيقية من جهة والتخصصات الإنسانية والاجتماعية والإدارية من جهة أخرى). وقد قوى في السنوات الأخيرة (اتجاه علمي) يقوم على الربط بين التعليم العالي والجامعي بمواقع العمل والإنتاج فنشأت مثلا أنواع من (كليات المجتمع) ذات مفهوم حديث تقدم خدماتها التعليمية إلى المنطقة الجغرافية، ويستند إلى (مبدأ الدراسة والعمل معا) .
3_ إشاعة فكرة (الجامعة المفتوحة) وذلك لأهميتها للمجتمع العربي في المرحلة الراهنة، وخاصة وان الجامعات التقليدية لاتزال محدودة الإمكانات، ولا يمكن إن تزيد من استيعابها لألوف من الطلبة المؤهلين والراغبين في التعليم العالي. وقد بدأت فكرة الجامعة المفتوحة تأخذ طريقها في بعض الدول العربية وتلقى هذه الفكرة تأييدا ودعما من اتحاد الجامعات العربية.
4_ الاهتمام بحركة البحث العلمي وتطوير مراكز علمية ومؤسسات متقدمة لاستيعاب العلماء والمفكرين والخبراء والأساتذة الذين يقودون عملية البحث العلمي على المستوى الدقيق والعالي والمتقدم.
5_ البحث في صيغ إجراء تقييم علمي وميداني مستمر للأوضاع التعليمية في الجامعات العربية، سواء من حيث مدخلاتها وعائداتها في التنمية أو من حيث كفاءتها ورصانتها العلمية والبحثية والتدريسية.
6_ إفساح المجال لإنشاء جامعات وكليات أهلية في البلدان العربية التي لم تشهد مثل هذه المؤسسات ، والتوسع في إنشائها في البلدان التي شهدت تأسيس هذه المؤسسات، بغية تخفيف الضغط على الجامعات القائمة وخلق المنافسة بين التعليم العالي (الرسمي) و التعليم العالي (الأهلي) بهدف تطوير النمطين ، لابد من إبراز فكرة (التعاون) و(التكامل) بين القطاعين الأهلي و الرسمي في مجال ترصين نظام التعليم العالي مع ملاحظة ان التعليم العالي في الوطن العربي ينبغي ان يظل تحت إشراف الدولة ضمانا لتحقيق المصالح الوطنية والقومية العليا، وحرصا على المبدأ الرئيس للتعليم، وهو خلق جيل يؤمن بالله والوطن والأمة، ويسعى إلى تحقيق الأهداف السامية في الحرية، والتقدم ،واحترام الإنسان، وضمان حقوقه، ورفاهيته، وبناء المجتمع المتطور القوي القادر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق