الجمعة، 26 فبراير 2021

يوسف الصائغ ناقدا بقلم الاستاذ الدكتور محمد صابر عبيد

 

يوسف الصائغ ناقداً

 

 

الاستاذ الدكتور محمد صابر عبيد

مدخل:

      يمثّل يوسف الصائغ شخصية أدبيّة متكاملة بامتياز من الصعب أن تتكرر كثيراً، فهو أحد أبرز شعراء الحداثة العربية من جيل الخمسينيات الذي أعقب جيل الروّاد، وهو كاتب مسرحيّ من طراز رفيع، وروائي متمكّن، وكاتب مقالي متميّز، وفوق ذلك كلّه يتمتّع بمقدرة نقدية بارعة تجلّت عميقاً في كتابه النقديّ (الأكاديميّ) المبكّر نسبياً الموسوم بـ ((الشعر الحرّ في العراق منذ نشأته إلى عام 1958م))(1)، وهو في الأصل رسالته للماجستير التي حصل عليها في جامعة بغداد عام 1973م، إلاّ أنّ رصد الرؤية النقدية التي تمثلّتها هذه الرسالة الأكاديمية ومنهجها النقديّ يكشف عن فضاء نقديّ يتجاوز حدود الحصول على شهادة، وينفتح على أفق نقديّ عميق متأتٍ من الفهم والإدراك والاستيعاب والتمثّل، فضلاً على المعايشة والملازمة التفصيلية لشعراء المرحلة التي يشتغل عليها، وهو جزء من الحراك الشعري الجديد على النحو الذي يؤهله لتقديم رؤية نقدية تأسيسية تنطوي على الوعي المطلوب من الرصد والكشف والتحديد والمعاينة، بصورة شبة متكاملة وموضوعية وعارفة لا يمكن تجاوزها والاستغناء عنها في أية دراسة لاحقة تتناول حركة الشعرية العربية الحديثة في هذه المرحلة الزمنية.

 

ما بين الرؤية والمنهج النقديّ:

       كشفت الكتابة النقدية ليوسف الصائغ وعياً مبكراً بقضية العلاقة بين الروية والمنهج في مقاربة النصوص والظواهر الشعرية التي تصدّى لها، ففي المقدمة المهمة التي عرض فيها مشروعه لدراسة حركة الشعر الحرّ في العراق كشف الصائغ عن رؤية أصيلة لمقاربة الموضوع، على الأصعدة التاريخية والظروف الاجتماعية والثقافية والنفسية، وحساسية وجوده الفعلي الميداني في قلب الحراك الشعريّ الجديد بوصفه أحد شعرائه المؤمنين بقوته وجدواه في رسم مستقبل جديد للقصيدة العربية:

     ((دفعتني إلى اختيار موضوع الشعر الحرّ في العراق عوامل عديدة، لعلّ أبرزها أنني جرّبت كتابة الشعر على النمط الحرّ منذ مطلع الخمسينات، وكنت على علاقة بعدد غير قليل من شعرائه بصفتي أحد أفراد الجيل الذي أعقب جيل السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي.

ولقد عشت بشكل عام ظروفاً مشابهة للظروف التي عاشها الشعراء من أبناء هذا الجيل. ومن ذلك أنني درست في دار المعلمين العالية منذ سنة 1950 ـ 1951 حتى سنة 1954 ـ 1955. وزاملت خلال الدراسة عدداً من هؤلاء الشعراء، كما أتيح لي خلالها وبعدها أن أتعرّف على عدد كبير منهم.

وقد كان يجمعني وإياهم ـ غير ما ذكرناه ـ الاهتمام بالقضايا العامة. وبشكل خاص القضايا السياسية. وملمّاً ـ بما كانت تسمح به الظروف ـ بالأفكار السائدة آنذاك. ولاسيما الفكر الماركسي. وكان لي ـ فضلاً عن ذلك ـ بعض الاهتمام بالقصة القصيرة وبالفن التشكيلي. مما هيأ لي التعرّف على الجو الأدبي والفني عامة.

وكان اهتمامي بهذا الموضوع يزداد قناعة بأهميته وجدارته، فلقد أصبح الشعر الحرّ ظاهرة بارزة في حياتنا الأدبية، سواء في العراق أم في البلدان العربية، وبرهن عبر ما يقرب من ربع قرن على فاعليته وأصالته ولم يعد ظاهرة طارئة أو مؤقتة. وهناك دلائل تشير إلى أن الشعر الحرّ أثّر، وما يزال يؤثّر في أجيال متعاقبة من الأدباء، وأنه تطوّر وترسّخ وتوسّع في وقت أصبحنا نلاحظ فيه تقلّص نماذج الشعر التقليدي وجمودها وعجزها عن مواكبة التطوّر والاستجابة إلى دواعي حياتنا الجديدة.))(2)

    بمعنى أنّ الرؤية النقدية التي حملها هذا المشروع النقديّ لمّا تأت بالمصادفة أو عفو الخاطر، بل هي نتيجة لتفاعل شخصيّ ذاتيّ وموضوعيّ مع الحركة الشعرية الجديدة، عكست قصدية واضحة في العمل على تحليل الفضاء الشعريّ الذي افتتحه الشعراء الجدد، من حيث قدرته على تنحية الأنموذج الشعريّ التقليدي القديم كي يستبدل به المشروع الشعريّ الجديد الموصوف بالشعر الحرّ، إذ إدرك الصائغ أنّ هذه المهمة وقد أخضعها لهذه الرؤية النقدية لايمكنها أن تفي بمتطلبات البحث، من دون حضور منهج نقديّ بوسعه الاستجابة لفكر الرؤية النقدية ومجالها البحثي ومتطلباتها الأكاديمية:

       ((وبدهي أنني كنت مدركاً منذ البداية ـ على الرغم مما كان يزيّنه لي طموحي ـ أنني إذا أغامر بدراسة هذا الموضوع فلن يعني ذلك أن دراستي مؤهلة لأن تنهض بهذه المهمة الكبيرة. وكان واضحاً لدي أن المزية التي تقدمها لي علاقتي بأوساط الحركة الشعرية والأدبية، لن تغنيني في تناول موضوع متشعب ومتسع وغير ممهد، كموضوع الشعر الحرّ. لكنني كنت مطمئناً إلى أن أية دراسة تعتمد منهجاً نقدياً، وتتوسل إلى البحث بقدر من الروح العلمية يمكن أن تسهم بتواضع في فتح الطريق أمام مزيد من الدراسات الجادة والمنهجية.))(3)

     فهو يشير هنا إلى ضرورة المنهج النقديّ المستجيب لطبيعة الرؤية النقدية التي أشارت إليها المقدمة على نحو واضح وتفصيليّ، إذ إن اطمئنانه على نجاح مهمته النقدية إنما يتأتى من ((دراسة تعتمد منهجاً نقدياً))، وتستند إلى ((البحث بقدر من الروح العلمية))، على نحو تقدّم فيه رؤيتها الخاصة التي لا تجيب على الأسئلة كلها حيث ((تسهم بتواضع في فتح الطريق أمام مزيد من الدراسات الجادة والمنهجية.))، وهو ما يؤسس لوعي نقديّ عالي المستوى مشفوع بالفهم والحيوية والإحاطة والتواضع بوصفها من أبرز آليات البحث العلميّ المستند إلى رؤية والقائم على منهج نقدي منتج.

   يتكشّف مضمار المنهج النقديّ في الطريقة التي اعتمدها الصائغ لتوفير مناخ إجرائي نقديّ سليم، تعبيراً عن طبيعة هذا المنهج وهو يزاوج بين التاريخية والثقافية والاجتماعية انطلاقاً من النصيّة وعَوداً عليها، لذا فهو يعرض سياسته النقدية في العناية بانتقاء النماذج الشعرية المعبّرة أكثر من سواها عن مشكلة البحث، وهو ما يؤكد رؤية منهجية ثابتة وأصيلة استطاع الصائغ الوفاء لمتطلباتها في مراحل البحث كافة:

     ((ولقد عنيت خلال البحث أن أنتقي النماذج الشعرية التي تعبّر أكثر من سواها عن الظواهر موضوع الدراسة. ولئن كنت عولت كثيراً على الاستشهاد بنماذج الشعراء البارزين خلال هذه الحقبة كالسياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وكاظم جواد وعبد الرزاق عبد الواحد وسعدي يوسف وموسى النقدي، باعتبار هذه النماذج كانت أصدق تعبيراً عن حركة الشعر الحرّ ـ يجدر بي أن أشير إلى أنني خلال هذا لم أتجاوز عن البحث في نماذج الشعراء الآخرين ـ على كثرتهم وتنوّع مستوى نتاجهم وقد استشهدت بها متى وجدت ذلك ضرورياً.))(4)

   فهو إذن اعتمد أسلوباً منهجياً انتقائياً مسنداً بتبرير نقديّ مقنع في اختيار نماذج التطبيق لشعراء المرحلة البارزين كونهم الأكثر حضوراً في صياغة المشهد الشعريّ الجديد وتثبيت أركانه، لكنّ ذلك لم يمنع الناقد من الاستعانة بنماذج الشعراء الآخرين الأقلّ حضوراً كونهم مشاركين في صناعة المشهد ولو بقدرٍ أقل من شعراء المقدمة، وهو ما يؤكّد عمق وعيه في تسخير إجراءته النقدية لرؤية واضحة ومنهج قادر على حمل الرؤية وتنفيذ معطياتها الإجرائية في ميدان القراءة والكشف والتحليل والتوصّل النقديّ.

 

مقدّمات التغيير الشعريّ ومظاهره:

   استطاع يوسف الصائغ بوعيّ نقديّ متميّز أن يحدد أبرز مقدّمات التغيير الشعريّ الذي حصل في العراق، وأن يرصد أهم مظاهرة عبر متابعة دقيقة وتفصيلية تمكّن فيها من الإحاطة بمجمل حركة التغيير الشعريّ التي حصلت في العراق على يد الروّاد، إذ سلّط الضوء على تخوم المرحلة الشعرية التي سبقت ظهور الفجر الجديد للقصيدة العربية، حيث كانت سلطة الجواهريّ الكبير تهيمن على فضاء التلقيّ الشعريّ العراقيّ والعربيّ، وكان من الصعب جداً اختراق هذه الهيمنة واجتراح صوت شعريّ آخر بعيد عن سلطة الجواهري الشعرية، فعبّر الصائغ في مقاربته لمقدمات التغيير الشعريّ ومظاهره عن أنّ قوّة قصيدة الشعر الحرّ تكمن في قدرتها على اختراق الظاهرة الجواهرية على هذا النحو:

    ((لقد كان الجواهريّ يمثل في تلك المرحلة نموذجاً بارزاً وطاغياً (5) بسبب من أنّ شعره كان يمثل الشكل الأكثر تكاملاً للشعر التقليديّ قياساً للنماذج المطروحة في العالم العربيّ، ولاستجابة شعره للظروف والشعارات السياسية والثورة، ولاستفادته الضيقة من بعض معطيات الشعر الحديث ولموقفه الشخصيّ من الأحداث السياسية والفكرية وما ناله جرّاء ذلك من اضطهاد ولخلو الساحة الشعرية من شاعر كبير، وأخيراً لتبنّي القوى السياسية له، عدا أن الجو العام ما كان ممهداً لنمط آخر من الشعر، بحيث استطاع شعر الجواهري أن يستقطب اهتمام العراقيين.))(6)

   إنّ الرغبة العارمة في التغيير كما يرى الصائغ أصبحت سمة من سمات هذا العصر، وقد انشغل روّاد التغيير بالبحث عن سبل جديدة للتعبير عن الحالة الجديدة بالرغم من كلّ شيء، وهو ما رصده الصائغ بدقة تعبّر عن فهمه وإدراكه لطبيعة الحراك الحضاريّ الذي هيمن على العقل والذائقة في هذا الوقت:

     ((لقد كان البحث والتشبّت بما يمكن أن يقدّم بديلاً في مجال التغيير هو السمة الأساسية، وكانت هذه المحاولات التي أنتجها أواخر الأربعينات تحمل طابع التجربة ويتركّز جلّ اعتمادها على النموذج الأوربي لجدّته وجدارته، ولالتصاقه بمظاهر الحياة الأوربية المتقدّمة، التي قدّمتها سنوات ما بعد الحرب بوتائر متصاعدة، فرحنا نقلّدها في كلّ شيء تقريباً))(7)

  ولأنّ القضية الشعرية تتمركز في صلب بحث الصائغ النقديّ هنا، ولأن قضية الإيقاع الشعريّ هي محور فعاليات التغيير والتجديد الشعريّ على مرّ العصور، فإن ملاحظته بهذا الشأن تأتي في جوهر إدراك مقدّمات التغيير ومظاهره:

    ((إنّ من يستقرىء تاريخ الشعر العربيّ خلال هذه الحقبة، يلاحظ أن الدعوة إلى التحرر من قيود الوزن والقافية، ظلّت ترتفع في سورية ولبنان ومصر والمهجر والعراق، وسيجد أن هذه الدعوة كانت تلقى دائماً من يستجيب لها بدرجات متفاوتة))(8)

  إذ حدّد أولاً أمكنة التغيير تاريخياً ((سورية ولبنان ومصر والمهجر والعراق))، ثم صنّف درجات استقبال أنشطة التغيير في مجتمع التلقي على هذا المستوى ((كانت تلقى دائماً من يستجيب لها بدرجات متفاوتة))، بما يؤكّد استقراءه الدقيق لقضية التغيير وحيثياتها.

   ويجد الصائغ هنا أنّ الظرف التاريخيّ كان مهيئاً لولادة شعرية جديدة كانت كل مظاهر الحياة توحي بها وتبشّر على نحو ما بقدومها:

     ((لقد هيأت سنوات الخمسينات ظرفاً ملائماً لهذا الطموح، عبر جيل جديد من الشباب المثقف الذي لا يفتأ ينمو عددياً ونوعياً وخاصة في المدارس والمعاهد والكليات. كان هذا الجيل أكثر انسجاماً وثقة بنفسه من جيل الروّاد الذي سبقه، فهو أشدّ اهتماماً بما يجري حوله وأكثر حماسة للمساهمة في ما يجري وهو ـ بحكم الظروف العامة ـ كان أوفر حظاً من الجيل الذي سبقه في الاطلاع على منجزات التطوّر في الثقافة العامة، وأشدّ ارتباطاً بالحركة الاجتماعية والسياسية.))(9)

   إنه يشير هنا إلى جيله الذي أعقب جيل الروّاد، ولا شكّ في أنّ وصفه بـ ((كان هذا الجيل أكثر انسجاماً وثقة بنفسه/أشدّ اهتماماً/وأكثر حماسة/أوفر حظاً/وأشدّ ارتباطاً))، إنما يندفع باتجاه الدفاع عن الأنموذج والصراع بين جيل الروّاد (السياب ونازك والبياتي والحيدري) والأجيال اللاحقة وأقربها جيل يوسف الصائغ، وقد سمي بـ ((جيل الخمسينيات)) مرّة تمييزاً له عن جيل الروّاد، وسمّي مرة أخرى بـ ((الجيل الضائع)) تمييزاً له عن الجيل الذي سبقه ((جيل الروّاد)) والجيل الذي لحقه ((جيل الستينيات))، وعلى الرغم من أنّ جيل الصائغ الذي أعقب جيل الرواد شكّل أهمية خاصة ونوعية في مسيرة شعرية القصيدة الحرّة في العراق، إذ كان إلى جانبه سعدي يوسف ومحمود البريكان ورشدي العامل وغيرهم، وهم بلا شكّ علامات فارقة في فضاء هذه القصيدة، إلاّ أنّ تفوّقهم على جيل الروّاد ـ كما يرى الصائغ هنا ـ أمر يحتاج إلى تدقيق وتمحيص ورصد نقديّ عالٍ، فجيل الروّاد ظلّ حتى الآن أهم جيل في تاريخية الشعر الحرّ في العراق والعالم العربيّ عموماً، وتجربة روّاده مازالت تحظى بالدراسة والبحث والقراءة والاهتمام النقديّ أكثر من تجارب كل الأجيال التي لحقته بامتياز، مما يجعل من رأي الصائغ هنا متسرعاً بعض الشيء وينطوي على دفاع واضح عن جيله.

 

الشعرّ الحرّ: النشأة والريادة

   ربما كانت قضية الشعر الحرّ من حيث النشأة والريادة من أهم الموضوعات التي شغلت الدرس النقديّ العراقيّ والعربيّ مطلع الخمسينيات وما تلاها، وقد خضعت هذه القضية عند الصائغ لدراسة ومتابعة ورؤية على درجة عالية من الوعي والمعرفة، كونها تمثّل إحدى القضايا التي بقي النقد العربيّ يشتغل عليها وولدّت حراكاً نقدياً بالغ الأهمية وقتها، حفّزت الصائغ على الخوض فيها على هذا النحو:

      ((يمكن للباحث أن يحدد لنشأة "الشعر الحرّ" في العراق الحقبة الممتدّة بين عام 1947 ـ 1950. تذكر نازك الملائكة أن بداية الشعر الحرّ، كانت الشهر العاشر من سنة 1947، عندما كتبت قصيدتها "الكوليرا"(10) ويذكر بدر شاكر السياب أنه كتب قصيدته "هل كان حباً" في نهاية عام 1946 (11)، ولقد شغل عدد من مؤرّخي الشعر الحرّ بمناقشة قضية السبق هذه كما شغل بها الشعراء الروّاد ردحاً من الزمن. ولا أحسب أن قضية السبق هذه تستحق كلّ ما أوليت من اهتمام، فنحن حين نضع في اعتبارنا ما سبق نموذجي بدر ونازك من محاولات ندرك أن تجارب الشاعرين العراقيين إنما جاءت لتكمل ما سبقها، وما فضل بدر ونازك وسواهما إلا في أنهم استطاعوا عبر ظروف ملائمة، أن يحولوا هذه التجارب إلى نقطة جذب واهتمام، ومن ثمّ إلى ظاهرة، وقد مرّ بنا أن الظروف التي عاشها العراق أوجدت تربة صالحة لنموّ هذه التجربة، وينبغي التأكيد لهذا، إن لمجموع الرواد فضلاً في غرس هذه البذرة ورعايتها، وإنه لمن العبث لذلك البحث عن أوّل شاعر وأول قصيدة، وأحسن قصيدة ذات أسلوب حرّ. إذ لولا مجموع هذه المحاولات على اختلاف مستوياتها، ولولا المثابرة على تقديمها ولولا ملاءمة الظروف، لما قدّر لهذه المحاولات أن تعيش ولماتت وضاعت شأن ما سبقها من محاولات. على أن ما يجب أن نسجل لنازك سبقها إلى تقديم تجربة الشعر الحرّ عبر مقدّمتها التي كتبتها لمجموعة "شظايا ورماد" التي صدرت في صيف عام 1949.))(12)

    إنّ الرؤية التي سجّلها الصائغ هنا تنطوي على قدرٍ عالٍ من الوعي النقديّ الموضوعيّ في إدارة صراع ملف الريادة، من حيث تقليل الاهتمام بقضية السبق الزمنيّ من جهة، والقول على هذا الصعيد بإمكانية إحالة إرهاصات الريادة إلى ما قبل السياب ونازك، فضلاً على نموذجية الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية والحضارية التي قادت إلى التجديد، ومن ثمّ إيلاء المقاربة النقدية التي تميزت بها نازك أهمية تتفوّق بها على السياب، وعلى الرغم من أهمية وجهة نظر الصائغ هنا وموضوعيتها إلا أنّ السجال حول الريادة وإن لم يعجب الكثيرين بوصفه سجالاً حول قضية السبق الزمني الذي لا أهمية له قياساً بالسبق الفنيّ الإبداعيّ، إلاّ أنّ هذه السجال الذي كان على أشدّه بين نازك والسياب، ومن ثمّ تدخّل فيه نقّاد المرحلة، كان له الأثر البالغ في نشر حراك نقديّ وثقافيّ طوّر كثيراً من وعي فكرة الريادة ومن رؤية الروّاد أنفسهم، وكشف عن فضاء سجاليّ أثرى هذه القضية كثيراً وأسهم في تحويل مسار الريادة الزمنيّ إلى مسار فنيّ فيما بعد، على النحو الذي عمّق الصورة ووسّع الرؤية وقاد سلطة الريادة إلى ما أضحت عليه فيما بعد من أهمية وقوّة حضور وتأثير.

   وفي هذا السياق ينظر الصائغ إلى المقاربة النقدية التي وضعتها نازك الملائكة مقدمة لديوانها "شظايا ورماد" بوصفها أوّل بيان شعريّ حول قصيدة الشعر الحرّ، بكلّ ما ينطوي عليه هذا البيان من أهمية تاريخية وفنية ونقدية تندرج في إطار مرافعتها عن خطورة هذه القصيدة من جهة، وريادتها لها من جهة أخرى:

     ((تستمدّ مقدمة "شظايا ورماد" أهميتها من أنها أول إعلان تاريخيّ نقديّ عن ميلاد التجربة الجديدة، تقدّمها واحدة من أبرز روّاده، عبر نماذج شعرية وعبر توضيح لبعض جوانبه وتسويغ لدواعيه، مما هيأ لهذه النماذج أن تلفت الأنظار، وأن تكون بعض أسسها واضحة أمام النشء الشعريّ الجديد، فلم يكد يمضي على صدور المجموعة عام أو بعض عام حتى استطاع الشعر الحرّ بفضل هذا وبفضل عوامل أخرى أن يجتذب عدداً أكبر من الشباب(13). وتتبع أهمية المقدمة أيضاً، من جرأتها على طرح المفاهيم الجديدة، ونقد قيود الشعر التقليديّ، الأمر الذي يعرّض المتصدّي لهذه الناحية إلى هجوم التراثيين، وذوي النزعات القومية السطحية في ظرف كان الشعور القوميّ فيه مستفزّاً بسبب نكبة فلسطين، وقد كانت نازك أهلاً للقيام بهذه المهمة لعدّة أسباب، فهي من اللواتي توافرت على دراسة التراث دراسة أكاديمية، وهي في منجى من أن تتّهم بمعاداة القومية، فضلاً عن إلمام الشاعرة بلغة أجنبية واطلاعها على نماذج الأدب الأجنبي ومدارسه. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ نازك لم تكن حين كتبت المقدمة بمنجى من دواعي التأكيد على ريادتها وتسجيل السبق لنفسها، ربما في منافسة مع بدر شاكر السياب، ولعلّ هذا يفسّر لنا الحماسة التي كتبت بها المقدّمة، وسرّ الحرص على أن تحتفظ للمقدمة بما كان بارزاً من طبيعة هذه المحاولات الجديدة مع تقديم بعض القيم الشكلية المستقاة من المدارس الأجنبية، التي ما نحسب أن نازك كانت السباقة إلى إعلانها فهي قيم طرحها الرمزيون اللبنانيون وجماعة أبولو، وكتاب (السحرتي) الصادر عام 1948. وما من شكّ في أنّ نازك إن لم تكن قد سبقت بدر في تقديم نماذج الشعر الحرّ الأولى، فهي قد سبقت في مجال الإعلان المركز عن ظاهرة جديدة.))(14)

    إذ يكشف الصائغ هنا عن قوة حضور نازك المزدوجة ـ نصّاً ونقداً ـ في الهيمنة على مقعد الريادة على حساب السياب ربما، وعلى الرغم من أنّ الصائغ يستعرض قوة حضور نازك في هذا المشهد على أكثر من مستوى، إلاّ أنه في الوقت نفسه لا يستجيب لفكرة استحواذها على صدارة الريادة، إذ إنّ المحاولات الأولى كما يرى الصائغ سبق أساساً على ما هو مختلف عليه بين نازك والسياب، مع أنّه يميل إلى ترجيح كفتها على كفّة زميلها السياب في ما تتمتّع به من مؤهلات وميزات شخصية وفنية ـ ذاتية وموضوعية ـ يجعلها قادرة على أن تحتّل موقعها المرموق في صدارة حركة ريادة الشعر الحر.

 

النقد حول الشعر الحرّ:

    إنّ ثورة الشعر الحرّ كانت أبرز علامة من علامات التحوّل الكبير والمدهش في الشعرية العربية، وصورة أصيلة من صور الحداثة العربية التي نقلت القصيدة العربية من مرحلة ((قصيدة الوزن)) التي استمرّت قروناً إلى ما اصطلح عليه فيما بعد بـ ((قصيدة التفعيلة))، لذا كان لا بدّ أن يحاط هذا التحول الكبير برعاية نقدية ترتفع إلى مستواه وتجيب على أسئلته المهمة التي راحت تتفتّح على أكثر من صعيد وتتجه أكثر من اتجاه، وكان للشاعرة نازك الملائكة الدور الأبرز في الدفاع عن القصيدة الحرّة، لكنّ الصائغ يرى أن وعي نازك ـ ولاسيما في المرحلة الأولى ـ لم يكن كافياً ليرتفع إلى مستوى الحدث:

     ((لقد كان النقص عند نازك قضية التجديد في مقدمتها، دون أن يكون لها مفهوم متكامل عن هذا التجديد الذي تريده، وكانت الحدود التي اقترحتها لا تكفل إحداث تغيير أساس في طبيعة القصيدة العربية بل تتحرّك في مجال التهيئة لذلك. وللباحث أن يعزو ذلك إلى عوامل عديدة، من أهمها أن نازك لم تكن تحمل نظرة متكاملة إلى الحياة، تفسر بها على ضوئها الظواهر وتحللها وتقترح طرق تغييرها، بل إنني لأزعم أنها لم تكن تنطوي على صورة واضحة لطبيعة العمل الشعريّ كظاهرة حضارية، ولا على وظيفة الشعر في الحضارة.))(15)

   تعكس هذه الرؤية الخصبة للصائغ بعداً ثقافياً معادلاً للبعد الأدبيّ، وإذا كانت مقدّمة نازك تمثّل على نحو ما البيان الأول لقصيدة الشعر الحرّ، فإنها لم تكن على قدر المهمة الكبيرة التي اضطلعت بها لأنها كانت تعاني نقصاً في معالجة قضية التجديد، واتضح هذا النقص عند الصائغ في عدم وجود ((مفهوم متكامل عن هذا التجديد))، فضلاً على أن الحدود التي اقترحتها لهذا التجديد المأمول ((لا تكفل إحداث تغيير أساس في طبيعة القصيدة العربية)) بل هي ((تتحرّك في مجال التهيئة لذلك))، بمعنى أنها لم تكن أكثر من إرهاص تبشيري وإعلاني بهذا التجديد القادم، ثم يتحوّل الصائغ بعد ذلك من ناقد أدبيّ إلى ناقد سوسيوثقافيّ في مقاربة أسباب هذا النقص في فهم التجديد عند نازك، إذ يعزوه إلى ((أن نازك لم تكن تحمل نظرة متكاملة إلى الحياة)) تسهّل عليها تحليل الظواهر واقتراح سبل لتغييرها، ويخرج من هذه الرؤية السوسيوثقافية إلى رؤية نقدية كونيّة ((لم تكن تنطوي على صورة واضحة لطبيعة العمل الشعريّ كظاهرة حضارية، ولا على وظيفة الشعر في الحضارة.))، وربما كان الصائغ هنا قد ذهب بعيداً في التعامل مع شاعرة شابة في مقتبل عمرها الشعريّ والنقديّ، وعاملها معاملة شاعر كبير وناقد كبير في التجربة والخبرة والفهم والاطلاع وتشكيل مثل هذه الرؤية الكونية، في حين عبّر عن إعجاب أكبر بما كتبه محمود أمين العالم في مقاربة فكرة التجديد هذه:

    ((من الواضح أن الآراء التي قدمها محمود أمين العالم في هذا المقال هي أكثر نضجاً وتكاملاً، مما احتوته مقدمة "شظايا ورماد" وربما كان ذلك ناجماً عن أن العالم على عكس نازك يتبنى منهجاً واضحاً (المنهج الماركسيّ) فهو أقرب إلى فهم متكامل للعمل الشعريّ ووظيفته الحضاريّة، على الرغم من أنه اعتبر تجديد الشكل كفيلاً بأن يوصل إلى تطوير في طبيعة الشعر العربيّ حيث يلتقي هنا بشكل ما مع نازك الملائكة.))(16)

   ولعلّ وصف المنهجية الواضحة الموسومة عند العالم بـ (المنهج الماركسي) الذي تربّى عليه الصائغ نفسه بأنها ((أكثر نضجاً وتكاملاً))، لا يمكن الاطمئنان إليه كثيراً لأنّ شرط حضور المنهجية ـ على أهميته ـ ليس هو الأمر الحاسم في قضية النضج والتكامل، بل تقتضي هذه المنهجية وجود حساسية خاصة بالجنس الأدبيّ الذي تعالجه المنهجية، ونحسب أن العالم قارب قضية التجديد الشعريّ في القصيدة الحرّة من منظور ماركسيّ يعلي من شأن الفكرة على حساب القصيدة وجوهر حراكها الفنيّ والجماليّ من الداخل.

    غير أنّ الصائغ يسعى إلى تقديم مرافعة عالية المستوى للدفاع عن العالم بوصفه الناقد الأول في مسيرة هذه القصيدة:

    ((لا نبالغ حين ندّعي أن العالم ـ بين النقّاد العرب ـ هو أول من طرح في مقاله وفي مرحلة مبكّرة قضية الدلالات التي يحتويها العمل الفني، وقضية تحويل الحدث الشخصيّ إلى حدث إنسانيّ، والإشكال الجزئي إلى إشكال كليّ خلال الصياغة الفنية، وأنه أكثر النقاد توفيقاً في تشخيص واقع الشعر العربيّ، وتأكيده على صفة الغنائية فيه وطابع الإنجاز اللغوي والبلاغي))(17)

   ولا شكّ في أنّ معاينة دقيقة للميزات التي حفلت بها مقالة الناقد العالم في مرآة الصائغ النقدية قد لا تصل إلى نتيجة يسعى إليها الصائغ تماماً، فـ ((قضية الدلالات التي يحتويها العمل الفني،/وقضية تحويل الحدث الشخصيّ إلى حدث إنسانيّ،/والإشكال الجزئي إلى إشكال كليّ خلال الصياغة الفنية،/وتأكيده على صفة الغنائية فيه وطابع الإنجاز اللغوي والبلاغي)) ليس فيها جديد إذا ما عدنا إلى الموروث النقدي العربي من جهة، وما قدّمه النقد الغربي حتى ذلك الوقت من جهة أخرى، فضلاً على أنّ هذه الرؤية التي حفلت بها مقالة العالم ـ على أهميتها طبعاً ـ رؤية عامة تختلف عن رؤية نازك الخاصة ذات المقصدية العالية.

   لكنّ الصائغ يتجّه إلى مقاربة علاقة النظرية بالتطبيق، بين دعوة نازك للتجديد في مقدمتها لديوانها ((شظايا ورماد)) وتجلّي الأفكار النظرية التجديدية في ميدان النصوص الشعرية، وهو سؤال مهم يمكن توجيهه لنازك هنا، وذلك لأنها صاحبة المشروع مع بقية زملائها ومن المفروض أن تكون الأفكار النظرية المطروحة حول التجديد مشتغلة بعمق في نصوصها ونصوص زملائها:

     ((السؤال الذي يجدر البحث فيه هو: أين هذه المقدمات من المحاولات الشعرية التي ضمتها المجموعات "شظايا ورماد" و "أساطير"  و "المساء الأخير" هل استطاعت هذه النماذج التي قدمتها أم تكون تطبيقاً للآراء التي طرحتها؟))(18)

   وهو سؤال لا يخلو بطبيعة الحال من تشكيك مبطّن يؤكد وجود فارق واضح بين الحماس النظري في المقدمة، والإجراء الإبداعيّ في النصوص الشعرية، لكنه على أية حال صحيح داخل إطار النظر النقديّ الذي يوجب حضور هذه العلاقة بين النظرية والتطبيق.

   يذهب الصائغ بعد ذلك نحو تفاصيل فضاء التجديد على صعيد حركة العناصر الشعرية بوصفها أساس التجديد وموضوعه وميدانه، ولأن قضية الوزن الشعريّ هي أول قضية اندفعت إلى مسرح التجديد وقد تمثّل في خروج الشعراء الجدد على ((قضية الوزن))، التي تتجسّد في القضاء على هيمنة (الشطر والعجز)، فإنه يشير إلى هذه الظاهرة الإيقاعية بوصفها أبرز ظاهرة في القصيدة الجديدة ـ نظراً وطبيقاً ـ:

     ((لاشك في أن قضية الخروج على تقاليد الوزن كانت أبرز ما أشارت إليه المقدمات. وقد طبّق الشعراء ذلك عبر عدد من المحاولات "الجديدة" في الوزن))(19)

    وهنا ينظر الصائغ إلى الشاعر بلند الحيدري بوصفه الأكثر وعياً في إدراك المتطلبات الفنية والجمالية للقصيدة الجديدة، إذ إسهمت عوامل عديدة في تشكيل هذه الرؤية وتكريسها تميزاً عن زملائه الروّاد:

     ((لا نغالي حين نذهب إلى أن بلند كان آنذاك أكثر وعياً للعديد من المتطلبات الفنية في العمل الشعريّ، وبأنّ استقلال شخصيته ـ نسبياً ـ وتماسه المباشر مع بعض المنجزات الجديدة للفن التشكيليّ العراقيّ وتأثره ببعض معطيات الفكر الوجوديّ، وحريته أمام تأثيرات التراث الشعرية والنظرية المدرسية والأكاديمية. كانت عوامل أنضجت لديه وعياً فنياً أكثر تحرراً وجرأة))(20)

    وقد حصر الصائغ مميزات وعي بلند بـ ((استقلال شخصيته ـ نسبياً ـ/تماسه المباشر مع بعض المنجزات الجديدة للفن التشكيليّ العراقيّ/تأثره ببعض معطيات الفكر الوجوديّ/حريته أمام تأثيرات التراث الشعرية والنظرية المدرسية والأكاديمية))، وهي بلا شكّ قضايا في منتهى الأهمية ميّزت بلند في هذا السياق عن شعراء جيله.

   ينتبه الصائغ في معرض رصده ومقاربته لقصيدة الشعر الحرّ وما أحيط بها من نقد ومراجعه وسجال إلى الأنموذج الذي قدّمه حسين مردان، وهو أنموذج مختلف ومغاير أثار ضجّة أخلاقية في ذلك الوقت، كانت هذه الانتباهة تنمّ عن وعي نقديّ واضح حين أدرج قصيدة مردان في سياق الجرأة والتجديد، والسعي إلى الخروج برؤية أخرى تفتح ثغرة في جدار القصيدة الجديدة وهي تخضع لحجاج فنيّ وجماليّ وتقانيّ بالدرجة الأولى:

     ((ومهما يكن السبب الذي حال بين حسين مردان وبين المحاولة الجدية في وقت مبكّر، إن علينا أن نؤكد على القيمة التي تنطوي عليها "قصائد عارية" في مجال الجرأة والتجديد، فذاك يمثل في رأينا جزءاً من ظواهر التطوّر في الشعر العراقيّ الجديد بشكل عام.))(21)

   وفي سياق النقد حول الشعر الحرّ كان جبرا إبراهيم جبرا أحد أهم من أسهم في هذه القضية على مستويات مختلفة، منها المقدمة التي كتبها لمجموعة بلند الحيدري الثانية ((أغاني المدينة الميتة))، إذ يلاحظ الصائغ أنّ هذه المقدمة لم تضف جديداً إلى مسيرة النقد حول الشعر الحرّ في ذلك الفضاء، على الرغم من أنها حظيت باهتمام كبير وقتها:

     ((يلاحظ الباحث على "المقدّمة" أنها لم تقدّم منهجاً أساسياً لنقد الشعر الحديث، عدا ما أوردته من ملاحظات عامة، لا تنهض إلى مستوى صيغة جدية للدعوة الجديدة. وهي عدا هذا لم تتوفر على دراسة ما أنجزه بلند في مجال التجديد قياساً لما شهدته السنوات نفسها من إنجازات مماثلة، ومقارنة بالنماذج الأجنبية، ولم تتطرق إلا بشكل موجز جداً لما كان يعنيه الإنجاز الشكليّ في الخروج على نظام الصدر والعجز ووحدة القافية، ولعلّها للأسباب التي ذكرناها لم تعن بالجانب التطبيقي بحيث بقيت ملاحظات جبرا عامة ومفتقرة إلى السند والنموذج))(22)

    ويبقى الشاعر بدر شاكر السياب في المدوّنة النقدية التي عالجت المسيرة في الانبثاقة الأولى لقصيدة الشعر الحرّ هو الأكثر حظوة واهتماماً، وإذ لفتت قصيدته ((حفّار القبور)) الاهتمام النقديّ منذ نشرها فإن قصيدته الثانية ((المومس العمياء)) ضاعفت من هذا الاهتمام النقديّ، بما بين القصيدتين من تواشج وتلاحم تشكيليّ وسيميائيّ:

     ((لقد نجحت القصيدة في الوصول إلى نموذج شعري ذي جوانب متعددة، سياسية واجتماعية ونفسية، عبر أداء قصصيّ متوتّر، وتناول إنسانيّ يتجاوز المباشرة والتقرير إلى حدّ كبير))(23)

   يقارب الصائغ في سياق مراجعته للنقد حول الشعر الحرّ كتاب إحسان عباس المبكّر عن الشاعر عبد الوهاب البياتي ((عبد الوهاب البياتي والشعر العراقيّ الحديث ـ دراسة تحليلية ـ)) عام 1955م، وعلى الرغم من أهمية الكتاب في هذا الوقت المبكّر نسبياً من حياة الشعر الحرّ، إلاّ أنّ الصائغ يسجّل الكثير من الملاحظات النقدية التي يعتقد بأنها كانت تنقص كتاب عباس، ولاسيما فيما يتعلّق بالمنهج التحليليّ النصّيّ الذي اعتمده:

      ((وإحسان عباس بالإضافة إلى هذا كلّه، أهمل دراسة حياة البياتي وشخصيته وظروفه الشخصية التي يمكنها أن تساعد ـ دون شك ـ على الاقتراب بشكل أنسب من تجربته الشعرية. وبدلاً من هذا كلّه افترض أن البياتي متأثراً بالتصويريين وبـ :ت. س. إليوت" بشكل خاص، وبنى على هذا الافتراض أهم فصول دراسته، ولقد كان طبيعياً لهذا أن يصل إلى نتائج تفتقر إلى الأدلة الموضوعية. ويلاحظ على منهج الكتاب أن إحسان عباس لم يدرس الأوضاع التي كان يعيشها العراق سياسياً واجتماعياً وثقافياً، وبالتالي لم يعن بتبين أثر هذه الأوضاع في شعر البياتي، كما أنه لم يعن بالاطلاع على الأوضاع الأدبية في العراق، وبشكل خاص تطور التجربة الشعرية الجديدة، ولهذا فلقد كانت دراسته لعبد الوهاب مجردة ومعزولة عن ارتباط شعر عبد الوهاب البياتي بالحركة الشعرية في العراق))(24)

    ويتوجّه في إطار النقد حول البياتي إلى مراجعة المقدمة التي كتبها عبد الرحمن الشرقاوي وأحمد سويد المحامي لمجموعته الشعرية "المجد للأطفال والزيتون"، لكنه لا يبحث في التفاصيل النقدية للمقدمة بل يكتفي بوصف قصائد المجموعة بأنها ((ذات مضمون سياسي حافل بالشعارات))، وكأنه يختصر النصّ والمقدمة النقدية معاً:

    ((أصدر البياتي مجموعة "المجد للأطفال والزيتون" عام 1956، وهو هارب من العراق.. وقد كتب مقدمة المجموعة عبد الرحمن الشرقاوي وأحمد سويد المحامي، والمجموعة تضمّ قصائد كتبها الشاعر بعد صدور مجموعته "أباريق مهشّمة" وأغلب القصائد من الشعر الحرّ وذات مضمون سياسي حافل بالشعارات))(25)

   أما ما يتعلّق بالشاعرة نازك الملائكة التي لم تكتف بكونها في طليعة رواد القصيدة الحرّة، بل كانت من أبرز منظّريها ايضاً، فقد حظيت باهتمام نقديّ واضح من مقاربة يوسف الصائغ، إذ حاول أن يلخّص جزءاً من رؤيته النقدية في هذا المجال بقوله:

     ((ويلفت انتباه الدارس في هذا المجال، المدة التي فصلت بين صدور "شظايا ورماد" و "قرارة الموجة" إذ إنها تبدو طويلة، ولاسيما حين نضع في اعتبارنا أن نازك لم تنشر خلال هذه المدّة في الصحف والمجلات سوى عدد محدود من القصائد، كما يلفت الانتباه قلة النماذج الحرة التي تضمنتها المجموعة وقلة النماذج التي نشرتها نازك من هذا الضرب بشكل عام، مما لا يتناسب مع ريادتها ودعوتها المتحمّسة للشعر الحرّ في مقدمة "شظايا ورماد"(26)، على أنه من الضروري أن يربط الباحث هذه الظاهرة بالظروف القلقة التي عاشتها الشاعرة خلال الخمسينات وبانشغالها في الدراسة وبنشر البحوث في الشعر، سواء في مجلة الأديب أو في مجلة الآداب))(27)

    إنّ ملاحظة الصائغ هنا جديرة بالاهتمام لكونها لخّصت على نحو عميق ومركّز إشكالية حضور نازك في ميدان القصيدة الحرّة على مستوى الإبداع النصّي، وعلى مستوى التنظير النقديّ، وكلّ ما خالط ذلك وما شابه من ظروف وتداخل وسجال، إذ يبدو وكأن الصائغ هنا يحاول أن يلتمس لها الأعذار بصدد ما قيل عنها من أنها لم تتمكن من الإيفاء بوعودها، لا على مستوى القصيدة ولا على مستوى التنظير النقديّ.

 

إيقاع الشعر الحرّ:

    إن قضية ((الإيقاع)) كانت من القضايا المصيرية والحاسمة التي خضعت لحوار وسجال وتفاعل في الشعرية العربية الحديثة داخل أروقة نقد قصيدة الشعر الحرّ، ففي حين تخلّت قصيدة الشعر الحرّ عن النظام السيمتري الثابت في قصيدة الوزن باعتمادها على شطر وعجز متساويين وقافية موحّدة، تشكّل فيما عُرف نقدياً بالإيقاع الخارجيّ، صار عليها أن تجد إيقاعاً بديلاً على الأقل في المناطق التي ضاعت فيها ملامح الإيقاع الخارجيّ في التناظر التفعيليّ المتواتر بين الصدر والعجز وتكرار القافية، وقد أشار الصائغ إشارة (ربّما تبدو متسرّعة) في التقليل من جرأة الروّاد في الثورة على إيقاع القصيدة العربية التقليدية المعروف:

     ((ولقد مرّ بنا أن الشعر العربي شهد خلال هذا القرن محاولات أخرى جريئة في مجال الخروج على نظام الصدر والعجز تماثل أو تشابه ما حاوله الرواد. ولكن هذه المحاولات كانت محدودة وضعيفة ومتفرقة تفتقر إلى الظروف المناسبة للتحول إلى ظاهرة.. ولهذا سرعان ما ضاعت، رغم إنها كانت ترهص بالثورة القادمة في موسيقى الشعر وتشير إليها.))(28)

   إنّ النظر إلى إيقاع القصيدة عند الصائغ وغيره الكثير من نقاد القصيدة الحرّة لم يكن بالانفتاح الذي يمكن أن يتلاءم مع ثورة هذه القصيدة، إذ ظلّت الفكرة العروضية بسلطتها الخليليّة المهيمنة طاغية على كلّ سجال إيقاعيّ في هذا المجال، وكانت النظرية العروضية بمقاييسها الضاغطة هي المسطرة التي تسيّر الرؤية النقدية على أساسها، ولم تُفهم الخروجات التي حفلت بها بعض قصائد الروّاد إلاّ بوصفها ارتباكاً وتعثّراً:

      ((إلا أنه بسبب من ضعف وعي الرواد في السنوات الأولى بخطورة إنجازهم، وبسبب من أن التجربة كانت ما تزال وليدة، تفتقر إلى الزمن لتتطور وتترسخ، كان لا بدّ لموسيقى الشعر الحرّ أن تعاني الارتباك والتعثر قبل أن تتماسك وتتبلور في إطار له حدوده وأسسه الظاهرة.))(29)

   لم يكن السبب الذي أورده الصائغ هنا لبلبلة الحسّ الموسيقيّ من حيث ازدواج النمطين التقليديّ والحرّ لدى أكثر الروّاد واضحاً وصحيحاً ومنطقياً، ومع أنّ مغادرة النمط التقليديّ كان سيعطي فرصة أكبر لهؤلاء الشعراء من أجل تعميق رؤيتهم الإيقاعية على نحو أفضل، لكنّ ممارسة كتابة النمطين ليست السبب فيما اعتقده الصائغ بلبلة:

     ((وقد كان لازدواج النماذج التي يقدمها الشعراء، أثر في بلبلة الحسّ الموسيقيّ الشعريّ لدى كل شاعر، وفي مجمل تطور الموسيقى الشعرية عامة. وكان يزيد سن هذا التناقض الاختلاف الذي ينجم بين ما يقدمه الشاعر الواحد عبر النمط التقليديّ والنمط الحرّ، من حيث اللغة والصور والموسيقى، وما من شك في أن هذا كان يدل على الإحساس بالموسيقى الجديدة لم يكن منهجاً متكاملاً لدى الشعراء، إذ ندر أن رأينا حتى نهاية عام 1958 شاعراً يتفرغ بشعره للنمط الحرّ تماماً))(30)

    نظر الصائغ إلى واحدة من أهم قضايا الإيقاع في نظرية العروض العربية نظرة واعية تنمّ عن عمق وإدراك لأهمية الترخصات العروضية، إذ وصف النقاد الذين تشددوا في قضية الزحافات والعلل كونهم متعصبين فيما أباحه ـ حتى القدماء ـ، فكيف بقصيدة جديدة مختلفة استهدفت أساساً التخلص من ربقة التشدد والتعصّب العروضيّ:

    ((الواقع إن كان الزحاف ظاهرة معروفة في الشعر التقليديّ أجازها القدماء ضمن حدود فإنه لمن المتعصب بعد أن أبحنا للشاعر الحرية في الخروج على النظام الخليليّ للصدر والعجز أن نشدد معه على الزحافات.))(31)

  ويُظهِر الصائغ وعياً إيقاعياً عالياً في سجاله مع رأيين مختلفين للشاعر صلاح عبد الصبور وناجي علوش بشأن إيقاع قصيدة السياب ((في المغرب العربيّ))، حيث مزج بحور الهزج والوافر والرجز بطريقة لم يتبيّنها عبد الصبور ولم يدركها علوش:

      ((ويعكس لنا نقد عبد الصبور وتعليق علوش أن بدراً في محاولته هذه كان يقدم تجربة غريبة على الشعراء والنقاد، بحيث لم يستطع أن يتبيّن عبد الصبور أن في القصيدة انتقالاً من وزن إلى آخر، ولم يستطع ناجي علوش أن يدرك أن الأبيات التي حسبها دون وزن هي من وزن الرجز، على الرغم من أن علوش كان في الواقع يقدم مستوى عالياً من الحسّ النقديّ حين أكّد أنّ هذا لا يهمّ بمقدار ما يهمّ ما في القصيدة من إبداع))(32)

   وقد أشاد الصائغ هنا بوعي السياب النقديّ حين ردّ على ما لم يتبيّنه عبد الصبور ولم يدركه علوش في إيقاعية القصيدة ومزج البحور، وأكّد على الضرورة الفنية والتشكيلية المهمة التي قادت السياب إلى هذه التجربة الإيقاعية المثمرة والمنتجة في مزج هذه البحور:

      ((السياب في إيضاحه هذا يعكس وعياً نقدياً ذا مستوى يتميز خلال تلك الحقبة. وقدم تجربته مبررة من وجهة نظر عامة سواء كان هذا التبرير ناجحاً في تعليل الانتقال من وزن إلى آخر أم فاشلاً.. إنّ السياب بتجربته هذه أعطى للشاعر الحقّ في الانتقال من وزن إلى أخر، إذ كان هذا الانتقال يرقى إلى التعبير عن غرض فني في القصيدة. وبهذا فليس من حقّ الشاعر أن يخلط بين الأوزان لمجرّد نزوة أو رغبة شخصية، وهذا يؤكّد أن على التجربة الموسيقية في هذا المجال أن ترتبط بالتجربة العامة للقصيدة لتؤكدها وتغنيها لا أن تجعلها تتعثر.))(33)

   يناقش الصائغ في إطار هيمنة بحر شعريّ معين في سياق زمني معيّن على الكثير من الشعراء المتجايلين مناقشة واعية، تعكس فهماً جيداً ومتابعة دقيقة لمسيرة قصيدة الشعر الحرّ وهو يدرسها دراسة أكاديمة غير تقليدية:

       ((وما من شكّ في أنه يصعب تعليل هذه الظاهرة تعليلاً مقنعاً غير أنه يمكن القول بأنه في كلّ مرحلة شعرية يسيطر على الشعراء عامة لسبب أو لعدّة أسباب نوع معين من الإحساس بنغم ما بحيث ينقاد أكثرهم إلى تبنيه، وقد يكون هذا الإحساس ناجماً عن التأثر بنموذج شعريّ ناجح يخلق جواً موسيقياً مسيطراً.. فإذا صدق افتراضنا بأن قصيدة (في السوق القديم) وقصيدة (حفار القبور) و (المومس العمياء) للسياب كانت من القصائد البارزة في الجوّ الشعريّ خلال السنوات الأولى لانتشار الشعر الحرّ. فهل نعدّ مغالين إذا نحن ذهبنا إلى أن شيوع موسيقى البحر الكامل كان مرتبطاً إلى حدّ ما بموسيقى قصيدة (في السوق القديم).))(34)

   وينتهي في سياق مقاربته لإيقاعية قصيدة الشعر الحرّ إلى رؤية في غاية الأهمية تتمثّل في إشارته العميقة إلى غنى ما حققه الشعراء الروّاد ومن تلاهم عراقياً وعربياً، على النحو الذي يتوجّب فيه على النقّاد القادمين مهمة الفحص الدقيق والواعي للتجربة الإيقاعية التي تركتها هذه القصيدة، مما يتطلّب بحثاً أصيلاً يكشف عن حقيقة هذا المنجز:

     ((وطبيعيّ أن هذه الإنجازات ما كان يمكن أن تتحقق في ظلّ الالتزام بالضوابط الخليلية. وطبيعيّ أيضاً أن الحكم على نجاح تجارب الشعراء في هذا المجال سيبقى حتى سنوات طويلة رهناً بمقدار ما يستلهم الناقد والشاعر على حدّ سواء لذوق العصر وحركته وموسيقاه، وبطاقة هذه التجارب على البقاء ومن ثمّ قدرتها على الاغتناء والتطوّر. وهذا ما حدث فعلاً تدل عليه دراسة النماذج الشعرية التي قدّمها الشعراء في السنوات التالية سواء على نطاق العراق أو على نطاق الوطن العربيّ. وهذا ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأنّ مهمة الناقد إنّما تبدأ من هنا أيّ إنه حريّ باستنباط حدوده النقدية من خلال التجارب الناجحة والآفاق التي تشير إليها.))(35)

   إنّ الصائغ بلا أدنى شكّ يرسم هنا حدوداً واضحة للخارطة النقدية المقترحة في نقد تجربة الشعر الحرّ، ويسهم في إضاءة الطريق لذلك حين لا يكتفي بمجرد الدعوة للرصد والفحص والمعاينة بل يؤسس لرؤية نابعة من ضمير هذه القصيدة وبؤرتها وحقيقتها، بوصفه أحد أبرز شعرائها وناقداً متابعاً لها في تجربته النقدية الأكاديمية هذه.

 

لغة الشعر الحرّ:

        كانت لغة الشعر الحرّ بوصفها مكوّناً مركزياً من مكوّنات القصيدة الحديثة لا تقلّ أهمية عن الإيقاع، لذا فقد حظيت بأهمية نقدية عند شعراء هذه القصيدة ونقادها معاً، وكان أن أتى عليها الصائغ في تشكيل رؤيته النقدية حول الشعر الحرّ في العراق، وقد أفرد جزءاً كبيراً من مداخلته النقدية لتجربة السياب بوصفه ـ حسب الصائغ ـ مهتماً بحساسية اللغة الشعرية في تجربته، ولا سيما في أعادة الحياة إلى مفردات مهجورة وضخّها بطاقة شعرية جديدة: ((إنّ السياب استطاع بما يملك من مكانة شعرية أن يعيد إلى عدد من الألفاظ القديمة طاقتها على التجدد والشعر وأن يفجر فيها المعنى من خلال الاستعمال المرفق))(36)، ساعده في ذلك معرفته للخواص العميقة لهذه المفردات وإمكانية التصرّف فيها شعرياً، على النحو الذي يمكنه في ذلك استفزاز الطبقات الخفية فيها حين تتحوّل إلى شعر: ((يتصرّف السياب تصرفاً متمكناً في جمع المفردات))(37)، وتتسّم هذه الإمكانية وحسن التصرّف المتمكّن في اللغة الشعرية بما يمتلكه السياب من جرأة وحساسية: ((السياب جريء على الفعل جرأة تستجيب لانفعاله وحساسيته عبر مطاوعة مخزونه اللغوي))(38).

     لا تتوقف براعة السياب في نظر الصائغ عند الاحتفاء بالمفردة ونسجها شعرياً بطريقته الخاصة، بل تتجاوز براعته حدود المفردة منتقلة إلى التركيب، إذ ((التركيب عند بدر متين جزل حافل بأساليب الاستفهام والنداء والتعجب والقسم والشرط والتقديم والتأخير وما من شكّ في أنّ متانة التركيب عنده جعلت أسلوبه مميزاً))(39)، فهو يستثمر كل الإمكانات الأسلوبية المعروفة في أساليب التعبير اللغوية على النحو الذي ينتهي فيه إلى متانة في التركيب تنتهي إلى أسلوب مميز شكّل متناً اصيلاً من متون الشعرية العربية الحديثة.

   على العكس من السياب كان البياتي وسواه من الشعراء الآخرين لا يحفلون بأهمية الأساليب النحوية واللغوية والبلاغية التي تغني اللغة الشعرية وتثريها، إذ ((إنّ البياتي وسواه من الشعراء الشباب لم يفيدوا من التراكيب اللغوية الموروثة كالتقديم والتأخير والحذف والاعتراض والاستفهام والتمني والقسم والنداء والشرط بحدود متفاوتة))(40)، ويرصد الصائغ قضية بالغة الأهمية في توظيف الإمكانات اللغوية ذات الطبيعة المعاصرة في شعر الروّاد، وهي قضية التواصل مع الحياة اليومية واللغة الشعبية التي تمثّل روح العصر وحساسيته، فـ ((لعلّ من أهمّ ما تنبّه إليه الشعراء الشباب في مجال اللغة، كان يتمثل بالدعوة إلى الاستفادة من لغة الحياة اليومية، ومن اللغة الشعبية، وبالرغم من أن هذه الدعوة ظلّت تفتقر إلى التطبيق المبدع، إلا أنها بشكل عام كانت تعبّر عن الإحساس بأزمة اللغة عامة واللغة الشعرية بوجه خاص))(41)، غير أنّ هذه اللغة اليومية أصبحت فما بعد لدى الأجيال اللاحقة لجيل الرواد سمة بارزة حظيت بتطوير بنية القصيدة من خلالها، حين تمكّن بعض شعرائها البارزين من تحقيق استثمار حيّ وحيويّ لإمكانات هذه اللغة التعبيرية والتشكيلية على نحو غزير وثريّ.

 

الشعر الحرّ والصورة الشعرية:

     الصورة الشعرية في قصيدة الشعر الحرّ هي الأخرى حظيت بأهمية لافتة بموازاة الإيقاع واللغة الشعرية، إذ تبنّى نقّاد هذه القصيدة وشعراؤها رؤية جديدة للصورة الشعرية تسعى إلى تجاوز النمط المعروف في قصيدة الوزن، وربما تكون الصورة الشعرية إحد أهم عناصر التشكيل الشعري الذي يستوعب حساسية التجديد، حيث تعتمد على استنطاق الماحول الثقافيّ والفنيّ والجماليّ والحياتيّ العام من أجل تمثيلها نصياً، وقد رصد الصائغ فعالية الصورة الشعرية في الحراك الفنيّ والجماليّ للشعر الحر بقوله:

     ((تتمتّع الصور الشعرية بقابلياتها على تضمن الحركة والصوت واللون، وهي من خلال ذلك تكتسب حيويتها في القصيدة وبالتالي تعكس هذه الحيوية على جوّ القصيدة. ولقد كان على القصيدة الجديدة أن تعنى بكلّ هذه الجوانب مستجيبة للحركة المتسارعة والمتنوعة التي يعيشها العصر سواء عن وعي نقديّ أو عن وعي عام. وما من شكّ في أنّ الخروج على رتابة الوزن التقليديّ كان في واقعه يمثل انسجاماً مع التطورات التي شهدتها الحياة وإيذاناً بتطوّر مماثل في حركة القصيدة وحركة الصور فيها. ولقد كان انعكاس كل هذه في القصيدة يتمثل بعدد من الجوانب المؤهّلة للتعبير عن الحركة خارجياً وداخلياً. وتشكل العناية بالفعل أبرز هذه الجوانب ذاك أن الفعل هو الوجه الظاهر لحركة الصورة. ومن ثمّ فإن افتقار الصورة إلى الفعل يسلبها دون شكّ الطاقة على الحركة ويكسبها نوعاً من السكون.))(42)

    وهنا يحلل الصائغ بذكاءٍ نقديٍّ ممارسٍ وعارفٍ علاقة الصورة بالإيقاع عبر التطور الحضاريّ في الحياة التي استجابت له قصيدة الشعر الحرّ استجابة نوعية، فضلاً على الوعي اللسانيّ بوظيفة الفعل الشعريّ في تشكيل الصورة وتفعيل حيواتها، وبناء حراك شعريّ يتلاءم مع طبيعة التجربة وحساسيتها ورؤيتها وطاقتها التعبيرية والأدائية.

   يولي الصائغ الفعل الشعريّ أهمية استثنائية متأتية من وعيه السرديّ والدراميّ حيث تنهض فعالية التشكيل السرديّ والدراميّ أساساً على حركة الفعل وتموّجاته، إذ يرى أن وظيفتها وظيفة مزدوجة إيقاعية وسرد ـ درامية في آن:

       ((تقدم الأفعال للصورة مزايا نفسية وفنية من خلال اختيار الشاعر لها للتعبير عن الجوّ. فالأفعال مسؤولة غالباً عن ارتخاء الحركة  في الصور أو توترها. ليس عبر علاقة هذه الأفعال ببعضها حسب، بل عبر طبيعة الفعل المنتقى نفسها))(43)

    ويتدخّل تدخلاً نقدياً عميقاً في تصوير قيمة الحضور الأدائيّ للأفعال في حركية الشعر داخل بناء القصيدة وكيانها، ليس على مستوى التعبير الدلاليّ فقط بل على المستوى التشكيليّ الأسلوبيّ الذي يُخرِج القصيدة من فضاء تقليديّ إلى فضاء متجدّد:

      ((إذ يسهم الفعل في حركة الصورة ينهض البناء أيضاً بقسط مهم من هذه الحركة، عبر الطابع السرديّ والقصصيّ، والتكرار والتقديم والتأخير والحذف))(44)

   ربما يكون الصائغ من النقاد القلائل الذين لفتوا الانتباه إلى علاقة الصورة بالإيقاع على هذا المستوى، وهي قضية لم تفحص جيداً لا في منطقة الصورة الشعرية ولا في منطقة الإيقاع، وهي بحاجة إلى رصد تفصيليّ قد يكشف عن علاقة الصورة في حركية الوزن الشعريّ ولاسيّما في القصائد التي تقوم على مزج البحور الشعرية والانتقال من وزن إلى آخر بحسب حاجة التجربة، التي هي حاجة صورية مثلما هي حاجة نفسية تتصّل بطبيعة التجربة وكيفيتها ورؤيتها تنعكس على الإيقاع وتضطرّه إلى هذا التحوّل:

     ((يكمل الإيقاع من طاقة الصورة على الحركة، ويتحقق ذلك باختيار الوزن أو الخروج من وزن إلى آخر))(45)

  ينتبه الصائغ في هذا السياق إلى فعالية الصوت الشعريّ وهو يتداخل مع الصورة الشعريّة وصولاً إلى بلاغة الإيقاع، وما تنتجه فعالية التناوب الإيقاعيّ بين الصوت والصمت، أو الحركة والسكون، في إشباع حاجة الصورة إلى تشكيل قوّة حضورها داخل بنيان القصيدة وكيانها، على النحو الذي يؤثّر في حيويتها:

      ((ترتبط الحركة في الصورة بالصوت فهو يزيد من حيوية القصيدة وتكاملها ويعطيها بعداً جديداً، ويشكل الصمت أو السكون طرفاً لتردد الصوت في القصيدة))(46)

   ولا يتوقف تشكيل الصورة الشعرية لديه عند حدود علاقة الصوت والصمت والحركة والسكون في بناء الصورة الشعرية، بل يخرج من ذلك إلى توظيف ممكنات شعرية أخرى تتيحها القصيدة تتمثّل في تقانات التشكيل ولاسيما الضوء واللون:

     ((إضافة للحركة والصوت في الصورة الشعرية يشكل الضوء ومن ثم اللون جزءاً مهماً من مقومات الصور))(47)

   بحيث تسهم طاقة الضوء أولاً، واللون ثانياً، في رفد الكيان الصوريّ الشعريّ المبني على تداخل الحركة والصوت بطاقات فنية وجمالية ترتفع بمستوى التشكيل إلى قيمة تعبيرية وأدائية عالية، تدعم حضور الصورة الشعرية في القصيدة وتحكم قوتها التعبيرية والتشكيلية على نحو يؤكّد فيه الشاعر وعيه وثقافته ومعرفته وحساسيته باعلى درجة ممكنة.

 

تقانات شعرية أخرى:

    لم تتوقّف دراسة يوسف الصائغ النقدية عند المكوّنات المركزية لقصيدة الشعر الحرّ في موضوع الإيقاع واللغة الشعرية والصورة الشعرية، بل استكمل ذلك بتحليل مجمل التقانات الشعرية الأخرى المكمّلة لها بمختلف أشكالها وصيغها ومهاراتها، وكان الرمز الشعريّ من أبرز التقانات الشعرية التي قاربها الصائغ بوصفه يمثل رؤية شعرية لا غنى للقصيدة عنها، إذ سجّل على شعراء هذه المرحلة ضعف وعيهم في هذا المجال:

    ((ظلت الرموز التي استعملها الشعراء الشباب حتى أوائل الخمسينات سطحية وقلقة فلقد كانوا في هذه السنوات يفتقرون إلى وعي الدور الذي يمكن أن ينهض به الرمز في القصيدة. وكان أكثرهم يتجه إلى الرمز باعتباره ضرباً من الكناية أو التشبيه. ولم يكن هؤلاء يعنون بارتباط الرمز بالسياق الشعريّ، واغتنائه من خلال المعاناة مما يكسبه طاقة إيحائية جديدة. لقد اتجه الشعراء في السنوات الأولى إلى الرموز مفرغة من القدرة على الإيحاء، وخالية من التميز والخصوصية، وبشكل خاص في المجال السياسي))(48)

    ولأن التقانات السردية والدرامية كانت من الأولويات التي يعنى بها الصائغ شعرياً، فقد اهتمّ بالبحث عنها في النماذج الشعرية لشعر الرواد في مرحلتهم الشعرية الأولى، وأظهر معرفة احترافية عالية في طبيعة الاشتغال الشعريّ على تقانة الحوار بمظهريها السرديّ والدراميّ، وطريقة إفادة الشاعر من إمكاناته الفنية والجمالية:

    ((تختلف قيمة الحوار في هذه المحاولات وسواها، باختلاف نوعيته، ثمة الحوار الذي يستند إلى صيغ القول (قالت، قلت،صرخت، همست) والحوار الذي يستغني عن هذه الأفعال ويكتفي بالإشارة المعروفة في القصة (الشارحة). ويختلف الحوار أيضاً في بنائه أننا نقع على لهجة مصنوعة لا تقرب من أسلوب الحوار والحديث وغالباً ما تكون جملته طويلة. كما نلاحظ أنماطاً مكثفة من الجمل الحوارية. تعتمد إلى حدّ ما طابع الحديث والكلام، وتحاول الاستفادة من تركيبه))(49)

   إنه ينظر بدقة شعرية عالية إلى طريقة توظيف تقانة الحوار في النصّ الشعريّ، فثمة حدود معينة لا يمكن تجاوزها بحيث يؤثّر الاستخدام في الكيان الشعريّ، أو أن هذا الكيان الشعريّ غير مستعد لمثل هذا التوظيف لغياب المبرر الفنيّ والموضوعيّ:

     ((ولئن لم يستطع الشعراء تعميق استعمالهم للحوار. إنّ هذا الاستعمال كان دون شكّ فاتحة لتطور لاحق استطاع أن يقرب عدداً من النماذج الشعرية من الطابع المسرحيّ.. ولفرط تاثير القصة في الشعراء نقل أكثر الشعراء الشباب إلى قصائدهم طابع السرد والوصف القصصيّ دون أن يكون في هذه القصائد أي حدث قصصيّ))(50)

    ولاحظ في سياق تطور الاستخدام الشعريّ لتقانات أخرى متاحة أن بعض الشعراء الرواد أفاد من تقانات القصة والسينما، ولاسيما في قضية التقطيع (المونتاج) التي أسهمت في إبراز الصيغة المشهدية على أساليب بناء القصيدة:

    ((استلهم الشعراء من القصة والسينما بحدود متفاوتة أسلوب (المونتاج) إنهم يعمدون إلى جمع صورة إلى أخرى بحيث يشكل هذا الجمع نسقاً ذا مدلول فنيّ ونفسيّ. إنهم يفعلون فعل الفنان في السينما حين يبني المشهد عبر لقطات مختلفة يجمعها هدف واحد، هو خلق الأثر الفني المطلوب))(51)

    وبذلك يكون الصائغ قد أحاط إحاطة تامة بتجربة الرواد الشعرية في انبثاقتهم الشعرية الأولى في العقد الأول تقريباً من ولادة الشعر الحرّ في العراق، وعلى الرغم من أنّ دراسته لهذه المرحلة كانت أكاديمية إلا أنه تجاوز الحدود الأكاديمية بعد استيفاء شروطها، وكشف عن رؤية نقدية متقدمة يمكن أن تضاف بجدارة إلى مواهبه في الشعر والمسرح والرواية والمقالة.

 

 

الهوامش والإحالات:

(1)    الشعر الحرّ في العراق منذ نشأته حتى عام 1958، يوسف الصائغ، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2006. ومن الجدير بالذكر أن هذه النشرة هي النشرة الثانية للكتاب إذ صدرت النشرة الأولى عن دار الأديب للنشر، بغداد، عام 1978.

(2)    م . ن: 3.

(3)    م . ن: 6.

(4)    م . ن: 10.

(5)    ينظر آراء السياب والحيدري والبياتي بالجواهري في كتاب (آراء في الشعر والقصة)، خضر الولي، مطبعة دار المعرفة، بغداد، 1956 : 17،21،37.

(6)    الشعر الحرّ في العراق: 26.

(7)    م . ن: 29.

(8)    م . ن: 31.

(9)    م . ن: 44.

(10)                        قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، ط1، منشورات دار الآداب، بيروت، 1962: 21.

(11)                       مقدمة ديوان بدر شاكر السياب، دار العودة، بيروت، 1971، وينظر مجلة الآداب، حزيران 1954: 69.

(12)                       الشعر الحرّ في العراق: 47.

(13)                        قضايا الشعر المعاصر: 23.

(14)                       الشعر الحرّ في العراق: 48 ـ 49,

(15)                       م . ن: 49.

(16)                       م . ن: 50.

(17)                       م . ن: 51.

(18)                       م . ن: 52.

(19)                       م . ن: 53.

(20)                       م . ،ن 54.

(21)                       م . ن: 54.

(22)                       م . ن: 56.

(23)                       م . ن: 62.

(24)                       م . ن: 68.

(25)                       م . ن: 74.

(26)                       تنظر مقدمة شجر القمر، ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت، 1971: 422.

(27)                       الشعر الحرّ في العراق: 76 ـ 77.

(28)                       م . ن: 182.

(29)                       م . ن: 183.

(30)                       م . ن: 184 ـ 195.

(31)                       م . ن: 189.

(32)                       م . ن: 189.

(33)                       م . ن: 190.

(34)                       م . ن: 195.

(35)                       م . ن: 202.

(36)                       م . ن: 217.

(37)                       م . ن: 217.

(38)                       م . ن: 217.

(39)                       م . ن: 218.

(40)                       م . ن: 222.

(41)                       م . ن: 228.

(42)                       م . ن: 252.

(43)                       م . ن: 254.

(44)                       م . ن: 255.

(45)                       م . ن: 255.

(46)                       م . ن: 255.

(47)                       م . ن: 259.

(48)                       م . ن: 266.

(49)                       م . ن: 287.

(50)                       م . ن: 287.

(51)                       م . ن: 288.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 ...............أ.د إبراهيم خليل العلاف

                                                            الاستاذ الدكتور ابراهيم خليل العلاف الطبقة البرجوازية في العراق حتى سنة 1964 أ....